الإله الخالق ما بين تعظيم المسلمين وافتراءات النصارى والكاذبين، وإنكار الملحدين

الإله الخالق...
ما بين تعظيم المسلمين...
وافتراءات النصارى والكاذبين، وإنكار الملحدين...
شواهد ودلائل وبراهين
على وجود الله تعالى ووحدانيته
وعظيم صفاته وأفعاله
وطلاقة قدرته

جمع وترتيب
محمد السيد محمد

مقدمة
الحمد لله رب العالمين، فاطر السماوات والأرض، جاعل الظلمات والنور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا  عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد النبي خاتم الأنبياء والمرسلين، وصل اللهم وسلم وبارك على أزواجه وآل بيته الأخيار الأطهار وأصحابه الكرام، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره  إلى يوم الدين.
أما بعد:
نعجب جميعًا ممِّن تجرأ على الله تعالى، وأنكر وجوده، بل وصار مبارزًا ومُحاربًا له جل وعلا بدعوته إلى مثل ذلك الاعتقاد الفاسد والفلسفة الـمُنكرة، بل وصار طاغيةً مُتغطرسًا، إلى أن عذَّب شَعْبَه وأنهكهم جوعًا، إلى أن أكل بعضهم بعضًا، حيث انتشرت سرقة الصغار من الأطفال لأكلهم جوعًا، وحَصَد الملايين منهم قتلًا من أجل إفساد اعترافهم بخالقهم، وإجبارهم على إنكار وجوده، كما حدث في الاتحاد السوفيتي –سابقًا- ومن ناظرها من الدول الشيوعية وغيرها.
ولو نظر ذلك الجاحد المتغطرس في نفسه لعلم ضعفه وحقارته، وافتقاره إلى خالقه ونعمه عليه، لا سيما وقت حاجته ومرضه.
ونعجب مِمَّن قد استجاب له ورحَّب بما افتراه زورًا وبهتانًا، وذلك إمَّا لفساد قلبه وعقله، وإما جحودًا واتباعًا لأهوائه وشهواته، متناسيًا أو مُتغافلًا لمماته وانتهاء حياته، وما يلقاه بعد موته من سوء المصير والـمُنقلب، وسوء الحساب والعقاب، وندمه على تفريطه في جنب إلهه وخالقه.
ونعجب أكثر مِمَّن قد يُعْرض عيه الحق –الإسلام- والأدلة البينة عليه، فيُعْرِض عن سماعه وقبوله؛ لما قد ملأ قلبه من حبٍّ للشهوات واتباعٍ للهوى، وعدم استعدادٍ لتلقي الحق وقبوله.
ومثال ذلك: دولة مثل كوريا الشمالية، فنجد أنها لا تقبل إلا الشيوعية؛ حيث لا تعترف بوجود إله خالق، فلا تسمح لدعوة الحق –الإسلام- أن تصل إلى شعبها.
ولذلك...
فإنه ينبغي، بل يتوجَّب علينا الاستعانة بالله سبحانه وتعالى على أن نجتهد أكثر وأكثر في دعوة العباد إلى الله تعالى، والإيمان به وبوحدانيته، وعظيم ذاته جل وعلا، وجميل صفاته وكمالها، دون أن يُنسب إليها ما يَذُمُّها ويعيبها –كما في غير الإسلام- وذلك يعني –بمفهوم أشمل- الدعوة إلى الإسلام.
ولذا، فإن هذا البحث اليسير يتضمن:
- أدلة قاطعة وبراهين دامغة –متنوعة- على وجود الإله الخالق لهذا الكون، والخالق لكل شيء وثبوت وحدانيته وعظيم صفاته وأفعاله.
- صفات الإله الخالق عند المسلمين، وعظيم تمجيدهم وتنـزيههم له سبحانه وتعالى.
- صفات الإله الخالق عند غير المسلمين؛ كالنصارى واليهود والمجوس والهندوس وغيرهم، وبعض ما نسبوه إليه من نَقْصٍ وذمٍّ، وعيب وقدح، والردود عليها.
- أدلة علمية ثابتة شاهدة على طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى، وإن عجز العقل البشري عن استيعابها.
- وجوب الإيمان بأنبياء الله ورسله من منطلق الإيمان بالله تعالى، وعظيم صفاته وكمال حكمته.
- وجوب الإيمان بغيبيات أخرى من منطق الإيمان بالله تعالى والإيمان بأنبيائه ورسله.
- أدلة قاطعة على أن الهداية فيما جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين ، وموجز من البشارات به  في التوراة والإنجيل، وفي كتب الأولين.
- أدلة قاطعة على أن رسالة النبي  هي الرسالة الخاتمة، وأنه ليس بعد بعثة رسول الله محمد  أي نبي أو رسول آخر.
- صفات للفرقة الناجية، من حيث التزامها بما كان عليه النبي محمد  وأصحابه.
- براهين دامغة على أن الدين الحق الإسلام هو العامل الرئيسي في انتشار السلام، والازدهار الاقتصادي والتقدم الحضاري، وأنه في حال غيابه يكون نقيض ما ذكرنا.
- حكمة الله سبحانه وتعالى في أن جعل من خلقه الموحدين المسلمين وغيرهم من المشركين والملحدين..، وعدم ظلمه جل وعلا لمن أوجدهم في غير بيئة الإسلام.
- حق الله تعالى على العباد، وحق العباد على الله تبارك وتعالى.
ثم يختم هذا البحث الموجز برسالة دعوية قصيرة.
وقد تم جمع اليسير من عدة كتب إسلامية، منها
1- الفيزياء ووجود الخالق، د/ جعفر شيخ إدريس.
2- منهج الجدل والمناظرة في تقرير الاعتقاد، للدكتور/ عثمان علي حسن.
3- الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان.
4- وإنك لعلى خلق عظيم، للشيخ/ صفي الرحمن المباركفوري.
5- فقه العبادات، للشيخ العلامة/ محمد بن صالح العثيمين.
6- أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، للشيخ/ محمود عبدالرازق الرضواني.
7- قضية الألوهية والدين، للدكتور/ محمد السيد الجليند.
وأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم أن يتقبل منا ومن الجميع صالح الأعمال، وأن يُنميه لنا سبحانه وتعالى.

هل للكون إله خالق؟!
نبذة عن منكري وجود الإله الخالق..
لقد كان الناس في القرون الماضية يعتقدون بوجود الإله الخالق، وظل الأمر كذلك حتى القرن الثامن عشر الميلادي تقريبًا، حيث صدر أول كتاب يصرح بالإلحاد وإنكار الألوهية في أوروبا عام 1770م.
ونقول: إن مثل هؤلاء الذين ينكرون وجود الله سبحانه وتعالى قد استهوتهم أنفسهم، وساروا تبعًا لأهوائهم وشهواتهم.
فلقد رأوا من عظيم آيات الله جل وعلا في الآفاق، وفي أنفسهم من إحكام ودقة في الخلق ما يشهد بوجوده، وأنه هو الخالق الحكيم، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
ولكنهم آثروا الإنكار والجحود، مع يقينهم بوجود هذا الخالق العظيم، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14].
فكان ذلك الجحود والإنكار جَرَّاء كبرهم واستعلائهم، وسيطرة أهوائهم وشهواتهم على عقولهم وأفعالهم، فهم يعلمون تمامًا أنهم إذا ما آمنوا بهذا الإله الخالق العظيم، فلا يسعهم إلا الخضوع لسلطانه ونفوذه، والاتباع لأنبيائه ورسله، وأن لا تحاكم إلا إليه سبحانه وتعالى، وفقًا لما أنزل في كتبه السماوية على أنبيائه ورسله، وأن يسود شرعه سبحانه وتعالى...
ولِمَ لا؟! وهو الإله الخالق، الذي له كل شيء، وإليه يرجع كل شـيء، فالله سبحانه وتعالى له الأمر كله، وإليه يُرجع الأمر كله، فله جل وعلا أن يأمر بما شاء، وأن ينهى عما شاء، فهل لعبد مملوك إلا الطاعة لسيده مهما بلغ وعظم أمره أو نهيه؟!
فالعبد ليس له من الأمر شيء، فهو مملوك لسيده، حيث يأمره سيده بما شاء، وينهاه عما شاء، كيفما شـاء، ووقت ما يريد، وذلك مثـال ما في الواقـع، ولكن الله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، فليس كمثله شيء، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى ومَنِّه وفَضله، أنه جل وعلا له يأمر ولم يُكلِّف عباده بما لا تطيقه النفس البشرية السوية، وإن كان جل وعلا لم أن يأمر وأن يُكلِّف بما شاء، وأن ينهى عما شاء، فالله عز وجل لا يُسـأل عن ما يفعل، ولكنه سبحانه وتعالى هو الذي سوف يسـأل عبـاده ويحاسبهم في يوم تُبعث فيه الخلائق للفصـل والقضـاء، مصـداقًا لقوله تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى وعظيم فضله أنه جل وعلا خلق الجنة بما فيها من نعيم دائم مُقيم، وأعدها لعباده المؤمنين الصالحين الذين أطاعوه في حياتهم الدنيا وامتثلوا لأوامره، مجتنبين نواهيه، حيث خضعت قلوبهم وعقولهم وجوارحهم لله سبحانه وتعالى، ولنفوذه وسلطانه عليهم.
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى: أنه تبارك وتعالى كتب على نفسه الرحمة، وأن رحمته سبقت غضبه جل شأنه، فله سبحانه وتعالى أن يغفر لمن يشاء وأن يرحم من يشاء من عباده، فضلًا ومِنَّة مِنه تبارك وتعالى على عباده، وهو سبحانه وتعالى أعلم بمن يستحق هذه المغفرة والرحمة من عباده، وهم عباده المؤمنون.
ومن عدل الله جل وعلا: أن خلق النار بما فيها من عذاب أليم مهين، دائم مقيم لمن كفر به، وأنكر آياته وجحد وجوده.
وأيضًا فقد خلق الله تعالى النار بما فيها من عذاب أليم لمن خالف أوامره وانتهك حدوده ونواهيه عن علم وقصد.
فهؤلاء الملحدون المنكرون لوجود الله عز وجل قد آثروا دنياهم الفانية على آخرتهم الباقية، واهمين أنفسهم، مُتعَلِّلين بما لا تقبله الفطرة السليمة السوية من استدلالات وهمية تخمينية، ليس لها قيمة أو وزن، وما هي إلا ظنون وأكاذيب لا يُعتدُّ بها.
فمثل هؤلاء المتفلسفون –أهل المنطق- المنكرين لوجود الإله الخالق لا يبحثون عن الحقيقة، بل عن وسائل التأثير الخطابي، ولم يستطيعوا أن يُجمعوا للبرهان على دعواهم الباطلة شروطه، واستعجلوا بالجحود والكفر تبعًا لأهوائهم وشهواتهم ومصالحهم الدنيوية.
فلم يستطع البرهان الفلسفي أن يصل بالإنسان لليقين عند تطبيقه في الإلهيات، حيث إنه -البرهان الفلسفي- عبارة عن مجموعة من الأوهام والتخمينات والأكاذيب التي لا يُعتدُّ بها، ولعل من أبرز ما يوضح ذلك عيانًا:
1- هو ما يسببه المنطق من التفرق والاختلاف والتنابذ بين أهله، والمشتغلين به.
2- أننا نجد أن الأطباء والحسَّاب والكُتَّاب وغيرهم يُحقِّقون ما يُحققون من علومهم وصناعاتهم دون اللجوء إلى مثل تلك الفلسفة وذلك المنطق.
3- أننا نجد أن مثل تلك الفلسفة كانت سببًا في تخلف أهلها والمشتغلين بها عن ركب المدنية والتقدم العلمي والحضاري.
فالملحدون والمنكرون لوجود الله عز وجل يعتمدون في دعواهم الباطلة على مثل تلك الفلسفيات التي لا صلة لها بالواقع، حيث يبحثون في عالم لا وجود له في الخارج، وإنما وجوده في الذهن فقط، فقد سَلَّموا بمقدمات عقلية ظنوها صحيحة، وهي فاسدة، ونذكر تشبيهًا بسيطًا يوضح مدى اختلاف المقاييس:
إننا إذا ما نظرنا إلى حائط به عيب ما، وقال أحد الناظرين بعقله: إن العيب لا يقع على الشيء المصنوع، وإنما يقع على الصانع، ولم يأخذ في حسباته العوامل الأخرى غير المرئية، والتي قد تكون سببًا في مثل ذلك العيب، بعيدًا عن الصانع، كالرطوبة، وغير ذلك، فهل يمكن أن نقول مثل ذلك القول في:
إنسانٍ ليس صاحب وجه جميل، خلقه الله تعالى على هذه الصورة لحكمة يعلمها، كأن نقول مثلا: إن العيب لا يقع على المخلوق، وإنما يقع على الخالق؟!
بالطبع: لا، حاشا وكلا.
إن مثل هؤلاء الملحدين والمنكرين لوجود الإله الخالق قد استخدموا طريقة الفلسفة والمنطق في الاستدلال على دعواهم، بما فيها من الغموض والألغاز مع بطلانها، حيث لا يتفهمها إلا طائفة خاصة من الناس.
في حين أننا نجد أن القرآن الكريم يعتمد في الاستدلال على وجود الإله بما فُطِرت عليه النفس البشرية من الإيمان بما تشاهده وتحسّ به دون عمل فكري مُعقد ينافي القصد من هداية الناس وبيان الحق لهم.
ونجد أيضًا أن القرآن الكريم قد استخدم في الاستدلال على وجود الإله الخالق البراهين والحجج التي لا يمتري فيها عاقل، وليست فيها أي من قيود الإشكال، ودون أن يخلَّ بصدق كل ما اشتملت عليه من مقدمات ونتائج في أحكام العقل.
نبذة عن فكر ودعوى منكري وجود الإله الخالق وبطلانها:
يزعم الملحدون والمنكرون لوجود الإله الخالق أن الدين لا حقيقة له، وأنه مظهر للغريزة الإنسانية، وأن كل ما يحدث في الكون من الأرض إلى السماء خاضع لقانون معلوم يسمى بـ "قانون الطبيعة" وكانوا بداءة قد قالوا بوجود الإله الذي كان في البداية هو الـمُحرك الأول لهذا الكون، ثم ما لبث أن تركه وشأنه، فلا صلة له به، ولا صلة له بما يحويه هذا الكون من مخلوقات حية أو غير حية، موافقين بذلك قول المشركين من قبل الذين أنكروا بعث الإنسان بعد موته للحساب والجزاء، فقالوا: إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع.
ثم قام زعماء الإلحاد ومنكري الألوهية بضرب مثالٍ في هذا الصدد، حيث قال (والتير): «إن الكون كالساعة يرتب صانعها آلاتها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها، ثم تنقطع صلته بها..» على حد قوله.
ثم جاء بعده مَن أنكر وجود الإله من البداية، حيث لم يرتضِ كبره وغروره بأن يثبت مُجرد الإثبات، لذلك الإله، وإن كان دوره ليس إلا في بدء الخلق فقط.
فجاء (هيوم) منقادًا لأهوائه وشهواته، فتخلص من ذلك الإله الميت الذي لم يَعُد له صلة بهذا الكون منذ بدء الخلق، فقال:
«لقد رأينا الساعات وهي تُصنع في المصانع، ولكننا لم نر الكون وهو يُصنع، فكيف نسلم بأن له صانعًا؟!» على حد قوله وزعمه.
فأصبح ذلك القول سائدًا ومسيطرًا على عقولهم، بعد أن غُلِّقت على مثل تلك المفاهيم والمقاييس الخاطئة، والأوهام الخادعة التي لا قيمة ولا وزن بها، فعميت قلوبهم وبصيرتهم، مصداقًا لقول الله تعالى:
﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46].
ومن ثَمَّ بعدما كان من إنكار هؤلاء الملحدين للألوهية والدين، مُتبعين أهواءهم وشهواتهم، مُسيطرًا عليهم الكبر والغرور، ما كان منهم إلا إنكار كل ما يَمَسُّ قضية الألوهية والدين بصلةٍ ما.
فأنكروا إرسال الرسل، ومِن ثَمَّ أنكروا الكتب السماوية التي أُنزلت عليهم متضمنة الأوامر والواجبات والتكاليف الشرعية، ومتضمنة الحدود والنواهي، والتعاليم السامية هدايةً للبشر، وأنكروا كل ما جاء فيها من إخبار بالغيبيات سواءً كانت ماضية أو حاضرة أو مستقبلية.
ومن ثم أنكروا وجود الملائكة وغيرهم من المخلوقات غير المرئية.
ومن ثم أنكروا القضاء والقدر، وأن كل ما يحدث في الكون المرئي وغير المرئي بإرادة وعلمٍ من الله سبحانه وتعالى، وأن كل ذلك كان بتقدير مُسْبق من الله تعالى لحكمة يعلمها، فأنكروا كل ذلك، ولم يؤمنوا به.
ومن ثم أنكروا قضية البعث مرة أخرى من أجل الحساب والجزاء والحياة الأبدية، إما إلى جنة الله تبارك وتعالى ودار نعيمه إن كان مؤمنًا صالحًا، وإما إلى نار الله عز وجل وأليم عذابه إن كان كافرًا فاسقًا، فلم يؤمنوا بذلك كله.
ومن ثم أنكروا وجود جنة الله تبارك وتعالى ودار نعيمه ورضاه، وأنكروا وجود نار الله عز وجل ودار عذابه وسخطه، فلم يؤمنوا بأي من ذلك.
فهم دائما في تَخَبُّطٍ وتيه في دنياهم التي عُجَّلت لهم، حيث لا دين يدينون به، ولا إله يتعبدون ويتقربون إليه، وإن شئت قلت على الوجه الدقيق:
إنهم قد اتخذوا من أهوائهم وشهواتهم إلهًا يُعبد من دون الله جل وعلا، لانقيادهم خلفها واتباعهم لها، وتفضيلهم لديناهم الفانية على الآخرة الباقية، وذلك مصداقًا لقول الله تعالى:
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ [الفرقان: 43].
ونوضح ما ذكرنا من فكر ودعوى منكري الألوهية في الآتي:
1- أن التصور العام الشائع بين الملحدين ومنكري الألوهية يفترض أنه لا واقع إلا الواقع المادي، وأن الحقائق إنما هي الحقائق المادية.
2- أن الكون مُكتف بنفسه، غني عن أي شيء خارجي.
3- أن المادة في ذاتها أزلية، وأنها قد تجمعت بمحض الصدفة؛ لتأخذ تلك الأشكال التي يتكون منها عالمنا هذا، بما فيه من حياة وعقل.
4- يقولون إنه ينبغي أن يكون الاعتماد على العلم الطبيعي، لا على الدين في معرفة الحقائق.
وردًّا على مثل تلك الافتراءات والدعاوى الكاذبة الباطلة، نوضح أولا:
أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ للأمة الإسلامية الجهابذة من علماء السنة الذين قد بينوا زيف ما يقولونه وما يدَّعونه –الملحدون- عقلا ونقلا.
ومن الردود التي توضح عجز فكر ودعوى منكري الألوهية وبطلانها:
1- أن الطبيعة حقيقة من حقائق الكون، وليست تفسيرًا له، فالدين يُبين لنا الأسباب والدوافع الحقيقية من خلق هذا الكون، وما اكتشف من اكتشافات علمية في مجال الطبيعة ما هو إلا الهيكل الظاهر للكون.
- فالعلم الحديث تفصيل لما يحدث، وليس بتفسير لهذا الأمر الواقع، ونذكر مثالًا على ذلك:
لقد كان الإنسان القديم يعرف أن السماء تمطر، وكان ينسب ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه جل شأنه هو الذي قدَّر وأذن للسماء بأن تُمطِر، فكل ما يحدث في الكون يكون وفقًا لمشيئته وإرادته سبحانه وتعالى.
ولكننا اليوم نعرف ما ينتج عن عملية تبخر الماء في البحر، حى نزول قطرات على الأرض، وكل هذه المشاهدات صور للواقع.
فهل يعني ذلك: أن العلم قد كشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟! وكيف قامت هذه القوانين بين الأرض والسماء على هذه الصورة المذهلة حتى أن العلماء يستنبطون منها القوانين العلمية؟!
بالطبع: لا.
فالإنسان لم يكتشف سوى نظام الطبيعة.
وإذا ما ادَّعى الإنسان أن كشفه لنظام الطبيعة يُعَدُّ كشفًا لتفسير هذا الكون، فإن ذلك يكون ما هو إلى خُدْعة لنفسه.
فقد صار حتمًا علينا بعد هذه المشاهدات أن نؤمن بأن من وراء هذا النظام العتيق للكون الواسع الفسيح إله خالق عظيم.( )
مثال آخر:
إن الكون على حاله ليس إلا كمثل ماكينة تدور تحت غطائها، ولا نعلم عنها إلا أنها تدور، ولكننا إذا فتحنا غطاءها، فسوف نشاهد كيف ترتبط هذه الماكينة بدوائر وتروس كثيرة، يدور بعضها ببعض، ونشاهد حركاتها كلها.
فهل معنى ذلك: أننا قد علمنا خالق هذه الماكينة وصانعها بمجرد مشاهدتنا لما يدور داخلها؟ بالطبع: لا.
فهل يُفهم منطقيًّا أن مشاهدتنا لما يدور بداخل الماكينة أثبتت أن الماكينة جاءت من تلقاء ذاتها؟! وأنها تقوم بدورها ذاتيًّا؟!( )
بالطبع: لا.
فلا يصدر مثل ذلك القول من عاقل، بل من منكر جاحد.
إذن فكيف نُثبت بعد مشاهدة لبعض عمليات الكون أنه جاء تلقائيًّا، ويتحرك ذاتيًّا؟!
فلو أن هذه الاكتشافات العلمية لهذا الكون زادت مليون ضعف عنها اليوم أو أكثر، فلا يكون مثل ذلك إلا مشاهدة لبعض عمليات الكون، وليس إثباتًا لمجيئه أو تركه تلقائيًّا ذاتيًّا.
بل إن ذلك كله يدفعنا بقوة للإيمان برب هذا الكون وخالقه ومُبدعه على مثل هذا النظام الدقيق، والذي يستحيل أن يكون مجيئه مصادفة، كما يدعي الكاذبون المفترون.
2- أن الكون ليس مُكتفٍ بنفسه أو غني عن أي شيء خارجه؛ لأنه قد ثبت لدينا عقلا ونقلا –من كلام الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية- أن للكون خالق عظيم، ذو صفات مُغايرة لصفات المخلوقين.
3- ولما أشرنا سابقًا، يكون من المُحال أن تكون المادة أزلية أو تكون قد تجمعت بمحض الصدفة؛ لتأخذ تلك الأشكال التي يتكون منها عالمنا من حياة وعقل.
4- أن الحواس ليست طريقًا إلى معرفة كل ما يحتاج الناس إلى معرفته، فلا تناقض بين الاعتماد على الحس في معرفة ما من شأنه أن يُعرف بها، والاعتماد على العقل في معرفة ما لا يُعرف إلا به، فلا تقابل بين العلم الطبيعي والدين، بل إن الدين يعترف بالمنهج العلمي الطبيعي كوسيلة إلى المعرفة، ولكنه يقول: إنه –العلم الطبيعي- ليس وسيلة إلى كل المعارف.
فهناك معارف لا تدرك إلا بالرواية، وأخرى لا تُدرك إلا بالاستنتاج العقلي، وأخرى لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الأنبياء والرسل والكتب السماوية.
فالعاقل هو الذي يستفيد من كل هذه الوسائل بحسب نوع المعرفة التي يريدها.( )
نبذة عن الفلسفة الوهمية لأهل الإلحاد ومنكري الألوهية:
لقد سلَّم أهل الإلحاد ومنكري الألوهية بمقدمات عقلية وهمية تخمينية، لا يُعتد بها حيث لا أساس لها من الصحة، نذكر منها:
1- قولهم بأن المادة أزلية، وأن المادة لا تخلق ولا تُفنى، وهذا قول باطل؛ حيث أثبت العلم الحديث أن المادة في كل شكل من أشكالها المعينة التي يمكن أن نشير إليها ليست أزلية،بل إنها قابلة للتحلل أو التحول إلى مواد أو طاقات أخرى.
ومعلوم أن كل ما يتحلل أو يتحول فليس بأزلي غير حادث، بل هو بالضرورة حادث.
إذن فالمادة المعينة حادثة فانية.
ونذكر مثالًا لذلك:
إننا إذا قلنا لإنسان له إلمام بعلم الكيمياء والفيزياء بأن المادة تُفنى، ثم ضربنا له مثلًا على ذلك بموته، فقد تكون إجابته: إنني لم أفن، وإنما تحولت إلى مواد أخرى، فإذا قلنا له: ولكن هذه المواد الأخرى أيضًا تُفنى.
يقول: ولكنها بدورها تتحول إلى مواد أخرى.
فإذا استمررنا قائلين: وهذه بدورها تفنى، وما تتحول إليه تُفنى.
ظل هو مُصرًّا على رأيه بأن هنالك وراء كل هذا مادة لا تُفنى.
فإذا قلنا له: وما هي هذه المادة التي لا تُفنى؟
نجده لا يُحري جوابًا.
لأنه في الحقيقة لا يتحدث عن مادة واقعية، وإنما يتحدث عن مادة ذهنية فلسفية، وهمية تخمينية.
لذلك، فإن المادة الأزلية لا وجود لها في الأعيان، وإنما وجودها في الأذهان، ونحن في حياتنا اليومية والعلمية إنما نتعامل مع مادة مُعينة، لا مادة ذهنية.( )
ونخلص من ذلك: بأنه لا بد أن يكون من وراء هذه المادة ووجودها سبب حقيقي ما يكون من طبيعتها، أي يكون: أزلي ليس لوجوده بداية وليـس له نهاية، ألا وهو الإله الخالق العظيم.
2- مثال على مثل تلك الفلسفة الذهنية الوهمية.
لنتخيل أن رهطًا من سكان بعض النجوم هبط إلى الأرض، وهم يسمعون لكنهم ليس لديهم القدرة على الكلام، وأرادوا أن يبحثوا عن الأسباب المؤدية إلى تكلم الإنسان، وبينما هم في بحثهم إذ هبت الرياح، واحتك غصنان أحدهما مع الآخر، فنتج صوت، وتكررت هذه العملية غير مرة حتى توقفت الرياح، وإذا بهم يظنون أنهم قد توصلوا إلى معرفة سر كلام الإنسان، وهو أن فم الإنسان يحتوي على فكين من الأسنان، فإذا احتك الفك العلوي بالفك السفلي تكلم، ومما لا شك فيه أنه إذا احتك شيء بالآخر يُحدث صوتًا، ولكن: هل هذا الواقع يكشف عن سر كلام الإنسان؟!
بالطبع: لا.( )
لأن ذلك يُعدُّ وهمًا، وباطلًا لا أساس له من الصحة.
كذلك، فإن الفلسفية الوهمية لأهل الإلحاد ومنكري الألوهية تعدّ كشفها لنظام الطبيعة تفسيرًا لهذا الكون.
وما ذلك إلا خُدعة، وادعاء باطل، كما أشرنا في المثال السابق للتقريب.
ولذلك نؤكد بأن: فلسفة أهل الإلحاد ما هي إلا فلسفة ذهنية تخمينية، وادعاء باطل لا أساس له من الصحة.
فمثل هؤلاء الملحدين ومنكري الألوهية قد أغمضوا أعينهم عن الحقائق الظاهرة وشادوا قناطر خيالية من الادعاء، كما تتمثل في استدلالاتهم بالشاذ من الأمور.( )
وما ذلك إلا اتباعًا للأهواء والشهوات، وخضوعًا لكبر النفس وغرورها.
- مثال آخر على مثل تلك الفلسفة الذهنية الوهمية لأهل الإلحاد ومنكري الألوهية:
قد يقول ذلك المنكر لوجود الله تعالى: هل يستطيع ربكم أن يخلق حجرًا لا يستطيع تحريكه؟ وهو يظن أننا مضطرون إلى أن نجيب بنعم أو لا، وفي كلا الحالين يتحقق له ما يريد.
فإن قلنا: نعم يستطيع، يقول: إذن هنالك شيء لا يستطيعه، وهو تحريك هذا الحجر.
وإن قلنا: لا، يقول: إذن هنالك شيء لا يستطيعه، فهو ليس قادرًا، ولكننا لن نجيب بهذا ولا بذاك، بل نقول:
إن سؤالك ينطوي على تناقض، فهو أمر مستحيل عقلا، وقدرة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات، لأن المستحيل عقلا ليس في حقيقة الأمر بشيء. ( )
3- لقد سلَّم –أهل الإلحاد ومنكري الألوهية- بأن التجربة والمشاهدة هما وسيلتا العلم القطعيتان، وهذا ادعاء كاذب.
وسوف نذكر مثالًا يوضح أن التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين، حيث إن العلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة، حيث إن هناك من العلوم ما لا يُدرك إلا بالرواية، وأخرى بالاستنتاج العقلي, وأخرى عن طريق الأنبياء والرسل والكتب السماوية.
ومما يدل على أن العلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة:
كان الناس قديمًا يصنعون السفن الشراعية من الخشب، اعتقادًا منهم أن الماء لا يحمل إلا ما يكون أخف منه وزنًا، وحين قال بعضهم: إن السفن الحديدية سوف تطفو على سطح الماء كالتي من الخشب، أنكر الناس عليه مقالته، واتخذوها هزوًا، وجاءوا بنعل من حديد في دلو مملوء بالماء ليشهد الناس على أن هذه القطعة الحديدية استقرت في القاع، بدلا من أن تطفو على سطح الماء، وكان ذلك العمل تجربة.
ولكننا جميعًا نعتقد اليوم، ونقول بأنها كانت تجربة باطلة، فلو كانوا قد ألقوا بطبق من حديد لشاهدوا بالعين صدق ما قيل من طفو السفن الحديدية. ( )
وكذلك الحال بالنسبة لأهل الإلحاد ومنكري الألوهية فقد حصروا علمهم فيما شاهدوه بأعينهم أو بالتجربة المباشرة، مستدلين بها على صحة قولهم.
ولذلك فإن أهل الإلحاد قد أنكروا وجود الإله الخاق استدلالًا بعدم رؤيتهم له، حيث إنهم قد حصروا علمهم في الأمور المشاهدة عيانًا أو بالتجربة المباشرة، وذلك مما لا شك فيه فلسفة وهمية، وادعاء خاطئ كاذب.
ويُدلل على ذلك أيضًا:
أنه في بداية القرن العشرين كان ما زال التلسكوب ضعيفًا، فلما شاهد العلماء السماء بهذا المنظار وجدوا أجرامًا كثيرة كالنور، فاستنبطوا أنها سحب من البخار والغاز، تمر بمرحلة قبل أن تصير نجمًا، ولكن بعدما صُنع منظارًا قويًّا، وشوهدت هذه الأجرام مرة ثانية، علموا أن هذه الأجرام الكثيرة المضيئة هي مجموعة من نجوم كثيرة كالسحب، نتيجة البعد الهائل بينها وبين الأرض.( )
وهذا مما يؤكد أن: التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين، فالعلم لا ينحصر في الأمور التي قد شوهدت عيانًا أو بالتجربة المباشرة.
فكل حقيقة نؤمن بها تكون فرضًا في أول أمرها، إلى أن تُكتشف حقائق جديدة تُدعِّم صدقها، لذلك فإن العالم يؤمن بوجود شيء غائب بمجرد ظهور نتائجه وآثاره.
وهذا مما يُحتِّم علينا أن نؤمن أن من وراء هذا الكون إله خالق عظيم لظهور آياته، والآثار الدالة على عظيم صفاته وقدرته في إبداعه لهذا النظام الكوني العجيب المُذهل.
4- قولهم بأن المادة قد تجمعت مصادفة لتأخذ الأشكال التي يتكون منها عالمنا من حياة وعقل، وذلك زعم باطل.
فالمصادفة وحدها –لا سيما في مثل ذلك الحال- لا تُجدي، بل لا بد أن يكون وراءها تصميم.
مثال ذلك: إذا ما كان تكوين الكائنات من الذرات مُجتمعة يكون بالمصادفة، فإن ذلك نقيض أن هذه الذرات كانت مُصممة بحيث إذا اجتمعت بطريقة ما تكون منها ذهب، وإذا تكونت بطريقة ما تكون منها ماء، وهكذا.
إذن فالمصادفة وحدها لا تحل الإشكال؛ لأنها لا تغني عن التصميم.( )
مما يؤكد وجود هذا المُصمم المبدع لهذه الذرات، وطريقة تجمعها، وبالتالي لهذا الكون.
فلا يسعنا إلا أن نقول بأن من وراء هذا الكون مصمِّم مبدع، وهو الإله الخالق العظيم.

إجابة سؤال الفصل علميًّا
هل للكون إله؟
إن وجود الإله الخالق أمر تعرفه العقول بداهة، لذلك لم يكن ينكر وجود الإله الخالق فيما مضى إلا فئات قليلة من البشر، ولذلك كانت الرسالات السماوية تُبنى على إقرار الناس بوجود الرب تعالى، وأنه هو الذي خلقهم ويرزقهم ويحييهم ويميتهم، ثم تزيدهم علمًا به، وتدعوهم إلى عبادته وحده دون سواه مما يعلمون أن أنه لم يخلق ولم يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يتصف بشيء من صفات الإله الخالق.( )
ويمكن صياغة السؤال السابق بكيفية أخرى، فنقول:
هل الخالق هو الأزلي –الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء- أم المادة؟!
لقد اكتُشف قانون يسمى بـ "قانون الطاقة المتاحة" أو "ضابط التغيير"، حيث إن هذا القانون يُثبت أن المادة ليست أزلية، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يكون وجود هذا الكون أزليًّا.
ما يشير إليه "قانون الطاقة المتاحة" أو "ضابط التغيير":
إن قانون الطاقة المتاحة يصف لنا: أن الحرارة تنتقل دائمًا من "وجود حراري" إلى "عدم حراري" والعكس غير ممكن.
فلا يمكن أن تنتقل الحرارة من (وجود حراري قليل) أو (وجود حراري عدم) إلى (وجود حراري أكثر) بل إن الحرارة تنتقل من (وجود حراري أعلى) إلى (وجود حراري أقل).
وبناء على هذا الكشف العلمي المهم، فإنه:
لا بد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وحينئذ لا تبقى أية طاقة مفيدة للحياة والعمل، وسيترتب على ذلك: أن تنتهي العمليات الكيماوية والطبيعية، وتنتهي الحياة بذلك تلقائيًّا.
وبذلك يثبت لدينا قطعيًّا: أن الكون ليس بأزلي.
وهكذا أثبتت البحوث العلمية –دون قصد- أن لهذا الكون بداية، ومن ثم أثبتت تلقائيًّا وجود الإله الخالق لهذا الكون، لأن كل شيء ذو بداية لا يمكن أن يبتدي بذاته، بل لا بد إلى المحرك الأول، وهو الإله الخالق.
وعلينا أن نعلم: أنه لا تناقض بين كون الشيء مخلوقًا، أي خلقه الله سبحانه وتعالى، وأن يكون لحدوثه تفسيرًا طبيعيًّا.
فقد قيل للنبي محمد : يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل تَرُدُّ من قدر الله شيئًا؟
قال : ((هي من قدر الله)) [أخرجه الترمذي].
فمن مشاهدتنا لمخلوقات الله تبارك وتعالى نجد أن من سنته جل وعلا أن يخلق الأشياء بأسباب، وأن هذه الأسباب تكون في بعض الأمور لا تتغير البتة.
فالله جل وعلا هو الذي خلق الأسباب، وجعلها أسبابًا، فهي لا تؤثر إلا بقدرته سبحانه وتعالى.
ونذكر ختامًا لهذا الفصل: موجزًا لهذه المناظرة من المسلمين للشيوعيين المنكرين لوجود الإله الخالق، والتي حدثت بعد الانقلاب الذي حدث في روسيا على يد لينين، وكان هناك جمع عظيم من المسلمين والنصارى والشيوعيين الدهريين وغيرهم، أكثر من عشرة آلاف نفس:

المناظرة
- قام زعيم الشيوعيين وخطب وتكلم، وهذي، إلى أن قال:
إن الناس يقولون: إن الله موجود، وهو الذي أوجد العالم ورباه ويُربيه، وقولهم هذا خرافة، لأنه لو كان موجودًا لرأيناه كما نرى الشمس والقمر وغيرهما، وهم يصفونه بأنه كبير وعظيم وجليل، كما في القرآن والتوراة والإنجيل، ونحن الآن نرى أدق الأشياء وأصغرها بآلة الرصد (الميكروسكوب والتلسكوب)، الآلات الـمُكبرة والـمُقربة، وقد دققنا وفتشنا فلم نره، ولم يره أحد، بل ولا أخبر أحد أنه رآه، فهو معدوم وليس بموجود، والأشياء تولدها الطبيعة حسب مقتضى المادة... إلى آخر ما طغى وغوى وبغى.
قال أبو عبد الكريم (المناظر المسلم):
فقمت، وصعدت المنبر، وحمدت الله تعالى، وصليت على رسوله سيدنا محمد  وقلت: إن الزعيم المنكر لوجود ربه وخالقه جل سلطانه بنى إنكاره على أنه لم يره، فأنا سائله: هل له روح في جسده، وعقل في مخه؟!
فلا بد أن يقول: نعم. إن له روحًا في بدنه، وعقلًا في مخه، فإن كان هكذا، فهل رأى روحه وعقله؟! ما هو وكيف هو؟!
فهذا قد أقر بوجود ما لم يره، واعترف بثبوت ما لم يُشاهد، وإنما أقر واعترف بوجود الروح والعقل لظهور أثرهما.
فإن كان هكذا فليُقر وليعترف بوجود الله الذي كل المخلوقات من آثار قدرته، ودلائل علمه وحكمته.
وهذا الإنسان الجاهل المُنكِر إذا لم يستطع رؤية روحه التي هي في نفسه، فكيف يستطيع رؤية رب العالمين الذي الروح أمر من أمره؟!
والخالق الجليل هو الذي لا شبه له ولا نظير له، وهو سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258].
وقال أبو عبد الكريم: فالمسلمون كبَّروا وسبَّحوا وصفقوا، وسُرُّوا واستبشروا، وأما المنكرون الضالون فخجلوا وخابوا.
وتبعًا لهذه المناظرة، فقد هجم الروس على دار أبو عبد الكريم وأخذوا كل ما فيها مما له قيمة، ثم حكموا عليه بالإعدام رميًا بالرصاص، لكن الله تعالى –خالقه وبارئه- نجاه من شرِّهم وكيدهم في قصة عجيبة مذكورة في موضعها.( )

هل تقتضي الفطرة الحكيمة السوية أن يكون للكون إله خالق؟
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وفطره على الإيمان به جل شأنه، فدلالة الفطرة على وجود الإله الخالق أظهر من أن تحتاج إلى دليل، فالإنسان بفطرته يؤمن بربه، مصداقًا لقول رسول الله :
((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يُمجسانه)) [صحيح البخاري ومسلم].
ولهذا إذا ما وقع على أي إنسان في الدنيا شيء بغتة، وهذا الشيء مُهلك له، لكان يقول بلسانه: يا الله، أو يا رب. أو ما أشبه ذلك.
مما يدل على أن الغريزة الفطرية قد جُبلت على الإيمان بوجود الله عز وجل.( )
فالله سبحانه وتعالى هو الإله الخالق للإنسان والحيوان والطير والجماد وكل شيء، وهو جل وعلا خالق هذا الكون بما فيه من أحداث وأسباب.
وعلينا أن نعلم:
أنه لا تناقض بين كون الشيء مخلوقًا وكون لحدوثه أسباب؛ لأن الله تعالى من سنته أن يخلق بالأسباب، ولأنه هو سبحانه وتعالى خالق تلك الأسباب وجاعلها أسبابًا.
ومما يُدلِّلُ على أن الفطرة الحكيمة، السوية النقية تقتضي أن يكون للكون إله خالق:
هذه النماذج الحية التي قد تعرفت على خالقها بغريزتها الفطرية، التي جُبلت على الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى.
1- قد سُئل أعرابي: ما الدليل على وجود الرب تعالى.
فقال: يا سبحان الله، إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!
إن كلمات هذا الأعرابي السوي الفطرة ألصق بالمنهج التجريبي، القائم على الملاحظة، وأقرب إلى التأثير في النفس، وأقدر على إقناع العقل من أية صيغة قياسية.
فالناس نوعان:
أ- نوع سليم الفطرة: حيث إنه يعرف الله تعالى، ويؤمن به بفطرته التي قد جُبِل عليها، فإذا رأى آيات الله تعالى في أرضه وسمائه عرف أنها آيات له، ودلائل على وجوده، فمعرفته وإيمانه بالإله الخالق سابقان لمعرفته بآيات الله جل وعلا، حيث إن معرفته بالآيات تؤكد إيمانه ولا تنشئه.( )
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام (ابن تيمية):
«ثم الفِطَر تعرف الخالق بدون هذه الآيات، فإنها قد فُطِرَت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات، لم تعلم أن هذه الآية له، فإن كونها له ودلالة عليه... يقتضي تصور المدلول عليه، وتَصَوُّر أن ذلك الدليل مستلزم له، فلا بد في ذلك أن يعلم أنه يستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصورًا لم يعلم أنه دليل عليه»( ).
ب- ونوع حدث في فطرته خلل، فلم يعد يؤمن بوجود الخالق، لكنه إذا تأمل آيات الله تعالى وجدها دالة عليه، فآمن بالله عن طريق الآيات.
فكأن الآيات هي في حقيقتها تذكير للإنسان بأمر مستقر في فطرته( ).
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام (ابن تيمية):
«إن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطريًّا ضروريًّا في حق من سَلِمَت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه الكثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها»( ).
يقول الله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور: 35، 36].
إن في خلق الإنسان آية دالة على وجود خالقه.
فالقرآن الكريم يدعو المنكر لوجود الخالق سبحانه وتعالى أن يفكر في هذه الحقيقة التي يعرفها أكثر من معرفته لغيرها من الآيات الأخريات في الأرض والسماء.
فكأن القرآن الكريم يقول لذلك المنكر لوجود الله تعالى:
إذا لم يكن الله هو الذي خلقك، وخلق الكون حولك، فهل خُلقت من غير شيء خلقك؟! أي هل جئت من العدم المحض؟!
سيقول كل عاقل في نفسه: كلا... فإن هذا مستحيل.
فهل أنت الذي خلقت نفسك؟!
سيقول: كلا... فإن هذا يبدو أكثر استحالة.
فهل كنت أنت الذي خلق هذه السماوات والأرض؟!
سيقول: كلا... فالقول بهذا مكابرة.
فهذه حجة فطرية يُدركها الناس بعقولهم، لذلك قرر القرآن الكريم مقدماتها في شكل أسئلة استنكارية.( ).
وقد كان لهذا الخطاب القرآني، في الآيتين السابقتين وَقْع مؤثر جدًّا على بعض من استمع إليه من العرب.
«فقد روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت النبي  يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية:
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ [الطور: 35-37].
كاد قلبي أن يطير» [أخرجه البخاري].
وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره هذه الآية الكريمة [الطور: 35]: كان جبير قد قدم على النبي  بعد وقعة بدر في فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركًا، فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.
2- الإمام مالك:
حكى الرازي عن الإمام مالك، أن الرشيد سأله عن ذلك –يعني الدليل على وجود الرب تعالى- فاستدل له –يعني الإمام مالك-: باختلاف اللغات والأصوات والنغمات.( )
أي أن: اختلاف اللغات بين مُختلف الأفراد والشعوب في شتى الأقطار، وكذلك الأصوات والنغمات من الآيات والدلائل التي تشهد بوجود هذا الإله الخالق، وعظيم حكمته وقدرته.
3- الإمام أبو حنيفة:
عن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى –الخالق- فقال لهم: دعوني، فإني مُفكر في أمر قد أُخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر، وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء بنفسها، وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت من غير أن يسوقها أحد.
فقالوا –الزنادقة-: هذا شيء لا يقوله عاقل.
فقال: ويحكم، هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي، وما اشتملت عليه من الأشياء المُحكمة، أليس لها صانع؟!
فبُهت القوم، ورجعوا إلى الحق، وأسلموا على يديه.( )
لذلك فإن الفطرة الحكيمة السوية تقتضي بأن يكون للكون إله خالق، مُدبِّر حكيم، فلا ينكر ما أقرته الفطرة السوية والعقل السليم إلا جاهل جاحد.
4- الإمام الشافعي:
عن الإمام الشافعي، أنه سُئل عن وجود الصانع –الخالق- فقال:
هذا ورق التوت طعمه واحد، تأكله الدود فيخـرج منه الإبريسـم –الحرير- وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة فتلقيه بعرًا وروثًا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، وهو شيء واحد.( )
فقد استدل الإمام الشافعي بآية من آيات الله سبحانه وتعالى، والتي تشهد بعظم خلق الله تعالى وطلاقة قدرته، وتدلل على وجوده سبحانه وتعالى.
فقد علم –الإمام الشافعي- أن هذه الآية دلالة على هذا الإله الخالق، وذلك بفطرته السوية، فكانت هذه الآية تأكيدًا للإيمان، لا لإنشائه كما أوضحنا سابقًا.
5- الإمام أحمد بن حنبل:
عن الإمام أحمد بن حنبل، أنه سُئل عن ذلك –يعني: الدليل على وجود الرب تعالى- فقال:
هاهنا حصن حصين، أملس، ليس له باب، ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز- الصافي- فبينما هو كذلك، إذا نصع جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت حسن، مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة.( )
6- وسُئل أبو نواس عن ذلك –يعني: الدليل على وجود الرب تعالى- فأنشد:
تأمل في نبات الأرض وانظر
إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات
بأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك

7- وقال ابن المعتز في ذلك –يعني الدليل على وجود الرب تعالى-:
فيا عجبًا كيف يعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد

ونختم عنوان هذا الفصل بآيات الله تعالى في قوله:
﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [إبراهيم: 10].
﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ﴾ [الزخرف: 16].
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
فإذا ما وضعنا ما تشير إليه هذه الآيات الكريمات في صيغة منطقية عقلية، مُخاطبة للملحد، المنكر لوجود الإله الخالق تكون كالتالي:
أنت –الملحد- تعلم من نفسك أنك حادث، وُجدت بعد أن لم تكن.
فإما أن تكون قد وُجدت من العدم، وأن شيئًا أوجدك.
ومن المستحيل أن تُوجد من العدم.
إذن فقد أوجدك شيء –مُوجِد-.
وهذا المُوجد: إما أن يكون أنت نفسك أو يكون غيرك.
ومن المستحيل أن تكون أنت الذي أوجدت نفسك.
إذن: فلا بد أن يكون شيئًا غيرك هو الذي أوجدك.
وهذا الغير الذي أوجدك إما أن يكون مِثلك، في حاجته إلى من يُوجده أو لا يكون في حاجة لذلك.
ولا يمكن لهذا الذي أوجدك أن يكون مثلك، لأنه لو كان مِثلك لقلنا له أيضًا مثل ما قلنا لك.
إذن: فلا بد أن يكون هذا الذي أوجدك خالقًا غنيًّا بنفسه، غير مُفتقر إلى من يوجده. ( )
ولا شك: أن هذا المُوجِد هو الله سبحانه وتعالى.
فَنَخْلُص من ذلك:
بأن الفطرة الحكيم السوية تقتضي أن يكون للكون إله خالق، حكيم عظيم، غنيًّا بنفسه، غير مُفتقر إلى من يُوجِده، لأنه جل شأنه: هو المُوجِد لكل شيء.

الأدلة على وجود الإله الخالق سبحانه وتعالى
إن الإيمان بوجود الله عز وجل قد دلَّت عليه جميع الأدلة العقلية، والفطرية، والحسية والشرعية وغير ذلك من الدلائل والشواهد العلمية المكتشفة حديثًا، والتي أثبتت وجود هذا الإله الخالق، ولم تترك مجالًا لعاقل لإنكار وجوده جل وعلا.
فلم يَفِه أحد بإنكار وجود الله عز وجل إلا على سبيل المكابرة، واتباع الهوى، فإن كل عاقل لا يمكنه أن يدَّعي أن هذا الكون خُلق أو جاء صدفة، أو جاء من غير مُوجِد؛ لأن هذا ممتنع باتفاق العقلاء.( )
ونذكر من الأدلة على وجود هذا الإله الخالق مُوجِزين:
أولا: الدليل العقلي:
أننا نشاهد هذا الكون في وجوده، وفيما يحدث فيه من أمور لا يمكن أن يقدر عليها أحد من المخلوقين، كوجود هذا الكون، والسماوات والأرض وما فيها من نجوم، وجبال، وأنهار، وأشجار، وناطق –الإنسان- وبهيم، وغير ذلك...
ونتساءل: من أين حصل هذا الوجود؟!
أ - هل حصل هذا صدفة؟
ب- هل حصل هذا بغير مُوجِد؟
جـ- هل هذا الكون أوجد نفسه؟
فهذه ثلاثة احتمالات، وكلها باطلة، ولم يبق إلا الاحتمال الرابع –لم نذكره بعد- الذي هو الحق.
فأما كونها وُجدت صدفة، فهذا أمر يُنكره العقل وينكره الواقع؛ لأن مثل هذه المخلوقات العظيمة لا يمكنك أنت أن توجدها هكذا صدفة، فكل أثر لا بد له من مُؤثِّر.
وكون هذه المخلوقات العظيمة بهذا النظام البديع المتناسق، الذي لا يتعارض، ولا يتصادم، لا يمكن أن يكون صدفة؛ لأن الواقع –الذي يقع- صدفة تكون تغيراته غير منتظمة؛ لأنه كله صدفة.
وأما هذا الوجود أوجد نفسه، فظاهر ومعلوم استحالته أيضًا؛ لأن هذا الوجود قبل أن يُوجَد ليس بشيء، بل هو عدم، والعدم لا يمكن أن يوجد معدومًا.
وأما كونه وُجِد من غير مُوجِد، فهو بمعنى قولنا: إنه وُجِدَ صدفة، وهذا كما سبق مستحيل.
بقي أن نقول بالقول الحق –القول الرابع-: إن هذا الوجود وُجِد بمُوجِد، وهو الله عز وجل, كما قال الله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور: 35، 36].
إذن فهذا الكون دلَّ عقلا على وجود الله سبحانه وتعالى.( )
ثانيا: وأما دلالة الفطرة:
فكما أشرنا سابقًا، أن دلالة الفطرة أظهر من أن تحتاج إلى دليل؛ لأن الإنسان بفطرته يؤمن بربه، ولهذا لو وقع على أي إنسان في الدنيا شيء بغتة، وهذا الشيء مهلك له، لكان يقول بلسانه من غير أن يشعر: يا الله، أو: يارب أو ما أشبه ذلك، مما يدل على أن الغريزة الفطرية جُبلت على الإيمان بوجود الله عز وجل.( )
ولقد لفت القرآن الكريم أنظارنا إلى هذا الاعتراف الفطري، حيث قال تعالى في صيغة الاستفهام التقريري: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62]
ولذلك: فإن الإنسان وخَلْقه على هذه الصورة، حيث ميل غريزته وفطرته للإيمان به جل، وتوحيده لشاهد ودليل على وجوده وحكمته وطلاقة قدرته.
وجميع سلف الأمة مُجْمِعُون على أن في فطرة كل كائن ما يوصله إلى التعرف على خالقه، ويجذبه إليه ويربطه به، ويشعره دائمًا لحاجته إليه في وجوده، وفي حفظ وجوده عليه.( )
ثالثًا: دلالة الحس:
إن الغريزة البشرية والفطرة الإنسانية تعترف بوجود الله سبحانه وتعالى، حيث تجعل الإنسان دومًا يلجأ إلى إلهه وخالقه جل وعلا في الدعاء والمسألة.
ولا شك أن الذي خلق الإنسان وفطره على كيفيته هذه، من ميل غريزته وفطرته للإيمان به وتوحيده واللجوء إليه دومًا في الدعاء والمسألة لَشاهد حق ودليل صدق على وجوده، وحكمته وطلاقة قدرته.
وكثير ما نسمع –بيقين دون أدنى شك- عن إجابة الله سبحانه وتعالى لدعاء عباده المؤمنين الصالحين، لا سيما الأنبياء والمرسلين، وكثير ما نرى بأعيينا ما يدل على إجابة الله سبحانه وتعالى لدعائنا ومسألتنا، فكم من إنسان دعا الله تعالى، وقال: يا رب. فرأى الإجابة نصب عينيه. ( )
وقد أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه العظيم [القرآن الكريم] ما يدل على إجابته تبارك وتعالى لدعاء عباده، مثل قوله تعالى:
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾ [الأنبياء: 83، 84].
وقد جاء في السنة الصحيحة لخاتم أنبياء الله ورسله محمد  ما يدل على ذلك أيضًا منها:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث قال:
دخل رجل يوم الجمعة والنبي  يخطب، فقال –الرجل-: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السُّبُلُ، فادْع الله يُغيثنا، فرفع النبي  يديه وقال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا))، وكانت السماء صحوا، ليس فيها شيء من السحاب، فما نزل النبي  من على منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام لنـزول المطر، وبقي المطر أسبوعًا كاملا حتى دخل رجل من الجمعة الثانية، فقال: يا رسول الله، تهدَّم البناء، وغرق المال، فادع الله أن يمسكها –السماء- عنا، فرفع النبي  يديه، وجل يقول: ((اللهم حوالينا ولا علينا)) ويشير بيده، فما يشير من ناحية إلا انفرجت بإذن الله، فخرج الناس يمشون في الشمس. [رواه البخاري]
فكان هذا الحديث الشريف دليلا مرئيًّا وشاهدًا حسيًّا على إجابة الله سبحانه وتعالى لدعاء نبيه .
ونشير إلى: 1- أن في هذا الحديث الشريف الصحيح إشارة إلى صدق نبوة رسول الله محمد ، حيث إن من دلائل نبوته  أن يؤيده ربه تبارك وتعالى بإجابة دعائه، لا سيما إن كان على مرئى ومسمع من كثير من الناس، فيكون ذلك حجة له ، ودليلا على صدق رسالته، وحجة على الناس جميعًا –كل من علم بهذا الحديث وبغيره من دلائل النبوة- للإيمان والتصديق بنبوته ورسالته ، ومن ثم اليقين في صدق دعوته، وصدق كل ما أخبر  به.
2- أن في هذا الحديث الشريف الصحيح إشارة إلى رحمة وفطنة وحكمة رسول الله ، حيث إنه  قد استجاب لمطلب الرجل بداية، بأن دعا  ربه تبارك وتعالى كي ينزل المطر للحاجة والإغاثة، فكان ذلك إشارة إلى رأفته ورحمته .
ثم بعد استمرار المطر أسبوعًا كاملًا، ومجيء رجل مرة ثانية ليطلب من رسول الله  أن يدعو ربه سبحانه وتعالى لإمساك المطر لِما قد نزل به من ضرر، استجاب رسول الله  لمطلبه، ولكن بفطنة وحكمة، حيث دعا  ربه تبارك وتعالى: ((اللهم حوالينا ولا علينا)) يعني: أن يستمر المطر للانتفاع به، مع أن يكون نزوله من حول المدينة لا عليها، لعدم إلحاق الضرر بأهلها.
فلا يأت آخر ويطلب منه  أن ينزل المطر مرة ثانية لما قد نشأ من هلاك وضرر لعدم نزوله، فكانت هذه الحكمة العظيمة من رسول الله  ورحمته ورأفته بمن أُرسِل إليهم؛ إشارة ودليلا على نبوته  وصدق دعوته وكل ما أخبر به.
ولذلك: كان ما أشرنا إليه من إجابة الله سبحانه وتعالى لدعاء عباده، موجزًا من الدليل الحسي على وجود الله عز وجل.
رابعًا: الدليل الشرعي:
أما الدليل الشرعي، فأكثر من أن يُحصر، فإن كل القرآن الكريم، وكل ما ثبت عن النبي  من الأحاديث الحكمية والخبرية، فإنه دال على وجود الله عز وجل( ).
وصدق الله تعالى إذ يقول في شأن كتابه المُحكم آياته، كشهادة على تنزيله منه جل وعلا، الإله الحكيم الخبير:
﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1].
خامسًا: ما أخبرت به الأنبياء والرسل من وجود الإله الخالق ووحدانيته وعظيم صفاته وطلاقة قدرته، وما جاءت به من معجزات وخوارق شاهدة بنبواتهم ورسالاتهم وصدق دعواهم، حيث لا تنكرها الفطرة السوية، بل تتوافق معها توافقًا تامًّا:
وهذه النقطة التي نجد بصددها تابعة لما قبلها، حيث إنها دليل وشاهد على مصداقية الدليل الشرعي، ونشير إلى:
أن أعظم هذه المعجزات التي أُيدت بها الأنبياء والرسل كشواهد ودلائل على صدق دعواهم: القرآن الكريم، فهو الكتاب الذي أنزله الله تبارك وتعالى على خاتم أنبيائه ورسله محمد .
لذلك فالقرآن الكريم هو المعجزة الباقية الخالدة إلى قيام الساعة؛ حيث لا رسول ولا نبي بعد مجيء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد .
فبمجيء النبي  خُتمت جميع الرسالات، لذلك كان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن يحفظ كتابه العظيم –القرآن الكريم- معجزة باقية خالدة شاهدة بنبوة ورسالة خاتم أنبيائه ورسله محمد  وصدق دعوته وصدق ما أخبر به من وجود لله تعالى، الإله الخالق، ووحدانيته وعظيم صفاته وطلاقة قدرته...
وبذلك يكون القرآن الكريم الذي أُنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد  ، بما فيه من إعجاز يشهد بأنه كلام رب العالمين، دليلا دامغًا على صدق دعوته وصدق ما أخبر به.
قال رسول الله : ((ما من الأنبياء نبي إلا أُعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)) [صحيح البخاري].
فما من نبي أُرسل إلى قومه مؤيدًا بمعجزة من الله سبحانه وتعالى إلا وتنتهي هذه المعجزة، وينتهي قوة تأثيرها وإقناعها بموت هذا النبي، على عكس الحال بأمة النبي محمد ، حيث كانت معجزته الكبرى –القرآن الكريم- باقية خالدة بعد موته  مُحتفظة بقوة تأثيرها وإقناعها، وما ذلك إلا لكونه  خاتم الأنبياء والمرسلين، أرسله ربنا تبارك وتعالى إلى جميع الأمم، والبشرية كافة.
وجه الإعجاز في القرآن الكريم –المعجزة الكبرى- ومميزاته:
لقد كان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن يُرسل أنبياءه ورسله مؤيدين بالمعجزات والخوارق، وكانت هذه المعجزات من جنس ما نبغ فيه قوم هذا النبي المرسل، ومن أمثلة ذلك:
لقد عُرف قوم موسى بالسحر واشتُهروا به، وعَظُم سحرهم، وكثرت سَحَرَتهم، فأُرسل نبي الله موسى مؤيدًا من الله عز وجل من جنس ما نبغ فيه قومه، إبطالا لمعتقدهم وسحرهم، حيث كان من معجزاته عليه السلام: العصا وتحولها إلى حية عظيمة، حقيقية تسعى، فعلم السحرة ومن بعدهم القوم أن ما جاء به نبي الله موسى عليه السلام ليس سحرًا، حيث إنهم -السحرة– هم أهل ذلك الباطل –السحر- وهم على دراية ومعرفة تامة به.
فكانوا هم –السحرة- أول من شهدوا لموسى عليه السلام بالنبوة والرسالة، وأن ما جاء به من معجزة العصا وغيرها أمرًا خارقًا، ليس بمجرد التخييل كالباطل الذي كانوا عليه، وأنه لا يقدر على مثل ذلك إلا من يقول للشيء: كن فيكون، وهو الله رب العالمين.
وكذلك نبي الله عيسى عليه السلام:
حيث إن قومه قد عُرِفوا بالطبِّ، ونبغوا في مجاله، فكانت معجزة نبي الله عيسى عليه السلام من جنس ما نبغ فيه قومه، حيث كان من معجزاته عليه السلام أنه كان يبرئ ويشفي الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى ويحيي الموتى –الذين لم تكن موتتهم موتة نهاية الأجل والانتقال إلى عالم البرزخ- بإذن الله تعالى، فكانت هذه المعجزات شاهدة بأنه عليه السلام نبي مرسل من الله عز وجل، وأن الله سبحانه وتعالى قد أيده بهذه المعجزات حتى يؤمن قومه برسالته ودعوته، فآمنت طائفة بنبوته ورسالته وبشريته، وضلَّت طوائف أخرى إما بتكذيبه أو بالمغالاة فيه.

- أما عن رسول الله محمد :
فقد عُرف العرب بالبلاغة والفصاحة وأنهم أهل الشعر والأدب... إلى غير ذلك مما قد عُرفوا به في هذا المجال ونبغوا فيه.
فكان القرآن الكريم الذي أنزله الله تبارك وتعالى على عبده ونبيه محمد  معجزة كبرى، باقية خالدة من جنس ما نبغ فيه قومه ، هذا بالإضافة إلى الكثير والكثير من المعجزات العظيمة التي جاءت على يديه  تأييدًا من الله سبحانه وتعالى لرسالته ودعوته.
ومن إعجاز القرآن الكريم [المعجزة الكبرى]:
1- بلاغته وروعة معانيه، ودقة ائتلاف ألفاظه ومبانيه، وسمو أهدافه ومراميه، وتحديه للعرب –وهم أهل اللسن والفصاحة- بأن يأتوا ولو بسورة واحدة من مثله، ولكنهم جميعًا عجزوا، وخابوا وفشلوا، ولم يجرءوا على قبول هذا التحدي، وما استطاعوا أن يُهاجموا القرآن الكريم ولو بكلمة واحدة، بل إن منهم من كان على كفره، ومع ذلك يقول مادحًا للقرآن الكريم عند سماعه له: (إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر) وما ذلك إلا لأن القرآن الكريم ليس بصناعة بشرية، بل هو كلام الخالق العظيم تبارك وتعالى.
2- لقد تضمن القرآن الكريم أخبارًا غيبية لا عهد لرسول الله  بها، وقد جاءت دقيقة صادقة كما أخبر، وهذه الأخبار مشتملة أخبارًا ماضية وأخبارًا حاضرة لم تكن على مرئى أو مسمع من النبي محمد ، وكذلك أخبارًا مستقبلية.
3- إخباره بحقائق علمية غيبية مذهلة، لم يكن لأحد أدنى معرفة بها منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، ثم يأتي العلم الحديث ليكتشف صدق ودقة ما أخبر به رسول الله ، ولما أشرنا، فإن القرآن الكريم يتميز بـ:
أ- يمتاز بأنه قد بلغ غاية الكمال في إعجازه وبلاغته.
ب- يمتاز بأنه قد جمع كل ما تحتاج إليه الخلائق في معاشهم ومعادهم، حيث جاء بالعقائد الصافية، والعبادات الهادية والمعاملات السليمة، والأخلاق الكريمة، والسياسة الرحيمة.
جـ- أنه قد جاء بالمعارف والعلوم الرائعة والتوجيهات النافعة والحجج الساطعة: فلا تجد أمرًا من أمور الحياة إلا وقد تعرض له القرآن الكريم بطريق العبارة أو الإشارة أو التلميح، ففيه خبر الأولين وتاريخهم، وفيه خبر الآخرين.
د- يمتاز القرآن الكريم بأنه شريعة خالدة:
حيث إن القرآن الكريم هو المعجزة الباقية إلى قيام الساعة للعرب وغير العرب، للناس كافة، في كل مكان وزمان، فلا تنقضي عجائبه.
مما جعل الكثير والكثير من علماء العرب في شتى المجالات، فلك، طب، جيولوجيا... يذعنون ويستجيبون له.
هـ- يمتاز القرآن الكريم بأنه مهيمن على الكتب السابقة.
و- يمتاز القرآن بتأثيره العجيب الذي يملك على السامع لبه، ويجذب قلبه، ويستحوذ على أحاسيسه ومشاعره ووجدانه.
فالقرآن الكريم يخاطب العقل والوجدان جميعًا، فيأتي بالفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معًا، وقد كان الكفار هم مع كفرهم شركهم يُحبون أن يستمعوا إلى القرآن الكريم.
وغير ما ذكرنا الكثير والكثير مما تميزت به هذه المعجزة الكبرى الخالدة: القرآن الكريم الذي أنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد .
صحيح ما أشرنا إليه من أن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى لرسول الله ، إلا أنه ليس المعجزة الوحيدة له ، حيث إن السنة النبوية المطهرة والأحاديث النبوية الشريفة بما فيها من الإخبار بغيبيات ماضية وحاضرة لم تكن على مرئى أو مسمع من النبي ، وغيبيات مستقبلية لم يكن لرسول الله  عهد بها، ثم تجئ وقائعها –ما أخبر به رسول الله - مطابقة لما أخبر به ، إضافة إلى إشارتها وإخبارها بحقائق علمية لم يكن لأحد معرفة بها آنذاك، ثم يجيء العلم الحديث ليكتشف مصداقية ما أخبر به المصطفى  يُعدُّ من أكبر المعجزات التي قد أُيِّدَ بها النبي  من الله تبارك وتعالى، فتكون من الشواهد والدلائل على رساله ودعوته وصدق ما أخبر به.
هذا بالإضافة إلى شواهد أخرى، ودلائل ومعجزات وآيات كونية كلها تشهد برسالة هذا الرسول الأمين، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين.( )
إشارة مهمة:
لقد أرسل ربنا تبارك وتعالى رسوله محمد  بالشرع القويم والعبادات الهادية، وإن مما يدلل علميا على أن الشرع الذي جاء به رسول الله  هو من عند هذا الإله الخالق:
عبادة الطواف للمسلمين حول الكعبة المشرفة (بيت الله العتيق).
إن عبادة المسلمين المتمثلة في الطواف حول الكعبة المشرفة –البيت العتيق- التي شرعها الله عز وجل لهم، واختارهم لها، هي العبادة الوحيدة التي تتوافق وتنسجم مع النظام الكوني الذي خلقه وأبدعه الله سبحانه وتعالى.
فقد شرع الله سبحانه وتعالى لنا الطواف سبعة أشواط حول الكعبة، في اتجاه مُعاكس لعقارب الساعة، بحيث تكون الكعبة على يسارنا.
ولنتأمل ولنمعن النظر في هذا التوافق والانسجام العجيب:
1- النواة التي تحتويها الذرة، والتي تتكون منها المادة:
تدور حول هذه النواة جسيمات ذات شحنة سالبة تُعرف بالإلكترونات، وتدور في (7) سبعة مستويات من الطاقة، حيث إن النواة حولها سبعة مستويات من الطاقة، وهو نفس عدد أشواط الطواف حول الكعبة.( )
وتدور هذه الإلكترونات في اتجاه معاكس لعقارب الساعة، وهو نفس اتجاه الطواف حول الكعبة المشرفة، فسبحان الله!!
2- وتدور الأرض حول محورها: في اتجاه معاكس لاتجاه عقارب الساعة( )، سبحان الله!!
3- وفي نفس الوقت تدور الأرض حول الشمس: في اتجاه معاكس لاتجاه عقارب الساعة، وهو نفس اتجاه طواف المسلمين حول الكعبة، عكس عقارب الساعة ( )، فسبحان الله!!
4- والحيوان المنوي للإنسان يدور حول البويضة: في اتجاه معاكس لاتجاه عقارب الساعة، وهو نفس اتجاه الطواف حول الكعبة ( )، فسبحان الله العظيم وبحمده!!
فكأن الدوران عكس عقارب الساعة كما في عبادة الطواف حول الكعبة واتجاهها ركن من أركان التسبيح.
فسائر الأجرام السماوية والشمس والقمر والنجوم والكواكب والجزيئات، كلها تدور عكس عقارب الساعة في أفلاك تسبح الله سبحانه وتعالى.( )
فالحيوانات المنوية للإنسان تدور حول محور النطفة عكس عقارب الساعة، والنطفة تدور حول نفسها في اتجاه معاكس لعقارب الساعة، والمسلمون يطوفون خلال أداء مناسك الحج حول الكعبة في اتجاه معاكس لاتجاه عقارب الساعة، فبهذا المثل مثل الدوران عكس عقارب الساعة حول النواة أثناء التسبيح –كطواف المسلمين حول الكعبة- ودوران الأرض حول الشمس، ودوران المجموعة الشمسية حول الثقب الأسود، يتجلى لنا تطابق النصوص الدينية الإسلامية مع نظام الكون، مما يُدلِّل على أن خالق هذا الكون، هو الذي أنزل الدين الحق الذي يتجلى فيه ناموس الكون، ألا وهو الإسلام.
حيث إن مثل هذا التطابق والتوافق بين الشرع والعبادات التي جاء بها رسول الله  وبين النظام الكوني، لا يقبل العقل السليم فيه إلا الاعتقاد الجازم بـ:
1- أن مَن شرَّع لمُحمَّد  هذا الشرع القويم، وهذه العبادات الهادية، لا بد وأن يكون هو الإله العظيم الخالق لهذا الكون.
2- وأن صفات هذا الإله الخالق لا بد وأن تكون مُماثلة لما أخبر به رسول الله محمد  ومطابقة لما دعا إليه.
ومعلوم أن رسول الله  قد دعا إلى إثبات وجود هذا الإله العظيم الخالق سبحانه وتعالى.
وقد دعا  إلى وحدانية هذا الإله العظيم الخالق، وفقًا لقول الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1].
وقد دعا رسول الله  إلى تعظيم وتنـزيه هذا الإله الخالق عن أن يُجعل له جل وعلا نِدًّا أو شريكًا أو ولدًا، وفقا لقول الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19]، ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: 3].
وقد أخبر رسول الله  بعظيم صفات هذا الإله الخالق جل وعلا وطلاقة قدرته وشمولية علمه وكمال حكمته... وفقا لقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4].
سادسًا: الدليل العلمي:
لقد كان الإنسان المادي المُلحد في بادئ الأمر يُخيل إليه كمخلوق ضعيف أن نجم هائل كالشمس التي يراها يوميا دون تغير في هيئتها أنها أزلية، وأنها ستظل هكذا إلى الأبد؛ لأنه دائما يراها على حالتها دون تغير.
لقد قال الفلاسفة بقدم الأجرام السماوية وأزليتها، أي أنها لم تُخلق، أي أنها على حالتها تلك منذ القدم وإلى الأبد.
ولكن العلم الحديث: قد أثبت الآن يقينًا أن الإشعاع الصادر عن الشمس ينقص من كتلتها، وإن كان القدر الذي يُنقصه ضئيلا بالنسبة لحجمها، مما يؤدي إلى نهايتها في يوم من الأيام المُستقبلية وإن بَعُد.
وبذلك فقد أثبت العلم الحديث بطلان قول الفلاسفة ومنكري الألوهية بأزلية الشمس أو غيرها من سائر النجوم، وكذلك سائر الأجرام والكواكب، حيث إن لها تاريخ بداية، وبالتالي فإنه من الضرورة أن تكون لها نهاية.
ثم جاء من هؤلاء الفلاسفة الذين أنكروا وجود الإله الخالق، وقال بأن الذرة هي المادة الأزلية، ولكن علم الفيزياء قد أبطل هذا الظن، إذ قد تبيَّن أن الذرة نفسها تتكون من أجزاء أخرى مثل الإلكترون والنيوترون والبروتون.
ثم قد تبيَّن أن هذه المكونات للذرة هي نفسها مُركبة من أجزاء، وآخر ما عرفه الفيزيائيون منها هو ما يُسمى بـ (الكوارك).
وقد يقول قائل بأن الكوارك هو المادة (الكوارك) هو المادة الأزلية، ولكن ذلك قول باطل من حيث:
1- أنه قول بغير علم، إذ ليس في هذه الكواركات ما يدل على أزليتها، وعدم تكونها هي الأخرى من أجزاء أصغر منها مثلما كان الظن في الذرة من قبل لا سيما إذا ما تقدمت وتطورت الوسائل التكنولوجية أكثر مما هي عليه الآن، ولا شك، فإن التقدم في الوسائل التكنولوجية يتم بشكل سريع مذهل.
2- إذا كانت (الكواركات) أو غيرها مما قد يُكتشف فيما بعد بأنه مكون لها، وأنه أصغر أو أضأل منها، فلا بد وأن تكون هذه المادة من (كواركات أو غيرها) قائمة بنفسها، مستغنية في وجودها عن غيرها، أي لا تُفنى ولا تتغير ولا تتبدل، ولكن ذلك قول خاطئ، حيث:
- إن العلم الحديث أثبت أن هذه الأجزاء قابلة لأن تتحول إلى طاقة، وأن الطاقة نفسها قابلة لأن تتحول إلى مادة، فما نُسميه مادة الهيدروجين مثلا، وما نُسميه طاقة كالضوء، هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، حيث:
- إن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.
وتدل هذه القابلية للتحول على: أن بقاءها في هيئتها المعينة كان معتمدًا على ظروف خارجة عن ذاتها، فلما زالت تلك الظروف زالت تلك الهيئة.
إذن، فهي ليست مُعتمدة في وجودها على نفسها.
إذن: فمن المستحيل أن تكون أزلية.
وناتج ذلك أيضًا: أن المادة في كل شكل من أشكالها المُعيَّنة قابلة للفناء، فالمادة تُستحدث، وتفنى، حيث إنها قابلة للتحلل أو التحول إلى مواد أو طاقات أخرى، وكل ما يتحلل أو يتحول فليس بأزلي.( )

سابعًا: الدليل الكوني:
لقد اكتشف العلم الحديث في مجال الفلك حقيقة في غاية الأهمية لم تكن تُعرف من قبل.
فقد اكتشف علم الفلك أن الكون يتسع بالتسلسل الدائم، حيث تتباعد مجراته بعضها عن بعض بصورة مستمرة، وبسرعة كبيرة، وأن الذي يتحرك متسعًا هو المكان الذي تحل فيه تلك المجرات، وباتساع ذلك المكان يزداد البُعد بين المجرات الحالَّة فيه مع استمرارها وانتظامها في دورانها في أفلاكها.
وقد حاول علماء الفلك تفسير هذه الظاهرة العجيبة، فكان من نتاج ذلك أن قد اقْتُرِحتا نظريتان شهيرتان لتفسير هذه الظاهرة، وهاتان النظريتان هما:
أ- نظرية الخلق المستمر أو (الكون ذي الحال الثابت).
ب- نظرية الانفجار العظيم.
- وكانتا هاتان النظريتان قد صِيغتا من أجل تفسير ما قد اكتشف من الثبات في كثافة هذا الكون على الرغم من التباعد المستمر بين أجزائه.
أ- نظرية الخلق المستمر (الكون ذي الحال الثابت):
لقد فسَّرت نظرية الخلق المستمر ثبات كثافة الكون مع استمرار التباعد بين أجزائه على أنه: توجد مادة تأتي محل –مكان- المادة التي تباعدت، وبهذا يظل الكون مُحتفظًا بكثافته رغما عن تباعده، ثم قالوا: إنه لذلك، فإن الكون على حال ثابت منذ الأزل، لا بداية له ولا نهاية.
- ثم جاء التساؤل الذي أبطل ذلك الاستنتاج، ومن ثم تلك النظرية، حيث كان التساؤل: من أين جاءت هذه المادة؟
فقال بعض القائلين بتلك النظرية –في بادئ الأمر- أنها تُخلق من العدم، فجاء اعتراض الكثير على مثل ذلك القول، حيث إن العدم لا يخلق شيئًا.
ثم لم يلبث العلماء أن اكتشفوا حقائق أصابت تلك النظرية في مقتل، حيث وجدوا أدلة قاطعة على أن الكون لم يبق على حال واحد، كما تفترض النظرية، والتي كانت لذلك تسمى (نظرية الكون ذي الحال الثابت).
بل ثبت أن الكون في تَغيُّر على عكس ما افترضته تلك النظرية، ولم تستطع تلك النظرية أن تُفسر هذا التغير، ولهذا فقد مال العلماء عنها إلى النظرية الأخرى، وهي نظرية الانفجار العظيم.( ).
ب- نظرية الانفجار العظيم:
تقول هذه النظرية: بأنه إذا كان الكون إلى اليوم يتباعد، فلا بد أنه في يوم ما كان متقاربًا، وإذا ما تخيلنا سَيْر هذه المجرات في الاتجاه المعاكس لاتجاه تباعدها اليوم، أي وهي تجري مُقتربة بعضها من بعض، فإنها ستكون قطعة واحدة مُساوية في حجمها لمجموع أحجام المجرات المكونة لها.
ولكن الفيزيائيين يقولون: إنه كلما اقتربت هذه المجرات من بعضها وتضامَّت ازدادت كتلتها، فتزداد شدة جاذبيتها، فيزداد التلاصق، وتتلاشى الفراغات بين النجوم المُكونة للمجرات، ثم يزداد ضغط الجاذبية على النجوم نفسها، وهكذا يستمر الضغط حتى تكون المادة المكونة للكون في حجم الذرة، ثم يستمر الضغط إلى أن تكون هذه المادة في أصغر ما يمكن.
ثم انفجرت هذه المادة ذات الضغط الشديد والطاقة الهائلة، وانتشرت أجزاؤها في صورة إشعاع، ثم بدأ يَبرُد فتكوّن منه بالتدريج هذا الكون المشهود.( )

ثم جاء التساؤل المهم:
من أين جاءت هذه المادة التي خُلِق منها هذا الكون؟!
هل من الممكن أن تكون هذه المادة جاءت من العدم؟!
بالتأكيد: لا، فإن العدم لا يخلق شيئًا.
إذن: فمن أين وجدت؟
الجواب المؤكد: لا شك أن الذي أوجدها هو الإله الخالق لها من العدم، والخالق لكل شيء، وأنه سبحانه وتعالى يُوصف بطلاقة القدرة، وأن صفاته مُغايرة لصفات المخلوقين، فإذا أراد شيئا فإنما يقول له: كن. فيكون، فسبحان الله العظيم!!
إشارة مهمة:
نود أن نشير إلى أن القرآن الكريم قد أشار إلى هذه النظرية (نظرية الانفجار العظيم)، بل إنه –القرآن الكريم- رفعها من كونها نظرية فرضية –وإن كان مال إليها العلماء عن غيرها- إلى كونها حقيقة مؤكدة، لما أشرنا سابقا من أنه يلزمنا الإيمان بأنبياء الله ورسله، والتصديق بما أُنزل عليهم من كتب سماوية، وبكل ما أخبروا به.
فقد أنزل الله جل شأنه في القرآن الكريم، قوله تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: 30].
كانتا رتقا: تعني: أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين، غير متباعدتين.
ففتقناهما: تعني: ففصلنا بينهما؛ أي: بين السماء والأرض.
حيث تدعونا الآية الكريمة إلى التأمل في كيفية بَدْأ هذا الكون المشهود، للتعرف على خالقه، والإيمان به وبعظيم صفاته وطلاقة قدرته.
ولذلك: فإن هذه الآية الكريمة إعجاز علمي رائع، شاهدة بصدق كلام رب العالمين الذي أنُزل على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد .
ثامنًا: دليل العناية:
إن مَن يتأمل في هذا الكون الذي خلقه الله سبحانه وتعالى يَجده في غاية التوازن، ومُتناسبًا إلى حد لا يمكن تصوره.
بل إن هذا التوازن العجيب والتناسب الدقيق يكون في صالحه –الإنسان-.
فكيف يمكن أن يكون مثل هذا التوازن الـمُذهل في صالحه، إذا كان الكون قد وُجد صدفة؟!!
إن كل مُتأمل لهذا الكون وما به من مخلوقات يرى أنها ليست كومًا عشوائيًّا من الموجودات، بل هي مرتبة ترتيبًا، ومصممة تصميمًا يكون من ورائه غاية تدل على أن لهذا الكون، وما به من مخلوقات وموجودات له صانع عالم حكيم.
فنجد أن حركة هذه المخلوقات والموجودات حركة مُتسقة لا يُعطل بعضها بعضًا، بل إن القوانين التي تحكمها قوانين واحدة، لا تختلف مهما اختلف الزمان أو المكان، إلا إذا أراد الإله الخالق لها أن تتخلف تخلُّفًا يكون هو في نفسه معجزة دالة عليه سبحانه وتعالى، وعلى طلاقة قدرته، وعظيم خلقه.( )
وعلينا أن نعلم: أنه لا تناقض بين كون الشيء مخلوقًا، وكون لحدوثه أسباب؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما سنته أن يخلق بالأسباب، ولأنه سبحانه وتعالى هو خالق تلك الأسباب وجاعلها أسبابًا.
ولذلك: فإن كل ما نراه ونشاهده من الاتزان العجيب والتناسق الدقيق في هذا الكون دلالة على عناية الله سبحانه وتعالى بخلقه.
ولنُلقي الضوء على بعض ما يُوضح هذا الاتزان العجيب والتناسب الدقيق في هذا النظام الكوني دلالة على كمال حكمة الإله الخالق وعظيم صنعته، وإشارة إلى عنايته سبحانه وتعالى بخلقه:
1- قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا* وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ [النبأ: 6-16].
ولنتأمل في هذه الآيات الكريمات من كتاب الله سبحانه وتعالى (القرآن الكريم) حيث تدعونا إلى التأمل في آيات ومخلوقات الله تعالى، وأن نُفكر في الصلة بين كل واحدة من هذه المخلوقات والأخرى، وما تُحققه للإنسان من منافع ومصالح وأهداف دالة على عناية الله سبحانه وتعالى به.
2- إن الأرض التي نحيا عليهم في ضخامتها بالنسبة لنا، لا تساوي ذرة من هذا الكون العظيم، فلو أنها كانت في حجم القمر لكانت جاذبيتها سُدس جاذبيتها الحالية، ولكان نتيجة ذلك: أنها لا يمكن لها أن تُمسك الماء والهواء من حولها، كما هو الحال في القمر الذي لا يوجد به ماء، ولا يحوطه غلاف جوي، وسوف تشتد البرودة ليلا حتى يتجمد كل ما فيها، وتشتد الحرارة نهارًا حتى يحترق كل ما عليها.
وعلى العكس من ذلك: فإذا كان قُطر الأرض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت جاذبيتها الحالية، ثم ينكمش غلافها الجوي، ثم ينشأ ضغط يؤثر أسوأ الأثر في الحياة التي نعيشها، وكلما ازداد حجم الأرض يزداد هذا الضغط الذي يؤدي إلى استحالة نشأة الأجسام الحية.( )
3- إن الأرض تتم دورة واحدة حول محورها في كل أربع وعشرين ساعة، ومعنى ذلك: أنها تسير حول محورها بسرعة ألف ميل في السرعة.
فإذا فرضنا أن هذه السرعة انخفضت إلى مائتي ميل في الساعة لطالت أوقات الليل والنهار عشرات المرات بالنسبة إلى ما هي عليه الآن، ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس -بشدة حرارتها- كل شي فوق الأرض، وما بقي بعد ذلك سوف تقضي عليه البرودة الشديدة في الليل.( )
4- قشرة الأرض: فإذا كانت قشرة الأرض أكثر سمكًا بمقدار عشرة أقدام من سمكها الحالي، لما وُجد الأوكسجين، حيث إن القشرة الأرضية سوف تمتص الأوكسجين، وبذلك تستحيل الحياة.
5- البحار: فإذا كانت البحار أعمق بضعة أقدام أكثر من القاع الحالي، لانجذب الأوكسجين وثاني أوكسيد الكربون الذي يأخذه النبات ليُخرج الأوكسجين اللازم للحياة، وبذلك يستحيل وجود النبات على الأرض، ولانعدمت الحياة لانعدام الأوكسجين.( )
6- الغلاف الجوي: فإذا كان الغلاف الجوي ألطف مما هو عليه الآن لاخترقته النيازك، ولسقطت على الأرض فأحرقتها.( )
7- الشمس: فإذا اقتربت الشمس من الأرض بمقدار نصف مسافتها الحالية لاحترق الورق على الفور من حرارتها، ولو بعدت بمقدار ضعف مسافتها الحالية بينها وبين الأرض، فإن البرودة الشديدة الناتجة عن ذلك سوف تقضي على الحياة على سطح الأرض.
ولو أنه حلَّ محل الشمس نجم آخر يحمل حرارة تزيد أضعافًا على حرارة الشمس، فإن الأرض سوف تكون تنورًا رهيبًا.( )
وإلى غير ذلك الكثير والكثير من مظاهر الاتزان العجيب والتناسب الدقيق في هذا النظام الكوني المشهود، إشارة إلى عناية الله سبحانه وتعالى بخلقه، وحفظه لهم، ودلالة على وجوده وحكمته وعظيم صنعته.
تاسعًا: الدليل الخُلُقِي:
إن القيم الخُلُقية كالصدق والأمانة والعدل... قيم ضرورية لوجود المجتمعات البشرية، وبدون هذه القيم لا تكون هناك علاقات اجتماعية أو غيرها.
فالصدق وغيره من الفضائل والقيم الأخلاقية الأخرى ضرورة اجتماعية، وكلما كَثُر أصحابه –الصدق وغيره من الفضائل- وأهله كان المجتمع أقوى تماسكًا وأدعى؛ لأن تزدهر فيه العلوم والتقنية، والاقتصاد إذا ما توافرت شروطها الأخرى.( )
وفي غياب الألوهية والدين تنعدم مثل هذه القيم الخُلُقية، حيث إنه:
لا تتوافر الدواعي التي يقتضي من ورائها التمسك بمثل هذه القيم.
فعلى سبيل المثال:
قد لا يجد الصادق جزاء صدقه، وقد لا يجد أي من تمسك بمثل هذه الأخلاقيات جزاءً له نظير تمسكه وتحلِّيه بمثل هذه الأخلاقيات والفضائل.
وقد يكون الكذب وسيلة –وإن كانت خاطئة- لدفع ضرر مُلحق بصاحبه أو الحصول على ما ليس بحق، وإذن فلن يتردد الفرد في أن يتخذ الكذب أو غيره من الرذائل وسيلة لدفع ضرر ملحق به أو نيل ما ليس بحقه، إذ لا تتوافر من الدواعي ما يقتضي من ورائها التخلي وعدم التمسك بأي من هذه الرذائل.
حيث إنه لا يوجد على سبيل ما افترضناه إله خالق، عادل حكيم...
يثيب المحسن المُصلح ويجازي ويُعاقب الرذيل المفسد، ومن ثم لا توجد دار أخرى يُثاب أو يجازى فيها أي منهما.
ولذلك، فإن من يتمسك بمثل هذه الفضائل والقيم الخُلُقية، إذا كان فيها خسارة لبعض المكاسب الدنيوية، يقول في نفسه:
عَلامَ وفِيمَ التضحية بمثل تلك المكاسب الدنيوية وضياع مثل تلك اللذة العاجلة إذا لم يكن هناك جزاء لِما تمسكت به من فضائل وقيم خُلُقية؟!
وعندئذ يُمحى نور الخير من هذا الكون، ولا يبقى إلا الظلام الحالك الذي تتلاشى فيه معايير الخير والشر، حتى إن إبادة الناس بالقنابل لا تُعدّ ظلمًا، لأنهم سوف يلقون حتفهم في يوم ما، ولا إله محاسبًا للظالمين على أفعالهم، أو رادًّا للمظلومين حقوقهم.
إن المُلحد المنكر لوجود الإله الخالق حين يتمسك ببعض من هذه القيم الخلقية كالصدق والأمانة والعدل مثلا، فإنه بذلك يتناقض مع مقتضيات مبدئه، حيث إنه لا يصدق صدقًا يفوِّت ويُضيِّع عليه مصلحة ما إلا في حين تخليه مؤقتا عن مبدئه أو عن عقله.
أما المؤمن الذي يؤمن بالله سبحانه وتعالى الخالق لكل شيء، فالأمر بالنسبة له عكس ذلك تمامًا.
فهو حين يكذب مثلا، فإنه يكون قد سلك سلوكًا يتناقض مع مبدئه وعقله، وحين يصدق فإنه يكون موافقا لهما، وكذلك موافقا لفطرته.
حيث إن الناس مفطورون على أن هذه القيم الخلقية قيم يحسن أن يلتزموا ويتمسكوا بها، فهـي جزء من تكوينهم العقلي، وهم يشعرون لذلك –ما داموا محتفظين بفطرتهم- بالفرح والسعادة، وإذا ما تخلوا عن التمسك بمثل هذه القيم فإنهم يشعرون بالحزن والشقاء.
مِمَّا يُدلِّل على أن إيداع مثل هذه القيم الخلقية في فطرتهم لا بد وأن يكون من مودع حكيم، ولا بد وأن يكون من فاطرٍ لهذه الفطرة السوية.
أي لا بد من وجود إله خالق لهذا الكون ومن فيه، وأن يكون جل شأنه هو الذي فطر الناس على مثل هذه الفطرة السليمة السوية.
ونُشير ختامًا لهذا الفصل الذي نتحدث فيه إلى:
أنه لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه، فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الإله، وهكذا ننتهي إلى التسليم بأن للكون إله، ولكن إلهنا ذلك سوف يكون عجيبًا، أي أنه سوف يكون إلهًا غيبيًّا وماديًّا في آن واحد!! ( )
وبذلك يكون مثل ذلك القول باطلا مُنكرًا.
ولكننا نؤمن بالإله الخالق لهذا العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو جل شأنه حاكمه ومُدبِّره.

هل يمكن أن يكون للكون إلهين أو أكثر؟
لقد ثبت لدينا فيما أوضحناه سابقًا بشتى الدلائل الساطعة والبراهين الدامغة وجود الله سبحانه وتعالى، وأنه هو جل شأنه الإله الخالق لهذا الكون بما فيه من مخلوقات وموجودات، بل إنه جل وعلا الخالق لكل شيء، لما له من طلاقة القدرة وشمولية العلم وكالية الحكمة.
وما قد أحدثه كثير مِمَّن بدّلوا وغيّروا في فطرتهم من اعتقاد فاسد بوجود ألهة أخرى مع الله عز وجل، وإشراكهم في العبادة، ما هو إلا هوى نَفْس ونُقصان عقل، حيث إن الفطرة السوية والعقل السليم يُنكران أيا من ذلك، حيث لا دليل عليه فطريًّا كان أو عقليًّا أو غيرها.
وما ذلك الاعتقاد الفاسد –بوجود آلهة أخرى- إلا اتباعًا للظنون والأوهام؛ حيث لا صِلة لها بالحق اليقين، مصداقًا لقول الله تعالى:
﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: 28].
بل إن الأدلة الدامغة على نقيض ذلك، حيث إن كل الشواهد والبراهين تؤكد وحدانية الله سبحانه وتعالى واستحالة أن يكون له جل وعلا ندًّا أو شريكًا في ألوهيته وعظيم صفاته وطلاقة قدرته.
ومن الأدلة التي تشهد بوحدانية الله سبحانه وتعالى:
1- الدليل الفِطري:
أ- الإنسان بفطرته يؤمن بإلهه الذي خلقه، وأن الخالق له ولكل شيء إنما هو إله واحد، مُوَافَقَةً لقول رسول الله :
((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) [صحيح البخاري].
فإذا ما وقع على الإنسان بغتة شيء مُهلك له، أو نزلت به نازلة لكان يقول بلسانه من غير أن يشعر: يا الله. أو يارب، مما يدلل فطريا على أن الإله الخالق هو إله واحد، لا شريك له، حيث لم يتلفظ الإنسان آنذاك سوى بلفظ واحد، وهي الكلمة التي تدل على وجود هذا الإله الخالق ووحدانيته.
ب- إن الإنسان إذا ما أراد أن يلوذ بربه وأن يلجأ إليه بالدعاء والمسألة نجده لا يدعو إلا إلهًا واحدًا، لا أكثر من ذلك.
ونجده لا يدعو إلا بما يدل على أنه إله واحد، فنجده يدعو ويقول: يا الله أو يا رب، أو ما أشبه ذلك، موافقة لقول الله تعالى:
﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل: 62- 64].
وقد كان مشركو العرب يتخذون مع الله عز وجل آلهة كثيرة في الأرض، على هيئة أصنام وتماثيل من حجارة أو غير ذلك، ويعبدونها معه.
وإذا ما سُئل المشرك: كم من الآلهة يَعبد؟ يجيب بأنه إله واحد في السماء، ثم يذكر عدد ما شاء من الأصنام والحجارة التي قد اتخذها آلهة باطلة يعبدها في الأرض.
ولكن: إذا ما سُئل عن الإله الذي يدعوه ويسأله؟
قال: الذي في السماء.
مما يدل على أن الإنسان قد فُطِر على الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى.

2- دعوة الأنبياء والرسل إلى وحدانية الله سبحانه وتعالى:
لقد أرسـل الله سبحانه وتعالى أنبيـاءه ورسـله لدعوة الناس إلى الإيمان به جل وعلا والإقرار بوحدانيته، وأنه سبحانه وتعالى لا ندَّ له ولا شريك له في ألوهيته، ومن ثم إفراده جل وعلا بالعبادة وحده.
وكما أشرنا: فإن الله سبحانه وتعالى قد فطر الناس على الإيمان به جل وعلا وتوحيده، فلا تناقض بين ما دعا إليه المرسلون وبين ما فُطر الناس عليه من الإيمان بالله عز وجل وتوحيده.
وذلك لأن الإله الذي قد فطر الناس على الإيمان به وتوحيده هو ذاته الإله الذي أرسل أنبياءه ورسله لدعوة الناس إلى ما فطرهم عليه، وتذكيرهم بذلك، رأفة ورحمة منه تبارك وتعالى، وإقامة للحجة عليهم، حكمة وعدلا منه جل وعلا.
ولقد أيَّد الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله بالمعجزات والخوارق التي تشهد بتأييدهم من هذا الإله الخالق القادر... كما أشرنا سابقا، ومن ثم صدق ما أخبروا به من وجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته، وصدق دعوتهم إلى الإيمان والتصديق بما أخبروا به.
3- الدليل العقلي:
أ- ديل التمانع:
إذا ثبت لدينا بالحس أن الكون في غاية إتقان الصنعة وإحكام النظام، فإن ذلك يدل على أن خالقه – خالق الكون- واحد لا شريك له، ولا معاونة ولا منازعة له.
أي أنه إذا امتنع بالحس اختلال الكون، وثبت بالحس دقة وإحكام صنعه، امتنع أن يكون له أكثر من خالق.
فبفرض وجود صانعين متكافئين في الصفات والأفعال:
عند اختلاف إرادتهما –كأن يريد أحدهما تحريك جسم ما، ويريد الآخر سكونه وعدم تحريكه- فإن ما يحدث الآتي:
إما أن يحصل مراد كل واحد منهما، وهو جمع بين النقيضين، لذلك فهو قول باطل.
وإما أن لا يحصل مراد أي منهما، وهو أيضا قول باطل لنسبة العجز لكل واحد منهما.
وإما أن يحصل مراد واحد منهما دون الآخر، فيكون هو الرب الحق، والآخر عاجز لا يصلح للربوبية، ونظام الكون ودقة صنعه يدل على أن خالقه ومدبره واحد لا شريك له، وهو الله تعالى.( )
ونشير إلى: أن هذه الآية الكريمة:
قول الله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22].
إنما مقصودها توحيد الألوهية: أي إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة وحده، وهذا يقتضي الإقرار بتوحيد ربوبيته، أي أنه جل وعلا هو الخالق وحده.
ويُدلِّل على ذلك المقصود: أن مشركي العرب كانوا معترفين بتوحيد الربوبية، وأن الخالق هو إله واحد، فتخصيص الله سبحانه وتعالى وإفراد بالعبادة وحده –أي توحيد الألوهية- لا يتأتى إلا بعد توحيد ربوبيته والإيمان والتصديق بأنه سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، فلا ند ولا شريك له.
فمقصود القرآن الكريم هو توحيد الألوهية، وهو مُتضمِّن لتوحيد الربوبية من غير عكس، وبهذا قالت الآية: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾.
وقد أشار إلى ما ذكرناه شيخ الإسلام (ابن تيمية) رحمه الله.
ب- إن بعد ثبوت وجود الله سبحانه وتعالى بشتى الدلائل والبراهين، وأنه جل وعلا هو الإله الخالق لهذا الكون وما به من مخلوقات وموجودات، فإنه لا يقبل العقل السليم، إلا وأن يكون هذا الإله الخالق إلهًا واحدًا، لا شريك ولا ندَّ له، حيث يترتب على ذلك تخصيصه وإفراده وحده جل وعلا بالعبودية، فلا يُعبد غيره من أصنام وأحجار وأباطيل وأكاذيب، وأوهام وظنون.
فالفِطرة السوية والعقل السليم لا يقبلان إلا وأن يكون العبد المخلوق خاضع لسلطان ونفوذ إله واحد، وهو الإله الخالق، وأن تكون العبادة له جل وعلا وحده، فلا تكون لأحد سواه؛ لأنه إذا كان للكون إلهان خالقان له، بما فيه من مخلوقات وموجودات، أو إذا كان له أكثر من إلهين، فإن الإنسان كعبد مخلوق مُلزم بالخضوع لسلطانهم جميعًا، ومن ثم الطاعة لهم والقيام والتنفيذ بكل ما أمروا به.
ولا شك أن أوامرهم وتكاليفهم –الآلهة الباطلة- سوف تكون مختلفة ومتناقضة ومتضاربة.
وعند ذلك، لا يدري الإنسان المسكين، كعبدٍ مخلوق، أيًّا من تلك الأوامر والتكاليف ينفذها، ولأي من تلك الآلهة يطيع.
وإذا قام ذلك العبد المخلوق بتنفيذ أوامر وتكاليف أحدهم –الآلهة- فإنه سوف يُعرِّض نفسه لسخط الآلهة الأخرى، وعقابهم له، وإذا ما كان ذلك.
فما حال هذا الإنسان كعبد مخلوق؟! أمُثاب أم مُعاقب أم جامع للأمرين معًا؟!
لا شك أن ذلك الأمر محال ولا تقبله الفطرة السوية، وكذلك لا يقبلها العقل السليم الذي خلقه الله تعالى لنا، لنصل به إلى الحق اليقين، لا إلى الوهم والظنون.
إن صاحب الفطرة السوية والعقل السليم لا يقبل إلا وأن يكون هذا الإله الخالق واحدًا، فردًا، صمدًا، لا شريك ولا ندَّ له، مصداقًا لقول الله تعالى:
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 29].
يعني: أن ذلك الرجل العبد الذي يملكه شركاء متنازعون ومختلفون في أهوائهم ومطالبهم وأوامرهم، لا يستوي مع هذا الرجل العبد الذي لا يملكه إلا سيده فقط، وهو خالص له، فكان هذا المثل القرآني تشبيهًا لحال المشرك الذي يعبد آلهة أخرى مع الله تعالى، وحال المؤمن الذي لا يعبد إلا الله تعالى وحده، الذي لا نِدَّ ولا شريك له، فأين ذلك من هذا؟
وأيضا: فإن ما أشرنا إليه، مصداقًا لقول الله تعالى:
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 22].
أي أنه: إذا كان مع الله آلهة أخرى لفسدت السموات والأرض، لاختلافهم وتنازعهم، ومن ثم اختلاف أوامرهم وتكاليفهم، وتضاربها وتناقضها كما أشرنا.
ونشير إلى:
أن الآية الكريمة لم تقل لو كان فيهما إلهان، لأن الفَرض المُقدر هو آلهة كثيرة تُعْبَد مع الله، كما كان واقع المشركين.
نخلص من ذلك:
أنه من المُحال فطريًّا وعقليًّا أن يكون للكون إلهان أو أكثر.
لذلك: فإن خالق هذا الكون وما به من مخلوقات وموجودات هو الله سبحانه وتعالى وحده، الخالق لكل شيء، فلا ندَّ ولا شريك له.

جـ- قول الله تعالى:
﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: 91].
إن هذه الآية الكريمة حُجَّة على من أنكر وحدانية الله تعالى، حيث قامت بمخاطبة العقل البشري استدلالا بما فُطِرت عليه النفس، دون عمل فكري مُعقّد.
فهذه الآية الكريمة: قد نَفَت أن يكون لله ولد، حيث لا يُتقرب إليه بعبادة ذلك الولد، وفي هذا نَفْي لتأليه الوسائط بين الله سبحانه وتعالى وبين عباده.
ثم نفت هذه الآية الكريمة أن يكون هناك آلهة أخرى تُعبد على سبيل الشركة مع الله تعالى؛ لأنه لو كان هناك من يستحق العبادة معه لكان لا يخلو من احتمالين:
الاحتمال الأول:
إما أن يكون كل إله قادرًا، فيتحقق بذلك الفرض الأول، وهو قوله تعالى: ﴿إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾، ومعلوم أن ذلك لم يحدث، وبما أنه لم يحدث، فإن ذلك يدل على أن الخالق إنما هو إله واحد.
الاحتمال الثاني:
أن يكون أحدهم قادرًا دون الآخرين، أي أن يكون أحدهم قادرًا وغيره عاجز، وهنا يصدق الفرض الثاني في قوله تعالى: ﴿وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ومعلوم أن ذلك لم يقع، فدل هذا على امتناع وجود إله قادر وآخر عاجز.
أي أنه لا يوجد إلا إله واحد، له طلاقة القدرة.
ولو فُرِض وجود إله قادر وآخر عاجز، لكان الإله القادر هو الإله دون بقية الآلهة، ولكن فرض آلهة أخرى مع الله سبحانه وتعالى مستحيل.
فالله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد الأحد، الذي لا شريك له ولا نِدَّ له.

د- قول الله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3].
هذه الآية الكريمة بما فيها من ألفاظ موجزة: إشارة إلى أزلية الله سبحانه وتعالى، وتنـزيهه جل وعلا عن اتخاذ الولد، فكما أنه سبحانه وتعالى لم يُولد من شيء قبل، فهو جل وعلا لم يلد شيئًا، فلا حاجة له سبحانه وتعالى بذلك.
فالله سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فكان الله تعالى ولا أحد سواه، فلم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وهذا مُحال في صفات الله جل وعلا.
ولنتساءل مُفترضين وجود آلهة أخرى مع الله تعالى:
- من الذي أوجدهم جميعًا؟ حيث إنه لا بد من واجد لهم.
- هل من العدم، من لا شيء؟ مُستحيل، إن العدم لا يُوجِد شيئًا، لأنه معدوم.
إذن، فلا بد من واجد لهم –إله آخر- له من المقدرة ما يفوق مقدرتهم جميعًا.
إذن: فمن الذي أوجد هذا الإله الذي أوجد غيره من الآلهة؟
فإذا قلنا: إن الذي أوجد هذا الإله السابق إله آخر يملك من المقدرة ما يفوقه، وإذا استمررنا في مثل ذلك التساؤل، فإن ذلك يقودنا إلى تسلسل لا نهائي من نفس تلك التساؤلات ومن مثل تلك الأجوبة. ( )
وذلك أمر يستحيل أن تقبله فطرة سوية أو عقل سليم.
وأيضًا فإن مثل تلك الآلهة المزعومة المفترضة تكون مخلوقة، مُلزمة بطاعة وعبادة من خلقها... وهكذا.
إذن: لا بد وأن يكون الإله إلهًا واحدًا فقط، ليس لأحد سواه القدرة على الخلق، وأنه يملك من طلاقة القدرة على أن يخلق من العدم، ولا بد وأن يكون الإله الخالق متصفًا بصفة الحياة الأزلية والأبدية، أن يكون دائمًا في وجوده، باقيًا حيًّا بذاته على الدوام، لا تأخذه سِنة –غفلة- ولا نوم، ولم يُولَد من شيء، قائمًا بنفسه وغير مُفتقِر إلى غيره أو إلى شيء يُوجده، فهو سبحانه وتعالى الدائم الباقي بذاته على الدوام.
ولما أشرنا إليه:
فإن الإجابة للتساؤل الخاص بهذا الفصل الذي طرحناه في البداية:
- أنه لا يمكن أن يكون لهذا الكون إلهين أو أكثر، وأن الله سبحانه وتعالى وحده هو الإله الخالق لهذا الكون المنظور بما فيه من مخلوقات وموجودات، وهو سبحانه وتعالى وحده الخالق لكل شيء.

هل يُشترط للإيمان بالإله الخالق سبحانه وتعالى رؤيته عيانًا؟
وهل عدم رؤيته دليل على عدم وجوده؟!
إن الدليل الحِسي المباشر دليل مقبول عند كافة العقلاء، وله في الدين مكانة كبيرة، لكن الأدلة العلمية ليست محصورة في هذا الدليل، بل إن الإصرار على عدم قبول أي دليل آخر غير هذا الدليل الحسيّ المباشر هو نفسه من علامات عدم العقلانية.
ولو أن العلماء الطبيعيين من فيزيائيين وكيميائيين وأحيائيين وغيرهم، وسائر العقلاء لم يقبلوا دليلا غير هذا الدليل لما تقدم علم من العلوم، بل ولا قامت له قائمة.( )
لقد ثبت لدينا بكافة أنواع الأدلة (من أدلة فِطرية وحِسية وعقلية وعلمية..) وجود الإله الخالق ووحدانيته، وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك.
ونضيف إلى ما أثبتناه سابقًا ما يُجيب علميًّا على مثل ذلك التساؤل الذي قد ابتدئ به كعنوان لهذا الفصل:
- إن قانون الجاذبية لا يمكن ملاحظته قطعيًّا، وكل ما شاهده العلماء لا يُمثل في ذاته قانون الجاذبية، وإنما هي أشياء أخرى اضطروا لأجلها أن يؤمنوا بوجود هذا القانون، واليوم فإن قانون الجاذبية يلقى قبولا عاما، وهو الذي كشف عنه نيوتن لأول مرة، وأصبح هذا القانون حقيقة علمية، لماذا؟
ذلك لأن قانون الجاذبية يفسر لنا بعض ملاحظاتنا.
إذن: فليس بلازم أن الحقيقة هي ما علمناه مباشرة بالتجربة.
فالجاذبية لم تُر ولم تَشاهد عيانًا، ومع ذلك فهي حقيقة علمية، لا يمكن لأحد إنكارها لعدم رؤيتها ومشاهدتها.
فما بال الملحدين المنكرين لوجود الإله الخالق سبحانه وتعالى يشترطون رؤية الله تعالى للإيمان به، ويقولون بأن عدم رؤيته دليل على عدم وجوده!!
فما بالهم يناقضون أنفسهم؟!
وما بالهم يتناقضون مع مبادئ العلم الحديث؟!
وهذا مع عظيم الفارق بين الإله الخالق لكافة المخلوقات والموجودات، وبين غيره من عبد مخلوق ضعيف.
فإذا عجز الإنسان عن رؤية مثل الجاذبية وهي من بديع صنع الله تعالى، فهل يستطيع أن يرى الإله الخالق له وللجاذبية ولغيرها من كافة المخلوقات والموجودات؟
وقياسًا على ما ذكرناه علميًّا كمثال لتوضيح أن الحقيقة ليست محصورة في الدليل الحسي المباشر، وغير مُقتصرة عليه، نضرب هذه الأمثلة البينة، لكل من له فطرة سوية وعقل سليم –وإن لم يكن عالمًا فيزيائيًّا أو غيره- وذلك لتأكيد ما ذكرناه:
أ- اللبن والزُّبد:
معلوم لكل كبير وصغير، مُتعلم وغير مُتعلم، أن اللبن يُستخرج منه الزبد.
فهل يمكن أن نرى الزُّبد المُستخرج من اللبن حين حَلْب اللبن ودَرِّه، وهو على حالته الطبيعية السائلة؟! بالطبع: لا.
فهل يمكن من هذا اللبن وهو على حالته الطبيعية، حين حَلْبِه ودرِّه، أن نستخرج منه الزبد؟! بالطبع: كلا، حيث إن اللبن لا بد وأن يمر بعدة مراحل قبل إتمام هذه العملية.
فإذا كنا لا نستطيع أن نرى الزبد في اللبن، وهو بين أيدينا –في حالته الطبيعية السائلة- ولا نستطيع أن نستخرجه منه آنذاك، فهل نستطيع أن نرى هذا الإله الخالق لنا والخالق لكافة المخلوقات والموجودات؟!
الجواب المؤكد: الذي لا بديل له ولا حياد عنه: كلا.

ب- العقل:
لقد منحنا الله سبحانه وتعالى هذا العقل لنتفكر به في عظيم آياته الدالة على وجوده سبحانه وتعالى، وعلى وحدانيته، ومن ثم التعرف على عظيم صفاته جل وعلا، ومن ثَمَّ التذكر بعظيم نعمته تبارك وتعالى علينا، ومن ثم إفراده عز وجل بالعبادة وحده، حيث لا نِدَّ ولا شريك له.
فالعقل السوي لا ينكر أيًّا مما ذكرناه.
وبالعقل السليم تحصل التذكرة والانتفاع بالموعظة، فلا يستطيع أحد أن ينكر وجود هذا العقل الذي نُفكر به.
ونتساءل مثلما تساءلنا من قبل:
هل يستطيع أحد من الملحدين أو المنكرين لوجود الله تعالى أن يرى عقله الذي يُفكر به ويتفلسف به؟! بالطبع: لا.
فهل يمكن إنكار وجود العقل لعدم رؤيتنا له؟! بالطبع: لا.
إذن: فلا يُعدُّ رؤية العقل شرطًا للاعتراف والتصديق بوجوده.
ولكن: لماذا يشترط مثل هؤلاء الملحدين رؤية الله تعالى للإيمان به، ويقولون بأن عدم رؤيته دليل على عدم وجوده؟!
الجواب: لا شك أن الدافع وراء مثل ذلك الاشتراط هو الغرور والكبر عن الخضوع للحق، واتباعهم لهوى النفس وشهواتها، وسوف ينالون من الله عز وجل ما يستحقونه جراء ذلك الافتراء والكبر.
جـ- الروح:
لقد منحنا الله تبارك وتعالى هذه الروح لنحيا بها وفقا للحياة التي أرادها الله عز وجل لنا، والالتزام بالضوابط التي قد بيَّنها جل وعلا لنا على ألسنة أنبيائه ورسله، وفي الكتب التي أنزلها عليهم، إلى أن يأذن سبحانه وتعالى بقبض أرواحنا.
ولا أحد يستطيع أن ينكر وجود هذه الروح التي في نفسه وبين جنبيه.
وللتوضيح: نُوجِّه مثل هذه التساؤلات –مثلما تساءلنا من قبل- لذلك المُلحد الجاحد لوجود إلهه وخالقه، ونقول:
- هل تعتقد أن فيك روحًا؟
فيقول: بالطبع نعم.
- هل رأيت هذه الروح؟
فيقول: بالتأكيد لا.
- هل عدم رؤيتك لروحك تجعلك تنكر وتجحد وجودها؟!
فيقول: لا.
فإذا كنت لا تُنكر هذه الروح مع أنك لا تستطيع أن ترى روحك التي هي في نفسك، وبين جنبيك، فما بالك تنكر وجود هذا الإله الخالق جل وعلا لعدم رؤيتك له، حيث تتوهم ظنًّا لا يُغني من الحق شيئًا، ومع ذلك تستند إليه؟
وما بالك تحاول أن تقنع نفسك مُخادعة بغير المعقول من الأوهام والظنون الكاذبة؟!
ولا شك من وجود الفارق العظيم بين الإله الخالق العظيم وبين روح العبد المخلوق الصغير.
إن الله سبحانه وتعالى قد جعل لنا الكثير والكثير من الآيات البالغات، البيٍِّنات التي تشهد بوجوده جل وعلا ووحدانيته وعظيم صفاته وطلاقة قدرته.
لذلك: فإنه لا يُشترط للإيمان بهذا الإله الخالق العظيم أن نراه عيانًا، حيث إن ليس في عدم رؤيته دليل على عدم وجوده.

صفات الإله الخالق عند المسلمين
لقد ثبت لدينا بيقين وحدانية الإله سبحانه وتعالى، الخالق لهذا الكون المشهود بما فيه من مخلوقات وموجودات، والخالق لكل شيء كما أشرنا سابقًا، حيث إنه من المستحيل وجود أي من آلهة أخرى مع الله عز وجل.
وتبعًا لما قد أوضحناه من وحدانية الله سبحانه وتعالى، فإنه يلزمنا الإيمان والتصديق بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور...
وهذا هو ما يُسمى بتوحيد الربوبية لله عز وجل، حيث إنه لا رب سواه جل وعلا.
وننوه إلى:
إذا ما أقررنا بتوحيد الربوبية لله عز وجل، فإنه يلزمنا إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة وحده، بأن لا يتخذ الإنسان مع الله تعالى أو شريكًا، يعبده أو يتقرب إليه بتقديم القرابين أو غيرها، حيث إن الله سبحانه وتعالى هو المستحق بالعبادة وحده دون غيره، وهذا هو ما يُسمى بتوحيد الألوهية.
فلو فُرض أن رجلا يُقرُّ إقرارًا كاملا بتوحيد الربوبية لله جل وعلا، وأنه جل وعلا هو الخالق، الرازق، المالك، المدبر لجميع الأمور... ولكنه –ذلك الرجل- يعبد مع الله جل وعلا غيره، كأن يذهب إلى القبر فيعبد صاحبه، فيدعوه أو يُنذر له قربانًا يتقرب به إليه، فإنه –ذلك الرجل- بذلك يكون قد أشرك بالله تعالى، وصار مستحقًّا لعقابه وعذابه جل وعلا، لأنه وإن كان قد أقرَّ بتوحيد الربوبية جل وعلا إلا أنه صرف عبادته لغير الله سبحانه وتعالى، فلم ينفعه بذلك إقراره بتوحيد الربوبية.
وننوه أيضًا إلى:
أنه كما ألزمنا الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى وإفراده بالربوبية وتوحيد ألوهيته بعدم عبادة غيره أو تقديم القرابين لهم تقربًا إليهم، فإن الإيمان بتوحيد الله سبحانه وتعالى يُلزمنا أيضًا بتوحيد أسمائه وصفاته من حيث إفراد الله سبحانه وتعالى بما سمَّى به نفسه، وبما وصف به ذاته في كتابه أو على لسان رسوله  من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
يعني: أنه لا بد من الإيمان بما سمى الله تعالى به نفسه وبما وصفها به من صفات على وجه الحقيقة لا المجاز، ولكن من غير تكييف ولا تمثيل، فلا ندَّعي ما ليس لنا به علم.
فنُثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله محمد  من أسماء وصفات إثباتًا بلا تمثيل ولا تكييف، وننفي عنه جل وعلا ما نفاه عن نفسه سبحانه وتعالى وما نفاه عنه رسوله محمد  من أسـماء وصفات نفيًا بلا تعطيل ولا تحريف، في إطار قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11].
فالإله الخالق جل وعلا لا يمكن أن يكون عدمًا، وهذا أمر بديهي.
وإذا لم يكن عَدَمًا، فلا بد أن يُوصف بصفات ثبوتية.
ولا يمكن له جل وعلا أن يكون ذا وجود ذهني مُجرَّد، لأنه سبحانه وتعالى هو خالق الأذهان، فوجوده جل وعلا سابق لوجودها –الأذهان-.
لذلك، فإن من شَبَّه صفات الإله الخالق جل وعلا بصفات الموجودات المخلوقة، فكأنه يعبد صنمًا، ومن تأوَّل صفات الإله الخالق جل وعلا تأويلا يُعطل معانيها فكأنه يعبد عدمًا.
وكان ما أشرنا إليه بإيجاز هو ما ذكره أهل العلم من أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وتمهيدًا لتوضيح صفات الإله الخالق، نُشير إلى:
أن الإنسان بفطرته يؤمن بربه، وأن غريزته الفطرية قد جُبلت على الإيمان بوجود الله عز وجل، والإيمان بحسن صفاته وعظيم قدرته، حيث إن الفطرة السوية تتطلع دائمًا إلى إله خالق قادر عليم حكيم... إلى غير ذلك من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى.
ولقد وهبنا الله سبحانه وتعالى نعمة العقل، وميَّزنا وفضَّلنا به عن كثير من خلقه، لنصل به في التعرف على عظيم قدرته وحكمته... إلى خير مقام وأعلى درجة ومنزلة تليق بعظمته جل وعلا.
فالإنسان مع كونه مخلوق، فإنه يُحكِم ويُعمِل عقله، ويسعى جاهدًا للوصول به إلى ما هو الأحسن والأفضل من صفات وغيرها بالنسبة له وفي كل شيء.
فإذا ما امتدح شخص ما ذا جاه وسـلطان بحسـن خلقه، وجميل صفاته –افتراضًا- فإننا نصل بعقولنا وتصوراتنا إلى وضع هذا الشخص في أحسن تصور ممكن وأفضل منزلة.
وكذلك إذا ما وصف بناء ما بعلوه وشموخه، وجماله، وحسن أساسه وصفاته –افتراضًا- فإننا نصل بعقولنا وتصوراتنا إلى وضع هذا المبنى في أحسن تصور يمكن تخيُّله.
فإذا كان ما أشرنا إليه من حسن التصور هو في شأن عبد مخلوق أوفي شأن ما هو مصنوع موجود، فما بالنا بالإله الخاق الواجد؟!
أفلا نصل بهذه النعمة العظيمة –العقل- التي وهبنا الله تبارك وتعالى إياها إلى أن نُعظم الله عز وجل حق التعظيم، وأن نُنَزِّه هذا الإله العظيم، الخالق لنا والواجد لكل شيء، عن ما لا يليق به سبحانه وتعالى من صفات نقص، وعيب، وذم، مما قد يُنسَب إليه من افتراءات النصارى، وكَذِب اليهود، وغيرهما من الأمم السابقة، والفِرَق الباطلة المعاصرة؟! وأن نقر بعظيم قدرته وكمال حكمته، وحسن خلقه... لِما قد خلق لنا من الآيات والشواهد الدالة على ذلك؟!
لقد جاء رسول الله محمد  بالإسلام دينا وشريعة من الله تبارك وتعالى، مُتضمنًا الاعتقاد والتصور السليم في الله سبحانه وتعالى، اعتقادًا وتصورًا ترتضيه الفِطر السوية والنفوس الزكية، اعتقادًا وتصورًا ليس فيه إعنات للعقل أو قهر للذهن، اعتقادًا وتصورًا يقبله كل عقل سليم.
لقد جاء رسول الله  بما فيه التعظيم للرب جل وعلا من توحيد للربوبية والألوهية وتوحيد للأسماء والصفات، كما أشرنا سابقًا.
وقد جاء رسول الله  بتنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به من أفعال وأقوال وصفات، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن ما نُسِب إليه من قدح وعيب، ونقص وذمٍ... كأن يُنسب إليه اتخاذه صاحبة وولدًا مثلما افترت النصارى أو كأن يوصف بأنه إله طائفة معينة من البشر مثلما كذب اليهود وقالوا بأن الرب هو رب بني إسرائيل أو كأن يُنسب إليه العجز والضعف كادَّعاء المجوس... أو إلى غير ذلك من افتراءات المخلوق على الخالق، تعالى الله عن كل ذلك علوًا كبيرًا.
لقد جاء رسول الله  بالقرآن الكريم مُتضمنًا لقول الله تعالى:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
حيث إن صفات الله تعالى الخالق ليست كصفات عباده المخلوقين.
فقد بلغت صفات الله عز وجل الغاية والكمال المطلق في حسنها وجمالها، وذاتها ودلالاتها.
فالله سبحانه وتعالى أول ليس قبله شيء، متصف بصفات الكمال قبل كل شيء، فأسماؤه وصفاته جل وعلا أزلية أبدية.
وكما أنه سبحانه وتعالى في ذاته أول بلا ابتداء، فكذلك أسماؤه وصفاته تابعة لذاته جل وعلا، فهي أولية بأولية الله تعالى بلا ابتداء، وكذلك فإنه سـبحانه وتعالى لا يكتسب صفة جديدة لم تكن له، ولا يفقد صفة كانت له.
لقد جاء رسول الله  بقول الله تعالى:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص].
فالله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد الأحد، المنفـرد الذي لا مثـيل له، فـلا يستوي مع سائر خلقه، ولا يسري عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم، وهو سبحانه وتعالى الصمد: السيد المُطاع، الذي يُقصد إليه في الحوائج على الدوام، ولم يتخذ الله سبحانه وتعالى أيا من ولد، فهو جل شأنه لم يلد ولم يولد، وهو الخالق، الغني عن اتخاذ ولد.
وهو سـبحانه وتعالى ليس له مكافئ أو ممـاثل، فالله سـبحانه وتعالى ليس كمثله شيء.
ولمزيد من التعرف على صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى يُرجى الرجوع إلى الكتب الإسلاميـة التي تخصصت في إيضاحها وشرحها، وبصفة خاصة كتاب: أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، للدكتور/ محمود عبد الرازق الرضواني.
كان ما أشرنا إليه بإيجاز بعض من صفات الله سبحانه وتعالى التي يعتقدها المسلم في إلهه وخالقه، والتي لا ينبغي أن يحيد عنها كل ذي عقل سليم رشيد وكل ذي فطرة سوية نقية، بل وليس له ذلك.
وهناك صفات لله سبحانه وتعالى، وددنا أن نشير إليها مُفصَّلة، في غير إجمال، وذلك نظرًا لأهميتها، وما قد يتلبَّس على البعض عند معرفته بها، ومن هذه الصفات:
1- صفة الخالقية نفسها:
وهي التي وردت في مثل قول الله تعالى:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الزمر: 62].
حيث إن الله عز وجل هو الذي أوجد جميع الأشياء بعد أن لم تكن موجودة، وقدّر أمورها في الأزل بعد أن كانت معدومة.
فالله سبحانه وتعالى هو الخالق الذي يُنشئ من العدم بتقدير وعلم، ثم بتصنيع وخلق عن قدرة وغنى، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، وهو سبحانه وتعالى الخلاق الذي يُبدع في خلقه كمًّا وكيفًا.
2- صفتا الأزلية والأبدية:
وهما الصفتان الواردتان في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الحديد: 3].
فالله سبحانه وتعالى سابق في وجوده لكل موجود سواه، وهو جل وعلا الباقي بعد زوال كل مخلوق زائل، وهو سبحانه وتعالى الأول الذي لم يسبقه في الوجود شيء، وهو الذي عَلا بذاته وشأنه فوق كل شيء، ولا يحتاج إلى غيره في شيء، وهو المُستغني بنفسه عن كل شيء.
فكون الله سبحانه وتعالى أزليًّا لا بد وأن يكون قائمًا بنفسه، مستقلا عن غيره.
وهو سبحانه وتعالى المُتصف بالبقاء والآخرية، فهو جل وعلا الباقي بعد فناء الخلق، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى:
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26، 27].
وهنا سؤال يطرح نفسه:
عن كيفية الجمع بين وصف الله عز وجل بأنه الآخر الباقي، الذي ليس بعده شيء، وبين بقاء المخلوقات في الجنة ودوامها وأبديتها كما قال تعالى عن أهل الجنة ونعيمها ودوام مُتعتها ولذتها، في كتابه المجيد:
﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: 119].
وقال عز وجل عن أهل النار وعذابها ودوام الشقاء لأهلها، في كتابه المحكم:
﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن: 23].
وما تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 27] والحديث الذي رواه مسلم، أن النبي  كان يقول في دعائه: ((وأنت الآخر فليس بعدك شيء)).
الجواب: إن بقاء أهل الجنة والنار أبدًا قد يبدو متعارضًا في ظاهر مع إفراد الله عز وجل بالبقاء، وأنه الآخر الذي ليس بعده شيء، ولكن ذلك التعارض يزول إذا علمنا أنه لا بد وأن نُفرق بين بقاء الذات والصفات الإلهية وبين بقاء المخلوقات التي أوجدها الله عز وجل، كالجنة والنار وما فيها.
فالجنة مثلا باقية بإبقاء الله عز وجل ولها، وما يتجدد فيها من نعيم مُتوقف في وجوده على مشيئة الله جل وعلا.
أما ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته فباقية ببقائه.
وشتَّان الفارق بين ما يبقى ببقاء الله سبحانه وتعالى، وبين ما يبقى بإبقائه جل وعلا.
فالجنة مخلوقة، حيث خلقها الله عز وجل، وكائنة بأمره، وهي رهن مشيئته وحكمته.
فخلود الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية إنما هو بإبقاء الله جل وعلا وإرادته، فالبقاء والخلود ليس من خصائص المخلوقات ولا من خصائصها الذاتية، بل إن من طبيعتها جميعًا الفناء.
والخلود لا يكون لذات المخلوق أو طبيعته، وإنما هو بمددٍ دائم من الله تعالى وإبقاء مستمر لا ينقطع.( )

3- صفة العلم:
وهذه الصفة كما في قول تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 137].
إن الله عز وجل من صفاته أنه عليم بما كان وما هو كائن وما سيكون، حيث إنه جل وعلا لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، سبحانه أحاط علمه بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها، دقيقها وجليلها، فيعلم بالشيء قبل كونه.
فالله عز وجل عالم بما كان وما هو كائن وما سيكون، وما لو كان كيف يكون على ما اقتضته حكمته البالغة ( ).
إن علم سبحانه وتعالى يُوصف بالعلم الشمولي، حيث يسع ويشمل علمه جل وعلا كل شيء.
وشتَّان الفارق بين علم الإله الأزلي الأبدي الخالق وبين علم العبد الفاني المخلوق، فعلم الله جل وعلا هو العلم الواسع الكامل الذي لا يسبقه جهل، بينما علم المخلوق الضيق المحدود مُسبق بالجهل.
فاسم الله «العليم» كما في ورد في الآية الكريمة وغيرها مُرادًا به العَلَمية، ودالًّا على الوصفية وكمالها.
4- صفة القدرة:
وهذه الصفة كما في قول الله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: 45]، ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: 54].
إن الله عز وجل من صفاته أنه قادر على كل شيء وهذا المعنى قد دلَّ عليه اسمه (المقتدر) الذي ورد في الآية الكريمة الأولى.
وهو سبحانه وتعالى المقتدر المُحيط بالشيء إحاطة تامة، والمُتمكن منه بقوة، والمسيطر عليه بإحكام كامل وقدرة، فلا يمتنع عليه شيء.
- إن قدرة الله عز وجل توصف بالقدرة المطلقة، وهي التي ليست لأحد سواه جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى هو الإله الأزلي الأبدي، الخالق لكل شيء.
5- صفة الملك:
وهذه الصفة كما في قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ [آل عمران: 26].
إن الله عز وجل هو المالك لكل شـيء، المالك لعالم الغيب والشـهادة، فالله سبحانه وتعالى هو المالك على سبيل الإطلاق أزلًا وأبدًا.
وهذه الصفة أيضًا كما في قوله تعالى: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 116].
فالله عز وجل هو الملك الذي له الأمر والنهي في ملكه، والذي يتصرف في خلقه بأمره وفعله، فليس لأحد عليه فضل في قيام ملكه.
فهو جل وعلا يفعل ما يشاء وما يُريد وفقًا لما اقتضته حكمته البالغة التامة، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: 16].
فالله عز وجل هو الملك الحق الدائم، فلا خالق للكون غيره، ولا مُدبِّر له سواه جل وعلا.
6- الاستواء:
وهذه الصفة كما في قول الله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5].
وعلينا أن نعلم قبل أي شيء أن اسـتواء الله سبحانه وتعالى على عرشـه لا يُماثله استواء المخلوق على الشيء، فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء.
وعلينا أن نعلم: أن العرش هو أعظم مخلوقات الله جل وعلا، ولقد مَجَّد الله عز وجل نفسه وامتدحها باستوائه على العرش وأنه رب العرش، فقال:
﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 22].
واستواء الله سبحانه وتعالى على العرش يعني: أنه عز وجل علا عُلوًا خاصًّا يليق بجلالته وعظمته، وهذا العلو ثابت لله تعالى على وجه الحقيقة.
فالله سبحانه وتعالى عالٍ على عرشه علوًا يليق به عز وجل، ولا يشبهه علو الإنسان على سريره أو على الفلك أو غير ذلك.
وأما من فسَّر الاستواء بالاستيلاء فقد أخطأ خطأً عظيمًا: لأن ذلك يكون تحريف للكلم عن مواضعه ومُخالف لما أجمع عليه صحابة رسول الله  والتابعون لهم بإحسان، ويكون ذلك التفسير الخاطئ مُستلزم للوازم باطلة، ليس للمؤمن أن يتفوَّه بها.
إن الاستيلاء على الشيء لا يكون إلا في حالة وجود مُضاد، فأيهما غلب يكون الاستيلاء له على ذلك الشيء، ومثل ذلك القول مُنكر باطل، فتعالى الله عن أن يكون له مُضاد ينازعه في ملكه.
فالحق: أن استواء الله عز وجل على عرشه هو استواء وعلو حقيقي، استواء يليق بجلاله وعظمته، وفقا لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11].
وهذا هو المعنى المطابق للفظ، فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية، والأصل فيما يدل عليه اللفظ في القـرآن الكريم والسـنة النبوية أنه باقٍ على ما تقتضيه اللغة العربية من المعنى.
وعندما سئل الإمام مالك: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، كيف استوى؟ قال رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان واجب، والسؤال عنه بدعة.
وبعد إثباتنا لاستواء الله عز وجل على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته، وأن هذا الاستواء لا يمكن أن يُشبه استواء الإنسان المخلوق على سرير أو غيره، وأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فإن هذا يقودنا إلى تساؤل مهم وهو: أين الله؟
لقد أخبرنا الله جل وعلا أنه في السماء، مستوٍ على عرشه، فقال تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ [الملك: 16].
وقد أخبر الرسول  عن ربه أنه جل وعلا في السماء، فقال:
((ألا تأمنوني وأنا أمين مَن في السماء، يأتيني الخبر صباح مساء)) [صحيح البخاري].
وقد شهد رسول الله  للجارية بالإيمان عندما أخبرته أن الله في السماء.
ففي صحيح مسلم: أن معاوية بن الحكم السلمي ضرب جارية له لتقصيرها في الحفاظ على أغنامه، ثم ندم، فجاء إلى الرسول  يستأذنه في إعتاقها، فطلبها الرسول  وسألها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء. قال: ((من أنا)) قالت: أنت رسول الله. قال: ((أعتقها، فإنها مؤمنة)) [رواه مسلم].
وننوه إلى:
أن قولنا بأن الله جل وعلا في السماء لا يعني وجوده عزوجل داخل السماء، ولكن القصد بهذا القول: أن الله سبحانه وتعالى فوق السماء، عالٍ فوق خلقه، غير مُتصل بهم، وأن علوه جل وعلا هو علو ذات ومكانة وشرف وقهر، وهو من الصفات اللازمة له جل شأنه.
وقد ثبت ما قلناه بالقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
ويوضح ما أشرنا إليه ما أخبر الله تعالى به من كلام فرعون للذين آمنوا بموسى عليه السلام في كتابه الحكيم (القرآن الكريم): ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: 71].
حيث إن فرعون تَوَعَّد الذين آمنوا بإله موسى عليه السلام بالصلب على جذوع النخل، وليس في داخلها، حيث جاء حرف «في» في الآية الكريمة بمعنى: «على».
وأيضًا، فإن وجود الله تعالى فوق السماء أمر يُدرك بالفطرة السليمة، ويُعرف بالعقل الصحيح الصريح، وقد تبين ذلك من قول الجارية.

وقد يُطرح تساؤلًا منكرًا، وهو:
هل معنى أن يوصف الله سبحانه وتعالى بالعلو، أن هذه الصفة –العلو- تقتضي التحيّز؟ أي وجوده في مكان يَحُدُّه، أو أن الأمر على غير ذلك، وأنه -تعالى- يوصف بوجوده في كل مكان؟
نجيب أولا قبل التوضيح: بأن الله عز وجل يُوصـف بالعلو في غير تحيز، وأنه جل وعلا لا يوصف بوجوده في كل مكان.
نوضح أولا: إجابة التساؤل الثاني: بأن الله جل وعلا لا يوصف بوجوده في كل مكان؛ وذلك لأن الفطرة السوية والعقل السليم الصحيح ينكران مثل ذلك القول الفاحش، ولا يوجد أي من الدلائل على مثل ذلك القول من القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة، ويستحيل أن يشيرا –القرآن الكريم والسنة النبوية- إلى مثل ذلك.
فالقرآن الكريم حق، أنزله ربنا تبارك وتعالى على رسوله محمد  لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فلا يكون مشتملا إلا على الحق، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الإسراء: 105].
والحق أن الله جل وعلا عظيم، مُنزَّه عن كل عيب أو نقص في ذاته أو صفاته وأسمائه، وهذا ما تدلنا عليه الفطرة السوية والعقل السليم، حيث إنهما:
لا يقبلان أن يكون من صفات الله عز وجل وجوده في مثل الأماكن النجسة القذرة، أو النجاسات أو القاذورات نفسها، فهي من جملة الأماكن.
ويستحيل قبول وصف وجود الله عز وجل في أي من الحيوانات القذرة؛ كالخنزير أو غيره، أو إلى ما غير ذلك.
فتعالى الله جل وعلا عن أن يكون من صفاته مثل ذلك القول المطلق في كل مكان؛ لأنه بذلك يكون متضمنًا للذات الإلهية، ويستحيل تصور ذلك كما أشرنا.

وتعليقًا على ذلك القول:
نقول بأن الله عز وجل معنا بصفاته، يسمعنا ويرانا في أي مكان كنا، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46].
بل ويعلم جل وعلا ما تُكنُّه وما تخفيه صدورنا، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19].
ثم ننتقل إلى إجابة التساؤل الأول: بأن الله عز وجل يوصف في غير تحيُّز، ونوضح هذه الإجابة كالتالي:
إنه قبل خَلْقِ الله عز وجل للخلق، لم يكن موجود مكان أو زمان، فلم يكن سوى الله سبحانه وتعالى.
فالله سبحانه وتعالى هو الأزلي الأبدي، الواجد لكل شيء، والخالق لكل مخلوق.
والمكان والزمان: أوجدهما الله عز وجل لخلقه بعد أن خلقهم من العدم، فهو سبحانه وتعالى فعال لما يريد، وفقًا لحكمته التامة البالغة، وهو سبحانه وتعالى القادر على كل شيء، وليس كمثله شيء.
فالمكان والزمان هما من خَلْق الله عز وجل.
لذلك، فإن الله سبحانه وتعالى لا يحيط به مكان، ولا يُفنيه انتهاء زمان.
فقبل أن يوجد المكان والزمان لم يكن إلا الإله الخالق سبحانه وتعالى.
لذلك فإن علو الله سبحانه وتعالى فوق خلقه وفوق سمائه التي خلقها، إنما هو علو ذات ومكانة وشرف وقهر، في إحاطة لهم في غير اتصال بهم، وفي غير تحيز.
ونمثل هذا عقليًّا: بما ضربه الإمام أحمد بن حنبل –كمثال افتراضي- فقال رحمه الله:
لو أن رجلًا كان في يديه قدح من قوارير صافٍ، وفيه شراب صافٍ، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله –وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه.( )
وأيضًا: لو أن رجلًا بنى دارًا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيت في داره، وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله –وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه، وعلم سرهم وعلانيتهم، من غير أن يكون في شيء مما خلق.( )
كان ذلك تمثيلا عقليًّا لما قد ذكرنا من أجل تقريب المعنى في الأذهـان، وهو الذي يقبله الصريح السليم.
ولنتأمل هذا القدر العظيم من تعظيم المسلمين لهذا الإله الخالق العظيم في الشريعة الخاتمة التي جاء بها النبي محمد ، مُنـزها له جل وعلا في ذاته وصفاته وأسمائه.
وكم يبلغ توافق تعظيم المسلمين لله تعالى مع الفطرة السوية التي فُطِر الإنسان عليها من إلهه وخالقه.
وكم يبلغ توافق تعظيم المسلمين لله تعالى مع العقل السليم الصريح الذي منحه الله تبارك وتعالى للإنسان ليتعرف به على عظيم صفاته جل وعلا ويشهد بها، فلا يقبل أو يرضى ما يَعيبُها أو ينقص من قدرها وشأنها.
فلم يُعَظَّم الله جل وعلا حق التعظيم إلا في شريعة الإسلام التي جاء بها النبي محمد ، وسوف نُدلِّل على ذلك بمشيئة الله تعالى عن طريق توضيح بعض مما قد نسبته أهل الأديان الباطلة، وأهل الرسالات السابقة بعد تحريفها –النصرانية واليهودية- من صفات مَعِيبة مذمومة للإله الخالق جل وعلا.

صفات الإله الخالق عند غير المسلمين
لقد نسب أهل النصرانية واليهودية النقائص والعيوب إلى إلههم وخالقهم، والذي كان من المفترض أن يعظموه ويمجدوه وينزهوه عن مثل تلك الافتراءات والأكاذيب.
فبعد أن جاءتهم أنبياؤهم بالتوحيد الخالص لله جل وعلا ما كان منهم إلا أن انحرفوا على مدى الزمن عنه، وهبطوا في تصوراتهم إلى مستوى الوثنيات، بل وأثبتوا في كتبهم التي يقدسونها أساطير وتصورات عن الإله –سبحانه- لا ترتفع عن أحط التصورات الوثنية للوثنيين الذين لم يتلقوا رسالة سماوية، ولا كان لهم من عند الله كتاب.
فلقد تعرضت جميع الرسالات السابقة للضياع التام، وبقيت من بعضها ذكريات متناثرة، ظلت تتناقل شفاها تفسرها الأهواء، تضيف إليها وتحذف منها، وتحرفها كيفما تشاء، حتى تم إخراجها عن إطارها الرباني وإلقاؤها في أحضان عدد من الوثنيات القديمة والفلسفات الوضعية التي جعلتها عاجزة عن هداية أتباعها.
وهذا هو السبب الحقيقي من وراء المظالم التي تسود الأرض في زماننا.
وحين تم التدوين لبعض تلك الذكريات القديمة –لا سيما النصرانية واليهودية- تم بلغات غير لغات الوحي، وبواسطة أقلام متفرقة في أماكن متعددة وفي أزمنة متباعدة، وصلت إلى العديد من القرون بعد موت أو رفع الرسول الذي تلقى الرسالة الأصلية، والتي فقدت أصولها السماوية بالكامل.
والشاهد على ذلك: أنه قد تعددت الأسفار والأناجيل –لليهود والنصارى- والتي قد حُرفت وضُيِّعت.
ليس ذلك فحسب، بل تناقضت المعلومات بها وكثرت المراجعات إلى يومنا الراهن، وستظل كذلك إلى ما شاء الله، حيث قد صارت دراسة مثل ذلك التناقض تسمى عندهم بالنقد الأعلى.
ويشهد بذلك: البروفيسور موريس بوكاي، وقد هداه الله تعالى للإسلام، حيث قـال: إنه لا يستطيع عاقل أن ينكر تضييع أهل الكتاب –اليهود والنصارى- لما استحفظوا من كتاب الله، التوراة والإنجيل، فالتوراة التي يقولون كتبها موسى، تقول لهم: [ولما مات موسى رجل الرب، ودُفِن في أرض موآب] [سفر التثنية: إصحاح 5: 34].
أما الأناجيل: فيكفي نظرة واحدة إلى الأنساب التي ينسبونها للمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وتضاربها، واختلافاتها... وكل ذلك وهم يُقرُّون أن المسيح عيسى عليه السلام وُلِد من مريم بدون أب أصلا!!
ولما ذكرنا: فإن القرآن الكريم الذي أنزل على النبي محمد  بقي هو المصدر الوحيد للهداية الربانية.
وشاهد ذلك: أن القرآن الكريم هو كتاب واحد، لم يتعدد كغيره، تجتمع عليه الأمة الإسلامية شمالا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، وتلتف حوله، وذلك لأنه ليس بعد نزول القرآن الكريم على أي كتاب سماوي آخر، وليس بعد بَعْثة النبي محمد  أي نبي أو رسول، فكان الذي تعهد بحفظه هو الله سبحانه وتعالى.
ويشهد بذلك: الدكتور/ موريس بوكاي ي كتابه (القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم)، حيث يذكر في مقدمة الكتاب:
لقد قُمت بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة، باحثًا في درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث، إلى أن يقول: استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها:
- أن القرآن الكريم لا يحتوي أي مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم الحديث، ويستطرد وبنفس الموضوعية: قمت بنفس الفحص على العهد القديم –التوراة- والأناجيل، فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها، ناهيك عن التناقض بين الأناجيل واصطدامها بحقائق التاريخ.
لذلك، فإننا لا نعجب مما قد وَصَف اليهود والنصارى –لعنهم الله- به إلههم من عيب ونقص، وذم وقدح في كتبهم التي يقدسونها مع أنهم أهل كتاب، وذلك لتحريفها وتضييعها.

صفات الإله عند غير المسلمين –النصارى-
لقد نسبت النصارى إلى إلههم ومعبودهم ما لا تقبله الفطرة السوية، بل تأنف منه وتناقضه، وقاموا بوصفه بما لا يقبله العقل الصحيح الصريح، بل يعارضه ولا يستسيغه.
فعقيدة النصارى في الإله الخالق عقيدة شائبة، غير صافية لا يتفهمها الإنسان البسيط لإعناتها للفكر، وقهرها للذهن، فما هي إلا فلسفة وضعية، ونوضح:
أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق عباده ويُرسل إليهم أنبياءه ورسله كي يُلبِّس عليهم أو على بعضهم أمر دينهم ومعتقدهم، فالعقيدة الصافية الصحيحة التي تقبلها الفطرة السوية النقية لا بد وأن تكون خالية من أية شوائب وعكرات كي يتفهمها جميع البشر ويقبلونها على اختلاف مستويات عقولهم، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى.
أما أن تكون العقيدة ذات إعنات أو قهر للفكر والذهن، لا يتفهمها سوى طائفة محدودة من الخلق، فلا شك أن تكون الكتب التي جاءت بمثل تلك العقيدة العسرة الفاسدة قد تناولتها الأيدي البشرية بالتحريف والتضييع، وإخراجها عن إطارها الرباني لهداية البشر.
ونوضح ذلك في النصرانية، وعقيدتها في الإله الخالق، حيث يقولون:
يقولون بأن الإله واحد –لأن التوراة تقول ذلك- ولكنهم في نفس الوقت يقولون بأنه ثلاثة وجوه أو أقانيم، ثم حاولوا حل وفك ذلك اللغز بين كونه إلها واحدا كما في التوراة وبين كونه ثلاثة حَسْبَ معتقدهم.
فزعموا أن وجوه اللاهوت الثلاثة أو الأقانيم الثلاثة هي: الأب والابن والروح، ويعنون أيضا بها الوجود والحياة والعلم، ولهم في ذلك خبط وافتراق واسع.
فقالوا بأن الأب هو الأصل الذي انبثق منه الروح وخرج منه الابن جبرًا واضطرارًا، فلم يكن بين وجوده ووجودهما زمان، حيث كان ذلك منذ وجود الأب نفسه.
وعلى ذلك فإنهم لا يفاضلون بين الأب والأقنومين الآخرين، لأنهم جميعًا على سواء بلا تباين أو اختلاف، ثم جعلوا لكل من تلك الأقانيم الثلاثة المزعومة وظيفة واختصاصًا، ولكنهم في النهاية يسلكون معا كسلطة واحدة، تعالى الله عن مثل تلك الافتراءات علوا كبيرا.
ثم زعموا بأن الابن الإله، وهو أحد الأقانيم الثـلاثة، تجسد في صورة بشر –المسيح- ليُقدم نفسه للفداء، وسِرّ ذلك يزعمونه في قصة عجيبة.
حيث قالوا: إن الرب لما خلق آدم وضعه في الجنة وأمره أن يأكل من كل الشجر عدا شجرة واحدة وذلك نصها في سفر التكوين: [وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكلا أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر، فلا تأكل منها؛ لأنك يوم تأكل منها تموت] [سفر التكوين: 15- 17].
ثم زعموا: أن آدم قد أكل من الشجرة، وبذلك صار مستوجبًا للموت الذي توعده به الرب الإله، إلا أن الرب الإله لم ينفذ وعيده له حيث أخذته الرحمة بآدم، ولكن كـان لا بد أن يحقق الرحمة والعدل معًا، فأصبح الأمـر وكـأن الرب الإله لم يكن متوقعًا أن يأكل آدم من الشجرة، وبذلك أصبح في مشكلة وورطة، وصراع، لهذا التعارض بين الرحمة والعدل، وكيفية تحقيقهما معًا، إلى أن قدم الابن الإله نفسه للفداء بعد دهور ودهور –من خلق آدم وذريته من بعده- كي يُهان ويُصلب ويقتل كإنسان خاطئ، تحقيقًا لمبدأ العدل، وتكفيرًا لذنبه وخطيئته –لأكله من الشجرة المنهي عنها- وتكفيرًا لذنوب ذريته الخطيئة والذنب –بما فيهم الأنبياء والصالحين- عن أبيهم آدم، وذلك بعد أن رحم الرب الإله آدم، فلم يُمته حين أكل من الشجرة.
ثم زعموا بأن الابن الإله قد أُهين وصُلب وقُتل لتقديم نفسه كفداء، ولكن بعد محاولته الهروب، وسؤاله وطلبه للأب الإله أن يُنقذه، ثم بقي مقتولا مصلوبًا على الصليب -حيث عبدوه أيضًا لصلب إلههم عليه- إلى أن دُفِن وقُبِر، ثم خرج من قبره وصعد إلى السماء، تعالى الله عن كل تلك الافتراءات علوًا كبيرًا.

تنبيه:
إن شأن النصارى في تلك الافتراءات والادعاءات كما هو الحال في زعم وجود الابن الإله الفادي بنفسه، حيث يُصلب ويُقتل، ويُدفن ويُقبر، ثم يقوم تارة أخرى إلى السماء تخليصًا وتطهيرًا لذنوب البشر جراء أكل أبيهم آدم للشجرة المنهي عنها، والذي قام (شاول الطرسوس) الباطن –الذي تسمى باسم (بولس) وأفسد دين النصارى- بتسميته [المُخلِّص] حيث قام بتسمية الابن الإله بالمُخلِّص، هو شأن الأسطورة الخرافية (عشتار) و (بعل)، حيث تدعي تلك الأسطورة أن (عشتار) هي ملكة السماء، وتُرسل في منتصف الصيف ابنها الإله الشمس (بعلا) لخلاص وإنقاذ الأرض من جَدْبِها، ولكن آلهة العالم السفلي تحبسه فيموت، ثم تنزل الأم (عشتار) لتُخلِّصه من أيديهم في يوم (25 ديسمبر)، وهكذا، فضعف الشمس هو موت الابن الإله (بعل)، واستعادة الشمس بهاءها وقوتها هو ميلاد الابن الإله (بعل) من جديد.
فكما أن المسيح الذي سُمِّي (بالمخلص) يموت، فيذهب إلى العالم السُّفلي، ثم يقوم من بين الأموات ليُخلِّص البشر من خطاياهم، فإن (بعل) يُخلِّص البشر بخلاص وإنقاذ زروعهم من جدب أرضهم.
وفي مُستهل القرن الرابع الميلادي ظهر الإمبراطور الرومي قسطنطين الذي كان يعبد (بعلًا) باسم (الشمس التي لا تُقهر)، فنصر عُبَّاد الصليب الوثنيين، وجعل يوم الأحد (sun-day) [يوم الشمس] عيدًا للنصارى، وأصبح ميلاد (بعل) في (25 ديسمبر) هو يوم ميلاد (المسيح).
وفي تلك الحقبة نشأت الكنيسة الكاثوليكية الرومية التي قامت على عبادة الأم (العذارء مريم) والابن الفادي (المسيح)، بل إن شئنا قلنا الأم (عشتار) والابن (بعل).
وعلى نهج قسطنطين يسير باباوات الكنيسة إلى يومنا هذا، تعالى الله عز وجل عن كل ذلك الإفك علوًا كبيرًا.
ومن ذلك يتضح مفتاح ولغز عقيدة النصرانية الفاسدة، التي أُلْقيت في أحضان عدد من الوثنيات القديمة، ومن ثم فقدت إطارها الرباني كُليَّة اللازم لهداية الخلق.
وقبل أن نَرُدَّ على مثل ذلك الإفك والوهم، نتساءل تَعجُّبًا:
هل يمكن لفطرة سوية وعقل سليم أن يقبلان مثل تلك الافتراءات والترهات في الإله الخالق: رب الأرض والسماوات؟!!
بالطبع: لا.
فالفطرة النقية السوية والعقل السليم لا يقبلان مثل ذلك أو أدنى منه الإله الخالق الذي يجب تنزيهه وتمجيده.
ولتوضيح نكارة وبطلان مثل تلك الافتراءات نتساءل استنكارًا:
1- إذا كان الابن والروح قد انبثقا وفاضا من الأب جبرًا واضطرارًا دون إرادة أو قصد واختيار، فهل كان –الأب المزعوم- عالمًا بذلك أم غير عالم؟!
فإن كان عالمًا، فإنه بذلك لم ينبثق منه الابن والروح جبرًا واضطرارًا، فدلَّ ذلك على تناقض قولهم في مثل ذلك الاعتقاد المزعوم.
وإن كان غير عالم بانبثاق الابن والروح منه لادعائهم أن الابن والروح قد صدرا عنه بالإيجاب الذاتي، نقوم بسؤالهم مجاراة لافتراءاتهم.
إذا سلَّمنا لكم جدلا بإمكان ذلك، فهل علم –الأب المزعوم- بانبثاق الابن والروح منه بعد ذلك أم لم يعلم؟!
فإن كان قد علم بانبثاق الابن والروح منه بعد ذلك، فإن ذلك يدل على أنه الإله الأب قد استجدّ له علم لم يكن من قبل، وذلك إما أن يكون ما علمه كان عن طريق غيره، وإما أن يكون علم بذاته بعد أن لم يكن يعلم، مجاراة لادعائهم.
وكلا القولين المزعومين مُحال وباطل في حق الإله، ويُدل ذلك الاستنتاج على نكارة أصل المعتقد وبطلانه، وأنه ما هو إلا إفك مفترى، ما أنزل الله جل وعلا به من سلطان.
فالتوحيد المزعوم عند مثل هؤلاء –النصارى- مجازٍ غير حقيقي، بل يُسمُّونه بالتوحيد المركب، أي أنه ليس بتوحيد حقيقي، فلا يتفهمه الإنسان البسيط، وذلك تأكيدًا لما أشرنا إليه سابقًا.
ونتساءل استنكارًا:
2- إذا كان الأب الإله قد انبثق منه الابن الإله، وحلَّ في جسم بشري كطبيعة خاصة به من أجل إهانته وصلبه وقتله في مثل ذلك الفداء المزعوم، فما المانع إذن من أن يَحُلَّ ذلك الإله الابن في أي من المخلوقات الأخرى كالملائكة أو الجان أو غيرها في أسطورة خرافية أخرى، وأن يَلْحق به مثل ما لحقه في الفداء المزعوم من إهانة وصلب وقتل، أو ما هو أفظع وأشنع من ذلك؟ أو أن يكون قد حدث له مثل ذلك فيما مضى –قبل خلق وآدم- مرارًا وتكرارًا؟
استنكارًا لافتراءات النصارى وأقوالهم الكاذبة على الله تعالى.
فمن قبل ورضي في معتقده واعتقاده أية صفة نقض وذم في إلهه الذي يعبده، والذي كان عليه أن يُنزهه ويمجده، ولا يُساوي بين فعله وفعل البشر، وغيرهم من المخلوقات التي أوجدها الله تعالى من العدم، فلا عجب أن نجده يقبل ويرضى في معقتده واعتقاده صفة نقص وذم ثانية وثالثة... في إلهه وخالقه, الذي كان عليه أن ينزهه ويمجده بدلا من أن يذمه هو بنفسه ويعيبه.
وإذا كان الإله قد اتخذ المسيح ابنا له –وإن كان مجازًا- فما المانع من أن يكون الإله قد اتخذ أيضًا ابنًا أو أكثر من الملائكة المقربين -الذين هم أشرف خِلقة من البشر- أو من الجن وغيرهم –وإن كان ذلك مجازًا- لطبيعة خاصة به معهم؟! ومن ثم اتخاذه زوجة أو أكثر من الجن وغيرهم طبيعة خاصة به أيضًا؟!
توبيخًا واستنكارًا لافتراءاتهم.
معاذ الله تعالى أن يكون من صفاته مثل ذلك الإفك المُفترى.
ونتساءل استنكارًا:
3- إذا كان النصارى يعتقدون في المسيح أنه إله أو ابن إله –على اختلاف فرقهم الباطلة- لأنه وُلِد من غير أب، فماذا نقول في آدم عليه السلام، وقد خلقه الله عز وجل من غير أب ولا أم، أننسب إليه الألوهية أو جزء منها، أنزعم أنه إله أو ابن إله أيضًا؟
حاشا وكلا، فتعالى الله عن مثل تلك الافتراءات علوًا كبيرًا.
ونتساءل استنكارًا:
4- إذا كان النصارى يعتقدون في المسيح الألوهية لظهور بعض المعجزات على يديه –تأييدًا من الله عز وجل لثبوته- فماذا نقول في محمد  وموسى عليه السلام وغيرهما من الأنبياء والمرسـلين وقد جاءوا بالكثير والكثير من المعجزات والخوارق من الله سبحانه وتعالى، تأييدًا لهم على صدق نبواتهم ورسالاتهم؟ فهل يَجُرُّنا ذلك إلى اعتقاد الألوهية فيهم؟!
ونتساءل استنكارًا:
5- كيف تحمل السيدة مريم العذراء –وهي من البشر- إلهًا أو ابن إله؟!
كيف يحتوي الأدنى والأعلى؟
وكيف يخرج مثل ذلك الإله من شق الفرج –سَوْءة الإنسان- كمولود صغير، فاتحًا فمه لثدي أمه؟!
وماذا إن تزوج إنسان من بقرة؟! ماذا إن التقت الطبيعة البشرية مع الحيوانية؟ أيولد ما نصفه إنسان والنصف الآخر بقرة؟!

أيُعقل أن تلتقي الطبيعة الإلهية مع الطبيعة البشرية؟!
حاشا وكلا، فمثل تلك العقيدة الفاسدة، والأوهام العكرة لا تقبلها فطرة سوية سليمة، ولا يقبلها عقل راجح رشيد.
فهم –النصارى- يستوون مع عُبَّاد البقر وغيرهم، حيث يعبدون بشرًا من خلق الله تعالى، وينسبون إليه الألوهية أو جزء منها أو طبيعتها على اختلاف فرقهم الضالة بسبب باطلهم المنغمسين فيه.
ونتساءل استنكارًا، لما لا يقبله العقل الصحيح الصريح.
6- ما الذي يـُجبر ويرغم الإله الخالق على مثل تلك الأفعال القبيحة التي لا تتوافق أو تتناسب مع ألوهيته، وهو القادر على أن يخلق ويفعل ما يشاء؟!
وكيف يترك ابن الإله نفسه ليُهان من قِبَل اليهود –كما في زعمهم- ثم يُصلب ويُقتل دون أن يحمي نفسه؟!
وإن عجز عن حماية نفسه ممن سبَّه وأهانه، فكيف يترك الأب الإله ابنه ليُهان ثم يُصلب، فيُقتل، دون أن يحميه؟!
وإذا كان الإله الابن راضيًا أن يُقدِّم نفسه كفداء وتكفير لخطيئة آدم وذريته من بعده، فلماذا كان يسعى هاربًا ويسأله ويطلب من الإله الأب إنقاذه؟ ألم يكن إلهًا أو فاديًا راضيًا؟
وكيف يترك الإله ابنه ليُهان ويُقتل من قِبَل اليهود الذين يكفرون به ويكذبونه بزعم أن ذلك سببًا في تكفير ذنوب بني آدم، وهو لا دخل له بهذه الذنوب؟
وما الذي يجبره ويرغمه على ذلك وهو الإله الخالق الذي يملك العفو والغفران دون أدنى حاجة لمثل تلك الافتراءات والأباطيل التي يعتقدها النصارى؟!
وهل يُعقل أن يتحمل بنو آدم ذنوبًا بسبب مخالفة أبيهم آدم لربه، وأكله من الشجرة التي قد نُهي أن يأكل منها؟!

أيُعقل أن يتحمل الابن ذنبًا لأبيه أو جزءًا منه، وهو لا علاقة له بذلك الذنب؟!
أهذا من حكمة الإله وعدله الذي كان يجب علينا أن نمجده وننـزهه عن ما لا يليق به؟!
ويا عجبًا: أي قبر يسع إله السموات والأرض بعد إهانته وسبه، وصلبه وقتله، ودفنه وقبره؟!
فما تلك الأوهام والظنون الفاسدة إلا أسطورة خيالية كأساطير وخرافات الماضين من الشعوب والأمم.
ولقد أحسن بعض عقلاء الشعراء في إفحام مثل هؤلاء، فقال:
عجبي للمسيح بين النصارى
وإلى أي والد نسبوه

أسلموه إلى اليهود وقالوا
إنهم بعد قتله صلبوه

فإذا كان ما تقولون حقًّا
وصحيحًا فأين كان أبوه

حين حلَّ ابنه رهين الأعادي
أتراهم أرضوه أم أغضبوه

فلئن كان راضيًا بأذاهم
فاحمدوهم لأنهم عذبوه

وإذا كان ساخطًا فاتركوه
واعبدوهم لأنهم غلبوه

فالعقول الصحيحة الصريحة والفِطر السليمة لا يقبلان أيا من ذلك العبث والافتراء والكذب على الله تعالى، الخالق البارئ، فتعالى الله عن مثل تلك الافتراءات علو كبيرا.
إن من العجيب: أن فكرة توارث الخطيئة مرفوضة في كتابهم الذي يقدسونه، حيث إنه في [سفر التثنية 24: 16]: [لا تُقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يُقتل].
وفي [حزقيال: 8: 20]: [النفس التي تخطئ هي تموت، والابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون].
ومع أن فكرة توارث الخطيئة مرفوضة لديهم كما يتبين لنا من كتبهم، إلا أننا نجد أنهم يؤمنون بها كعقيدة، كما أشرنا إليها في قصة الفداء المزعومة، فيقولون: [بالخطيئة حملت بنا أمهاتنا]!! وما ذلك التناقض إلا لما حدث من التحريف والتضييع في كتبهم، ومن ثم الخلل في معتقدهم.
ونجد أيضًا في قضية الفداء المزعوم، التي تزعم أن الإله الابن قدَّم نفسه للإهانة والصلب والقتل على أيدي اليهود من أجل التكفير عن ذنب آدم؛ حيث أكله من الشجرة المنهي عنها، وذنب ذريته من بعده لتوارثهم خطيئته، أنها مغلوطة.
حيث إن طبيعة الابن المزعوم إمَّا قابلة للموت أو غير قابلة للموت.
فإذا كانت طبيعته الموت، إذن فهو ليس بإله، ومن ثم لا تصلح الدعوى بأنه إلهًا وفاديًا في نفس الوقت.
وإن كانت طبيعة الابن المزعوم غير قابلة للموت لكونه إلهًا، فلم يقع عليها الموت، ومن ثم لم يكن هناك فداء أو أي من تلك الأوهام والترهات، مما يؤكد بطلان مثل ذلك الاعتقاد الفاسد.
فلقد جعل النصارى الإله الأب المزعوم إلهًا متشددًا قاسيًا، لا يصفح ولا يعفو، كما في خطيئة آدم، وعاجزًا عن حل مشكلته.
ومن جهة أخرى: جعلوا الإله الابن المزعوم مُحبًّا للبشر، وفاديًا لهم، يجود بذاته من أجلهم، رغم أنهم يزعمون أنه في الأصل –الإله الابن- منبثق من الأب، تعالى الله عن مثل ذلك علوًا كبيرًا.
فلقد شمل معتقد النصارى التناقض في فكرة الألوهية نفسها.
فبينما يوصف الإله بأنه هو الخالق، نجد أنهم ينسبون إليه الولد.
وبينما يُقال: إن الإله واحد، يُقال: إنه مكون من ثلاثة أقانيم: الأب، والابن، والروح، والتي يزعمون أن كل واحد منها إله.
وفي ذلك مناكرة للضروريات، حيث أثبتوا آلهة ثلاثة، ثم جعلوا الآلهة الثلاثة واحدًا، ومن جعل الثلاثة واحدًا، والواحد ثلاثة، فقد خرج عن حد المعقول وباهت ضرورياته.
حتى إنه قد كتب أحد القساوسة كتابًا أسماه: (الإله الباطن) زعم فيه أنه ليس لله وجود خارجي، وأن الإيمان بالله إن هو إلا إيمان بمجموعة من المُثُل والمبادئ الخُلقية، فكان ذلك التصور التعطيلي للخالق شائعًا بين جماهير المثقفين من أهل الديانتين النصرانية واليهودية.
ولقد أقبل كثير من المسيحيين على اعتناق الإسلام دينًا بعد أن رأوا المسيح عليه السلام في القرآن صورة متكاملة بعيدة عن تلك التناقضات والاختلافات التي تعيشها المسيحية، ومن ثم حاولت الكنيسة مواجهة ذلك عن طريق ادعائها كَذِبًا وجدلًا، بأن القرآن ينص على ألوهية المسيح باستخدام الآيات المتشابهات وتأويلها تأويلا باطلا عن قصد، وعدم ردها إلى المُحكم من الآيات عن عمد أيضًا، دفاعًا عن معتقدها الفاسد وموقفها الحرج أمام إسلام الكثير منهم، وتدعيمًا له.
فادَّعوا كذبًا عن قصد وعمد أن ألوهية المسيح ذُكرت في قول الله تعالى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ [النساء: 171].
ونرد على ذلك القول الباطل المكذوب والاجتراء المُنكر:
1- أنهم لم يذكروا الآية بتمامها ولم يذكروا غيرها من الآيات البينات حتى لا يفتضح أمرهم، ويفشل كيدهم، وحتى يقتربوا من دنيء مقصودهم.

فالآية الكريمة بتمامها:
﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: 171].
وبذلك يتبين بوضوح عكس ما يحاول القساوسة ادعاءه كذبًا.
2- لماذا يستدلون في مثل ذلك الادعاء الكاذب –بألوهية المسيح- بهذه الجزئيات من الآيات الكريمات في القرآن الكريم، مع أنهم لا يؤمنون به ويُكذبونه، ضلالا وجحودًا؟
لا شك أنه استدلال باطل مُنبثق من أهوائهم، واجترائهم على الله تعالى، حيث يجدون بغيتهم في هذه الأجزاء القصيرات من الآيات الكريمات لإمكانية التأويل الباطل.
3- نوضح أن المقصود بقوله تعالى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾:
أولا: أن يكـون المُراد بالكلمة في الآية الكريمة مثل قوله تعالى: ﴿مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: 27] أي: آياته وبدائع مقدوراته، وهذه الآية يوضحها قول الله تعالى:﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 91].
ثانيًا: أن يكون المراد بالكلمة في الآية الكريمة: قول الله تعالى: "كُنْ".
يعني: أنه سبحانه وتعالى خلق المسيح عيسى عليه السلام بقدرته من غير أب، وفقًا لإرادته ومشيئته وحكمته بأن قال له: "كُنْ" فكان ما أراده جل وعلا، كما كان ذلك في حق آدم عليه السلام، كما في قول الله تعالى:
﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59].
ثالثًا: أن يكون المقصود بالكلمة في الآية الكريمة: كلمته سبحانه وتعالى التي بشر بها مريم، كما في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [آل عمران: 45].
4- أن تكون إضافة الروح إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾:
أولا: أن تكون هذه الإضافة للتشريف؛ لأنها من باب إضافة الأعيان مثل رسول الله، كما في قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ [الفتح: 29]، ومثل «بيت الله» كما في قوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [الحج: 26]، ومثل: «ناقة الله» كما في قوله تعالى: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ﴾ [هود: 64].
ثانيًا: أن تكون إضافة الروح إلى الله سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13].
"جميعًا منه" تعني: من خلقه ومن عنده، فليست «من» للتبعيض، بل لابتداء الغاية.
ثالثًا: أن تكون إضافة الروح إلى الله تعالى، لِما كان للمسيح عليه السلام من إحياء الموتى بإذن من الله تعالى كمعجزة له، ومن ثم دلالة على نبوته ورسالته، كما حدث للنبي محمد  من معجزة حنين جذع النخلة الذي كان يخطب عليه النبي  وبكائه، وكما هو معلوم أن حياة الخشبة التي ليس فيها روح كمعجزة أبلغ من حياة الميت الذي كان به روح، وكما حدث للنبي محمد  من نُطق الشاة المسمومة بعد ذبحها ونضجها.
رابعًا: أن تكون إضافة الروح إلى الله تعالى لأنه: ليست الكلمة صارت المسيح عيسى، ولكنه بالكلمة صار عيسى عليه السلام.
خامسًا: أن تكون إضافة الروح إلى الله تعالى؛ لأن المسيح عيسى عليه السلام مخلوق من روح مخلوقة من الله تعالى.
سادسًا: أن تكون إضافة الروح إلى الله تعالى تعني: الروح التي أرسل ربنا تبارك وتعالى بها جبريل عليه السلام، وحيث إن جميع المخلوقات لها روح، فهل تكون آلهة أو ذات طبيعة ألوهية؟!
سابعًا: أن تكون إضافة الروح إلى الله تعالى؛ حيث نفخ روحه جبريل عليه السلام في السيدة مريم، لتَلِد بالمسيح عيسى عليه السلام، فهو سر من أسراره.
ثامنًا: أن يكون قوله تعالى: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ يعني: رسول منه أو محبة منه.
ومما أشرنا يتبين كذب وافتراء النصارى في ادعائهم واجترائهم المنكر من وجوه كثيرة، فالقرآن الكريم حق وليس مشتملا إلا على الحق، ولا تناقض بين آياته وبين ما يدعو إليه، فهو الكتاب العزيز المُحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ونوضح نمـاذج من الرد على بطلان ما نسبته تلك الأمة الضالة في جنب الإله الخالق من دعاوى وافتراءات كاذبة، على شكل مناظرات قد تم جمعها من كتاب «منهج الجدل والمناظرة في تقرير الاعتقاد» للدكتور/ عثمان علي حسن.
ثم نوجزها بمشيئة الله تعالى بتصرف يسير.
بداءةً، إن الدعاوى النصرانية –الكاذبة الباطلة- التي قد نسبوها وألصقوها بالذات الإلهية تعديًّا وظلمًا وزورًا، دعاوى لا يملكون عليها برهانًا ولا دليلا، حسيًّا كان أوعقليًّا أو نقليًّا، بل هو محض الكذب والافتراء، ومتابعة الهوى والظن، كما قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾ [الإسراء: 40].
﴿ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 89- 93].
﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: 159].
﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: 28].
وإذا كان النصارى قد اتخذوا المسيح إلهًا يُعبد من أجل أن وُلِدَ من غير أب، فعبادتهم لآدم –استنكارًا- تكون من باب أولى؛ لأنه خُلق من غير أب ولا أم.
وإذا كان النصارى قد اتخذوا المسيح إلهًا يُعبد لما ظهر له من مُعجزات –كتأييد من الله لنبيه، فيصدقه قومه- فعبادتهم محمدًا  وموسى عليه السلام –استنكارا- يكون من باب أولى؛ لأن المعجزات والخوارق التي ظهرت قد ظهرت على أيديهم أكثر وأعظم.
فالحق واحدٌ بيِّن لا يتعارض ولا يختلف فيه لبيان.
مناظرة في ادعاء النصارى للأقانيم
إن النصارى يدعون أن الإله عبارة عن ثلاثة أقانيم، وهم مختلفون في تحديد تلك الأقانيم المزعومة أهي صفات أم ذوات أم خواص، لكنهم اتفقوا على أنها ثلاثة وهي: الأب، والابن، وروح القدس، ويدَّعون أن الابن هو كلمة الأب، وأن الأب يعلم الأشياء بكلمته –الابن- وأن روح القدس هو الحياة التي من أجلها وجب أن يكون الأب حيًّا –على حد افتراءاتهم وأكاذبيهم-.
فيُقال لهم: أَكُل واحد من تلك الأقانيم الثلاثة غير الآخر؟ أم كل واحد منهما هو الآخر؟
- فإن قالوا: كل واحد منهما هو الآخر، قيل لهم: فلم جعلتموها ثلاثة؟!
فالعدد نفسه يدل على المُغايرة وعدم المِثلية، لذلك فقد أثبتم بكلامكم ما نفيتم، ونفيتم ما أثبتم.
وإن قالوا: بأن كل واحد من تلك الأقانيم غير الآخر، قيل لهم: فهل تميزون أيا من تلك الأقانيم بصفة عن الآخر؟
فإن قالوا: لا نُميِّز أيًّا من تلك الأقانيم عن الآخر، عاد عليهم الكلام الأول بأن الأقانيم الثلاثة واحد.
ويتبين من هذه المناظرة مدى التعارض في مثل ذلك المعتقد الفاسد الباطل.

مناظرة النصارى في ادعاء التثليث
يقال للنصارى: إذا اعتقدتم أن الإله عبارة عن ثلاثة أقانيم، الإله الأب، والإله الابن، وروح القدس، وأنهم في جوهر واحد:
فهل ذلك الذي قد ادعيتموه -من أن الأب الإله ثلاثة أقانيم في جوهر واحد- كان مَعْرِفته عن طريق التوقيف والسماع أم عن طريق المعقول والقياس؟!
فإن قالوا: أخذناه من التوقيف من نص الأناجيل.
يقال لهم: إذن كان يلزمكم ألا تختلفوا في ذلك؛ لأن النصوص لا يختلف فيها أحد ممن يعتقد ذلك.
وإن قالوا: أخذناه عن طريق المعقول والقياس.
يقال لهم: إذن فما الذي يوجب أن يكون إلهكم المزعوم ثلاثة أقانيم، دون أن يكون أكثر من ذلك؟! فما الذي يوجب حصره في ثلاثة؟!
هل كان ذلك بضرورة العقل؟! أم بنظر العقل؟!
فإن قالوا: بضرورة العقل.
يقال لهم: إذن فيلزمكم ألا يختلف فيه العقلاء، ولكن قولكم مُناقض لضرورة العقل، حيث تجعلون الثلاثة واحدًا.
وإن قالوا: بنظر العقل.
يقال لهم: أي دليل يرشد إليه؟ وأي برهان يقوم عليه؟!
أينحصر الواحد في ثلاث، أو الثلاث في واحد؟!
بل الواحد يُناقض التعدد، فلا يمكن أن يكون الواحد اثنان أو ثلاثة أو...
وما أجهلكم بطريقة الحساب، فمن غلط في أول مرتبة من الحساب، فلأن يغلط فيما زاد عليها أولى.
يظهر لنا من هذه المناظرة عِظم كُفر هؤلاء النصارى، ويتبين أن شركهم أعظم من شرك المجوس ذاتهم، فغاية المجوس ذاتهم: ادَّعاء إلهين اثنين: نور وظلمة، وهؤلاء النصارى يدعون ثلاثة.
رد آخر بالفطرة:
في سفارة الباقلاني إلى ملك الروم، دخل القاضي أبو بكر ذات مرة على الملك، فرأى عنده بعض بطارقته ورهبانيته، فقال مستهزئًا بهم: كيف أنت وكيف الأهل والأولاد؟
فتعجب الرومي منه، وقال له: ذكر من أرسلك في كتاب الرسالة: أنك لسان أهل الأرض، ومُتقدم على علماء الأمة، أما عَلِمت أنا نُنَزه هؤلاء عن الأهل والأولاد؟! فقال القاضي أبو بكر: أنتم لا تُنزهون الله سبحانه عن الأهل والأولاد وتنزهونهم!!
لذلك فما أسوأ فطرتهم التي قد بُدِّلت وغُيِّرت من التوحيد إلى عظيم الكفر والشرك.
مناظرة في ادعاء النصارى لأسطورة التجسد
التجسُّد في اعتقاد النصارى: هو زعمهم بأن الله لما رحم عباده وأشفق عليهم، ألقى كلمته إلى مريم البتول، فتجسَّدت الكلمة في جوفها، فخرج منها إله تام من إله تام، كما يفترون ويكذبون.
فيقال لهم: هل الكلمة التي ألقاها الإله إلى مريم البتول، وتجسدت في جوفها، فخرج منه إله تام –على حد زعمهم- هي نفس جوهر الألوهية أم أن تلك الكلمة زائدة عليه؟
فإن قالوا: هي الجوهر.
يُقال لهم: إذن قولوا: ألقى نفسه ولا تقولوا كلمته؛ توبيخًا لهم واستنكارًا لافتراءاتهم.
وإن قالوا: بأن الكلمة مزيدة على الجوهر.
يُقال لهم: هل فارقت الجوهر أم لم تُفارقه؟
فإن قالوا: فارقته.
يُقال لهم: إذن يلزمكم أن تقولوا بتغير جوهر الألوهية؛ لأنها إذا فارقته لم يتصف الإله حينئذ بأقنوم العلم بعد أن كان متصفًا له.
وإن قالوا: لم تُفارقه.
يُقال لهم: إذن يستحيل أن تحل الكلمة في مريم مع اختصاصها به؛ لأن الواحد لا يحل في اثنين، وذلك مجاراة لافتراءاتهم تفنيدًا لما يدعونه من أكاذيب وأساطير وأوهام.
مناظرة في ادعاء النصارى للفداء
كما أشرنا، يعتقد النصارى أن الرب تجسد في المسيح ليُهان ويُصلب ويُقتل من أجل تطهير وإنقاذ البشرية من خطيئة أبيهم آدم –وهي أكله من الشجرة- والتي توارثتها الأجيال بما فيهم الأنبياء والصالحين، وأيضًا المسيح قبل صلبه.
فيُقال لهم: من العجب أن ذلك الإله بعد أن فعل بنفسه من الذُّل والهوان ما وصفتم، من أجل تخليصكم من الخطايا والذنوب ومن آفات الدنيا، ما نراه خلَّصكم.
بل أنتم باقون على ما كنتم عليه من طبع البشر، تحيون وتعصون وترتكبون المُحرَّمات وتَقْتلون وتُقتلون وتموتون، ويجري عليكم ما يجري على جميع بني آدم.
فأي خلاص مُفترى مزعوم، تدعونه لكم؟!
فماذا عن الخلق الذين جاءوا بعد ذلك الفداء الموهوم؟!
وماذا عن سائر المعاصي والذنوب والفواحش التي ترتكبونها، لا سيما في أوقات أعيادكمن المُزيفة، وفي دور عبادتكم المُتخذة كغطاء لنشر الزنا والبلا والفواحش؟! أعاذنا الله من إفك النصارى وبُهتهم.

مناظرة النصارى في ادعاء صلب الإله
كما أشرنا، فإن النصارى يعتقدون أن المسيح قد صُلب وقُتل.
فيقال لهم: إما أن يكون ذلك الصلب والقتل ضلالًا، وإما أن يكون هُدى.
ومن المُحال أن تقولوا بأن ذلك الصلب هُدى، حيث إنكم تُكفرون من فعل ذلك وتُضللونهم، ولأجل ذلك الفعل –في زعمكم- حاق الغضب وحاقت اللعنة على اليهود.
إذن: فلم يبق إلا أن يكون ضلالا.
وإذا كان ذلك فقد لزمكم أن إلهكم فعل الضلال، ونَصَصْتُم بذلك في كتبكم.
وما ذلك الفساد والخلل في مثل تلك العقيدة إلا لذهاب عقولهم وجهلم بما في كتبهم.
موجز من مناظرة أخرى للنصارى في ادعائهم لصلب الإله
يُقال للنصارى: أنتم مدحتم شريعتكم بأنها مبنية على العفو والصفح، ومع ذلك تأبون أن يكون الله قد عفا عن آدم حين أكل من الشجرة، حتى إنكم تُغالون وتفترون في ذلك الادعاء وتقولون: بأن جميع بني آدم كانوا مرتهنين بمعصية أبيهم آدم حتى فداهم المسيح بنفسه، رغم زعمكم ألوهيته.
فلم تتصوروا عفو إلهكم حتى انتقم من إله مثله وهو الابن الإله.
تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
فها هو ذاك منتهى التناقض في مثل تلك العقيدة الخبيثة، والذي لا يخفى –التناقض في عقيدة النصارى- على سوي ونقي الفطرة، صحيح وسليم العقل.
ونخلص من ذلك كله:
أنه لم يُعظّم الله سبحانه وتعالى حق التعظيم إلا في الشريعة التي جاء بها رسوله الخاتم محمد ، منزهًا له جل وعلا في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما هو نقص وذم وعيب، وعن ما لا تقبله الفطرة السوية، وعن ما لا يقبله العقل السليم.
لذلك: لماذا لا نطبق (الامتحان الحاسم) كما ذكره الشيخ أحمد ديدات فقال: إلى أتباع عيسى ابن مريم عليه السلام أقول: لماذا لا نُطبق الامتحان الحاسم الذي أراده عيسى عليه السلام منكم أن تطبقوه على أي شخص يدعى النبوة. (إذا كان نبيًّا بصدق أم لا)، قال المسيح ابن مريم عليه السلام: [من ثمارهم تعرفونهم، أيُثمر الشوك عنبًا، أم العليق تينًا؟! كل شجرة جيدة تحمل ثمرًا جيدًا، وكل شجرة رديئة تحمل ثمرًا رديئًا، فما من شجرة جيدة تحمل ثمرًا رديئًا، وما من شجرة رديئة تحمل ثمرًا جيدًا] [متى: 7: 20].
ويقول الشيخ رحمه الله: لماذا تهابون من تطبيق هذا الامتحـان على تعاليم نبي الله محمد ؟ فإننا نجد في القرآن الكريم رسالة كاملة مُتممة لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام، ثم استشهد بكتابهم أنفسهم... ومنها قول برناردشو:
لو أن شخصًا مثل محمد  تولى الحُكم المطلق للعالم لاستطاع أن يُعالج مشاكل العالم ويُوفر له السلام والسعادة؛ لأن العالم في أمس الحاجة لهما...، وغيره.

صفات الإله عند غير المسلمين –اليهود-
لقد أشرنا من قبل إلى تحريف اليهود لكتابهم المقدس –التوراة- تبعًا لأهوائهم وكبرهم وحقدهم، وقد أشرنا أيضًا إلى شهادة الدكتور/ موريس بوكاي على ذلك، وقوله: إنه لا يستطيع عاقل أن ينكر تضييع أهل الكتاب –اليهود والنصارى- لما استُحفظوا عليه من كتاب الله، التوراة والإنجيل، فالتوراة التي يقولون كتبها موسى تقول لهم: [ولما مات موسى –رجل الرب- ودُفن في أرض موآب] [سفر التثنية: إصحاح 5: 34].
فكيف يكتب موسى عليه السلام أنه مات ودُفن؟!
إلى غير ذلك مما تحتويه التوراة من القصص المفتراة، وقبيح ما فيها من بذيء الأقوال الفاحشة، ونَسْبها وإلصاقها بأنبيائها وصالحيهم، ومن ذلك:
- أن اليهود –لعنهم الله- نسبت نبي الله لوط عليه السلام إلى أنه وطئ ابنتيه وأولَدَهما وهو سكران من الخمر.
- وأيضًا نسبت نبي الله سليمان عليه السلام أنه كان ملكًا ساحرًا، وكان أبوه عندهم ملكًا مسيحًا، قاتلهم الله.
- وأيضًا: نسبوا نبي الله يوسف عليه السلام أنه حل تكة سراويله وتكة سراويل سيدته، وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته، وأن الحائط انشق له، فرأى أباه يعقوبًا عاضًّا على أنامله، فلم يقُم حتى نزل جبريل عليه السلام فقال: يا يوسف تكون من الزناة وأنت معدود عند الله من الأنبياء؟ فقام حينئذ، وذلك قولهم، لعنهم الله.
ونسبت أيضًا تلك الأمة الغضبية نبي الله المسيح ابن مريم عليه السلام إلى السحر، وقالوا: إنه ساحر، ولد بغية، ونُسبت أمه إلى الفجور، قاتلهم الله.
وننوه إلى: أنه في الوقت الذي قد نسبت فيه النصارى الألوهية إلى نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام افتراءً وكذبًا، كان اليهود يكذبونه وينسبون إليه ولادته بُغية، ظلمًا وزورًا، وينسبون أمه -السيدة مريم- إلى الفجور، إلى أن جاء رسول الله محمد  بالحق المبين، بالقول الذي لا فيه إفراط ولا تفريط، وهو نفي الألوهية عن عيسى ابن مريم عليه السلام، وفي الوقت ذاته إثبات نبوته، وأنه –عيسى ابن مريم- عبد الله ورسوله.
وغير ذلك الكثير والكثير من أكاذيب اليهود وافتراءاتهم على أنبيائهم وصالحيهم.
ويقولون أيضًا في صلاتهم في إلههم في العشر الأول من الشهر من كل سنة:
(انتبه! كما تنام يا رب؟ استيقظ من رَقْدَتِك).
فهؤلاء إنما أقدموا على مثل تلك الكفريات من شدة ضجرهم من الذل والعبودية.
ومن اليهود من قد افترى على الله الكذب بقوله أن عُزير ابن الله، تعالى الله عن مثل ذلك الكذب علوًا كبيرًا.
وأيضًا: فإنهم –اليهود- قد اتخذوا أحبارهم أربابًا من دون الله، يطلقون عليهم الربانيون، حيث إنهم –أحبارهم- يحللون لهم ما حرم الله، ويحرمون عليهم ما أحلَّ الله، افتراءً وكذبًا، واليهود يتبعونهم.
وأيضًا: قام اليهود بتكذيب النبي محمد  مع ما قد وجدوا من صفته في التوراة وتبشيرها به، ورغم تأييده من الله سبحانه وتعالى بالمعجزات والخوارق التي قد ظهرت على يديه، بل وحاولوا قتله كما هو دأبهم في قتل أنبيائهم ورسلهم من قبل، وما ذلك إلا لأنهم كانوا يعتقدون بأن النبي الذي أخبرت به التوراة سوف يخرج منهم، ويكون من جنسهم، فلما خرج نبي آخر الزمان من العرب –بني إسماعيل- اغتاظوا لذلك وعَظُم كبرهم وحقدهم في أن يتبعوه لخروجه من غيرهم وغير جنسهم، ومن ثم جحدوا نبوته  بعد أن كانوا سببًا في إيمان أهل المدينة برسول الله .
وننوه إلى: أنه من الشواهد التاريخية على نبوة محمد  وصدق دعوته ورسالته:
أن اليهود كانوا سببًا رئيسيًّا في أن يؤمن أهل المدينة بالنبي محمد  بعد أن كانوا عبادًا للأوثان، حيث إنه في وقت معاداة أهل المدينة لليهود كان اليهود يستفتحون على أهل المدينة بأنه يوشك أن يظلهم نبي –أي يخرج منهم- ويقاتلون معه، فيقتلوا أهل المدينة قتل عاد وإرم، ولم يكن لأهل المدينة معرفة مسبقة بالنبي الذي سوف يخرج إلا من قِبل اليهود، فلما خرج النبي محمد  من العرب، ما كان من أهل المدينة إلا أن سبقوا اليهود في الإيمان به ، وعلموا أنه هو  الذي أخبرت به اليهود، فازداد اليهود غيظًا وحقدًا على ما هم عليه من غيظ وحقد، لخروج النبي محمد  من العرب، ولسبق أهل المدينة لهم في الإيمان به .
فما كان من اليهود إلا أن كذبوا بنبوته  وحجدوا رسالته، مع يقينهم بنبوته وصدق رسالته.
وما ذلك إلا لعظم الكبر الذي ينطوي عليه صدور اليهود، والغل والحقد لغيرهم من الأجناس والشعوب، ولعل ما ذكرنا يوضح لنا صفة اليهود، حتى يتضح لنا تصورهم واعتقادهم في إلههم النابع من تلك العنصرية التي بهم، وذلك الحقد لغيرهم.
ولذلك: فإن اليهود يزعمون بأن دينهم لا يقبل سواهم، وأن جميع البشر سُخِّروا لخدمتهم، ومنهم من بلغ الأمر به في ادعائه بعدم الحرج في كل أموال غيرهم بالباطل، وفي ذلك يقول الله تعالى:
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 75].
فاليهود وإن قالوا بوحدانية الله إلا أنهم قد وصفوه بقبيح الصفات.
ومع أن الدين الذي تدين به اليهود ينطوي على عظيم الفساد والخلل، إلا أنهم يزعمون أن الله قد ارتضاه لهم بتلك الصورة والكيفية، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
ذلك بالإضافة إلى تكذيبهم لأنبياء الله ورسله، بل ومحاربتهم وقتلهم تبعًا لأهوائهم، وكبرهم وشهواتهم.
ومع ذلك يزعمون بأن الإله راضٍ بذلك منهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، ولذلك يقولون بأن الله راضٍ عنهم، وكذبوا في ذلك كله، فتعالى الإله الخالق الحكيم العادل عن أن يشرع مثل ذلك الدين بما يحتويه من فساد وفُحش –كما في افتراءاتهم على أنبيائهم وصالحيهم كما أشرنا- وبما ينطوي عليه من عنصرية، وغير ذلك.
فالإله في معتقد اليهود وتصوراتهم: إله بني إسرائيل فقط، وأنه خاص بهم وحدهم دون سائر الأمم والشعوب، وأنه يحبهم دون جميع الناس، ويحب طائفتهم وسلالتهم، ويقولون أيضًا: إن الإله لا يختار الأنبياء إلا منهم، وكذلك الصالحين، فلا يتقبل عبادة إلا منهم، ولذلك فهم يزعمون بأن الجنة مقصورة عليهم، تعالى الله عز وجل عن أن يكون إلهًا ظالمًا، عنصريًّا كما تدعيه اليهود.
فاليهود بذلك قد ذموا وعابوا في إلههم وخالقهم؛ لأنهم بذلك:
- قد وصفوا الإله بالظلم والعنصرية والفظاظة لسائر البشر من مختلف الأمم والشعوب، وأنهم –البشر- لا أمل لهم في مثل ذلك الإله، حيث إن سائر الأمم والشعوب مرفوضة مِنه.
وقد وصفوا الإله بما يدعونه بعدم الحكمة أيضًا:
لأن الله قد خلق البشر جميعًا لعبادته، بأن يؤمنوا بجميع أنبيائه ورسله، ويتبعونهم، ويلتزمون بالشرع الذي جاءوا به.
وبما أن إله اليهود لا يقبل سواهم ولا يتقبل عبادة إلا منهم، إذن فلا أمل لسائر الشعوب والأمم في التعبد والتقرب لذلك الإله الذي خلقهم، وليبحثوا حينئذ عن إله آخر يُرضونه فيقبلهم، توبيخًا واستنكارًا لكذب وادعاء اليهود، وذلك بلا شك وصف للإله بعدم الحكمة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وغير ذلك الكثير والكثير من الصفات القبيحة والمذمومة التي قد رموا الله تعالى بها من منطلق ذلك الاعتقاد الفاسد الذي يدينون به.
فقد عاب اليهود –لعنهم الله- إلههم بأن وصفوه بجسم كبير، تعالى الله عن مثل ذلك علوًا كبيرًا.
حيث ينتج عن ذلك وصف الإله –كذبًا- بالتحيّز، وأن له مكان يحتويه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
فالله عز وجل خالق المكان والزمان، وخالق كل شيء، فليس قبل وجود المكان والزمان إلا الله تعالى.
فالله تعالى لا يحويه ولا يحيطه مكان أو زمان.
لذلك، فإن اليهود هم أول من يتبع المسيح الدَّجال الذي يأتي في آخر الزمان ويدَّعي الألوهية بما جاء من فتن، جعلها الله عز وجل في يديه –الدجال- ابتلاءً وامتحانًا من الله سبحانه وتعالى لإيمان العباد واختبارًا لهم.
وقد أظهر الله سبحانه وتعالى في الدَّجال ما يُبيِّن ويشهد بكذبه وافترائه، مثل العَوَر الذي في إحدى عينيه.
فمع أنه –الدجال- يدَّعي الألوهية إلا أنه لا يستطيع أن يُزيل ما به من نقص وعور، خزيًا من الله تعالى له في الدنيا قبل الآخرة.
ومثل: تحيّزه –الدجال الكاذب- في جسم ما صَغُر أم كَبُر.
حيث إنه لا يُعقل أن يكون الإله الخالق عبارة عن متُحيز في جسم أو جسد ما صَغُرَ أو كبر.
ومع ذلك، فإننا نجد أن اليهود ينتظرونه، وهم أول من يؤمنون به لفساد معتقدهم وتصورهم في ذات الله تعالى.
وسوف نُدلِّل عقليًّا من معتقدهم عظيم كذبهم في ادعائهم باختصاصهم بالله تعالى، وذلك من خلال هذه المناظرة.
حيث يُقال لهم: ما قولكم في أيوب عليه السلام؟ أتُقرِّون بنبوته؟!
فيقولون: نعم.
فيُقال لهم: هل هو من بني إسرائيل؟
فيقولون: لا.
فيُقال لهم: ما تقولون في جمهور بني إسرائيل، يعني التسعة أسباط الذين أغواهم يربعام بن نباط الذي خرج على ولد سليمان بن داود عليهما السلام، وصنع لهما الكبشين من ذهب وعكف على عبادتهما جماعة بني إسرائيل وأهل جميع ولاية دار ملكهم المُلقبة يومئذ بشومرون إلى أن جرت الحرب بينهم وبين السبطين والنصف الذين كانوا مؤمنين مع ولد سليمان في بيت القدس وقتل في معركة واحدة خمسمائة ألف إنسان؟
ما تقولون في أولئك القتلى بأسرهم، وفي التسعة أسباط والنصف؟
هل كان الله يحبهم لأنهم إسرائيليون؟
فيقولون: لا، لأنهم كفار.
فيُقال لهم: أليس عندكم في التوراة أنه لا فرق بين الدخيل في دينكم وبين الصريح النَّسَب؟
فيقولون: بلى، لأن التوراة ناطقة بهذا، إن الأجنبي والصريح النسب منكم سواء عند الله.
إذن: فقد أقروا بأن الله لا يُحب الظالمين منهم، ويحب المؤمنين وإن كانوا من غير طائفتهم ويتخذ أنبياء وأولياء من غير سلالتهم. ( )
وبذلك: يَنْتَفِي ما يدعيه اليهود من اختصاص الله سبحانه وتعالى بطائفتهم من بين المخلوقين.

صفات الإله عند غير المسلمين –المجوس-
يُعتبر زرادشت هو مؤسس الديانة المجوسية، والديانة المجوسية تُعدَّ سابقة لظهور المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام بأكثر من ستة قرون.
لقد قالوا –المجوس- بأن الشر مُتمثل في الشيطان، وزعموا أن الشيطان أخذ يواجه الإله ويحاربه إلى أن انتصر عليه، ومن ثم خضع إلههم لذلك الشيطان وشروطه، وأصبح الشيطان المزعوم كالإله على مدى هذا الدهر، حيث صار له السلطان المطلق إلى أن ينتهي زمن الحياة.
ثم بعد ذلك، بعد انتهاء زمن الحياة يأتي دور الإله في الدهر التالي، تعالى الله عز وجل عن كل ذلك الإفك علوًا كبيرًا.
ثم مُزج بين أوهام وافتراءات المسيحية والمجوسية –كباطل يتألف ويمتزج ببعضه- فكانت النتيجة الفاسدة الباطلة، الخروج بثنائية مطلقة، وهي إله للنور وإله للظلمة، وأنهما قد تساويا في الحياة والقوة، وأنهما يتغالبان دائمًا، ينتصر أحدهما وينكسر الآخر إلى ما لا نهاية، لكن أحدهما لا يموت، وإله الظلمة المتمثل في الشيطان هو الحاكم في هذا الدهر، وإله النور، تكون له النصرة في الدهر التالي في عالم النور الذي يكون مقر الأرواح فقط دون الأجساد، وهكذا إلى ما لا نهاية، قاتلهم الله.
وأعاذنا الله جميعًا من فساد العقل والفطرة.
فتعالى الله عن أن يكون له شريك في مُلكه، أو أن يوصف بالعجز والضعف أو أي من تلك الصفات التي لا تليق به جل وعلا.
فالله سبحانه وتعالى له الكمال المُطلق في ذاته وأسمائه.

صفات الإله عند غير المسلمين –الهندوس-
إن الديانة الهندوسية ديانة عسيرة الفهم جدًّا، ولا يُعرف لها رسول ولا نبي معين، ولا هادٍ ولا مُرشد خاص يمكن أن تُنسب إليه تأسيس تلك الديانة وبداية الدعوة إليها، كما لا يُعرف لها مصدر ولا كتاب مُتفق عليه بأنه الحُجة والمرجع الأخير.
لذلك، فإن تلك الديانة تتضمن مجموعة هائلة من الأوهام والمعتقدات المتناقضة التي توارثها الهندوس واستقوها من منابع شتى في مجال تزكية الروح وتنميتها حسب مُعتقد هؤلاء المتوهمين.( )
وتتبنى ديانة الهندوس تفرقة عنصرية شديدة، حيث تُقسم الإنسان إلى أربع طبقات أعلاها، برهمن، وأدناها وآخرها شودر وهم الأنجاس الأرازل الذين لم يُخلقوا إلا لخدمة من فوقهم من الطبقات.
ويكفينا أن نشير إلى:
أن مثل تلك الديانة تجمع بين الغث والسمين، وتتأرجح بين الحقائق والأساطير، ويزعمون وجود آلهة كثيرة مختلفة، تبعًا لأوهامهم وأساطيرهم ومعتقداتهم الباطلة ويصفونهم بألفاظ فاحشة مُنكرة يعف اللسان عن ذكرها، ويصورونهم على هيئة تماثيل يخجل الحيي من النظر إليها، ويوجد غيرهم من يعبد البقرة وغيرها، تعالى الله عز وجل على كل ذلك الإفك علوًا كبيرًا.
وقد أشرنا سابقًا إلى استحالة وجود شريك أو نِدّ لله جل وعلا، وبَيَّنَّا ذلك.

صفات الإله عند غير المسلمين –عُبَّاد الأصنام والأوثان-
لقد كان مُنتشرًا قديمًا في العرب قبل بعثة النبي محمد  عبادة الأوثان، حيث كانوا ينحتون تماثيلا وأصنامًا كثيرة –من الحجارة- فيعبدونها ويتقربون إليها بالذبائح والقرابين مع علمهم بأنها لا ترى ولا تسمع، ولا تنفع ولا تضر، ولكنها الأهواء والشهوات التي تتلاعب بهم.
وكـان أحدهم –من عُبَّاد الأصنام والأوثـان- إذا أراد أن يُسافر حمل إلهه -الصنم أو التمثال أو الحجر- معه، فأي عقل هذا؟! إلى أن جاء رسول الله محمد  ودعاهم إلى عبادة الله عز وجل، ونشر دينه جل وعلا.
وعندما دخل  مكة فاتحًا ومنتصرًا وجد على الكعبة المشرفة –أول بيت بُني لعبادة الله تعالى في الأرض- وحولها 360 صنمًا، فأخذ  يطعنها ويقول قول الله تعالى: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81]، ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: 49] والأصنام تتساقط على وجوهها.
والعجيب: أننا نجد الآن في زمن العلم وتطوره، وتقدم وسائل الاتصالات السمعية والمرئية، من يعبد أصنامًا وتماثيلا، لا تنفع ولا تضر مثل من يعبد [بوذا]، ويتخذه إلهًا يُعبد، تعالى الله عن كل ذلك الباطل علوًا كبيرًا، ولكننا نجد أن مشركي العرب كانوا أفضل حالا من عُبَّاد الأصنام والتماثيل اليوم، وإن كانوا جميعًا في ضلال مبين.
حيث إننا نجد أن العرب كانوا يُقرِّون بوجود الله تعالى في السماء –أي فوقها- وإذا ما نزلت بأحدهم مصيبة فإنه يدعو الذي في السماء –أي فوقها- ولكنهم كانوا يتخذون مثل تلك الأصنام والتماثيل التي يعبدونها وسيلة للوساطة وللتقرب إلى الله تعالى.
ومع أن ذلك كله شرك وكفر بالله جل وعلا، إلا أننا أردنا أن نشير إلى إقرارهم بوجود الله تعالى كتفاضل بينهم وبين غيرهم، ممن فسدت فطرتهم وعقولهم.
كل ذلك يؤكد لنا أن العقيدة التي جاء بها رسول الله محمد  هي العقيدة الصحيحة التي يقبلها أي عقل سليم يُريد أن يعرف إلهه، فينزهه ويمجده ويعبده، وهي العقيدة التي تقبلها الفطرة السليمة السوية بدون أي تركيبات أو تعقيدات أو شوائب، ومن ثم فإن كل ما جاء النبي محمد  من كتاب سماوي ورسالة وشرع حكيم هو الحق المبين الذي بُني على أساس –العقيدة- راسخ، قوي متين.
فالعقيدة التي جاء بها النبي محمد  هي العقيدة الصافية التي يسهل فهمها وقبولها بدون أية مشقة أو تعنت.
فهي النور الذي أنار الله سبحانه وتعالى بها الظلمة، فمحا بها ظلمات الشرك والإلحاد.

دلائل عظيمة على طلاقة قدرة الله عز وجل
ومن ثم كمال وشمولية علمه وتمام حكمته
وعظيم صفاته وأفعاله
يقول الله تعالى في كتابه الحكيم –القرآن الكريم- واصفًا إرادته وقدرته: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].
أي أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئًا، فإنما يأمر أمرًا واحدًا، فلا يحتاج إلى أن يُكرر أمره أو أن يؤكده.
فهو سبحانه وتعالى بيده مقاليد السماوات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، وله الخلق والأمر.
والآيات الدالة على قدرة الله عز وجل وطلاقتها أكثر من أن تحصى، كخلقه جل وعلا للسماوات والأرض والكون وما به من مجرات ونجوم وكواكب بما فيها الأرض.
وأيضًا من عظيم الآيات الدالة على قدرة الله عز وجل وطلاقتها، التوازن العجيب والتناسق البديع للكون بما فيه، وكـذلك التناسـب الذي يصـل إلى حد لا يمكن تصوره.
وأيضًا من عظيم الآيات الدالة على قدرة الله عز وجل وطلاقتها: خلق جل وعلا للإنسان بما فيه من نعم عظيمة لا تعد ولا تحصى... إلى غير ذلك.
مما يوضح عظيم حكمة الله عز وجل وقدرته، وما قد اكتشفه العلم الحديث بأحدث الأجهزة العلمية من هذا التوازن والتناسب بين أجزاء الكون، وأيضًا في مكونات الإنسان والكائنات الحية يؤكد عظيم قدرة الله جل وعلا وجليل حكمته وبديع صنعته.
لكننا نود أن نشير إلى جوانب ودلائل أخرى توضح طلاقة قدرة الله عز وجل وعظيم صفاته وأفعاله، منها:

الفطرة السوية النقية والعقل السليم الصريح:
لقد خلق الله عز وجل الإنسان وفَطَره على الإيمان بوجوده وعظيم قدرته وجميل صفاته.
فنجد أن الإنسان إذا ما نزلت به نازلة أو كارثة، فإنه سرعان ما يتوجه إلى الله تعالى بالدعاء مرارًا وتكرارًا علمًا من هذا الإنسان بوجود ربه تبارك وتعالى وإيمانًا به، وبعظيم قدرته، وأنه سبحانه وتعالى هو القادر وحده على أن يرفع جميع ما نزل به من المصائب والكوارث لطلاقة قدرته جل وعلا وعظيم رحمته.
والعقل السليم الصريح لا يقبل إنكار وجود الله تعالى أو عظيم صفاته أو طلاقة قدرته.
فالإنسان إذا ما نظر في نفسه وتأمل في تركيب جسمه، لا سيما بعد التقدم العلمي الهائل في الطب وفي شتى المجالات وتطور أجهزته العلمية إلى درجة كبيرة، لعلم –الإنسان- عظيم حكمة الله سبحانه وتعالى، وطلاقة قدرته وكمالها وبديع وعجيب صنعته.
فما بالنا إذا نظر الإنسان وتأمل في ملكوت الله عز وجل الواسع، من سماوات وأراضين –حيث إن العلم قد اكتشف أن الأرض مقسمة إلى سبع طبقات- ومجرات ونجوم ومخلوقات حية –كالحيوانات والطيور- وأخرى غير حية، ليست ذات روح -كالأشجار والنباتات والجمادات- لا سيما بعد تقدم التلسكوب والمجاهر الإلكترونية، لَشاهد بعينيه عظيم وطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى.
لذلك فإن الفطرة السوية النقية والعقل السليم الصريح، الراجح الرشيد من الدلائل العظيمة على طلاقة قدرة الله عز وجل وعظيم صفاته وأفعاله.

2- دعوة الأنبياء والرسل، وتأييدها بالمعجزات والخوارق دلالة وشهادة بصدق ما أخبرت به:
لقد أرسل الله تعالى الأنبياء والمرسلين لدعوة الناس إلى الإيمان به جل وعلا وإلى الإيمان بعظيم صفاته وطلاقة قدرته وجليل حكمته وكمالها وشمولية علمه سبحانه وتعالى، ومن ثم إفراده عز وجل بالعبادة وحده دون أن يُشرك به شيئًا.
ولقد أيَّد الله عز وجل أنبياءه ورسله بما يشهد بصدق ما دعت إليه من وحدانية الله جل وعلا، وصدق ما أخبرت به من عظيم صفاته وطلاقة قدرته، من المعجزات والخوارق التي يعجز عن الإتيان بمثلها غير الأنبياء والمرسلين.
ومن أمثلة هذه المعجزات ما كان للنبي محمد  مثل:
- انشقاق القمر له :
وقد اكتُشف ذلك علميًّا نتيجة التمزقات والشقوق الغائرة، العميقة جدًًّا، والتي لا يمكن تفسيرها على أنها أثر لارتطام النيازك وغيرها بالقمر، وذلك لعظيم عمقها وطولها، حيث تتراوح أعماقها بين عدة مئات من الأمتار وأكثر من الكيلومتر، وأعراضها بين النصف كيلو متر وخمسة كيلو مترات، وتمتد إلى مئات من الكيلو مترات في خطوط مستقيمة أو متُعرجة، وتمر هذه الشقوق الطويلة الهائلة بالعديد من الحفر العميقة، هذا بالإضافة إلى اكتشاف حزام من الصخور المتحولة في القمر، وهي طبيعة لم يعهدها العلماء في أجرام السماء، لذلك فسَّر العلماء –بما فيهم علماء الجيولوجيا- كل ذلك أنه نتيجة انشقاق القمر في يوم من الأيام، وقد تم تصوير هذه الشقوق حديثًا، حيث يمكن للجميع أن يطلع عليها، فتكون شاهدة بصدق هذه المعجزة العظيمة، تأييدًا من الله سبحانه وتعالى لدعوة ورسالة نبيه محمد .
وكان هذا الكشف العلمي وغيره من أسباب اعتناق الكثير والكثير للإسلام، وقبوله دينًا لهم، والإيمان برسول الإسلام محمد  وتصديقه.
- نبع الماء من بين أصابعه .
- البركة في الطعام القليل حتى يكفي الكثير والكثير.
- حنين الجذع لرسول الله  وسماع صوت بكائه.
- تسبيح الطعام وسماع صوت تسبيحه على عهد رسول الله .
- رده  لعين قتادة بن النعمان لما أصيبت يوم أحد، وسقطت على وجنتيه، فعادت أحسن عينيه وأحَدّهما.
- شفاء بعض أصحابه على يديه  بدون دواء حِسِّي.
وغير هذا الكثير والكثير من أمثلة هذه المعجزات وأنواع أخرى غيرها، مما هو صحيح وثابت عن النبي .
لذلك فإن الإله الخالق الذي دلَّتا الفطرة السوية والعقل السليم على وجوده هو الإله الخالق الذي دعت الشرائع –التي جاءت بها الأنبياء والرسل- إلى الإيمان به وبعظيم صفاته وطلاقة قدرته.
3- أزلية الله سبحانه وتعالى وأبديته وفقا لقوله جل وعلا:
﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الحديد: 3]، ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: 3].
- وخلق الله عز وجل للإنسان ولكافة المخلوقات والموجودات من عدم، وفقا لقوله تعالى:
﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 67].
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف: 9].
إن الله سبحانه وتعالى لم يولد، لذلك فهو جل شأنه مُنزَّه عن أن يتخذ صاحبة أو ولدًا.
وهو سبحانه وتعالى الخالق من عدم، يخلق ما يشاء وفقًا لما يُريد ويشاء، ولمِا تقتضيه حكمته سبحانه وتعالى.
فلِمَ يكون اتخاذه جل وعلا ولدًا أو أكثر من البشر أو غيرهم كما يفتري الكاذبون؟!
إن الله عز وجل مُنزَّه عن مثل ذلك، فهو جل وعلا الأول الذي ليس قبله شيء.
وقد ثبت لدينا بالأدلة الدامغة فطريًّا وعقليًّا وعلميًّا وغير ذلك كما أشرنا سابقًا.
وإذا ما نظر الإنسان بعقله في نفسه كمخلوق، فإنه يكون على يقين من أمر ولادته، وأنه مولود، وأن أبويه كانا سببًا في وجوده، وأنه لم يكن من قبل شيئًا، وأن والدا أبويه –جداه- كانا سببًا في وجود أبويه، وهكذا إلى أن يصل إلى وجود الخالق الأزلي الذي لم يُولد، والذي أوجد الإنسان في بداية خلقه من العدم بعظيم وطلاقة قدرته، لذا فإن الإنسان دومًا ينظر إلى الأشياء والموجودات من حوله وهو على يقين من أنه لا بد من سبب في وجودها، وأنها كانت في بداية الأمر عَدَمًا، كما كان هو، ومن ثَمَّ يستلزم ذلك وجود واجِد أزلي لم يوجده أحد من قبل، وهذا الواجد هو الذي أوجدها –الأشياء والموجودات- من العدم بعظيم وطلاقة قدرته، وهذا الواجد هو الإله الخالق، الله سبحانه وتعالى.
ويُستنتج من ذلك كله: أن الإله الخالق لا بد وأن يكون أبدي، أي: حي، دائم باقٍ، لا يموت ولا يفنى ولا ينتهي.
لذلك، فإن ثبوت أزلية سبحانه وتعالى بكافة البراهين والأدلة فطريًّا وعقليًّا وعلميًّا.. دليل وبرهان لكل لبيب وعاقل على طلاقة قدرة الله عز وجل، هذا وإن كان عقله يعجزه عن إدراك كيفية هذه القدرة المطلقة لله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان نفسه موجود مخلوق، أوجده الله الخالق جل وعلا من العدم.
لذا، فإن عقله محدود، له إمكانية محدودة، يعجز عن إدراك ما فوقها.
ونضرب لذلك مثالا بسيطًا لتوضيح ذلك:
هل يمكن أن نضع في كوب ماء صغير ما يُعادل كوبين من حجمه؟!
بالطبع: لا.
فإذا كان هذا الكوب الصغير من الماء لا يستوعب كوبًا آخر مثله، فهل يمكن أن يستوعب ما على الأرض من مياه أنهار وبحار ومحيطات ومِدادٍ من أمثلتها جميعًا إلى ما لا نهاية؟!!
بالتأكيد: كلا، لا يمكن ذلك.
فذلك مَثُلُ العقل المحدود، المشبه بكوب الماء الصغير المحدود، لا يمكنه إدراك كيفية طلاقة قدرة الإله الخالق جل وعلا.
4- خلق الله سبحانه وتعالى للروح، وفقًا لقوله جل وعلا:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85].
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الروح، وأودعها الإنسان وغيره من المخلوقات إلى أجل مسمى، إلى أن يتوفاه الله عز وجل بقبض وأخذ روحه، لأن الله جل وعلا قد كتب عليه –الإنسان- وعلى غيره من الأحياء الموت والفناء، وفقًا لقوله سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26، 27].
ثم يَرُدُّ الله تعالى على الإنسان روحه وإلى غيره من الأحياء (كالحيوانات والطيور) ليُوفيه حسابه وجزاءه، وكذلك غيره، وذلك في يوم الحساب (الدار الآخرة الباقية).
فإن كان مؤمنًا صالحًا، فإلى جنته تبارك وتعالى ودار نعيمه والفوز برضائه.
وإن كان كافرًا، مشركًا، مُلحدًا، فاسقًا... فإلى النار ودار الشقاء لسخطه جل وعلا عليه.
ولقد خلق الله عز وجل الروح وجعلها سببًا في حياة الإنسان وغيره من الأحياء، فهو جل وعلا مُسبب الأسباب وخالقها، وذلك لحكم عظيمة وجليلة يعلمها جل وعلا.
وإذا أمعنا النظر وتأملنا في هذه الروح التي خلقها الله تعالى، وجعلها سببًا في حياة الإنسان وغيره من المخلوقات لَثَبَتَ لدينا بيقين طلاقة قدرة الإله الخالق لها –الروح- وعظيم وبديع خلقه لكل شيء.
فالروح: لم يستطع العلم الحديث دراستها مع كل وسائله التقنية الحديثة، حيث إن أساسيات وبدائيات هذه الدراسة غير متاحة، وليست معلومة، لذلك فإن الروح التي خلقها الله تعالى وأودعها الإنسان، وجعلها سببًا في حياته وحياة غيره من الأحياء هي سر من أسراره جل وعلا في خلقه، وآية على بديع صنعته، ودلالة على عظيم وطلاقة قدرته جل وعلا.
6- استجابة المؤمنين الصالحين لأوامر الله عز وجل وطاعتهم له وفقا لقوله جل وعلا:
﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: 26].
لقد خلق الله تعالى البشر وأرسل إليهم أنبياءه ورسله لدعوتهم إلى الإيمان بوحدانيته وعظيم صـفاته، ومن ثم عبادته جل وعلا وحده، وذلك بعد أن أيدهم –أيَّد أنبياءه ورسله- بالمعجزات والخوارق كدليل على صدق دعوتهم.
وبالفعل: نجد أن من يؤمن بدعوة أنبياء الله ورسله –وهم المؤمنون الصادقون- يستجيبون ويمتثلون لكل ما أمر الله عز وجل به، ويسعون في القيام به على الوجه الأمثل، بل ويتبادرون في تنفيذه.
وإذا ما نهى الله عز وجل عن شيء، فإنهم –المؤمنون الصادقون- سرعان ما يجتنبونه، بل ولا يقربونه أو يقربون إلى ما يؤدي إليه.
علمًا بأن الله عز وجل لم يخلق الإنسان مُجبرًا على طاعته أو على معصيته، ولكن خلقه مُخيرًا بين أن يطيعه جل وعلا أو أن يعصيه، هذا مع علمه عز وجل الكامل المسبق لما سوف يختاره الإنسان، ولما سوف يقوم به من طاعته جل وعلا أو عصيانه.
وذلك كله لحكمة من الله سبحانه وتعالى، كما سنشير إليها بمشيئة الله تعالى فيما بعد.
ومع أن الله تعالى قد خلق الإنسان مُخيَّرًا بين الطاعة والمعصية، ولم يُجبره على فعل أي منها، كاختبار وامتحان له –الإنسان- إلا أننا نرى المؤمنين الصادقين والصالحين وكأنهم مُجبرين على طاعة الله عز وجل وتنفيذ أوامره على الوجه الأمثل لسرعة وفورية استجابتهم لأمر الله تعالى والتبادر إلى فعله.
فإذا كان ما نراه هو حال من كان مُخيرًا، وليس بمُجبر، فما بالنا بمن خلقهم الله عز وجل للقيام فقط بطاعته وتنفيذ أوامره، ولا سبيل لهم لأن يهموا بعصيانه!! ونموذج ذلك من الملائكة.
فالملائكة لا عمل لهم إلا عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته والامتثال له، وتنفيذ كل ما أمر الله تعالى به؛ لذلك، فإن ما نراه رأي العين من حال المؤمنين الصادقين الصالحين، وفورية استجابتهم لله تعالى وأوامره مع تخييرهم، وكذلك ما نعلمه عن الملائكة وإخبار الأنبياء والرسل عن حالهم، لدليل على عظيم قدرة الله عز وجل والتنويع في كيفية خلقه لعباده كيفما يشاء.
وأيضًا: إن في استجابة المؤمنين الصالحين لأوامر الله عز وجل والتبادر إلى تنفيذها، مع تخييرهم وعدم جبرهم لشاهد مرئي على طلاقة قدرة الله تعالى، وأنه جل وعلا إذا ما أمر بأمر، فإن الجميع يتبادر إلى تنفيذ أمره –لا سيما من جبرهم الله تعالى على عبادته وطاعته- وأنه جل وعلا إذا ما أراد شيئًا فإنما يقول له: كن، فيكون.
ونوضح أيضًا: عظيم قدرة الله عز وجل وطلاقتها عن طريق صياغة سؤال افتراضيّ، والإجابة عليه، والسؤال الافتراضي هو:
هل يمكن لهذا الإله الخالق أن يجعل هذا الكون الفسيح أو غيره بما فيه من مخلوقات وموجودات، في بيضة أو ما هو أقل من بيضة؟! هل يقدر على ذلك؟!
ونُجيب على ذلك السؤال: نعم، فإذا أراد الله تعالى شيئًا، فإنما يقول له: كن. فيكون، وندلل على هذه الإجابة علميًّا بما يوضح عظيم قدرة الله جل وعلا وطلاقتها، عن طريق الاستدلال بنموذجين مما قد اكتشفهما العلم الحديث:
أ- الصبغيات (الكروموسومات):
إن جسد الإنسان يحتوي على مئات البلايين من الخلايا، وأغلب هذه الخلايا على قدر كبير من الضآلة، حيث لا يتعدى قطر الواحدة منها (0.03) ثلاثة من مائة من الملليمتر في المتوسط.
والخلية الحية بناء في غاية الإحكام والتعقيد إلى درجة يعجز العقل البشري عن تصورها، ويراها كل ذي بصيرة شاهدة لخالقها بطلاقة القدرة، وببديع الصنعة وبإحكام الخلق، ويراها نافية نفيًا قاطعًا للعشوائية أو المصادفة.
فنجد أن الخلية لها جسمًا مركزيًّا يُسمى نواة الخلية –عدا بعض الأنواع القليلة من الخلايا، مثل خلايا الدم الحمراء.
ونواة الخلية تمثل العقل المُفكر لها، ومركز التحكم فيها، الذي يحمل كل الصفات الوراثية لها وللجسد المُنطوية فيه.
وتُحمَل الصفات الوراثية في نواة الخلية على عدد محدد من الصبغيات التي تتآلف من حبيبات السكر الناقص الأوكسجين وجزيئات من الفوسفات والنيتروجين، حيث إن هذه الأزواج مربوطة بعضها ببعض بأربعة قواعد نيتروجينية هي: (آدنين- غوانين- سايتوزين- ثايمين).
وعدد هذه الصبغيات في نواة الخلية يساوي 46 صبغيًّا، مُرتبة في 23 زوجًا، حيث إن نصفها من الحيوان المنوي للرجل والنصف الآخر من بييضة الأنثى، بحيث إذا ما اتحد الحيوان المنوي للرجل مع البييضة للأنثى يصبح عدد الصبغيات يساوي 46 صبغيًّا.
أي أن هناك 23 صبغيًّا في كل بُييضة من بييضات الأنثى، وكذلك في كل حيوان منوي لدى الرجل، وهذه الصبغيات تكون على هيئة حلزونية، ذات لفّ وطيّ شديد، حيث تعرف باسم الرقائق الحلزونية، ويبلغ سمك جدار كل واحدة من هذه الرقائق الحلزونية (واحدا من خمسين مليون من الملليمتر).
ويبلغ قطر الحلزون الواحد: واحدًا من نصف مليون من الملليمتر.
ويبلغ حجم الحلزون وهو مُكدس على ذاته داخل الجسم الطبيعي: واحدًا من المليون من الملليمتر المكعب، وإذا تم فَرْده، فإن طوله يصل إلى أربعة سنتيمترات.
وإذا تم فَرْد هذه الحلزونات (الصبغيات) داخل خلية واحدة من خلايا جسم الإنسان العادية، والتي لا يتعدى قطر الواحدة منها (0.03) من الملليمتر، وتم رصها بجوار بعضها البعض، كخيط ممدود، فإن طولها يبلغ حوالي المترين.
وإذا تم ذلك بالنسبة للصبغيات الموجودة في تريليونات الخلايا المكونة بجسم فرد واحد من بني الإنسان، فإن طولها يزيد عدة أضعاف عن طول المسافة بين الأرض والشمس المقدرة بحوالي مائة وخمسين مليونًا من الكيلومترات( )، سبحان الإله الخالق!!
إن العقل البشري له حدود، لذلك فإنه يعجز عن تصور ما ذكرناه علميًّا، حيث إن الحيز الذي يحتوي على هذه الصبغيات بصفاتها المكتشفة علميًّا يُعد بالنسبة للعقل البشري منعدمًا، ولكن العلم الحديث قد أثبته ولا مجال لنفيه، حتى وإن لم يتصوره العقل البشري المخلوق المحدود.
وهذا يُعدّ في حد ذاته ردًّا حاسمًا قاصمًا لأهل الإلحاد ومنكري الألوهية الذين ينكرون وجود الإله الخالق لعدم إمكانيتهم رؤيته جل شأنه.
فإذا كانوا لا يستطيعون تصور واستيعاب ما أثبته العلم الحديث بعقلهم المحدود، فهل يمكنهم إنكاره؟!
بالطبع: لا، فما أثبته العلم الحديث لا مجال لنفيه.
وإذا كان العقل البشري عاجزًا عن تصور مثل هذه الأشياء التي بجسده الضعيف المخلوق، فهل يمكنه أن يتصور الإله الخالق، وكيفية وعظيم قدرته وطلاقتها؟!
إن ما أشرنا إليه: يوضح ويؤكد لنا علميًّا عظيم وطلاقة القدرة الإلهية، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء.
ومع ذلك، فإن الإنسان قد فُطر على تعظيم إلهه وخالقه، وأن يصفه بجميل وعظيم الصفات من حيث طلاقة القدرة، وشمولية علمه وكمال حكمته سبحانه وتعالى.
وما أشرنا إليه ووضحناه بالفطرة والعلم يؤكد لنا ذلك، حتى وإن عجز العقل البشري عن تصوره، فما هو إلا عقل محدود.
ومن الجدير بالذكر أن نوضح:
أن رسول الله محمد  قد أشار إلى هذه الصبغيات وأخبر بمواصفاتها في حديثه الشريف بلفظ واحد يشير إلى جميع هذه الصفات المكتشفة للصبغيات.
وهذا اللفظ هو كلمة (عصب)، فلقد قال رسول الله :
((إن الله إذا أراد خلق النسمة، فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعصب منها)) [إسناده جيد، رواه الطبراني].
فالعرق والعصب بمعنى واحد في الحديث الشريف، وهما يمثلان الصبغيات التي نتحدث عنها، ولكن عطف كلمة (عصب) على كلمة (عرق) لكي تلقى مزيدًا من الضوء على صفات هذه الصبغيات التي قد اكتشفها العلم الحديث بمواصفاتها.
فالصبغيات: شبيهة بالحبال الطويلة المُلتوية، والمطوية طيًّا شديدًا، حيث إنها تشكل حلزون (DNA).
وقد أشار رسول الله  إلى كل هذه الصفات بلفظ واحد وهو كلمة (عصب) حيث إن كلمة (عصب) تُشير إلى معنى:
1- الحبال الطويلة. 2- الطيّ والالتواء في هذه الحبال.
3- ليس هذا فحسب، بل تُشير إلى الالتواء والطيّ الشديد الذي يُظهر الحبال وكأنها مربوطة مع بعضها البعض.( )
فلقد أشار رسول الله  إلى هذه الحقيقة العلمية منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، ولم يكن لأحد أدنى معرفة عن مثل هذه الصبغيات ومواصفاتها.
فتكون هذه الحقيقة العلمية التي أشار إليها رسول الله  وَمْضة مُبهرة، شاهدة له بصدق رسالته ودعوته إلى وحدانية الإله الخالق، وإثبات وجوده، وتوحيده بالألوهية والربوبية.
ب- عالم الذرة:
إن هذا النظام الذي يوجد في العوالم الكبرى، نجده في صورته الكاملة في أصغر عالم عرفناه وهو عالم الذرة.
إن الذرة قد تناهت في صغرها حتى أننا لا يمكن مشاهدتها بالمنظار الذي يُكبر الأشياء ملايين المرات، فهي –بناء على هذا- ليست شيئًا، بل إنها (لا شيء) بالنسبة إلى أدنى ما يستطيع البصر أن يراه.
ومع ذلك: فإن عالم الذرة قد اكتشفه العلم الحديث ولا مجال لنفيه.
والذرة مع ما وصفناها به تحتوي بصورة رائعة على نظام الدوران العجيب الموجود في النظام الشمسي.

فالذرة تحتوي على:
1- النواة: وهي نواة الذرة، وتحتوي هذه النواة للذرة الواحدة، المتناهية جدًّا في الصِّغر على بروتونات موجبة الشحنة، وأيضًا تحتوي على نيوترونات مُتعادلة الشحنة.
2- الإلكترونات: وهي التي تحمل الشحنة السالبة في عالم الذرة، ولا تتصل ببعضها البعض، بل يوجد بينها فراغ كبير الحجم (نسبيًّا).
وهذه الإلكترونات تدور حول نواة الذرة في اتجاه معاكس لاتجاه عقارب الساعة، بسرعة كبيرة جدًّا، حيث يدور الإلكترون حول مداره بلايين المرات في الثانية الواحدة.
والإلكترونات لا تشغل أكثر من 1/ 1.000.000.000 من مساحة الذرة، سبحان الإله الخالق العظيم!!
ونكرر ما قد ذكرناه سابقًا للتذكرة والموعظة، ولتمام الفائدة، أنه:
إذا كان العقل البشري عاجزًا عن تصوُّر مثل هذا العالم العجيب، حيث إن الحيز الذي يحتوي على جميع ما ذكرنا، يُعدّ بالنسبة للعقل البشري مُنعدمًا، فما بالنا بمكونات هذا العالم العجيب –عالم الذرة- من نواة وبروتونات متعددة، ونيوترونات متعددة وإلكترونات متعددة، إضافة إلى المسافات الكبيرة (نسبيًّا) بين كل منها، وكل هذا إنما هو في ذرة واحدة مفردة!!
إن العقل البشري له حدود، حيث إنه يعجز عن تصور ما ذكرناه، ولكن العلم الحديث قد اكتشفه ولا سبيل لرفضه وإن لم يستوعبه أو يتصوره العقل البشري المحدود.
بل إن العلم الحديث قد اكشتف ما هو أصغر بكثير من الذرة (الكوارك) وقد يكتشف مستقبلا ما هو أصغر من (الكوارك).
وإذا كان العقل البشري عاجزًا عن تصور مثل هذه الأشياء، فهل يمكنه أن يتصور الإله الخالق العظيم، وكيفية وعظيم قدرته جل وعلا وطلاقتها؟!
بالطبع: لا.
لذلك، فإن ما ذكرناه وأشرنا إليه يوضح ويؤكد لنا علميًّا طلاقة القدرة الإلهية، ومن ثم كمال وشمولية علمه وتمام حكمته وعظيم صفاته وأفعاله، وأن الله سبحانه وتعالى هو القادر وحده على كل شيء، لا سيما إذا علمنا أن هذه المكونات التي تتكون منها الذرة (الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات) تتركب وتتكون مما هو أصغر منها، كما أشرنا، حيث إن آخر ما عرفه الفيزيائيون منها هو ما يسمى (الكوارك)، وصدق الله تعالى إذ يقول:
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: 1].
ومن الجدير بالذكر أن نُدلِّل ونُبرهن علميًّا على رسالة النبي محمد  وصدق دعوته ونبوته، بموجز لما أشرنا إليه سابقًا، حيث:
إن عبادة المسلمين المتمثلة في الطواف حول البيت العتيق –الكعبة المشرفة- وهو أول بيت وضع لعبادة الله عز وجل في الأرض، هي العبادة التي تتوافق وتنسجم مع النظام الكوني الذي خلقه وأبدعه الله سبحانه وتعالى، كما أشرنا سابقًا.
وها هو عالم الذرة، حيث نجد أن النواة التي تحتويها الذرة التي تتكون منها المادة، تدور حولها الإلكترونات في (7) مستويات من الطاقة، حيث إن النواة حولها سبعة مستويات من الطاقة وهي: k, L, M, N, O, P, Q وهي نفس عدد أشواط الطواف حول الكعبة.
وأيضًا، تدور هذه الإلكترونات عكس عقارب الساعة، وهو نفس اتجاه الطواف حول الكعبة المشرفة، فسبحان الله!!
ومن ثم يتجلى لنا تطابق النصوص الدينية الإسلامية مع نظام المادة، مما يُدلِّل على أن الإله الخالق لهذه المادة المتكونة من الذرات هو الذي أنزل الدين الحق على رسوله محمد  الذي يتجلَّى فيه ناموس الكون، ألا وهو الإسلام.
ومن ثم يتوجب علينا تصديق النبي محمد  في كل ما أخبر به والإيمان به واتباعه  في جميع ما دعا إليه.
ومما قد أخبر عنه المصطفى  ويتوجب علينا الإيمان به، عندما سُئل  عن الإيمان، فقال:
((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) [رواه الإمام مسلم من حديث طويل].
ولقد تحدثنا عن الإيمان بالله عز وجل ووحدانيته سابقًا، وسوف نتحدث بمشيئة الله تعالى عن الإيمان بالرسل والكتب السماوية والملائكة والقدر واليوم الآخر، وذلك في إيجاز شديد.

الإيمان بالأنبياء والرسل
لقد تحدثنا عن الإيمان بالله عز وجل ووحدانيته، وأنه قد ثبت لدينا بشتى أنواع الأدلة والبراهين وجود هذا الإله الخالق لهذا الكون ولكل شيء من عدم، لما له من عظيم الصفات وطلاقة القدرة وشمولية العلم، وقد أشرنا إلى ذلك.
وقد ذكرنا: أنه يترتب على إيماننا بالإله الخالق عز وجل وصفاته ووحدانيته -وهو ما يسمى بتوحيد الربوبية- أن نعبده ونتقرب إليه دون أن نجعل له شريكًا أو ندًّا!
وكان من حكمة الله عز وجل البالغة أن يرسل إلى عباده الأنبياء والمرسلين بالشرع القويم، حتى يتعرف العباد على الصفات العظيمة لإلههم وخالقهم، وكيفية عبادته جل وعلا وتوحيده، والتقرب إليه، والسبيل الذي يوصل إلى رضائه جل وعلا وعدم سخطه.
وما نود أن نلقي الضوء عليه بإيجاز شديد هو: بعض من الدلائل على بعث وإرسـال الله عز وجل للأنبياء والرسل، ومن ثم الإيمان بهم وبدعوتهم وبكل ما أخبروا به.
الدلائل على بعث وإرسال الله عز وجل للأنبياء والمرسلين:
1- الفطرة السوية النقية والعقل السليم الصريح:
لقد خلق الله عز وجل البشر وفطرهم على الإيمان بوجوده جل وعلا ووحدانيته، وأرسل إليهم الأنبياء والرسل من جنسهم –من البشر- وبلسانهم؛ ليفقهوا عنه ويفهموا منه، وليتمكنوا من مخاطبته ومكالمته.
فلو أنه جل وعلا بعث إلى البشر رسولا من غير جنسهم كالملائكة لَما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه.
لذلك كان من مهام الأنبياء والمرسلين وفقا لقول الله تعالى:
﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأنعام: 48، 49].
أي أن الأنبياء والمرسلين جاءوا مبشرين عباد الله المؤمنين الصالحين بالخيرات والأجر والثواب من الله تبارك وتعالى، ومنذرين من كفر الله تعالى وجحد آياته، متبعًا لأهوائه وشهواته، بالنقمات والعقوبات منه جل وعلا.
والفطرة السوية والعقل السليم لا ينكران ما قد ذكرنا ولا يعارضانه، ولكنهما يقبلانه ويتوافقان معه أشد القبول والتوافق، بل وينكران –الفطرة السوية والعقل السليم- على مثل من يحاول التشكيك في إرسال الله عز وجل للأنبياء والرسل، ويتعارضان معه.
وتتمّة لإيضاح حكمة الله عز وجل في إرسال أنبيائه ورسله من جنس ما أرسلوا إليهم البشر:
- أن الأنبياء والرسل إذا كانوا من جنس الملائكة مثلا، لما استطاع البشر رؤيتهم على حقيقتهم لعظم خلقتهم، ولما أَنِسوا بهم، ولداخلهم الرعب من كلامهم ومعاشرتهم ما لم يمكنهم الانتفاع به –بكلامهم ودعوتهم-.
- وإذا جاء الملائكة كأنبياء ومرسلين على صورة بشر، لاختلط على الناس أمرهم، ولقالوا لهم: إنكم لستم ملائكة ولكنكم بشر.
- أن الأنبياء والرسل إذا كانوا من جنس الملائكة لما حَسُن للبشر الاقتداء بهم.
فإذا ما دعت الملائكة الناس إلى القيام بما أمر الله به عز وجل من تكاليف والانتهاء عما نهى عنه من نواهٍ وامتثلت –الملائكة- هي أولا لِما دَعَت إليه من تنفيذ الأوامر لله عز وجل واجتنابًا لما نها الله جل وعلا عنه ليقتدي الناس بهم، لقال الناس: لا طاقة لنا بما دعوتمونا إليه، وإنما استطعتم أنتم –الملائكة- القيام والتنفيذ بما دعوتمونا إليه؛ لأنكم من جنس الملائكة الأقوياء، وإنما نحن من جنس البشر الضعفاء.
لذلك كان من حكمة الله عز وجل البالغة أن يُرسل أنبياءه ورسله من جنس ما أرسلوا إليهم، وهم البشر، وغير ما ذكرنا من الحكم الكثير، ولكن نكتفي بما قد أشرنا إليه.
2- الإيمان بحكمة الله عز وجل البالغة الكاملة، وفقًا لقوله جل وعلا: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحشر: 1].
لقد أشرنا فيما سبق إلى عظيم صفات الله عز وجل وطلاقة قدرته، ودَلّلنا على ذلك علميًّا، وبمختلف الأدلة الدامغة والبراهين الواضحة.
ومن عظيم صفات الله عز وجل التي يتوجب علينا الإيمان بها: حكمته التامة، البالغة الكاملة.
فالإله الخالق جل وعلا له الكمال المطلق في جميع أسمائه وصفاته.
ومن حكمة الله عز وجل: أنه كما أتاح للإنسان كل ما يحتاج إليه بدنه من طعام وشراب وكساء، واتزان للكون يعمل في صالحه –الإنسان- من أرض وشمس وقمر وسماء وجبال وزروع وحيوان وطير وماء.... إلى غير ذلك، فإنه جل وعلا من تمام حكمته وكمالها أن يوفر للإنسان ما تحتاج إليه روحه التي هي أهم من جسده، من التشاريع القويمة والتعاليم السامية والعبادات الهادية التي تُقَرِّبه من إلهه وخالقه، والفوز بدار نعيمه ورضاه عليه.
ولكن: من أين يعلم البشر ما يُرضي إلههم وخالقهم؟
فكان الأنبياء والمرسلون هم المكلفون بهذه المهمة، مهمة دعوة الناس إلى الله تعالى، دعوة الناس إلى ما يُرضي الإله الخالق العظيم، الله رب العالمين.
وإذا وُجِد من يُنكر –افتراءً وزورًا- بعث الرسل من الله تعالى إلى خلقه، لزعمهم، وقولهم بأنهم –المنكرين للأنبياء والرسل- قد وجدوا الخلق مستغنين عن كل علم، وعن كل أمر من الأنبياء والرسل، لِما في عقولهم من المعرفة بالخير والشر، يُرَدّ عليهم، وعلى جدالهم ومراءاتهم، فيُقال لهم:
ألستم تجدون أن في تذكار العباد بعضهم لبعض، وتنبيه بعضهم بعضًا، وتعليم بعضهم بعضًا، يزيد في علمهم وشكرهم وطاعتهم لله تعالى، ومخافتهم منه جل وعلا؟ -مجاراة لهم- سيقولون: نعم، حيث إن ذلك مما توجبه العقول السليمة، الراجحة الرشيدة.
نقول لهم: كذلك، فإن تواتر وتتابع أنبياء ورسل الله تعالى إلى خلقه ما يقوم بتجديد عهد الله جل وعلا إلى عباده –بأن يؤمنوا به ويوحدوه ويُخلِصون في عبادتهم له- على ألسنة أنبيائه ورسله، وتتابع وَعْظهم وتذكيرهم وإرشادهم إلى العبادات الهادية والتعاليم السامية والمعاملات السديدة والتشاريع القويمة، والدقيق من الأمور المشتبهات بين ما أحله الله عز وجل وبين ما حرمه، وبالتالي معرفة طريقي الخير والشر حق المعرفة، لا على سبيل الوهم والظنون واتباع الهوى، لا سيما أن طبائع البشر وأفكارهم ومقاييسهم مختلفة.
لذلك، فإن من كمال حكمة الله تعالى أن يرسل أنبياءه ورسله، رأفة ورحمة منه تبارك وتعالى بعباده.
ومثال ذلك أيضًا:
أنَّه لو قدر وجود ملك أو سلطان قد خرج عليه بعض جنوده في مخالفة أمره، أليس من الحكمة والعدل والرفق والاستصلاح منه أن يُرسل ذلك السلطان إليهم رسولا ليرجعوا عن مخالفة أمره ويرتدعوا عن معاندته والخروج عن طاعته، قبل أن يبطش بهم على غير إنذار منه إليهم، وقبل أن يأخذهم على غِرة من غير إنذار منه إليهم؟!( )
الجواب: بلى، فإن ذلك من الحكمة والعدل والرحمة والرأفة.

3- المعجزات والخوارق التي أيد الله عز وجل أنبياءه ورسله بها:
لقد أرسل الله عز وجل أنبياءه ورسله مؤيدًا لهم بالمعجزات والخوارق التي تشهد بنبواتهم ورسالاتهم وصدق دعواهم وما أخبروا به، لا سيما أن دعوتهم تتوافق تمامًا مع الفطرة السوية النقية والعقل السليم الصريح.
وقد أشرنا سابقًا إلى جانب من الإعجاز الحسّي لرسول الله محمد .
فيجب على الجميع أن يؤمن بأنبياء الله ورسله جميعًا، إذا ما تبين صدق دعوتهم التي تتفق مع الفطرة النقية السوية، والعقل السليم الصريح، وإذا ما ظهر ما يؤيد ويشهد بصدق نبواتهم ورسالاتهم من المعجزات والخوارق تأييدًا من الله عز وجل لهم، والتي يعجز عن الإتيان بمثلها غير الأنبياء والمرسلين.
ولذلك، فإن تكذيب أيًّا من الأنبياء أو المرسلين ومعاداته هو في الحقيقة تكذيب لجميع الأنبياء والرسل، بل هو معاداة لله عز وجل الذي أرسلهم.
فكما أن من آمن برسول يلزمه الإيمان بجميع الرسل، كذلك فإن من كفر بواحد منهم، فإنه يلزمه الكفر بالجميع، كما قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 150-152].
وكذلك نوضح: أن كل نبي أدرك قومًا فهم أمته، وعليهم أن يتبعوه، ومثال ذلك:
إذا آمن شخص ما بنبي الله موسى عليه السلام لِما علم من صدق دعوته التي تتوافق مع الفطرة السوية والعقل السليم، والتزم بالشرع الذي جاء به موسى عليه السلام، ثم قُدِّر لهذا الشخص أن يدرك نبي الله عيسى عليه السلام، وأن يكون على يقين من نبوته ورسالته، فهل يمكن لذلك الشخص الذي آمن بموسى عليه السلام والتزم الشرع الذي جاء به أن لا يتبع نبي الله عيسى عليه السلام والشرع الذي جاء به بزعم أنه من أمة موسى عليه السلام، وليس من أمة عيسى عليه السلام!!
بالطبع: لا، حيث إن ذلك الشخص كونه أدرك نبي الله عيسى عليه السلام، فإنه يصبح من أمته، ويلزمه أن يلتزم بالشرع الذي جاء به، ولا يلزمه الالتزام بالشرع الذي كان قد جاء به موسى عليه السلام.
وكذلك، فإن كل من أدرك رسول الله محمد  فإنه يصبح من أمته، ويصير مُلزمًا باتباعه ، والتزام الشرع الذي جاء به سواءً كان يهوديا أو نصرانيا أو غير ذلك.
والحق أن كل من يتبع نبي الله موسى عليه السلام أو يتبع نبي الله عيسى عليه السلام اتباعًا صحيحًا، لقاده ذلك الاتباع إلى الإيمان والتصديق بنبوة ورسالة النبي محمد  واتباعه، حيث إن كلا من التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية بشروا بهذا النبي الخاتم للأنبياء والمرسلين محمد  وأخبروا عنه، وسوف نذكر بمشيئة الله تعالى جزءًا من هذه البشارات في موضعها.
فالنقل الصحيـح والعقل الصـريح يقودان إلى الإيمان بالرسـالة الخاتمة، رسالة محمد .

الإيمان بالكتب السماوية
لقد ثبت لدينا بما ذكرنا من أدلة وبراهين أن الله عز وجل أرسل أنبياءه ورسـله إلى النـاس لدعوتهم، مبشرين ومنذرين، وأن ذلك كان من تمام حكمة الله عز وجل وكمالها.
وإذا آمنا بالأنبياء والمرسلين وصدقناهم، فإنه يلزمنا الإيمان بالكتب السماوية التي أنزلها الله جل وعلا عليهم، حيث إنهم –الأنبياء والرسل- قد أخبروا بذلك، وفقًا لقول الله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: 213].
والفَطر السوية والعقول السـليمة تتطلع إلى ذلك، حيث تتوافق مع إنزال الله عز وجل لكتبه السماوية مُتضمنة رسالاته وتعاليمه وتشريعاته...، حاكمة بين الناس بحكم الله جل وعلا المُبيّن فيها، ويجب علينا أن نؤمن بالكتب السماوية كلها، وأن لا ننكر أيًّا منها، فما علمناه بعينه نؤمن به بعينه كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف موسى والقرآن الكريم، وما عدا ذلك نؤمن به إجمالًا.
ويجب علينا أن نؤمن بأن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية المُنـزّلة على خاتم أنبيائه ورسله محمد .
لذلك، فإن القرآن الكريم هو الكتاب المهيمن على جميع الكتب السماوية السابقة، ومن ثم يلزمنا التحاكم إليه، لا إلى غيره، مما قد حُرِّف وبُدِّل وضُيِّع من الكتب السماوية السابقة.
ومن ثم يلزمنا الإيمان بأن القرآن الكريم هو الكتاب الذي تكفل ربنا تبارك وتعالى بحفظه من أن تمسه أيدٍ بشرية خبيثة بالتحريف... وإلى غير ذلك، لأنه هو آخر الكتب السماوية المنـزلة إلى يوم الدين، فليس بعد القرآن الكريم أي كتاب سماوي آخر.

الإيمان بالملائكة
كما أشرنا أنه: إذا ما آمنا بالأنبياء والمرسلين، فإنه يلزمنا التصديق بكل ما أخبروا به، وإذا ما آمنا بالكتب السماوية المنزلة على الأنبياء والرسل، فإنه يلزمنا أيضًا التصديق بكل ما أخبرت به.
ومما أخبر به الأنبياء والرسل وأخبرت به الكتب السماوية: الملائكة.
لذلك، فإنه يجب علينا الإيمان بالملائكة بالصفة والكيفية التي أخبر بها الأنبياء والرسل، وكذلك الكتب السماوية المنزلة عليهم.
والإيمان بالملائكة يكون تفصيلا، كأن نؤمن بجبريل وميكائيل وإسرافيل، وملك الموت، ومالك خازن النار وما أشبه، حيث إن كل هؤلاء من الملائكة التي قد بيَّن الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم أسماؤها تفصيلا.
وما لم نعلمه بعينه، فإننا نؤمن بهم إجمالا أنهم عباد الله تعالى، وأنهم كثيرون.
ويجب علينا أن نؤمن بجميع الملائكة، وأن نحبهم جميعًا؛ لأنهم عبادٌ لله تعالى قائمون على أمره، ولا نبغض أو نُعادي أيًّا منهم، حيث إنه من كان عدوًا لأحد منهم –مثلما عادى اليهود الأمين جبريل عليه السلام- فإنه عدو لله عز وجل، ويصير من الكافرين، كما قال تعالى:
﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 98].
وعلينا أن نعلم أن الملائكة لهم من القدرة والقوة ما ليس للبشر، وأنهم –الملائكة- من آيات الله عز وجل، فالإيمان بهم يكون إيمان بالله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته جل وعلا.

الإيمان بالقدر
كما أشرنا: أنه إذا آمنا بالأنبياء والرسل، فإنه يلزمنا الإيمان بما أخبروا به وبما أخبرت به الكتب المُنـزلة عليهم من عظيم صفات الله تعالى، ومنها علم الله جل وعلا الواسع الكامل الذي لا يسبقه جهل، وأنه جل وعلا قد أحاط بكل شيء علما، كما أوضحنا في السابق.
ومما قد أخبر به النبي محمد  لَمّا سئل عن الإيمان: الإيمان بالقدر.
والإيمان بالقدر يعني: أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد قدَّر كل شيء، كما قال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2].
وأن هذا التقدير تابع لكمال حكمة الله عز وجل، ولما تقتضيه هذه الحكمة من غايات حميدة وعواقب نافعة للعباد في معاشهم ومعادهم.
فكل ما في الكون، فإنه حادث بمشيئة الله عز وجل سواء كان ذلك مما يفعله هو سبحانه وتعالى، أو مما يفعله الناس، أو مما يفعله بخلقه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

الإيمان باليوم الآخر
إن الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بقيام الساعة للحساب والجزاء.
والإيمان باليوم الآخر يدخل فيه الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، حيث إن الإنسان إذا مات ودُفِن، فإنه يُسأل في قبره عن ربه وعن دينه وعن نبيه، فإن كان كافرًا أو مشركًا أو مُلحدًا أو من غير المسلمين، فإنه يُعذّب في قبره إلى يوم القيامة، يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين جل وعلا للحساب، ثم يدخل نار جهنم، ويُخلّد فيها أبد الآبدين.
وإن كان مؤمنًا مُطيعًا لله عز وجل، فإنه يُنعم في قبره إلى يوم القيامة، حيث يُبعث للعرض على ربه تبارك وتعالى، ثم يدخل الجنة ويُخلّد فيها أبد الآبدين.
وإن كان مؤمنًا عاصيًا، فإنه في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه، ثم أدخله الجنة خالدًا فيها أبد الآبدين، وإن شاء تبارك وتعالى غفر له، ويُدخله الجنة خالدًا فيها أبد الآبدين.
ونودُّ أن نشير إلى جانب من الدلائل على قيام الساعة، أي اليوم الآخر:
1- الفطرة السوية السليمة والعقل الرشيد الصريح:
لقد خلق الله عز وجل الحياة الدنيا كدار بلاء وامتحان للإنسان؛ حيث يقضي الإنسان فترة عمره الوجيزة في تلك الحياة الدنيا كامتحان واختبار من الله عز وجل له، حيث يُكلفه ربه جل وعلا بأوامر وتكاليف، وينهاه عن انتهاك وتعدِّي ما حرمه عليه، وذلك وفقًا لما تقتضيه حكمة الله عز وجل، ثم بعد ذلك يَلْقى هذا الإنسان جزاءه بعد موته، حيث يُوفِّيه ربه جل وعلا حسابه.
والفِطَر السوية والعقول الرشيدة تستنكر أن يكون مصير المحسنين المطيعين لله عز وجل كمصير المسيئين الذين أساءوا وعصوا الله جل وعلا، تستنكر أن يتساوى المحسنون والمسيئون بأن يموت كل منهما بلا رجعة للتفاضل بينهما.
وكما هو معلوم أن الحياة الدنيا ليست دار جزاء، فمن الممكن أن نرى المحسن وقد سُلب حقه من غيره، وأوذي من المفسدين أشد الإيذاء ممن هو أشد وأقوى منه من الجبابرة والطغاة، وذلك إلى أن يموت دون أن يستطيع الانتقام لنفسه أو ردًّا لحقه.
إذن، فلا بد من دار آخرة تكون دار جزاء، ليستقيم فيها هذا الأمر، حيث يُرد للمظلوم حقه من الظالم وأن يُجازى المُحسن بإحسانه في الدنيا إحسانًا من الله تعالى في الآخرة، وأن يجازى المسيء بإساءته في الدنيا السوء في الآخرة كعقاب له.
وهذا مما تتوافق معه الفطر السوية والعقول الرشيدة، بل وتتطلع إليه، وهذا هو ما أقره الله تعالى في صيغة سؤال استنكاري، في قوله جل وعلا:
﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28].
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35، 36].
فالفِطَر السوية والعقول الرشيدة تنفي أن يتساوى الصالحون مع المفسدين.
ومن جانب آخر: فإن الآخرة تُعد ضرورة خُلقية.
حيث إنه إذا لم يكن هناك دار آخرة للجزاء، للثواب والعقاب، لَمَا كان التمسك بالأخلاق الحميدة والصفات الحسنة التي لا تَصلُح المجتمعات إلا بها؛ لأنه في حال انعدام الدار الآخرة، يتساءل الإنسان الأمين في نفسه –كمثال افتراضي-: لِمَ التمسك بهذه الصفة (الأمانة)، وقد كان من الممكن أن أُحَصِّل من المنافع كذا وكذا.. لولا التمسك بها؟!
فإذا لم يكن هناك دار آخرة يلقى فيها الإنسان أجره جزاءً لتضحيته بما قد يُعَد من المصالح والمنافع الدنيوية في حال تمسكه بالأمانة وغيرها من الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة -كما كان التمسك بهذه الصفة وغيرها- بل ويُعَدُّ حينئذ التخلي عنها وعن غيرها في حال جَلْبِ المصالح والمنافع الدنيوية أَوْلَى بالنسبة له.
لذلك، فإن الآخرة تُعدّ ضرورة خُلُقية لصلاح المجتمعات وعدم فسادها، وهذا من حكمة الله عز وجل.
2- إخبار الأنبياء والمرسلين بالبعث والحساب:
لقد أرسل الله عز وجل أنبياءه ورسله بالعقيدة الصافية والدعوة الصادقة التي تتوافق مع الفطرة السوية والعقل السليم، وأيدهم بالمعجزات والخوارق التي يعجز عن الإتيان بمثلها إلا من كان نبيًّا أو رسولا مؤيدًا من ربه تبارك وتعالى.
لذلك كان لازمًا على الناس أن يؤمنوا بما دعوا إليه، وأن يصدقونهم فيما أخبروا به ويتبعونهم.
ومما أخبرت به الأنبياء والرسل: اليوم الآخر، حيث يُبعث الإنسان بعد موته للحساب والجزاء من إلهه وخالقه.
لذلك: كان من اللازم أن يؤمن الناس باليوم الآخر، يوم الحساب والجزاء، وفقًا لما أخبر به الأنبياء والمرسلون.
3- حكمة الله سبحانه وتعالى وعدله تقتضيان البعث والجزاء:
إن من حكمة الله عز وجل وعدله أن يجعل هناك يومًا آخر بعد نهاية الحياة الدنيا، لينال كل إنسان جزاءه، وما يستحق من الثواب والعقاب على ما قدَّم من خير أو شر.
فإننا نرى أُناسًا يفارقون الدنيا وهم ظالمين لغيرهم، ولم يُقتص منهم، وآخرين يفارقونها مظلومين لم تُرد إليهم مظلمتهم.( )
ونرى فيها أشرارًا مُنغمسين وأخيارًا معذبين، فإذا ذهب كل إنسان بما فعل ظالمًا كان أو مظلومًا، من غير انتصاف للمظلوم من الظالم، ومن دون تمييز للمُحسن من المسيء، كان ذلك قدحًا في عدل الله عز وجل وحكمته.( )
لذلك، فإن من حكمة الله عز وجل وعدله أن يكون هناك يوم يحضر فيه الجميع بين يدي الإله الملك سبحانه وتعالى ليُقتص للمظلوم من ظالمه، ولينال كل مُحسن ومسيء جزاءه( )، وفقًا لقول الله تعالى:
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].
﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 48].
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: 36].
دلائل مرئية، عقلية موجزة على إحياء الله عز وجل للإنسان بعد موته للجزاء، وقدرته عز وجل على ذلك:
نشير أولا: أن زعم المنكرين للبعث ما هو إلا ظن كاذب باطل، والظن لا يُدفع به اليقين، وفقًا لقول الله تعالى:
﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: 28].
1- النشأة الأولى للإنسان:
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5].
فكما أن الله عز وجل خلق الإنسان من تراب بعد أن لم يكن شيئًا، وجعله ينتقل من مرحلة لأخرى أثناء فترة خلقه، فإنه عز وجل قادر على أن يبعث الإنسان بعد موته وتحلله نظير النشأة الأولى، ومن ثم يلزم الجميع عدم إنكار النشأة الآخرة للإنسان.
ويؤكد ذلك علميًّا، لقد اكتشف العلم الحديث:
أن أجساد الأموات بعد تحلُّلها في قبورها إلى مكوناتها الأساسية من الماء والتراب، يبقى منها شيء مهم: وهي عظمة مثل حبة الخردل، وهي (عجب الذنب)، حيث لا يأكلها التراب.
- وقد اكتشف أيضًا:
أن هذه العظمة (عجب الذنب) هي المنظم الأول، حيث يُخلق منها جميع أنسجة وأعضاء وأجهزة الجنين، وأنها لا تَبلى أبدًا.
وننوه إلى: أن أول من نطق بهذه الحقيقة العلمية هو سيد الأنبياء والمرسلين محمد  منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، حيث أخبر في حديثه الشريف:
((كل ابن آدم يأكله التراب، إلا عجب الذنب، منه خُلِقَ وفيه يُركب)) [رواه مسلم].
لذلك: فإن هذا الحديث النبوي الشريف ومضة مبهرة، وشهادة حق بأن محمدًا  هو رسول رب العالمين، أيَّده ربه تبارك وتعالى بعظيم وشتى المعجزات، إيذانًا من الله تبارك وتعالى بختم الرسالات السماوية ببعثة خاتم أنبيائه ورسله محمد .
2- النوم واليقظة:
إن نوم الإنسان يُعدّ موتة صغرى، ثم إن يقظته من نومه بمثابة حياة بعد موت، فكل إنسان يموت موتة صغرى، ثم يحيا حياة دنيا، على هذا المنوال في كل يوم وليلة.
ففي نوم الإنسان ويقظته إشارة إلى أن هناك حياة أخرى بعد موتته الكبرى ونهاية أجله في الحياة الدنيا من أجل الحساب والجزاء.

3- إحياء الأرض بعد موتها:
قال الله تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5].
فكما أن الله عز وجل أحيا هذه الأرض الهامدة الميتة، القاحلة التي لا نبات فيها بإنزال الماء عليها، وجعلها ذات نبات نَضِر، فهو جل وعلا قادر على إحياء البشر بعد موتتهم.
4- إخراج النار من الشجر اليابس، أي إخراج الشيء من ضدِّه:
قال الله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ [يس: 80].
إن من طبيعة الشجر: الرطوبة والبرودة، ومن طبيعة النار: أنها يابسة حارة، فكما أن الله عز وجل أخرج النار اليابسة الحارة من ضدها وهو الشجر الرطب البارد الأخضر، فهو جل وعلا قادر على أن يُخرج الحياة من الموت، قادرٌ على أن يجيء بالإنسان مرة أخرى بعد موته للحساب والجزاء.
وقد كان قديمًا: يأتي من يريد أن يقدح نارًا وليس معه زِناد بعودين أخضرين من شجر المرخ والعفار اللذان ينبتان بأرض الحجاز، ويقدح أحدهما بالآخر فتتولد النار من بينهما.
5- عظمة المخلوقات الأخرى التي خلقها الله عز وجل:
قال الله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: 57].
فكما أن الله عز وجل خلق السماوات والأرض مع عِظمِهِما وسِعتهما، فهو جل وعلا قادر على إحياء الإنسان بعد موته، حيث إن خلق السموات والأرض أكبر وأعظم من خلق الإنسان الضعيف.
تنبيه:
لقد ذكرنا أنه: من الإيمان باليوم الآخر، أن نؤمن بعذاب القبر ونعيمه، بمعنى: أن الإنسان يحيا في قبره حياة من نوع آخر، لا علم لنا بكيفيتها وهي (حياة البرزخ) وأثناء هذه الفترة (حياة البرزخ) داخل القبر: إمَّا أن يُنعَّم الإنسان في قبره لكونه مؤمنًا صالحًا، وإمَّا أن يُعذَّب لكونه كافرًا، مشركًا، مُلحدًا، أو فاسقًا عاصيًا.
وقد ينكر أحد المُفترين الكاذبين عذاب القبر بحجة أنه لا يرى ذلك العذاب، أو النعيم إذا ما ترك القبر مفتوحًا على صاحبه الذي دُفِنَ فيه، وبحُجَّة أنه قد يُدفن اثنان أو ثلاثة أو أكثر –للضرورة- في قبر واحد ويكون منهم العُصاة والصالحين، فكيف يُعذب العاصي وبجواره الصالح الذي سوف يتأذى بعذابه، وكيف يُنعَّم الصالح وبجواره العاصي الذي سوف يصيب من ذلك النعيم؟!
وللجواب على مثل تلك الشبهة نذكر:
أولا: أن الله عز وجل قادر على كل شيء، كما هو ثابت لدينا، وقد أشرنا إلى عظيم صفات الله عز وجل وطلاقة قدرته.
لذلك، إن الله عز وجل قادر على أن لا يُري الإنسان ما يحدث داخل القبر من حياة البرزخ، ومن سؤال الملكين، ومن عذاب أو نعيم، وإن تُرك القبر مفتوحًا على صاحبه، بل وإن لم يُدفَن.
والله عز وجل قادر على أن يُعذِّب العاصي، وأن يُنعِّم الصالح دون أن يحظى العاصي بنعيم مما يُنعَّم به الصالح، ودون أن يتأذى الصالح بعذاب مما يُعذّب به العاصي، وإن دُفِنا بقبر واحد بجانب بعضهما.
ونُدلِّل على ذلك عقليًّا:
إذا ما نام رجلان، وفراش أحدهما بجانب فراش الآخر، فقد يَرى أحدهما في منامه ما يسوؤه ويضره أشد الإساءة والضرر، بل وفي بعض الأحيان يود لو أن يقوم من نومه من شدة ما يؤذيه في منامه أثناء نومه، ولا يستطيع ذلك.
وقد يرى الآخر رؤيا صالحة مُبشرة تَسُرُّه وتُفرحه أشد ما يكون السرور والفرح، وودَّ لو بَقِيَ هكذا في رؤياه دون أن يستيقظ.
ونقول: فمع أن الرجلين نائمان أمام أعيننا، وعلى قُرب منا إلا أننا لا نستطيع رؤية ما حدث لكل منهما، فهل نُنكر ما قد أخبرا به في حال نومهما؟!
بالطبع: لا.
ومع أن فراشي الرجلين كانا متقاربين، وبجوار بعضهما، إلا أنه لم تختلط رؤيا أيا منهما بالآخر، فإذا كان ذلك في تلك الحياة الدنيا، فما بالنا بحياة البرزخ والحياة الآخرة بعد البعث للحساب، اللتين لهما وصف آخر ومقاييس ومعايير أخرى مُغايرة لما هي عليه الآن في تلك الحياة الدنيا.
لذلك، فإنه يجب علينا الإيمان بكل ما أخبرت به الأنبياء والرسل، والتسليم واليقين بكل ما جاءوا به.

أين الهـداية؟!
إن كل إنسان له عقل حكيم، وافر رشيد، لا بد وأن يبحث عن الهداية، يبحث عن السبيل الذي يرتضيه إلهه وخالقه، فتراه يُحاول أن ينظر في كل من اليهودية والنصرانية والإسلام؛ لأنها رسالات السماء، ولكنه سرعان ما يهتدي إلى أن دين الإسلام هو دين الله تبارك وتعالى، هو الدين الحق الذي ترتضيه فطرته السوية التي فطره الله عز وجل عليها، وهو الدين الحق الذي يقبله العقل السليم الصريح، الراجح الرشيد الذي منحه الله تبارك وتعالى إياه.
ولا شك، إن الإله الذي أرسل محمدًا  بالإسلام هو الإله الخالق لهذه الفطرة السوية، وهو الإله المانح لهذا العقل السليم الصريح، واللذان يتوافقان مع كل ما جاء به الإسلام، من معتقد بسيط سليم، صافٍ، ليس به شوائب أو عكرات، وليس به إعنات للفكر أو قهر للذهن والتصور، واللذان يتوافقان أيضًا –الفطرة السوية والعقل السليم الصريح- مع كل ما جاء به الإسلام من شرع قويم، وتعاليم سامية، ومعاملات حكيمة سديدة على أسس من الخير والفضيلة.
وسوف نُدلِّل على أن الهداية ليست إلا في الإسلام، بأن نوضح جانب من دلائل نبوة رسول الإسلام محمد ، وهي شهادة الكتب السابقة برسالة النبي محمد ، علمًا بأن الشواهد والدلائل التي تشهد برسالته  كثيرة جدًّا.( )
وقبل أن نشير إلى هذه البشارات بالنبي محمد  من الكتب السابقة –التوراة والإنجيل وغيرهما- نوضح هذا العنوان المهم:
لا يمكن البتة أن يؤمن يهودي بنبوة موسى عليه السلام إن لم يؤمن بنبوة محمد ، ولا يمكن البتة أن يؤمن نصراني بنبوة المسيح عليه السلام إلا بعد إقراره بنبوة محمد .
حيث يُقال لهاتين الأمتين –اليهود والنصارى- أنتم لم تشاهدوا هذين الرسـولين، موسـى وعيسى عليهما السلام، ولا شاهدتما آياتهما ولا معجزاتهما ولا براهين نبوتهما.
أ- فنقول لتلك الأمة اليهودية الآن:
بأي شيء عرفتم نبوة موسى عليه السلام وصدقه وأنتم لم تشاهدوا معجزاته ولا براهين نبوته؟!
ب- ونقول لتلك الأمة النصرانية الآن:
بأي شيء عرفتم المسيح عليه السلام وصدقه، وآمنتم به وأنتم لما تشاهدوا معجزاته وآياته؟
فيكون الرد أحد هذين الجوابين:
الجواب الأول: أن يقولوا: آباؤنا أخبرونا بذلك.
فنقول لهم: ومن أين علمتم صدقهم فيما أخبروكم به؟
فيلجئوا إلى الجواب الثاني:
الجواب الثاني: أن يقولوا: التواتر وشهادات الناقلين بمعجزاته وآياته، والبراهين التي جاء بها حقق ذلك عندنا.
فنقول لهم: إذًا يلزمكم الإيمان بأن محمدًا  هو رسول الله حقًّا وصدقًا؛ لأن من المعلوم أن الناقلين لمعجزات النبي محمد  وآياته وبراهين نبوته أضعاف أضعافكم بكثير، ولأن الله عز وجل جمع لرسوله محمد  بين كلٍّ من نوعي المعجزات، المعنوية والحسية.
فما أعطى الله تعالى نبيًّا شيئًا إلا وأعطى نبيه محمد  ما هو أكثر منه.
فكان من مُعجزات موسى عليه السلام انفلاق البحر، فأعطى الله سبحانه وتعالى محمدًا  معجزة انشقاق القمر، وهي أبلغ وأعجب؛ لأنها آية سماوية، حيث لم يكن يستطيع أحد آنذاك الوصول إلى القمر، وكما أشرنا سابقًا: أنه قد اكتشف العلم الحديث حقيقة انشقاق القمر.
وكان من معجزات عيسى عليه السلام إحياء الموتى، فأعطى الله سبحانه وتعالى محمدًا : حنين جِذْع النخلة –الذي كان يخطب  عليه- إليه معجزة له ، فكان الجذع يبكي ويَئِن كما يَئِن الصبي، لِما فَقَد من خِطاب الرسول  عليه، بعد أن صُنِعَ له  منبرًا يخطب عليه، وهذه المعجزة هي أبلغ من معجزة عيسى عليه السلام وأعجب، لأن حياة الخشبة –الجذع- أبلغ من إحياء الميِّت الذي كان فيه حياة قبل موته، أما الخشبة –الجِذْع- فالأصل أنها لا روح فيها.
وغير هذا الكثير والكثير من المعجزات والآيات والبراهين والإعجازات العلمية التي جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين محمد ، الدالة على نبوته وصدق رسالته، وصدق الدين الذي جاء به من ربه تبارك وتعالى، ألا وهو الإسلام.
ونوضِّح أيضًا: أن الكتب التي يؤمن بها النصارى يُصنفونها صنفين وهما: العهد القديم والعهد الجديد، ولكنهم يُركزون على العهد الجديد، وأما اليهود فإنهم يؤمنون بالعهد القديم ويُكذبون بالعهد الجديد، ويتكون كلٌّ من العهد القديم والجديد من عدة كتب ورسائل وأشعار لمؤلفين مختلفين كتبوها في أزمان مختلفة وأماكن مختلفة، وبلغة غير لغة الوحي، بعد موت أو رفع النبي بسنين طويلة.
فالعهد القديم الذي يؤمن به اليهود: يتكون من مجموعة من الكتابات التي يمتد عهدها من القرن الثاني عشر قبل الميلاد إلى القرن الثاني قبل الميلاد.
ولا توجد مخطوطات لأي من تلك الكتابات يرجع تاريخها إلى أوائل تلك الفترة.
أما بالنسبة للعهد الجديد الذي يُركِّز عليه النصارى، فمعظم كتبه كانت في البداية لمؤلفين مجهولين، وكثير منها ليس من تأليف مؤلف واحد، بل مجموعة من المؤلفين، وكثير منها أُلِّف على مراحل متعددة.
ولعل القارئ يُلاحظ استخدامنا لكلمة (تأليف) وذلك لأن النصارى لا يعتقدون أن ذلك الذي بين أيديهم (العهد الجديد) هو الذي نطق به المسيح عليه السلام، ولكنهم يزعمون أن من كتبوه كانوا مُلهمين، كيف يُعقل ذلك؟!
فكل ذلك زعم لا سند له تاريخيًّا، وما ذلك الإلهام الذي يتحدثون عنه؟!
ومن أين لمثل هؤلاء ذلك الإلهام؟!
بل إن شئنا نقول: الأوهام وليس الإلهام.
وكيف يكون كل ما كتبوه حقًّا من عند الله تعالى إذا كنا نجد فيما يقولونه تناقضًا، ونجد فيه ما يُخالف الواقع؟!
فلا يمكن لكلام يقوله الإله الخالق سبحانه وتعالى، إلا أن يكون مُتسقًا لا تناقض فيه، ولا يمكن إلا أن يكون موافقًا لحقائق الوجود التي خلقها الله سبحانه وتعالى.
لا شك أن الكتب السماوية لليهود والنصارى قد حُرِّفت وبُدِّلت وضيِّعت، وتم إخراجها عن إطارها الرباني الصالح لهداية البشر.
ولكننا مع ذلك نجد بعض من البشارات الواضحة بالنبي محمد  في كتبهم؛ تأييدًا من الله عز وجل لهذا الدين الخاتم الذي أرسل به رسوله محمد ، ألا وهو الإسلام.
ويحسُن أن نتحدث عن الكتاب السماوي الذي أنزل على النبي محمد  (القرآن الكريم) وحِفْظِهِ من الله تبارك وتعالى، ولو بإيجاز شديد:
إن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي ليس بعده أي كتاب سماوي آخر، لذلك فهو مهيمن على جميع الكتب السابقة، وهو المعجزة الكبرى للنبي محمد ، كما أشرنا بالإضافة إلى الكثير من المعجزات الأخرى، والقرآن الكريم لم ينزل على النبي محمد  دفعة واحدة، ولكنه ظل ينزل به الأمين جبريل عليه السلام من عند الله سبحانه وتعالى على النبي محمد  على مدى ثلاثة وعشرين عامًا.
ولقد تكفَّل ربنا تبارك وتعالى بحفظ كتابه العظيم (القرآن الكريم) من أن تمسه أو تناله أيدي البشر بشيء من التحريف أو التبديل كما حدث في الكتب السابقة، حيث إنه ليس بعده أي كتاب سماوي آخر، وليس بعد النبي محمد  أي نبي آخر.
كيفية حفظ الله عز وجل لكلامه (القرآن الكريم):
لقد كان النبي محمد  يتلقى القرآن الكريم من ربه جل وعلا عن طريق الوحي، فيحفظه عن ظهر قلب، ثم يُمليه على كُتَّابه، ثم يقرؤه على أصحابه، فيحفظه بعضهم عن ظهر قلب كما حَفِظه نبيهم، فقد كانوا مشهورين بسرعة الحفظ وجودة الذاكرة.
وعندما تُوفي النبي محمد  كان القرآن الكريم قد حُفِظ كله في صدور كثير من صحابة رسول الله ، كما كان قد كتب كله فيما تيسَّر لهم الكتابة عليه من العظام والجلود ولِحَى الأشجار، ثم احتفظ الخليفة الأول أبو بكر الصديق بكل هذه الوثائق التي كُتب عليها القرآن كله، ثم احتفظ بها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ثم أمر الخليفة الثالث عثمان بن عفان بكتابة القرآن الكريم كله في مصاحف، وتوزيعها على البلاد.
فكل ما نرى الآن من نُسخٍ للقرآن الكريم الآن، إنما هي نسخ من هذا المصحف الذي أمر سيدنا عثمان بن عفان بكتابته، وهو الذي يسمى بـ (المصحف الإمام)( ).
لذلك، فإن القرآن الكريم هو الكتاب المُحتفِظ بإطاره الربَّاني الصالح لهداية الناس أجمعين، ومما يدلل على ذلك:
1- أن القرآن الكريم غير متناقض، وليس بمُخالف للواقع.
فلا يمكن أن يكون الكتاب المحفوظ من الله عز وجل قد اعتراه أي اختلاف أو تناقض؛ لأن الاختلاف والتناقض نقص، والله تعالى مُنـزَّه عن كل نقص، ولأن وقوع الاختلاف أمر لازم لكل ما هو من تأليف البشر، فإذا كان وجود الاختلاف والتناقض يدل على ما هو من صناعة البشر، فإن عدم وجود الاختلاف والتناقض به –القرآن الكريم- يدل على أنه من عند الله عز وجل.
ولا يمكن للكتاب المحفوظ من الله عز وجل أن يُقرِّر شيئًا يكون الواقع بخلافه؛ لأن الإله الذي خلق الكون هو أعلم بما خلق، وحاشاه أن يكذب على عباده، فيخلق الواقع على هيئة، ثم يكون خبره عنها مخالفًا لها.( )
وصدق الله تعالى إذ يقول:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
2- أن القرآن الكريم يدعو إلى مكارم الأخلاق، وليس في دعوته ما يُخالف هذه الأخلاق الحميدة التي فطرنا الله عز وجل عليه.
3- أن القرآن الكريم ليس فيه ما يُناقض القواعد العقلية التي فطرنا الله عز وجل عليها، وغير ما ذكرنا الكثير والكثير من الدلائل القاطعة والبراهين الدامغة على أن القـرآن الكريم هو كلام رب العالمين، الذي تعهد ربنا تبارك وتعالى بحفظه إلى يوم الدين.

البشارة برسول الله محمد  في التوراة
1- إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: [أقم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيُكلفهم بما أوصيه به] [سفر التثنية 18: 18].
فهذا النص من النصوص القاطعة لدى اليهود على أن هذا النبي الذي سوف يخرج في آخر الزمان ليس من بني إسرائيل، ولكنه من إخوة بني إسرائيل، وهم بني إسماعيل.
حيث إن إخوة بني إسرائيل إما العرب، وإما الروم.
والعرب هم بنو إسماعيل عليه السلام، وإسماعيل عليه السلام هو أخو إسحاق عليه السلام والد يعقوب (إسرائيل) عليه السلام.
والروم هم بنو العيص، ولم يقم من الروم سوى نبي واحد وهو أيوب عليه السلام، وكان قبل نبي الله موسى عليه السلام، فلا يجوز إذن أن يكون هو الذي بشَّرت به التوراة.
لذلك، فإن النبي المُبشَّر به في التوراة يكون من العرب بنو إسماعيل، حيث لم يبق غيرهم، وهم إخوة بني إسرائيل.
ولو كان النبي المُبشَّر به من بني إسرائيل، لكان من الممكن أن يقول الله لهم [أقيم نبيًّا منكم] ولكنه عز وجل قال: [أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم].
وإذا زعم قائل بأن النبي المُبشَّر به هو يوشع بن نون، يُردّ عليه:
بأن الله تعالى قال موسى: [أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك].
ومعلوم أن يوشع بن نون كان من أنبياء بني إسرائيل، ولكن النبي المُبشَّر به من إخوة بني إسرائيل، وليس منهم.
وكما أشرنا أنه لو كان النبي المُبشَّر به من بني إسرائيل لكان من الممكن أن يقول الله لهم: [أقيم نبيًّا منكم]، وذلك لأن أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر كانوا موجودين مع موسى عليه السلام، لذلك فإن المراد من [إخوتهم] هم أولاد إسماعيل عليه السلام، وهذا هو ما يقبله العقل السليم الصريح.
وقد نصت التوراة: على أن إسحاق عليه السلام وأبناءه (بني إسرائيل) هم إخوة لإسماعيل عليه السلام كما جاء في سفر التكوين (16/ 12) [وأمام إخوته يسكن].
ويؤكد ذلك: قول الله تعالى لموسى [مثلك].
ومعلوم: أنه لا يقوم في بني إسرائيل نبي مثل موسى عليه السلام لما أخبرت التوراة بذلك، أي: أنه يقوم نبي مثل موسى عليه السلام، ولكنه ليس من بني إسرائيل، وبما أن يوشع بن نون هو من أنبياء بني إسرائيل، فإنه ليس النبي الـمُبشَّر به.
وكذلك عيسى عليه السلام، فإنه ليس مثل موسى عليه السلام؛ لأن موسى عليه السلام جاء بشريعة تامة، أما عيسى عليه السلام، فلم يأتِ بشريعة جديدة، حيث قال: [ما جئت لأنقض، بل لأكمل] [متى 5: 17].
وأيضًا؛ لأن عيسى عليه السلام خلقه الله تعالى بدون أب أصلا، فإنه ليس مثل موسى عليه السلام.
إذن، فليس هو النبي الذي قد بشَّرت به التوراة.
ولكن المماثلة بين النبي محمد  وبين موسى عليه السلام واضحة، حيث:
1- إن كلاهما قد جاء بشريعة تامة.
2- كذلك فإن كلا من النبي محمد  وموسى عليه السلام هاجر من وجه أعدائه، فمحمد  هاجر إلى المدينة، وموسى عليه السلام هاجر إلى مدين.
3- كلتا المدينتين اللتين هاجر إليهما كلٌّ من نبي الله محمد  وموسى عليه السلام، بينهما توافق في اسم كل منهما، فبين المدينة ومدين توافق.
4- أن كلا من النبي محمد  وموسى عليه السلام حارب أعداءه وظفر بنصر الله عز وجل.
5- أن الله عـز وجل قد مكَّن النبي محمد  من أن يحكم بين الناس بكتاب الله عز وجل –القرآن الكريم- وكذلك مَكَّن الله عز وجل لموسى عليه السلام أن يحكم بين الناس بحكمه جل وعلا.
ولذلك فقد كان الأحبار –علماء اليهود- يعرفون جيدًا أن هذا النبي المنتظر بعثته في آخر الزمان هو من نسل إسماعيل عليه السلام –وهم العرب-.
لذلك، فإننا لا نعجب من وجود اليهود بالمدينة وانتقالهم إليها وجوارهم للعرب في مسكنهم؛ لعلمهم بهذا النبي المنتظر بعثته في آخر الزمان، والمكان الذي سيخرج منه لِمَا في كتبهم [وتلألأ من جبل فاران]، كما سنوضح بمشيئة الله تعالى.
وهذا هو السر في دخول أهل المدينة المنورة في الإسلام قبل هجرة النبي  إليها من كثرة ما سمعوا من يهود المدينة عن خروج هذا النبي المنتظر بعثته.
وكان من اليهود من كان يعلم بخروج هذا النبي المنتظر، ولكنه كان يظن أنه سيُبعث من بني إسرائيل، فلما بُعث هذا النبي المنتظر من العرب واتبعه أهل المدينة الذين كانوا في عداء مع اليهود، ما كان من اليهود إلا أن ازدادوا غيظًا وحقدًا على حقدهم، لخروج هذا النبي المنتظر بعثته من العرب وليس منهم –اليهود- ولَسبق أهل المدينة لهم –سَبْقهم لليهود- في الإيمان به  بعد أن كانوا هم –اليهود- يستفتحون على أهل المدينة بخروج نبي يتبعونه ويقاتلونهم معه.
وقد كان سلمان الفارسي رضي الله عنه ممن ذهبوا إلى بلاد العرب انتظارًا لبعثة النبي  وظهوره لما كان قد عَلِمه من المكان الذي سيُبعث فيه هذا النبي المنتظر خروجه وبعثته، وقد ترك رغد العيش في بلاد فارس والروم من أجل ذلك –اتباعه للحق، بعد بحثه الطويل عنه-.
2- وجاء في [سفر التثنية 33: 2]:
[جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران].
وساعير في التوراة: اسم لجبل في فلسطين.
وجبال فاران: هي جبال مكة المكرمة التي هاجر إليها إسماعيل عليه السلام، مع أمه السيدة هاجر.
ومما يؤكد أن جبال فاران هي جبال مكة، ما نصت عليه التوراة: [وأقام إسماعيل في برية فاران] [سفر التكوين 21: 21].
وفي ترجمة التوراة السامرية التي صدرت 1851: أن إسماعيل سكن برية فاران بالحجاز، وهذا يؤكد أن جبال فاران هي جبال مكة المكرمة.
ويؤكد ذلك أيضًا من كتبهم ما جاء في [سفر التكوين 21: 14- 21]:
[وعاد إبراهيم فأخذ الغلام وأخذ خبزًا وسقاء من ماء، ودفعه إلى هاجر وحمله عليها، وقال لها: اذهبي، فانطلقت هاجر ونفد الماء الذي كان معها، فطرحت الغلام تحت الشجرة وجلست مقابلته على مقدار رمية الحجر لئلا تبصر الغلام حين يموت، ورفعت صوتها بالبكاء، وسمع الله صوت الغلام حيث هو، فقال لها الملك: قومي فاحملي الغلام وشدِّي يدك به، فإنه جاعله لأمة عظيمة، وفتح الله عينها، فبصرت ببئر ماء، فسقت الغلام، وملأت سقاها، كان الله مع الغلام فتربى وسكن في برية فاران].
فبما أن الغلام هو: إسماعيل عليه السلام، والبئر: هي بئر زمزم.
إذن: فإن برية فاران هي التي بمكة المكرمة، وهذا هو الحق الذي لا مِرية فيه.
ونعود إلى ما جاء في [سفر التثنية 33: 2] في أول هذه النقطة:
- حيث إن ما نقلناه من سفر التثنية تُشبه نبوة موسى عليه السلام بمجيء الصبح [جاء الرب من سيناء].
وتشبه نبوة عيسى عليه السلام بإشراقه (الصبح) [وأشرق لهم من ساعير].
وتشبه نبوة محمد  باستعلاء الشمس وتلألأ ضوؤها في الآفاق، فهو  خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا نبي ولا رسول بعده  [وتلألأ من جبل فاران].
ومثل ما نقلناه من سفر التثنية في القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى:
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [التين: 1-3].
حيث إن:
"والتين والزيتون": إشارة إلى منبتهما، وهي الأرض التي ظهر فيها عيسى عليه السلام.
و "طور سينين": إشارة إلى المكان الذي كان فيه موسى عليه السلام.
و "هذا البلد الأمين": إشارة إلى المكان الذي بُعث فيه محمد ، وهو مكة المكرمة، ومن قبله إسماعيل عليه السلام.
3- ومن وصف ونعت رسـول الله  الذي بكتبهم بنص التوراة، في [سفر إشعياء 29: 12]: [يُدفع الكتاب إلى من لا يعرف الكتابة، فيقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف الكتابة]. فمن يكون هذا النبي الأمي؟!
لا شك: أنه النبي محمد ، حيث إنه كما نعلم كان أُميًّا لا يقرأ ولا يكتب.
فكانت أمية رسول الله  شاهدة بنبوته وصدق رسالته ، فهو الأمي الذي علم البشرية كلها، مُتعلمها وجاهلها.
وهو  الذي علم البشرية قاطبة معنى التوحيد، والعبادة الخالصة لله عز وجل، وهو  الذي جاء بهذا الشرع القويم والتعاليم السامية.
4- ومن وصف قوم النبي محمد  الذي أرسل إليهم، كما بالتوراة:
[هم أغاروني بما ليس بإله، وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة، وأنا أيضًا أغيرهم بما ليس شعبًا، وبشعب جاهل أغضبهم] [إصحاح 32، سفر الاستثناء 11].
لا شك أن هذا الوصف هو وصف لقوم النبي محمد  قطعًا، حيث إنهم لم يكونوا شعبًا، بل كانوا قبائل مُتناحرة مُتفرقة بغير ملك أو سلطان أو رئيس...، غير أنهم كانوا جاهلين بالقراءة والكتابة إلا القليل.
ولكن بعد مجيء النبي محمد  أصبحوا إخوانًا مُتحابين، مُتكاتفين، وأصبح لهم دولة عظيمة، وهي دولة الإسلام، حيث إن قائدها هو النبي محمد ، وقد ذلَّت لها أعظم إمبراطوريتين آنذاك –الفرس والروم- وتقدَّمت في شتى مجالات العلوم آنذاك وقت تمسكها بِهَدي نبيها محمد  وما حثهم عليه.
وقد حاول بعض علماء اليهود كذبًا وحقدًا وغلًّا، أن ينسبوا تلك الجاهلية إلى الشعب اليوناني، ولكنهم فشلوا في ذلك؛ لأن اليونان قبل ظهور عيسى عليه السلام بمئات السنين كانوا متفوقين في العلوم والفنون، وكانوا واقفين على أحكام التوراة وسائر كتب العهد القديم التي يزعمونها.

البشارة برسول الله محمد  في الإنجيل
1- إنجيل يوحنا، إصحاح 16: 4-11:
قال عيسى عليه السلام: [وأما الآن، فأنا ماضي إلى الذي أرسلني، وليس أحد منكم يسألني أين تمضي؟ لكن لأني قلت لكم هنا قد ملأ الحزن قلوبكم، ولكن أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم الفارقليط]. وذلك في طبعة لندن 1821، 1831، 1844.
2- وفي إنجيل يوحنا أيضًا يخبرهم المسيح عيسى ابن مريم قائلا:
[ابن البشر ذاهب والفارقليط من بعده يجيء لكم بالأسرار، ويُفسر لكم كل شيء وهو يشهد لي كما شهدت له].
يتضح مما أوردناه: أن إنجيل يوحنا يبشر برسول يأتي بعد عيسى ابن مريم عليه السلام في قوله: [إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم الفارقليط].
وأيضًا في: [ابن البشر ذاهب، والفارقليط من بعده يجيء].
ولفظ [الفارقليط] يعني: الذي له حمد كثير، وذلك في اللغة اليونانية، وهو يوافق معنى: أحمد، مثلما قال الدكتور (كارلو دلينو) الحاصل على دكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة.
وقال غيره: إن لفظ الفارقليط في القاموس العبري بمعنى الحمد، ويُشتق من الحمد: أحمد، محمد، وهما يصدقان في رسول الله .
فمحمد وأحمد من أسماء رسول الله .
فرسول الله  محمود في الأرض ومحمود في السماء، وقد آتاه الله عز وجل المقام المحمود في الآخرة.
3- في إنجيل يوحنا 12- 14:
يقول عيسى ابن مريم بعد بشارته بالفارقليط الذي سوف يأتي من بعده، فيصفه قائلا: [إن لي أمورًا كثيرة لأقول لكم، ولكن لا تستطيعوا أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يأتيكم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم].
وكل هذه المواصفات التي وردت في إنجيل يوحنا تنطبق على النبي محمد ، فهو :
- يُبكت الذين لا يؤمنون برسالة عيسى عليه السلام على خطيئتهم.
- ويرشد إلى جميع الحق [فهو يرشدكم إلى جميع الحق].
- لا يتكلم إلا بما يوحى إليه ربه عز وجل [لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به].
- يخبر بغيبيات في المستقبل وحقائق علمية لم يكن لأحد أدنى معرفة بها في ذلك الوقت والتي لم تكتشف إلا في العصر الحديث [ويخبركم بأمور آتية].
- ويُمجد عيسى ابن مريم عليه السلام، فلقد أنـزل الله تعالى على نبيه محمد  قوله عز وجل: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [آل عمران: 45].
4- في إنجيل متى 1: 42:
يُخبر عيسى ابن مريم عليه السلام عن أمة هذا النبي  المبشر به، فيقول: [ألم تروا أن الحجر الذي أخره البناؤون صار أسًّا للزاوية من عند الله، كان هذا عجيبًا في أعيننا، ومن أجل ذلك أقول لكم: إن ملكوت الله سيؤخذ منكم، ويُدفع إلى أمة أخرى، ومن سقط على هذا الحجر ينشدخ].
ونوضح ما ذكره إنجيل متى، مُفصلًا:
أ- لقد قال رسول الله :
((مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارًا، فأكملها، وأتمَّها إلا موضع لبنة منها، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها ويقولون: هلا وضعت تلك اللبنة؟! فكنت أنا تلك اللبنة)) [صحيح الجامع الصغير].
فما قاله رسول الله  يتوافق مع ما ذكره إنجيل متى في:
[ألم تروا أن الحجر الذي أخره البناؤون صار أسًّا للزاوية من عند الله، كان هذا عجيبًا في أعيننا].
ب- لقد كانت العرب قبائل مُتناحرة مُتقاتلة، مُتفرقة بغير مَلك أو سلطان أو رئيس، ولكن بعد مجيء هذا الرسول الخاتم محمد  ألَّف الله عز وجل بين قلوبهم وجمع شملهم بقيادة نبيه محمد ، الذي آمنوا به وصدقوا برسالته، فأصبح للمسلمين دولة عظيمة مُتسعة الرقعة شمالا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، بفضل من الله عز وجل ونصره لهم.
وهذا يوافق ما ذكره إنجيل متى في [إن ملكوت الله سيؤخذ منكم ويُدفع إلى أمة أخرى].
جـ- لقد قال رسول الله :
((مثل المسلمين واليهود والنصارى، كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملا إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم، فقال: أكملوا بقية يومكم هذا، ولكم ما شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان العصر قالوا: لك ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي فعلت لنا فيه، فقال لهم: أكملوا بقية عملكم، فإن ما بقي من النهار شيئًا يسيرًا، واستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى إذا غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم وما قبلوا من هذا النور)) [صحيح البخاري].
فما قاله رسول الله  يتوافق مع ما ذكره إنجيل متى في: [ويُدفع إلى أمة أخرى تأكل ثمرتها].
د- أنه بعد مجيء النبي محمد ، وإيمان أصحابه رضوان الله عليهم به، أخذ يقوم بالغزوات والحروب لنشر التوحيد، والدعوة إلى عبادة الله عز وجل وحده دون أن يُشرك به شيئًا، ودون أن يُعتقد فيه جل وعلا اعتقادًا باطلا أو يُوصف بما هو قَدْح ونقص في ذاته جل وعلا، ولإقامة دولة الإسلام.
ولقد نصر الله عز وجل نبيه  وأقر عينه بدولة الإسلام القائمة على توحيد الله عز وجل والتعاليم السامية والمعاملات الحكيمة الرشيدة على أسس من الخير والفضيلة، ثم تولى أصحابه  الكرام مهام نشر دين الله عز وجل في الأرض، ولم تمضِ سوى سنوات قلائل تم فيها فتح البلاد شمالا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، وانكسر جميع من وقف لصد نشر دعوة الحق –الإسلام- وهُزم، حيث انهزمت كل من إمبراطورية الفرس والروم على أيدي المسلمين الفاتحين، ولم تعد لأي من الإمبراطوريتين قائمة، فكان ذلك موافقًا لما ذُكر في إنجيل متى [ومن سقط على هذا الحجر يَنْشدخ].
وغير ما ذكرنا الكثير من البشارات بالنبي محمد  في الإنجيل، ولكن نكتفي بما أشرنا إليه في هذا الموضوع.

البشارة برسول الله  في كتب الأولين
قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء: 196].
فرسول الله محمد  قد بشرت به الكتب التي تقدسها الديانات الأخرى، وإن كان الذي بين أيديهم بقايا من بقايا كلام الأنبياء الأولين بعد التحريف والتضييع والتبديل، ولكنها إرادة الله عز وجل ومشيئته أن تبقى البشارات بالنبي محمد  في كتبهم التي يقدسونها.
ومن كتب الأولين التي بشرت برسول الله محمد :
1- كتاب [السامافيدا]: أحد الكتب المقدسة لدى البراهمة: حيث تقول: [أحمد تلقى الشريعة من ربه، وهي مملوءة بالحكمة، وقد قُبست من النور كما يُقبس من الشمس].
2- كتاب [ندا أفستا]:
بشارة عن رسول يُوصف بأنه [رحمة للعالمين] (سوشيانت)، ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية أبو لهب، ويدعو إلى إله واحد، لم يكن له كفوًا أحد (هيج جيزبار ونمار).
3- في الكتب [الزرادشتية]:
[إن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون، وينهض رجل في بلاد العرب أتباعه فارس، ويخضع الفرس المُتكبرين، وبعد عبادة النار في هياكلهم، يولون وجوهمم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام، يومئذ يصبحون –وهم أتباع النبي- رحمة للعالمين، وسادة لفارس ومديان وطوس وبلخ وهي الأماكن المقدسة للزرادشتيين ومن جاورهم، وإن نبيهم ليكونن فصيحًا يتحدث بالمعجزات].
4- كتاب بفوشيا برانم [بهوش برانم]:
[في ذلك الحين يبعث أجنبي مع أصحابه باسم (محامد) المُلقب بأستاذ المحامد، والملك يطهره بالخمس المطهرة].
5- كتاب أورو أفيدم [ادهروويدم]:
[أيها الناس، اسمعوا وعوا، يبعث المحمد بين أظهر الناس... وعظمته تحمد حتى في الجنة ويجعلها خاضعة له وهو المحامد].
6- كتاب [بنوشيا برانم]: فيه وصف لأصحاب النبي :
[هم الذين يختتنون ولا يربون القزع، ويُربون اللحى، وينادون الناس للدعاء بصوت عالٍ، ويأكلون أكثر الحيوانات إلا الخنزير].
فمن أولئك الذين ينادون بالدعاء (الصلاة) بصوت عالٍ (الآذان)؟
إنهم المسلمون حيث يؤذنون في كل حين، ويدعون الناس إلى خالقهم وخالق كل شيء.

البشارة برسول الله محمد  في كتب الهندوس
لقد جمع عدد من علماء الهندوس البشارات بالنبي محمد  الموجودة في كتبهم، وقاموا بشرحها مع بقائهم على الديانة الهندوسية، إلا أنهم مالوا إلى المسلمين ولانوا لهم أكثر من غيرهم.( )
وهذه البشارات كثيرة جدًّا، وبمشيئة الله تعالى نذكر منها:
1- لقد بشَّرت الكتب الهندوسية بشخصية فذَّة، ذات خصائص مُميزة، وسُميت هذه الشخصية بـ (نراشنس).
وهذه الكلمة مُكونة من لفظين هما: (نر) ومعناه الإنسان و(أشنس) ومعناه الذي يُحمد ويُثنى عليه بكثرة، أي أن هذا اللفظ معناه: مُحمد.
ولم يقم في التاريخ الإنساني أحد من الأنبياء والرسل سُمِّي بهذا الاسم سوى النبي محمد  الذي جاء بالإسلام دينًا للعالمين.
ولو لم يكن أي دليل إلا هذا الدليل لكفى.
2- [اسمعوا أيها الناس باحترام، إن نراشنس يُحمد ويُثنى عليه، ونحن نعصم ذلك المُهاجر –أو حامل لواء الأمن- بين ستين ألف عدو وتسعين عدوًا، ويكون مركبه الإبل].
نلاحظ أن قول: (يُحمد ويثنى عليه) بصيغة المستقبل يُفيد أن المبشر به لم يكن قد بُعث إلى زمن تأليف هذا الكتاب، حيث إن أهم الكتب لدى الهندوس أربعة، حيث يعتقدون أنها مُنزَّلة من عند الله تعالى، وهذا الكتاب (أتهرويد) الذي ذُكرت به البشارة هو آخر هذه الكتب المؤلفة، حيث إنه متأخر جدًّا عن بقية الكتب الثلاثة التي قبله، ولقد دلَّ مضمون تلك الكتب الأربعة على أن تأليف كتاب (أتهرويد) كان متأخرًا عن زمن عيسى ابن مريم عليه السلام، وأنه كان في زمن بعثة الرسول محمد  وهذا يؤكد أكثر أن المقصود بـ (نراشنس) هو النبي محمد .
ولقد هاجر رسول الله محمد  إلى المدينة محفوظًا من الله عز وجل، وهذا يوافق: [ونحن نعصم ذلك المهاجر].
ولقد كان العرب قبل بعثة النبي محمد  الذين خرجوا واستعدوا للغزو أو المعركة على التفصيل:
أ- عددهم من قريش ومن انضم إليهم، ومن بني غطفان ومن انضم إليهم كان قد بلغ عشرة آلاف مقاتل.
ب- وعدد أعدائه  من اليهود من قبائل شتى كان أيضًا عشرة آلاف مقاتل.
جـ- وعدد أعدائه  من النصارى في غزوة تبوك بلغ أربعين ألف مقاتل.
د- وعدد أعدائه  من المنافقين كان تسعين، ثمانون منهم (المنافقين) بقوا في المدينة أثناء غزوة تبوك، واثنا عشر أو ثلاثة عشر منهم خرجوا إلى تبوك مع النبي ، وهم الذين همّوا بقتله  في الطريق، ولكن الله عز وجل عصمه منهم، ثم وفَّق الله تعالى اثنين أو ثلاثة للتوبة، وبقي منهم عشرة على نفاقهم.
وبهذا التحقيق الدقيق يتم مجموع عدد أعداء النبي  ستين ألفا وتسعين رجلا بالضبط.( )
وما ذكرناه يوافق: [ونحن نعصم ذلك المهاجر بين ستين ألف عدو وتسعين عدوًا].
وقد كان رسول الله  يركب الإبل، وهذا يوافق: [ويكون مركبه الإبل]، أي أن زمن هذا النبي لا يتأخر إلى زمن السيارات والطائرات، وأن هذا النبي لا يُولد في الهند، ولا يكون من سلالة البراهمة، أو الآريين كما يزعم الهندوس؛ لأن هذا النبي سوف يولد في منطقة صحراوية، وفي بلد صحراوي؛ لأن الإبل –التي هي مركب النبي- تُقتنى وتستخدم للركوب في مثل هذه المناطق، وأيضًا فإن هذا النبي لا يكون على الشريعة الهندوسية؛ لأن الشريعة الهندوسية تُحرِّم على رسلهم لحوم الإبل وألبانها، وتُحرِّم على البراهمة ركوبها وأن البرهمن لو ركـب الإبل أو الحمار برضاه –أي بدون إكراه- فإنه يصير نجسًا حسب عقيدتهم( ).
3- وورد أيضًا في كتاب [أتهرويد] باب 20 فصل 127 ما ترجمته:
[إنه أعطى للرسول (مامح) مئة دينار ذهبي وعشر قلائد وثلاثمائة جواد وعشرة آلاف بقرة].
ويدل ذلك على أن المذكور بـ (نراشنس) في هذا الفصل سوف يكون رسولًا، ويكون اسم هذا الرسول (مامح).
والعجيب أن اسم (مامح) فيه احتمالان:
أولهما: أن تكون كلمة (مامح) لهجة سنسكرتية لكلمة (محمد) بالعربية، وأن يكون هذا الفرق بين الكلمتين نتيجة الفرق بين اللغتين أو اللهجتين، مثل اسم يحيى بالعربية صار يوحنا ويحنس بالعبرية، وكذلك اسم إلياس بالعربية صار إيلياه، وكذلك اسم يونس بالعربية صار يوناه أو يونان بالعبرية.
الاحتمال الثاني:
أن تكون كلمة (مامح) كلمة سنسكرتية خالصة، وعلى هذا التقدير تكون مكونة من: مادة (ما) ومعناها: العظيم، ومادة (مح) ومعناها: من يُحمد ويُثنى عليه كثيرًا، فيكون معنى مجموع المادتين (محمد العظيـم) وهذا يعني أن المُبشَّر به هو رسول الإسلام: محمد .
- ولقد كان عدد المهاجرين إلى الحبشة يبلغ إلى واحد ومائة مهاجر، فارتد منهم لبيد الله بن جحش، فيكون عدد المهاجرين إلى الحبشة مائة، وهذا يوافق: [مائة نشك] أي أن الله أعطى لمحمد  مائة دينار ذهبي خالص، فهو تشبيه لأصحاب النبي محمد  المخلصين الذين هاجروا إلى الحبشة بالدينار الذهبي الخالص.
-ولقد كان أفضل الصحابة –مع خيرية جميع الصحابة- هم العشرة الذين بشرهم رسول الله  بالجنة واحدًا تلو الآخر في حديث واحد، وهذا يوافق: [وعشرة قلائد]، أي أن الله أعطى لهذا الرسول مامح عشرة قلائد، وهو تشبيه للصحابة العشرة المبشرة بالجنة بالقلائد وهي أفضل الحلي وأنفسها.
ولقد حارب مع رسول الله  في غزوة بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر صحابي، وكانت غزوة بدر أول حروب المسلمين، وقد ألحق المسلمين بالمشركين هزيمة نكراء في هذه الغزوة المباركة، واستُشهد من المسلمين ثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا من الصحابة وبقي ثلاثمائة يصاحبون رسول الله  وينصرونه في غزواته، ومعلوم لدى المسلمين أن أفضل صحابة رسول الله  هم الذين شهدوا بدرًا، وهذا يوافق [وثلاثمائة جواد]، أي أن الله تعالى أعطى هذا الرسول ثلاثمائة جواد –يعني فارس-.
ولقد رافق رسول الله  في غـزوة فتح مكة، بلد رسول الله  التي بها بيت الله الحرام –الكعبة المشرفة- وبذلك تم تطهير الكعبة من جميع الأصنام التي كانت عليها وحولها، وهذا يوافق: [وعشرة آلاف بقرة] أي أن الله عز وجل أعطى لهذا الرسول عشرة آلاف بقرة، والبقرة حيوان مُقدَّس عند الهندوس، ويطلق على سبيل الاستعارة والتشبيه على الرجل الصالح الحر الكريم.( )
لقد جاءت البشارات بالنبي محمد  كثيرًا في كتب الهندوس، ولمن أراد الاطلاع على مزيد منها: الرجوع إلى كتاب: "وإنك لعلى خلق عظيم" للمباركفوري.
وبذلك نكـون قد أشـرنا إلى بعض من البشـارات بالنبي محمـد ، مع التنبيه على:
يوجد غير ما ذكرنا الكثير من البشارات بالنبي محمد  في التوراة والإنجيل وكتب الأولين وفي كتب الهندوس.
ويُدلِّل ذلك كله على: أن رسالة النبي محمد  ليست كأي رسالة أخرى، ولكنها رسالة عالمية إلى البشرية كافة، خاتمة لجميع الرسالات السابقة.
فقد كان الأنبياء والرسل يبعثون إلى أقوامهم خاصة، ولكن رسول الله  بُعث إلى الخلق أجمعين، بُعث برسالته إلى الإنس والجن، لذلك كانت كل هذه البشارات بحامل هذه الرسالة الخاتمة لكل الرسالات السابقة، وخاتم الأنبياء والمرسلين، محمد .

الدلائل والبراهين على ختم النبوات والرسالات بنبوة ورسالة محمد  للناس أجمعين وأنه ليس بعده  أي نبي أو رسول آخر
لقد أرسل الله عز وجل نبيه محمد  إلى البشرية كافة، خاتماً به جميع الرسالات، مؤيِّداً له بالمعجزات والخوارق التي تشهد بنبوته ورسالته  من الله جل وعلا، والتي يعجز غير النبي عن الإتيان بمثلها.
ولقد أخبر رسول الله  بأنه خاتم الأنبياء، ومن ثم فإنه  هو خاتم الأنبياء والمرسلين، لأنه من المعلوم أن كل رسولٍ نبيٌّ، وليس كل نبيٍّ رسولا، فقد قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40].
وقال رسول الله : ((مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأتمّها إلا موضع لبنة فيها، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها ويقولون: هلا وضعت تلك اللبنة؟! فكنت أنا تلك اللبنة)) [صحيح الجامع الصغير].
ولقد أعلمنا رسول الله  أنه بُعث إلى البشر كافة، للناس أجمعين في كل مكان وزمان إلى يوم الدين، قال الله تعالي:
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158].
وقال تعالي: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28].
وقال رسول الله : ((بُعثت إلى الأحمر والأسود)) [صحيح مسلم].
أي أن رسول الله  بُعث إلى مختلف الأجناس: أي إلى الناس أجمعين.
ولقد قاتل رسول الله  اليهود وانتصر عليهم، وذهب أيضا  لقتال الروم في غزوة تبوك، فرجع مُنتصراً بعد أن تفرّق الروم وجَبُنوا عن لقائه .
وكل ذلك من أجل نشر التوحيد الحق، الذي يرتضيه الله عز وجل، من أجل إقامة دولة الإسلام.
ونودّ أن نشير إلى جانب من الدلائل والبراهين الموُجزة على ختم النبوات والرسالات بنبوة ورسالة النبي محمد  للناس أجمعين، منها:
1- إخبار رسول الله  بذلك، كما أوضحنا بالآيات الكريمات، والأحاديث النبوية الشريفة.
وبما أن قد ثبت لدينا نبوة رسول الله  بما أيّده الله عز وجل من معجزات وخوارق وشواهد، وآيات ودلائل كلها تشهد بنبوته ورسالته ، فإنه يلزمنا التصديق بكل ما أخبر به ، ومن ذلك: أنه  خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنه  مرسل إلى البشرية قاطبة، والناس أجمعين.
2- أنه من الحكمة التامة لله عز وجل أن يجعل الرسالة الخاتمة للرسالات السابقة رسالة عالمية، للخلق أجمعين، وأن يجعل النبي الخاتم للأنبياء والمرسلين نبيًّا مرسلا إلى البشرية كافة في كل مكان وزمان، وحيث إن الرسالة الخاتمة للرسالات لا بد وأن تكون محفوظة من الله عز وجل من أن تمسها أيدي البشـر بشيء من التحريف والتضييع –لأنه ليس بعدها أية رسالة سماوية أخرى- أي أنها –الرسالة الخاتمة- صالحة لكل زمان، فإنها لا بد وأن تصلح للخلق في أي موطن، وفي كل مكان.
3- البشارات الكثيرة والكثيرة بالنبي محمد  في التوراة والإنجيل وفي كتب الهندوس وغيرها من كتب الأولين:
حيث تدل على أن رسالة النبي محمد  ليست كأي رسالة أخرى، ولكنها لا بد وأن تكون رسالة عالمية –للبشر كافة- ولا بد وأن تكون رسالة خاتمة لجميع الرسالات السابقة، حيث إنها محفوظة مصونة من الله عز وجل إلى يوم الدين.
ولذلك: كان هذا القدر الكبير من البشارات برسول الله محمد ، حيث إنه ليس نبي بعده، فهو  خاتم الأنبياء والمرسلين.

4- رسالة النبي محمد  وما جاء به من معتقد سليم:
لقد أرسل الله عز وجل النبي محمد  في وقت قد اشتدت حاجة العالم كله إلى رسالته ، حين ضل الناس عن السبيل الذي يصلهم بإلههم وخالقهم جل وعلا، ويصل بعضهم ببعض، حين فسد الناس وضلوا واختلفوا وتقاطعوا.
لذلك، جاء النبي محمد  برسالة من الله تعالى تصلح العقائد الفاسدة وتداوي النفوس وتربط الناس بعضهم ببعض، وتوجههم جميعًا في وحدة منسجمة متآلفة إلى بارئهم وخالقهم.
لقد جاءت الرسالة المحمدية متضمنة العقائد الصافية التي لا يقبل الله عز وجل سواها، ولا يرتضي غيرها، والتي قد فُطِر الناس عليها وعلى قبولها من إلههم وخالقهم تبارك وتعالى.
وجاءت الرسالة المحمدية بالعبادات الهادية والمعاملات الكريمة والتشاريع القويمة القائمة على أسس من الخير والحق والفضيلة.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: 45، 46].
وقال الله تعالى: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157].
وقال الله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 151، 152].
- العقيدة الصافية السليمة التي جاء بها النبي محمد :
لقد شاءت حكمة الله عز وجل أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى لها الدعوة منذ اليوم الأول للرسالة، وأن يبدأ رسول الله  أولى خطواته في الدعوة، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله –على حقيقتها- وأن يمضي في دعوته يُعرف الناس بربهم الحق ويُعبدهم له دون سواه.
ولنتأمل في العقيدة التي جاء بها النبي محمد ، والتي كانت سببًا في رقي أهل الإسلام الذين رضوا بالإسلام دينًا، واعتنقوه وعملوا بتعاليمه، وتمسكوا بالكتاب الذي أُنزل على رسوله:
- كان رسول الله  يدعو إلى توحيد الألوهية والربوبية، يُعرِّف الناس بإلههم ويدعوهم إلى عبادته سبحانه وتعالى وحده، وإفراده بالعبودية جل شأنه.
- يُعرف الناس بربهم الذي خلقهم وأوجدهم من عدم، ورزقهم، وينفي وجود نِدّ أو شريك له جل وعلا.
- يدعو كل من أنكر وجوده سبحانه وتعالى إلى الإيمان بمُوجِد هذا الكون المحكم الصنع، يدعوهم إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
- يدعو إلى محاربة الأصنام، والتي كان العرب وغيرهم يعبدونها مع علمهم بأنها لا تنفع ولا تضر.
- يدعو إلى محاربة كل ما يُعبد من دون الله عز وجل، فالعرب وغيرهم يعبدون الحجارة، والفرس يعبدون النار، واليهود اتخذوا أحبارهم أربابًا من دون الله عز وجل، حيث يحلون لهم ما حرم الله، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيتبعونهم، والنصارى يعبدون بشرًا –المسيح- مخلوقًا يأكل ويشرب وينام، إلى غير ذلك، مما يفعله البشر الذين خلقهم الله عز وجل، ومع ذلك يعبدونه وينسبون إليه الألوهية.
- يدعو إلى عبادة الله تعالى وحده، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن أي صفة نقص أو عيب أو ذم نُسبت إليه من البشر جرَّاء اتباعهم أهواءهم وكبرهم وشهواتهم.
- فنلحظ أن البيئة التي أحاطت بالنبي  كانت تموج بافتراءات كثيرة على الخالق جل وعلا، حيث:
أ- إن العرب قد افترت على الله كذبًا باتخاذه من الملائكة إناثًا، وقالت إن الملائكة هم بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا.
ب- وافترت اليهود على الله الكذب، فمنهم من قال عزير ابن الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وقاموا –اليهود- بتحريف كتبهم وكذّبوا أنبياءهم وقتلوهم، وكذبوا عبد الله ورسوله المسيح عيسى ابن مريم، مع ما ظهر لهم من معجزة ولادته عليه السلام، وكلامه في المهد والمعجزات التي أيده الله تعالى بها بعد ذلك، وسبوه وقالوا فيه قولا قبيحًا، قاتلهم الله، ونسبوا إلى أمه السيدة مريم العذراء ما يستعف اللسان عن ذكره، فلقد نسبوا إليها الزنا، قاتلهم الله، فهي –السيدة مريم- العابدة النقية الصالحة، أيدها ربها تبارك وتعالى بمعجزة كلام ولدها المسيح عيسى ابن مريم في المهد وبمعجزاته عليه السلام بعد ذلك.
ولم يكتف اليهود بما أشرنا إليه فقط، بل إن الأنبياء والرسل الذين آمنت بهم اليهود لم يسلموا من افتراءات وقذارة وفحش ألسنتهم، فمنهم –الأنبياء- من قد نسبت إليه اليهود السُّكْر ووطئه لابنتيه، بل وولادتهما منه، ونسبت غيره إلى همّه بارتكاب الزنا والفاحشة، وغيره إلى السحر، إلى غير ذلك من افتراءاتهم وكذبهم وبهتهم.
فلقد سب اليهود إلههم ونسبوا إليه الجهل وسوء الاختيار، ولم يقدروا الله عز وجل حق قدره، حيث إنه –على زعمهم- جَهِل بحال هؤلاء الذين اختارهم لتبليغ رسالته وأساء الاختيار لما قد فعلوه، وكل ذلك نقص وعيب يتنزه الخالق عنها، فتعالى الله عن مثل ذلك علوًا كبيرًا.
جـ- وافترت النصارى على الله الكذب، فقالت فرقة منهم: بأن المسيح هو الله، وأخرى قالت: بأن المسيح هو ابن لله، وأخرى قالت: بأن الله ثالث ثلاثة الأب والابن والروح القدس، كما أشرنا سابقاُ، تعالى الله على كل ذلك علوًا كبيرًا. فلقد نسبوا إلى الله سبحانه وتعالى اتخاذه الولد، وهي صفة نقص لله جلّ في علاه، فما ينبغي لله أن يتخذ ولدًا؛ لأنه تعالى إذا كان له ولد فلابد أن يكون مشابهًا له، أي لابد وأن يكون إلهًا مثله، وقد يتخذ في أي وقت شاء ولدًا آخر أو أكثر، فيكون مشابهًا له، ويكون إلهًا مثله، إلى ما لا نهاية، وهكذا بالنسبة للابن الإله أيضًا، تعالى الله عن كل ذلك الإفك علوًا كبيرًا.
فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء كما يعرف الناس بفطرتهم، وكما تدلهم على ذلك عقولهم، ويستحيل عقلًا أن يكون هناك إلهان مستحقّان للعبادة أو أكثر من ذلك.
فكما أن الله عز وجل لم يُولد، فإنه جل شأنه لا يتخذ ولدًا، فهو القائل سبحانه وتعالى:
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا﴾ [مريم: 88- 94].
لذلك: فإن الذي جاء به رسول الله  من عقيدة وقول في المسيح ابن مريم عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله، اصطفاه الله عز وجل بالرسالة كما اصطفى غيره من الرسل، هو القول الوسط بدون إفراط أو تفريط:
بدون غلو النصاري الذين نسبوا إلى المسيح بن مريم الألوهية أو شيئًا منها على اختلاف فرقهم التي ضَلّت وأضلت، واختلفت في عقيدتها؛ حيث كان من المفترض أن تجمعهم عقيدة واحدة، ولكن أنّى لها ذلك؟! فالباطل كالظلمات – جمع ظلمة – صورة كثيرة، أما الحق فهو واحد فقط كالنور الذي يطرد الظلام، لا يختلف فيه لبيبان، ذوا عقل راجح رشيد وفطرة سليمة سوية.
وبدون جحود اليهود الذين جحدوا رسالة المسيح عيسى ابن مريم كليةًٍ وكذبوه وحاولوا صلبه وقتله، وحاولوا أن ينالوا من شرف أمه السيدة مريم العذراء، كما لوّثوا سيرة كل نبي أُرسل إليهم، إلى غير ذلك .... ، قالتهم الله.
وبوجه عام: فإن العقيدة التي جاء بها خاتم الأنبياء والرسل محمد  هي العقيدة التي مَحَى الله عز وجل بها الظلمة، هي العقيدة الصافية التي ليس بها ما هو إعنات للفكر ولا قهر للذهن ولا إرهاق للتصوّر كما هو الحال في غيرها من عقائد فاسدة.
لذلك فإن الرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتمة لجميع الرسالات السابقة، للناس كافّة في كل مكان وزمان، وليس بعد رسول الله محمد  أي نبي أو رسول آخر.
5 – [القرآن الكريم]: المعجزة الكبرى للنبي محمد ، الباقية الخالدة:
قال رسول الله : "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" [صحيح البخاري].
لقد أوضحنا فيما سبق بالأدلة القاطعة: أن القرآن الكريم الذي أُنزل على النبي محمد  هو الكتاب الوحيد الذي ظل محتفظًا بإطاره الربّاني الصالح لهداية الناس أجمعين، فلم يعتريه ما قد اعترى غيره من الكتب السابقة من التحريف والتبديل والتغيير والتضييع مما تناولته أيدى البشر.
وأوضحنا أيضًا في السابق: أنه بالإضافة إلى تَضَمّن القرآن الكريم لجانب الإعجاز البلاغي والبياني الذي تحدّى به العرب، وهم أهل اللّسْن والفصاحة والبلاغة، فإنه – القرآن الكريم – مُتضمنًا لجانب آخر من الإعجاز، وهو الإعجاز العلمي في شتى مجالات العلوم، والذي كان سببًا في إسلام العلماء الغربيين وغيرهم من الأطباء الفليبيين وغيرهم.
والذي نودّ أن نلقي عليه الضوء في هذه النقطة:
أن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى الباقية بين أيدينا الآن والمحفوظة إلى أن تنتهي الحياة الدنيا، إلى أن تقوم الساعة.
وبذلك: فإن القرآن الكريم شاهدٌ للنبي محمد  أنه خاتم الأنبياء والمرسلين.
فالقرآن الكريم هو المعجزة الكبرى الباقية المُتضمنة لتنزيه الإله الخالق جل وعلا تنـزيهًا وتعظيمًا لا يُدانيه تنزيه أو تعظيم للذات الإلهية، وللصفات والأسماء والأفعال الخاصّة به جل وعلا.
وهو – القرآن الكريم – المعجزة الكبرى الباقية المتضمنّة لوصف أنبياء الله ورسله – على تفاوت بينهم – بأعلى ما يمكن أن يتصف به البشر المُكرمون من صفات حسنة وأخلاق حميدة.
وهو – القرآن الكريم – المعجزة الباقية المتضمنّة للعبادات الهادية والمعاملات الكريمة والتشاريع القويمة القائمة على أسس الخير والحق والفضيلة.
ومن ثمّ فقد حُفظت السنة النبوية المُطهرة للنبي محمد  ، الضرورية لفهم الكتاب – القرآن الكريم – الذي أنزل عليه  ، ويشهد بذلك:
إنشاء علم الحديث، حيث يتم التحقق من عدالة رواة أحاديث رسول الله  من صدق، وأمانة، وحِفَاظ على أداء الشعائر الإسلامية، وعدم ارتكاب للمُحرَّم... إلى غير ذلك، أي – غير مُهتم في دينه - ، ويتم التحقيق أيضًا من جودة الذاكرة والقدرة على الضبط، واشتراط أن من يروي عن شخص ما أن تثبت معاصرته له، بل وقد اشترط بعضهم – كالإمام البخاري – أن يكون قد التقى به فعلًا، وهذا ما قادهم لتأسيس علمٍ كاملٍ يُسمّى (بعلم الرجال)، حيث يدرسون فيه حال كل راوية من الرواة على مرّ العصور، تاريخ ميلاده، ووفاته، وشيُوخه الذين تلقى منهم العلم، وخُلُقه، ودينه ... وهكذا.
وهذا العلم لم يُعرف قط سوى في أمة خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث إلى الناس أجمعين: محمد .
لذلك: فإنه لا حاجة لإنزال كتاب سماوي آخر جديد على نبي مُرسل أخر بعد النبي محمد  ؛ فالمعجزات الأخرى السابقة للأنبياء والرسل السابقين – قبل بعثة النبي محمد  - قد انتهى تأثيرها وقوة إقناعها بعد موت أو رفع الرسول، على عكس ما هو الحال بالنسبة للمعجزة (القرآن الكريم) الباقية، المحتفظة بكل وسائل تأثيرها وإقناعها حتى بعد وفاة النبي محمد .
فلئن سُئل اليهود والنصـارى الآن عن رؤيتهم لمعجزات أنبيائهم، ليقولن: لم نرها، ولئن سُئِلوا عن علمهم بها، ليقولن: أن آبائهم وأجدادهم وغيرهم قد أخبروا بذلك.
ولكن إذا ما سُئِل المسلمون عن رؤيتهم لمعجزات نبيهم محمد  ، الشاهدة بصدق رسالته ودعوته، ليقولن: أن المعجزة الكبرى للنبي محمد  والتي تشهد بصدق رسالته ودعوته هي بين أيدينا، نراها ونتدراسها، بالإضافة إلى المعجزات والخوارق الأخرى التي نُقلت من الثقات بالتواتر إلينا.
بل وإن كونها – المعجزة الكبرى – محفوظة من الله تبارك وتعالى لدَلاَلَة قاطعة، مرئية وعقلية على: أنه ليس بعد القرآن الكريم الذي أنزل على النبي محمد  أي كتاب سماوي آخر جديد، وليس بعد النبي محمد  أي نبي أو رسول آخر جديد.
ومما يُدَلِّل مرئيًا وعقليًا على أن القرآن الكريم – المعجزة الكبرى – سيظل باقيًا محفوظًا من الله تبارك وتعالى، ومن ثم عدم الحاجة إلى كتاب سماوي جديد.
ما نشاهده الآن من تقدم في وسائل الكتابة والطباعة من آلات حديثة، وإنشاء هيئات وإدارات ومُجمعَّات مُتخصصة في طباعة القرآن الكريم – المعجزة الكبرى – والإشراف عليه، وحفظه من أن تحاول أيدي بشرية خبيثة من أن تمسّه.
لذلك: فقد خُتمت جميع النبوات والرسالات بنبوة ورسالة النبي محمد  إلى الناس أجمعين.

6 – تطهير بيت الله العتيق (الكعبة المشرفة) من دنس الشرك والأوثان:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96].
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26].
إن أول بيت وضعه الله عز وجل في الأرض هو الذي بمكة، ليتعبد الناس له جل وعلا عبادة صافية، لا إشراك فيها، وقد كان العرب يحجّون إلى هذا البيت في كل عام.
فالبيت العتيق (الكعبة المشرفة) ذات أهمية عظيمة عند الله عز وجل، وحُرْمته حُرمْة شديدة؛ حيث إنه أول بيت وُضَِع للناس في الأرض لعبادة الله سبحانه وتعالى.
ولكن بمرور الوقت والزمن، زين الشيطان للعرب عبادة غير الله تعالى من أصنام وأحجار، وظل الأمر على ذلك الحال قرون طويلة.
ولكن كان مما قد اقتضته حكمة الله سبحانه وتعالى أن يأتي زمان يتطهّر فيه بيته الحرام – الكعبة المشرفة – من تلك الأوثان والأصنام التي كان العرب يعبدونها، فهو أول بيت وُضِع لعبادته جل وعلا في الأرض.
وقد جاءت الرسالة تلو الرسالة وحال العرب من الشرك وعبادة الأصنام كما هو، فجاءت اليهوية ومن بعدها النصرانية ولم تستطع أي منها تطهير بيت الله الحرام من الشرك والأوثان وعبادة غير الله تعالى، فلم تستطع صَرْف الناس من عبادة الأصنام والحجارة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى.
إلى أن جاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد  بالرسالة الخاتمة مُنفِّذًا لما أراده الله عز وجل، ولما اقتضته حكمته جل وعلا من تطهير بيته الحرام من الشرك والأوثان، وتصحيح تلك العقيدة الفاسدة.
لذلك كان من حكمة الله عز وجل أن يبعث محمدًا  رسولًا خاتمًا، تُختم به الرسالات السماوية، مُرسلًا إلى الناس أجمعين؛ حيث يتلوا عليهم آيات ربهم ويزكيهم ويطهرهم من الشرك والفجور، ويعلمهم كتاب ربهم، ويأمرهم بالمعرف وينهاهم عن المنكر، ويُحلّ لهم الطيبات ويُحرّم عليهم الخبائث.
وبالفعل: فقد مَنَّ الله عز وجل على رسوله محمد  بفتح مكة في العام الثامن من الهجرة، فدخل المسجد الحرام، وأقبل  إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت العتقيق وفي يده قوس، وحول البيت وعليه آنذاك 360 صنمًا، فجعل يطعنها رسول الله  بالقوس، ويقول قول الله عز وجل:
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81].
﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: 49].
وها هو بيت الله العتيق – أول بيت لله تعالى في الأرض – أمام أعيننا طاهر من الأصنام والأوثان، خالصًا لعبادة الله تعالى وحده، يتعبد الناس لإلههم وخالقهم عبادةً صافية لا إشراك فيها، عبادةً ذات معتقد سليم، عبادةً لا تحتاج إلى تصحيح أو تقويم من نبي أو رسول جديد.
لذلك فإن النبي محمد  هو الرسول الخاتم للأنبياء والمرسلين والذي أرسله ربنا تبارك وتعالى مُطهرًا لبيته العتيق من دنس الشرك والأوثان، وإلى الناس أجمعين.
وقد اكتشف حديثًا: أن مكة المكرمة تتوسط يابسة الكرة الأرضية، بمعنى: أننا إذا رسمنا دائرة مركزها مكة المكرمة، فإن هذه الدائرة تحيط باليابسة كاملة.
وأيضًا: فإن خط طول مكة المُكرمة يتوسط الزمن تمامًا، فيكون ما حول مكة المكرمة هو العالم كله في كل مكان وزمان.
وقد أشرنا في السابق إلى ما قد تم اكتشافه علميًا: من توافق عبادة الطواف للمسلمين حول الكعبة مع النظام الكوني وانسجامها معه، مما يُدَلَّل على أن الإله الخالق لهذا الكون هو سبحانه وتعالى الذي أنزل رسالته الخاتمة على النبي محمد ، خاتم الأنبياء والمرسلين.
فكان من مُقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى أن تكون مكة المُكرمة مهدًا للرسالة العالمية والخاتمة.
7 – أن من خصائص أمّة النبي محمد  أنها أمَّة مُبلّغة داعية:
قال الله تعالى:
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾[ آل عمران:110].
قال رسول الله : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) [رواه مسلم].
قال رسول الله : ((بلغوا عني ولو آية ...)) [رواه البخاري].
قال رسول الله  : ((نضَّر الله امرأ سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه، فرُبّ مُبلّغ أوعى من سامع)) [رواه الترمذي وقال حديث صحيح].
فمن خصائص أمة النبي محمد  : أنها تبلغ كلام ربها وكلام رسولها إلى غيرها، وإلى من بعدها وتدعوا إليه.
- تدعو إلى الخير، تدعوا إلى دين الله عز وجل – الإسلام – أصوله وفروعه وشرائعه.
- تأمر بالمعروف، حيث تأمر بكل ما عُرِف حُسْنه شرعَا وعقلا.
- تنهى عن المنكر؛ حيث تنهى عن ما عُرِف قبحه شرعًا وعقلا.
- فهي أمّة داعية إلى الإيمان بالله عز وجل وإلى التمسك بكل ما جاء به النبي محمد  من معتقد سليم وشرع قويم وعبادات هادية ومعاملات كريمة ...
لذلك: فإن دُعَاة أمّة النبي محمد  هم خير الناس للناس نُصحًا ومحبّة للخير ودعوة وتعليمًا وإرشادًا وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المُنكر.
فقد جعلهم الله عز وجل من أسبابه في حفظ هذا الدين العظيم، الإسلام.
ومثال ذلك: أصحاب رسول الله  ومن بعدهم التابعين ... ؛ حيث قاموا بالدعوة إلى ما دعا إليه رسول الله ، مُقتدين به، مُقتفين أَثَره، ونشروا الإسلام شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا؟
ومثال ذلك أيضًا: ما نجده اليوم من سَفَر الجماعات والجماعات الكثيرة من علماء ودعاة المسلمين من أجل الدعوة فقط إلى دين الله عز وجل – الإسلام – في مختلف البلاد، وفي شتى أقطار الأرض.
ومثال ذلك أيضًا: ما قام المسلمون به من إنشاء قنوات فضائية إسلامية متخصصة في الدعوة إلى الله عز وجل وإلى دينه الحق – الإسلام – وتبليغ الرسالة الخاتمة لنبيه محمد  باللغة العربية وغيرها من اللغات الأجنبية إلى جميع أنحاء العالم، وذلك بعد التقدم الهائل في وسائل الاتصالات السمعية والمرئية.
ومثال ذلك أيضًا: المواقع الإسلامية الحقيقية الصادقة - غير المُصطنعة من الأعداء الحاقدين على الإسلام وأهله – على شبكات الإنترنت، وتخصصها في مجال الدعوة إلى الله عز وجل وإلى دينه الحق – الإسلام – بمختلف اللغات، العربية وغيرها.
لذلك: فإنه لا حاجة إلى إرسال نبي أو رسول بعد النبي محمد  مع وجود خاصية التبليغ والدعوة بُأمته  إلى مُختلف الأجناس، وفي شتى أقطار الأرض، ومما يؤكد ما ذكرنا في النقاط السابقة:
أنه بالفعل لم يأت أي من الأنبياء أو الرسل منذ بعثة النبي محمد  ورسالته.
وإن ما أعلنه بعض المفترين الكاذبين من ادّعاء للنبوة زورًا قد باء بالخيبة والفشل، والهزيمة الساحقة العاجلة، لمثل تلك الدعوة المُفتراه ولمُدَّعيها، ومثال ذلك:
مسيلمة الكذاب، الذي كان قد ادّعى النبوة بعد بعثة النبي محمد  وانتصار دعوته.
فكان مصير ذلك الكذاب – مُسيلمة – الخزي والعار في الدنيا قبل الآخرة، فقد اقترن اسمه بصفة الكذاب، فما نذكر اسمه – مُسيلمة – إلا ونلحق به صـفته - الكذّاب –، وكان ذلك دليلا وشاهدًا على نبوة النبي محمد ، وصدق رسالته ودعوته، حيث إخباره  بأنه لا نبي بعده، وكان صدق ما أخبر به، فكان ذلك معجزة له  حيث إخباره بأمر غيـبـي، بوحي من الله سبحانه وتعالى.
- وعلى عكس الدعوة المفتراة من مسيلمة الكذاب، نجد الدعوة الصادقة للنبي محمد :
نجدها قد ظهرت، ونصرها الله عز وجل، بل ولا يكاد يُذكر اسم النبي محمد  إلا ويُلحق به الصلاة والسلام عليه من الذاكر لاسمه  ومن السامع، فيُقال:  ولِمَا ذكرنا: فإنه لا يستطيع أي مُفترٍَ كاذب، مُدعٍّ للنبوة أن يقوم بتأدية مهام النبي المُرسل من الإله الخالق جل وعلا؛ حيث إنه سرعان ما يسقط في ما يتعرض له من فتن، ويفشل فيما يقابله ويواجهه من امتحانات واختبارات، ولا تستطيع دعواه الكاذبة الباطلة أن تؤتي بأي ثمرة نافعة، لكذبه على الله تعالى في ادّعائه للنبوة، واصطناعه لها – فهي نبوة غير حقيقية – ومن ثمَّ فقدها للتأييد من الله عز وجل لها.
لذلك: فإنه لا يستيطع أن يقوم بتأدية مهام النبوة إلا نبي مُرسل من الإله الخالق جل وعلا، صادق في دعوته ورسالته، مؤيدًا من الله تبارك وتعالى.
وكما سبق فقد أشرنا إلى إمكانية تطبيق الامتحان الحاسم والذي مُحصِّلته: أن مُحمدًا  هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن رسالته إلى الناس أجمعين.
ولما ذكرنا من جانبٍ من الأدلة والبراهين نوضح ونؤكّد:
أن محمدًا  هو خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث إلى الناس أجمعين، وليس بعده  نبي أو رسول آخر.

الفرقة الناجية
لقد ظهرت فرق كثيرة مُنسِبة نفسها إلى الإسلام، وهم بعيدين كل البُعد عن منهج الإسلام وتعاليمه مُخالفين لما كان عليه رسول الله  وأصحاب الكرام.
وقد صـدق رسـول الله  فيمـا أخبر به من غيبيات أُوِحىَ إليه بها من الله سبحان وتعالى؛ حيث أخبر  بافتراق هذه الأمَّة إلى فرقٍ كما افترقت قبلها اليهود والنصارى، وجميع تلك الفرق المُفترقة – إما لفساد الفطرة والمعتقد أو اتباعًا للأهواء والشهوات – باطلة عدا من انتهجت نهج رسول الله  وأصحابه، وسارت على دربه .
لذلك: فإن مثل تلك الفرق الباطلة ليست بحُجّة على الإسلام؛ فالإسلام برئ من معتقداتهم الفاسدة وتأويلاتهم الباطلة وما يفترونه على الشرع من عبادات وأحكام ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ولا عجب في ما نُحدِّث به عنهم إذا ما علمنا:
أن إحدى تلك الفرق الضّالة قد قام بتأسيسها أحد اليهود المنتسبين للإسلام، وهو عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي قد أعلن إسلامًا نفاقًا وأبْطَن الكفر؛ حيث قام بتأسيس الشيعة – الروافض - ، إحدى تلك الفرق المارقة الضّالّة، القائمة على الاعتقاد الفاسد في الله جل وعلا والقائمة على سَبّ وقذف أزواج رسوله  الطاهرات، والقائمة على سَبّ أصحاب رسول الله  الكرام، والقائمة على الطعن في أمين السماء – جبريل عليه السلام – والطعن في القرآن الكريم، والتحريف في التشريعات والأحكام تبعًا للأهواء والشهوات، وادّعاء أئمة معصومين، افتراءً وكذبًا، قاتلهم الله.
ولقد أدرك علماء أهل السنة – العاملين بهدي وسنة النبي محمد  - خطورة مثل تلك الفرق الضالة والمبتدعة، فقاموا بالتصدي لها، والرَدّ على افتراءاتها بالنقل الصحيح والعقل الصريح؛ حيث إن الشرع الصحيح لا يُعارض العقل الصريح.
ومن الجدير بالذكر: أن نوضح المقصود بالسنة، وأهل السنة حتى يتضح لنا ما سواهما من البدع والمبتدعين الضالين.
فالسُنّة: هي ما كان عليه النبي  وأصحابه من الاعتقادات والأقوال والأعمال والأحوال.
وأهل السُنّة كمصطلح له إطلاقان: عام وخاص.
أما الإطلاق العام: فالمُراد به ما يكون في مقابل الشيعة، فتدخل بذلك جميع الطوائف المُنتسبة إلى الإسلام – عدا الشيعة – في مفهوم أهل السُنّة.
أما الإطلاق الخاص: فالمراد به ما يكون في مقابل أهل البدع والمقالات المُحْدَثة كالشيعة والخوارج والمرجئة والجهمية والمعتزلة والصوفية ونحوهم من أهل البدع، فهؤلاء يدخلون في مفهوم أهل السُنّة.
ولقد قام علماء أهل السُنّة بالتصدي لأهل البدع، وقاموا بالرد على من تكلم في ذات الله عز وجل وفي صفاته بالباطل، فقاموا بالرد على الجهمية والمعتزلة وغيرهم، ولولا ذلك لوَجَد الإلحاد وإنكار الألوهية طريقه إلى العالم الإسلامي، كما وجده إلى العالم الغربي.
فمذهب أهل السُنّة في أسماء الله عز وجل وصفاته إلى: إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له رسوله  من غير تمثيل ولا تكييف ولا تشبيه، ونفى ما نفاه عز وجل عن نفسه ونفاه عنه رسوله  نفيًا من غير إلحاد ولا تعطيل، وفقًا لقول الله تعالى:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11].
أما بالنسبة لمنهجهم – أهل السنة-:
فإن لأهل السُنّة منهج متميز يعتمد على كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه محمد ، وإجماع الأُمّة ويستدلون أيضًا بالعقل الصريح والفطرة السليمة.
وهم – أهل السنة – وقَّافون مع النص في الأمور التي لا مساع للاجتهاد فيها مثل مسائل الغيب، فلا يدخلون في ذلك بأهوائهم، ولا يتكلّفون العبارات المُموهّة، والتأويلات البعيدة.
فهذا المنهج السليم المُوافق للنقل الصحيح والعقل الصريح هو الذي بفضله استطاع أهل السُنة أن يقطعوا ألسنة المناوئين للإٍسلام وأهله من الكفار والملحدين، والزنادقة، والمبتدعة، ولم يتسلط أحد عليهم فيلزمهم بلوازم باطلة، أو يحشرهم في مضايق حرجة، كما حدث للمبتدعة بعضهم مع بعض، وبعضهم مع الملاحدة والكفار.
ولقد وضع أهل السنة بعض القواعد في هذا المنهج الذي قد اتخذوه، مثل:
أ – الالتزام باللغة العربية:
لأن القرآن الكريم إنما أُنزل بلغة العرب، فما ينبغي أن نُعطي لكلمة من كلماته أوتركيب من تركيباته معنى لا تعرفه العرب، وإلا كان تفسيرًا له بغير لغته، ولا ينبغي الاعتماد على الأذواق والأهواء في تفسير كلمات القرآن الكريم.
ب – تفسير القرآن بالقرآن:
القرآن الكريم إنما هو من عند الله عز وجل، فليس فيه اختلاف أو تناقض كما ذكرنا سابقًا، فما ينبغي تفسير القرآن تفسيرًا يجعله مُتناقض مع بعضه – الآيات مع بعضها -.
جـ - تفسير القرآن الكريم بالسنة النبوية:
فكل أقوال الرسول  وأعماله هي بمثابة البيان والتوضيح للقرآن الكريم.
فإنكار السنة النبوية – كما في بعض الفرق الضالة التي تزعم أن القرآن يُغني عن السنة – هو في حقيقته إنكار للقرآن الكريم.
د – تفسير القرآن الكريم بأقوال الصحابة:
فالصحابة هم خير القرون بشهادة رسول الله ، والخيرية تشمل العلم، والصحابة هم الذين كان ينزل القرآن بلغتهم، وكانوا يشهدون المناسبات والأحداث التي ينزل فيها الوحي وتُقال فيها – في المناسبات والأحداث – أحاديث النبي .
لذلك فإن الفرقة الناجية هي: أهل السنة؛ حيث أننا نجد أن أبرز خصـائصها هي التمسّك بما كان عليه النبي محمد  في العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات....
ونوضح أنه: إذا ادّعت أي من تلك الفرق الضالة المبتدعة – كغلاة الصوفية أو غيرها – طرقًا وأعمالًا تعبدية على غير ما كان عليه النبي محمد  وأصحابه فهو مردود عليها، غير نافع لها ولا مقبول منها من الله عز وجل، لقول النبي :
((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ عليه)) [صحيح مسلم].
بل وكأنما يُكذِّبون – تلك الفرق الضالة المبتدعة – بالقرآن الكريم، وينسبون إليه النقص لما يفترونه من أعمال وعبادات كاذبة باطلة.
لقد قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
فمن أين أتت الصوفية وغيرها من الفرق الضالة بمثل تلك الأفعال والعبادات المبتدعة بعد كمال دين الله عز وجل وتمام نعمته، والتي على غير ما كان عليه النبي محمد  وأصحابه الكرام.
بل إن تلك الفرق الضالة كأنما تتهم نبيها  بالنقص في تبليغ الشرع والرسالة، لما تدّعيه وتفتريه.
فرسول الله  لم يترك سبيلًا للخير، سبيلًا يوصل إلى رضا الله تبارك وتعالى، إلا وقد أمرنا به وحثنا عليه، ولم يترك  سبيلًا للشر إلا وقد نهانا عنه وحذرنا منه.
لذلك فإن السبيل الوحيد الذي يرتضيه ربنا تبارك وتعالى هو ما كان عليه النبي محمد  وأصحابه الكرام.

هل الدين هو العامل الرئيسي في الحروب وانتشار القتل بين الأمم والشعوب؟!
وهل هو سببًا في الركود الاقتصادي والتخلف الحضاري ؟!
للإجابة على ذلك التساؤل السابق، نوضح الحال بين الأمم والشعوب عند خضوعهم لنفوذ الله عز وجل وسلطانه، واتباعهم وتمسّكهم بالحق وبين حالهم عند غياب الدين، وذلك في إيجاز شديد.
قد يرى من هو بعيد عن الله عز وجل، غير مؤمن بوجود إله خالق، ليس له دين أو معتقد يتمسك به، أن الدين سببًا في الحروب بين الأمم والشعوب، وانتشار القتل بينهم، ومن ثمَّ الركود اقتصاديًا والتخلف حضاريًا.
ولكن تلك النظرة من ذلك المُلحِد، المنكر لوجود الله عز وجل نظرة خاطئة، نابعة من عدم العلم، والجهل بحقائق الأمور، وذلك:
إما لتغافله وتجاهله عن التَبَيَّن والتَثَبُّت من الحقائق، وعدم اتباعه للحق.
وإما لاتباعه أهواءه وشهواته مع علمه بحقائق الأمور، ومن ثمَّ جحوده للحق كليةً، لما فيه مُخالفة لكبره، ومُعارضة لأهوائه وشهواته.
فكان عليه أولًا: أن يؤمن بوجود الإله الخالق جل وعلا، وقد أشرنا إلى الكثير من الأدلة الدامغة على وجـود الله عز وجل، والتي لا يغفل عنها ذا فطرة سوية وذا عقل رشيد.
ثانيًا: أن يعلم بأن الدين عند عز وجل هو دين واحد فقط، وهو الإسلام، وإن اختلفت الشرائع السماوية، المتضمنة لأحكام فقهية مختلفة ومتغايرة، لما تقتضيه مصلحة الأمم والشعوب – حيث تغير المكان والزمان-، وفقًا لإرادة الله عز وجل وحكمته البالغة.
فالحق واحد لا يشاكله ولا يخالطه باطل، حيث إنه – الحق – يتوافق مع الفطرة السوية السليمة للإنسـان، ولا يختلف فيه لبيبان، ذوا عقل صريح وافر، رشيد راجح، وقد أشرنا إلى ذلك بإيجاز، منا سبق.
حال الأمم والشعوب عند خضوعها لنفوذ الله عز وجل وسلطانه، واتباعهم وتمسكهم بالحق:
لما قد أشرنا إليه في السابق، فإن الأصل: أن يكون الناس جميعًا على دين واحد، وهو الإسلام حيث:
يؤمنون بوحدانية الإله الخالق وعظيم صفاته وطلاقة قدرته دون أن يُنسب إليه ما يعيبه في ذاته أو يُنقص من كمال صفاته.
يؤمنون بجميع الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله تبارك وتعالى لدَعْوة خَلْقِه وهدايتهم إلى صراطه المستقيم، بعد أن ضلّوا وزغوا عنه، وذلك إذا ما بُينت لنا الدلائل والشواهد التي تدل وتشهد بنبواتهم وصدق دعوتهم ورسالاتهم، فلا ينكروا رسـالة أحدهم، ولا يفرقوا بين أحد منهم اتباعًا للأهـواء، على أن يتبعوا آخر نبي أو رسول بُعث إليهم فيما جاء به من الشريعة الإلهية.
يؤمنون بجميع الكتب السماوية المُنزّلة من الله عز وجل على أنبيائه ورسله، والتحاكم إليها، دون إنكار أو جحود أيّاَ منها، إلى غير ذلك.
وينتج من ذلك كله: خضوع جميع الأمم والشعوب لسلطان الله جل وعلا، والتحاكم إليه وتطبيق شرعه والالتزام بنهج الأنبياء والمرسلين.
ولكن ما حدث: أن تفرق الناس واختلفوا تبعًا لأهوائهم وشهواتهم، وفساد فطرتهم وعقولهم، وزاغوا عن صراط الله المستقيم، ولقد بيًّن الله عز وجل ذلك في قوله تعالى:
﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون:52، 53].
و"أمتكم" تعني: مِلّتكم، أي أن دينكم دين واحد وهو الإسلام.
و"فتقطعوا أمرهم بينهم زبرًا" تعني: أي تفرقوا في أمر دينهم أحزابًا وفرقًا مختلفة ولما اشرنا:
فإن الأصل أن يكون الناس متوحدين على ما يُرضي إلههم وخالقهم جل وعلا، غير مُختلفين ولا متفرقين، وأن يكونوا متحابين ومتسالمين غير مُتشاحنين أو مُتقاتلين.
وأن يطبقوا شرع الله عز وجل الحكيم بتعاليمه السامية، وما جاء به من معاملات كريمة رشيدة ... إلى غير ذلك.
وبذلك تنهض جميع الأمـم والشعوب اقتصاديًا لتطبيقها ما جاء به شرع الله عز وجلّ.
ونبرهن على ذلك:
بما شهد التاريخ من حل قبائل العرب وغيرها من الشعوب قبل بعثة النبي محمد  ومجيئه بالإسلام دينًا، وبعد بعثته  بكامل التوحيد لله عز وجل، والخضوع لنفوذه وسلطانه جل وعلا:
فقد كانت القبائل العربية وغيرها قبل بعثة النبي محمد  قبائل متفرقة، متقاتلة متناحرة، حيث تقوم بينهم الحروب والعداوات لأقل الأسباب وأتفهها.
ولكن بعد بعثة النبي محمد  بالإسلام دينًا، والدخول في دين الله أفواجًا، أصبحت القبائل متوحدة، مُجتمعة على كلمة التوحيد التي جاء بها النبي محمد  وهي: [لا إله إلا الله]، وأصبح أفراد القبائل وغيرهم إخوانًا متحابين، يفتدي الواحد منهم أخيه – في الإسلام – بنفسه وماله، وقد سجل التاريخ الكثير والكثير من المواقف المُشرقة لأصحاب رسول الله  في ذلك الأمر، وصدق تعالى إذ يقول:
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾[آل عمران: 103].

حال الأمم والشعوب عند غياب الدين، وعدم الاتباع للحق، وترك التمسّك به:
إن في حال غياب الدين عن الأمم والشعوب، وعدم التمسّك بالحق الذي يرتضيه الله عز وجل، نجد أنه:
تنتشر المظالم والمفاسد، اتباعًا للأهواء والشهوات، وينتشر القتل بغير حق من مُنطلق القول الفاسد بأن البقاء للأقوى.
تندثر وتُمحى الأخلاق الكريمة الحميدة، الضرورية لوجود المجتمعات البشرية، والتي لا يكون بدونها مُجتمع؛ كالصدق، والأمانة والعدل .... إلى غير ذلك، كما أشرنا سابقًا.
ينتشـر الانحطاط الخلقي من زنا وفواحش منكرة، للتوهّم بعـدم وجود الإله الخالق الذي سوف يحاسبهم على سوء معتقدهم وقبح أفعالهم.
ومن جَرّاء ما أشرنا إليه: لا يتحقق الأمن والسلام بين الأمم والشعوب، ومن ثم لا تنهض في أي من مجالات الاقتصاد، فيكون الركود الاقتصادي والتخلف الحضاري للمجتمعات في شتى جوانب الحياة.
ومثال ما أشرنا إليه:
أنه قد قامت الكثير والكثير من الحروب بين كثير من الدول بسبب الاختلافات اللونية والانتماءات العنصرية.
- فنجد أن حكومات الدول الشيوعية – المُنكرة لوجود الإله الخالق مثل الاتحاد السوفيتي والصين وغيرهما – كانت أكثر الحكومات جورًا وقهرًا وعدوانًا على حريات الناس وكرامتهم، بل لقد أذاق رؤساء مثل تلك الحكومات شعوبهم أشد ألوان العذاب وقتلوا منهم الملايين الكثيرة، إضافة إلى حروبهم ضد الشعوب الأخرى والتي ذهب ضحيتها الملايين والملايين، والتاريخ شاهد على ذلك.
- ونجد أيضًا في الحربين العالميتين الأولى والثانية قتل الآلاف والآلاف من البشر نتيجة الصراع بين الدول وبعضها البعض، إلى غير ذلك من الحروب الكثيرة، والتي نتج عنها الكوارث الشديدة والتدمير الاقتصادي والتخلف الحضاري.
وبذلك يتضح لنا جواب التساؤل السابق، وهو:
أن الدين ليس هو العامل الرئيسي في الحرب وانتشار القتل بين الأمم والشعوب، وهو ليس سببًا في الركود الاقتصادي أو التخلف الحضاري، بل إنه سببًا في الازدهار والنمو الاقتصادي والتقدم الحضاري.
ونوضح: أنه في حال كون الدين سبب في حروب ما بين طرفين أحدهما المسلمين، فإن ذلك يكون بمثابة الصراع في دار البلاء والاختبار بين الحق الذي يتمسك به المسلمون، وبين الباطل الذي ينقاد خلقه المبطلون من أصحاب الأهواء والشهوات والمعتقدات الفاسدة – كاليهود والنصاري وغيرهما كما أشرنا سابقًا-.
ويكفي: أن نعلم أن حروب المسلمين ضد أعداءهم ليسـت إلا لإعلان كلمة الحق ونشر التوحيد الكامل لله عز وجل (لا إله إلا الله)، لا لنشر الفساد والقتل، ويُدَلِّل على ذلك:
أن رسول الله  قد نهى عن قتل النساء والأطفال ومن تقدم العمر به والرهبان – الغير محاربين - ، وأنه  قد نهى عن الغدر وعن الإحراق بالنار وعن التمثيل بالقتلى وعن تشويه خلقتهم وعن تقطيع أعضائهم .... إلى غير ذلك من آداب المسلمين في حروبهم، في ضوء ما أرشدهم إليه رسول الله .
وذلك إضافة إلى جانب العفو والصفح في حال المقدرة، والتمكّن من إعلاء كلمة الحق، ونشر راية التوحيد، ومثال ذلك: غزوة رسول الله  لفتح مكة؛ حيث إن رسول الله  قد جَهّز جيشه في عشرة آلاف مقاتل من صحابته الكرام لفتح مكة المكرمة، أحب البلاد إلى الله تعالى والتي بها بيته الحرام – الكعبة المشرفة – كما أشرنا سابقًا، ثم دخل  بجيشه فاتحًا منتصرًا، وقام بتطهير الكعبة من الأصنام التي حولها وعليها، وكان عددها: 360 صنمًا.
ثم دخل  الكعبة وصلى لله سبحانه وتعالى، ثم كبّره ووحده، وقال:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ...، ثم قال :
يا معشر قريش، ما ترون أن فاعل بكم؟
قالوا خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم
فقال : فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته "لا تثريب عليكم اليوم" اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ثم أمر  بلالًا أن يصعد فيؤذن على الكعبة بعد أن جاءت وقت الصلاة، ثم بعد ذلك صلى رسول الله  صلاة الفتح أو صلاة الشكر.
فكان ذلك نموذجًا من عفو وصفح رسول الله  وجيشـه من المسلمين عن أهل مكة، وهم أهل شـرك وأوثان، مع أنهم – أهـل مكة – كانـوا قـد آذوا رسول الله  كثيرًا، وحاربوه سنينًا، وهمّوا بقتله  قبل هجرته، وقد أذقوا المسلمين من قبل – قبل الهجرة – سوء العذاب ليردّوهم عن دينهم.
وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.
وفي الوقت ذاته: نجد أن أهل الباطل – من يهود أو نصارى أو شيوعيين ملحدين أو غيرهم – يُحاربون نشرًا للقتل والإفساد في الأرض، فلا يتمسكون بأداب أو ضوابط في حروبهم، حيث يقتلون الشيخ الفاني والنساء والحوامل، ويبقرون بطونهن في صورة بشعة، ويقتلون الأطفـال والرُّضَّع، ويمثـلون بالقتلى، إلى غير ذلك من ألوان الفساد والقتل.
ومثال ذلك: حروبهم أثناء احتلالهم لبعض من البلدان والدول من أجل نهب وسرقة ثرواتها النفيسة من بترول ومعادن إلى غير ذلك، ومن أجل الاستفادة من مواقعها الجغرافية المتميزة.
ونخلص مما سبق: أن الإسلام هو الدين الحق الذي يدعوا إلى التمسّك بالقيم العليا، والأخلاق المثلى في السِلم والحرب، ومن ثم النهوض بالمجتمعات في شتى جوانب الحياة اقتصاديًا وحضاريًا – إلى غير ذلك.

لماذا جعل الله عز وجل إنسانًا في بيئةٍ مسلمة وآخر في بيئةٍ كافرة؟ وما الحكمة من ذلك؟
وهل يُعد من نشأ في بيئة كافرة مظلومًا، حيث لا إرادة له في ذلك؟
لقد أوضحنـا فيما سـبق عظيم صفات الله عز وجل وطلاقة قدرته، وأن الله سـبحانه وتعالى له الكمال المطلق في كل شـيء وقد أوضحنـا أيضًا أن صفات الله عز وجل وأسمائه تبلغ الكمال في حسنها وجمالها.
لذلك: فإنه من المؤكد في اعتقاد كل عاقل، سليم الفطرة، أن الله عز وجل هو الحكيم؛ حيث إنه سبحانه وتعالى هو المتصف بحكمة تامة حقيقية، عائدة إليه، وقائمة به كسائر صفاته، والتي من أجلها خلق عباده، فسوّى، وقّدر فهدى، وأسعد وأشقى، وأضل وهدى، ومنع وأعطى، فهو المُحكِم لخلق الأشياء على مُقتضى حكمته جل وعلا.
وحكمة الله سبحانه وتعالى تستلزم العلم الكامل الشمولي الذي لا يسبقه جهل، وتستلزم الإرادة التامّة، فيفعل جل وعلا ما يشاء، ولا يُرَدّ له قضاء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكل ذلك وفقًا لما تقتضيه حكمته سبحانه وتعالى، وتستلزم القدرة المُطلقة ... إلى غير ذلك من صفات الكمال لله سبحانه وتعالى.
ومن أسماء الله عز وجل (الحق): فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحقّ الحق وينصره، وله العدل المطلق، فلا يظلم سبحانه وتعالى أحدًا أبدًا في مثقال ذرة ولا أصغر منها.
ومن أسماء الله عز وجل (الرحمن، الرحيم): فالرحمة هي من صفات الله عز وجل، والتي تستلزم الحكمة التامة، والحلم، والرأفة، واللطف، والعفو، إلى غير ذلك من صفات الكمال لله جل وعلا.
وما نودّ أن نلقي عليه الضوء من صفات الكمال لله عز وجل في تلك الجزئية:
- الحكمة - الإرادة والمشيئة - القدرة
- العلم - العدل - الرحمة والفضل
حيث نوضّح إجابة التساؤل الأول لهذا الفصل، بالآتي:
أن الله عز وجل خلق دارًا للنعيم الأبدي (وهي الجنة)، وخلق دارًا للعذاب المقيم (وهي النار)، وذلك وفقًا لإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، فهو القائل جل شأنه:
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].
﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [سورة الحج آية: 14].
وكان من مقتضى إرادة الله عز وجل ومشيئته: أن يخلق خلقًا للجنة، حيث يُنعّمون فيها نعيمًا أبديًا غير زائل لإيمانهم وصلاحهم في الحياة الدنيا، وأيضًا يخلق خلقاُ للنّار، حيث يُعذّبون فيها عذابًا مقيمًا؛ لكفرهم وإلحادهم وإفسادهم في حياتهم الدنيا، فهو القائل جل شأنه:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج: 18].
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص: 68].
وكان من مقتضى حكمة الله عز وجل أن يُدخل المؤمنين الصالحين في الجنة برحمته وفضله تبارك وتعالى، وأن يُدخل الكافرين الملحدين، المفسدين في النار بعدله جل وعلا.
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى: أن جعل هذا مسلمًا وذلك كافرًا وآخر مُلحدًا ليبلو بعضهم ببعض؛ حيث أن الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار وامتحان.
ومثال ذلك أيضًا: الغني والفقير، القوي والضعيف، السلطان والعبد ... وهكذا ليبلوا الله عز وجل بعضهم ببعص في دار البلاء والامتحان، أي: ليمتحن بعضهم ببعض، فيظهر المصلح من المفسد، والكريم من اللئيم ... وهكذا.
ومن قبل أن يتبيّن المؤمن من الكافر، والمصلح من المفسد ... وهكذا في الحياة الدنيا، فإن الله سبحانه وتعالى على علم كامل مُسبق بمن سيكون من المؤمنين المصلحين الذين ارتضاهم لجنته ودار نعيمه تبارك وتعالى، وبمن سيكون من الكافرين المُفسدين الذي قد باءوا بسخطه جل وعلا عليهم، فجعلهم لناره ودار عذابه.
- وإرادة الله عز وجل تستلزم طلاقة القدرة، لفعل ما يشاء وما يريد وفقًا لما تقتضيه حكمته سبحانه وتعالى.
- وإرادة الله عز وجل تستلزم كمال العلم وشموليته، حيث إنه من يفعل شيئًا بغير علم لا يُقال إنه أراده، وما دام الله عز وجل هو الخالق لكل شيء، وهو الفعّال لما يُريد، فيلزم أن يكون جل وعلا عالمًا بكل شيء، وقد أثبتا ذلك كما سبق.
ومما يُدلّل عقليًا على كمال علم الله عز وجل وشموليته:
أ – أن الإله الخالق من اللازم له أن يعلم ما تحويه قلوب عباده وما تنطوي عليه من خير أو شر، من إيمان أو نفاق، من إخلاص له جل وعلا في العبادات والمعاملات وغيرها أو رياء وسمعة، ... إلى غير ذلك.
ب – أن الإله الخالق من اللازم له أن يعلم درجات خشوع عباده له جل وعلا في أوقات العبادات وغيرها، كي يعطي الثواب عليها، فيُفاضل بينهم، وهذا أمر قلبي غير مرئي.
جـ - أن الإله الخالق من اللازم له أن يعلم ما يُعدِّده عباده من النوايا الحسنة في الأعمال الصالحة بأن ينوي الإنسان في العمل الصالح الواحد الكثير من النوايا الحسنة؛ رغبة في زيادة الأجر والثواب، وزيادة في التقرب من الله عز وجل. وغير ما ذكرنا الكثير، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا.
ثم نوضح إجابة التساؤل الثاني لهذا الفصل بالآتي:
بداءة: إن الله عز وجل هو الحق، فلا يظلم عباده مثقال ذرة أو أصغر منها، والله عز وجل هو أعلم بقلوب عباده الذين خلقهم، فإن كان بقلوب عباده خيرًا يرتضيه الله سبحانه وتعالى فسيهديهم للخير والإيمان ويوفقهم للصلاح والهدى، وإن لم يكن بقلوبهم خيرًا فلن يهتدوا للإيمان وإلى ما يرتضيه الله عز وجل.

ولتوضيح ذلك:
فقد يتساءل أحدنا بعد ما مَضَى زمان النبي محمد  وزمان أصحابه الكرام، لماذا لم يجعلني الله عز وجل في زمن النبي محمد  فأؤمن به وأجاهد معه، وأنصر دينه؛ الإسلام، فأكن من السابقين الأولين الفائزين برضا الله عزّ وجلّ؟! لماذا لم أكن من أصحاب رسول الله  ؟!
للإجابة على ذلك، نُبيِّن: أن الله عز وجل اصطفى من خلقه نبيه ورسوله محمد ، خاتمًا للأنبياء والمرسلين، واصطفى له أصحابه رضوان الله عليهم الذين يليقون ويشرفون بصحبته ، فلقد اصطفى الله سبحانه وتعالى أصحاب محمد رضوان الله عليهم لمحمد .
- قال الله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [إبراهيم:11].
﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].
فأصحاب النبي محمد : هم أبَرّ هذه الأمة قلوباُ، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلّفًا، وأقومها هَدْيًا، قومًا اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه  وإقامة دينه.
وبالفعل: فلم تمض غير سنوات معدودات من بعثة النبي محمد  وإيمان أصحابه به إلا وقد انتشر هذا الدين العظيم – الإسلام – في شتى بقاع الأرض، وأصبحت راية التوحيد [لا إله إلا الله] عاليةً خفَّاقة، وتحطم تحتها ما سواها من شرك وأوثان وطواغيت، وقد انهارت أعظم إمبراطورتين وأعظم قوتين في ذلك الوقت – الفرس والروم – على أيدي المسلمين الفاتحين تحت لواء التوحيد؛ حيث كان الفرس يعبدون النار، وكان الروم يُشركون بالله تعالى، وينسبون إليه الولد ويعبدون الصليب...، إلى غير ذلك.
فأصحاب النبي محمد  هم أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين.
ثم ما يدري المُتسائل أنه إذا كان في زمن النبي محمد  سوف يكون من أصحابه الذين نصروه، وليس من أعدائه الذين حاربون وآذوه وكانوا من الهالكين؟!
لقد أرسل الله عز وجل أنبيائه ورسله بالبينات والمعجزات والدلائل القاطعة والبراهين الدامغة على نبواتهم وصدق رسالاتهم ودعوتهم:
أ – لإنذار أقوامهم من عقـاب الله عـز وجل إذا لم يؤمنوا به جل وعلا ولم يتّبعوا أنبيائه ورسله، وإذا لم يلتزموا شرعه.
ب – وليُبشروهم – يُبشروا أقوامهم- بالأجر والثواب، والنعيم والرضا من الله سبحانه وتعالى إذا هم آمنوا به جل وعلا واتبعوا أنبيائه ورسله والتزموا شرعه جل وعلا، مصداقًا لقول الله تعالى:
﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 165].
- فالله عز وجل يُقيم حجَّته على خلقه بإرسال الأنبياء والرسل إليهم؛ ليُبيّنوا لهم الحق فيتبعونه، ويُبيّنوا لهم الباطل فيتركونه ويدعونه، وذلك من فضل الله تبارك وتعالى ورحمته بعباده.
ومن ثم فلا حجّة للناس على الله عز وجل بعدم إرسال الأنبياء والمرسلين إليهم ليتبيّنوا منهم سبيل الحق والباطل، فقد قال تعالى:
﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134].
﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ [المائدة: 19].
﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15].
ومن عدل الله عز وجل: أن من لم تَبْلغُه حُجّة الله تعالى الرسالية، بإرسال الأنبياء والرسل، لا يؤاخذ ولا يعاقب منه جل وعلا إلا بعد قيامها عليه.
وعلى ذلك فإن من مات في الفترة – وقت الانقطاع من إرسال الأنبياء والرسل – والمعتوه الذي لا يعقل، والأصمّ الذي لا يسمع ما تدعو إليه الأنبياء والرسل، وأطفال المشـركين، ومن في حكم هؤلاء، أنهم يمتحنون من الله عز وجل يوم القيامة؛ فمن أطاع الله عز وجل فاز برضاه وجنّته ودار نعيمه، ومن عصاه جل وعلا استحق غضبه عليه وناره ودار عذابه.
وننوّه إلى: أن الله عز وجل على علم كامل – ليس مسبوق بجهل – واسع، مطلق مُسبق لما سوف يكون عليه خلقه من تصديق واتباع للأنبياء والرسل، أو تكذيب ومُعاداةٍ لهم.
وعلى علمٍ كامل واسع، مطلق مُسبق بما سوف يكون من طاعة أو عصيان أهل الفترة ومن حكمهم عند امتحانهم يوم القيامة.
فالله سـبحانه وتعالى يعلم مصير خَلْقه أجمعين، يعلم مَن سيئول مصيره إلى دار نعيمه [الجنة]، ومن سيئول إلى دار عذابه [النار]، وذلك من قبل أن يُخلقوا.
ولكن من حكمة الله عز وجل: أن يُرسل الأنبياء والمرسلين إلى خَلْقه، وأن يُنزّل كتبه إليهم، وأن يمتحن من له تبلغة رسالة الأنبياء والرسل، ليقيم حُجّته على الناس أجمعين، ولا يكون لهم حُجّة عليه جل وعلا، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: 149].
وعلينا أن نعلم أن الله عز وجل قد فَطَر الناس على الإيمان به جلّ وعلا وتوحيده، ومَنَحهم العقل الذي يتفكّرون به في آياته، فيستدلون بها على وجوده ووحدانيته وعظيم صفاته وطلاقة قدرته.
وعلينا أن نعلم: أنه يوجد تفريق بين جاهل تمكن من العلم ومعرفة الحق ثم أعرض عنه، وبين جاهل لم يتمكن من ذلك.
فالذي تمكّن من أن يتعلم ويعرف الحـق ثم أعـرض عنه، لا عذر له عند الله عز وجل.
وأما الجاهل الذي لم يتمكن من العلم ومعرفة الحق فهو قسمان:
أ – إما أن يكون مُريدًا للهدى، يُحِب أن يهتـدي إلى الحق ولكنه غير قادر على ذلك لعدم وجود من يرشده. فهذا حكمه حكـم من لم تبلغه دعوة الأنبياء والرسل.
ب – وإما أن يكون غير مريد للهدى، ولا يُحدِّث نفسه بغير ما هو عليه من الباطل، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، فذلك ليس كمن أراد الهدى وأراد أن يهتدي.
ونخلص مما سبق:
- أن الله عز وجل يفعل ما يشاء وما يُريد، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يخلق الجنة وأن يخلق النار، وأن من حكمته جل وعلا أن يخلق أناسًا مؤمنين صالحين يدخلون الجنة، وأناسًا كافرين فاسقين يدخلون النار.
- وأن الذي يدخل الجنة يدخلها بفضل الله تعالى ورحمته، ومن يدخل النار يدخلها بعدل الله عز وجل.
وأن الفطرة السوية للإنسان تدُلّه على الإيمان بالله تعالى ووحدانيته، والعقل الصريح لا يعارض ذلك، بل يتوافق معه تمامًا، وقد أشرنا إلى ذلك في السابق.
لقد اقتضت حكمة الله جل وعلا أن يقيم حجّته على خلقه بأن يرسل إليهم أنبياءً ورسلًا يبيّنوا لهم الحق ويدلّوهم عليه، ويبينوا لهم الباطل ويحذورنهم منه، مع إنزاله جل وعلا الكتب السماوية على أنبيائه ورسله.
- أن الله سبحانه وتعالى عليمٌ بقلوب عباده، فمن عَلِم في قلبه خيرًا وأراد به خيرًا يوفقه للخير ويهديه إلى الحق والصلاح.
ومن ليس في قلبه خير، ولم يُرد الله تعالى به خيرًا، لا يمنّ الله تعالى عليه بهدايته وتوفقيه.
- أن الناس في الحياة الدنيا مُخيّرون بين الإيمان والتكذيب، بين الطاعة والمعصية، بين الإصلاح والفساد .... ، ولم يُجبرهم الله عز وجل على الإيمان أو الكفر والتكذيب، ولم يجبرهم على الطاعة أو المعصية .... ؛ لأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان واختبار، فمن آمن بالله سبحانه وتعالى وأطاعه فقد اجتاز الامتحان ونجح في الاختبار، ومن كذّب وعصى فقد سقط في الامتحان والاختبار.
ومما ذكرنا يتبيّن لنا:
أن الله عز وجل يُدخل الكافر الفاسق ناره ودار عقابه وعذابه؛ لأنه كان مُخيّرًا بين الإيمان والكفر، وبين الطاعة والمعصية، فلم يُجبره الله تعالى على الكفر والتكذيب ولم يُجبره الله تعالى على الفسق والمعصية.
ويتبيّن أيضًا: أن الله عز وجل لم يظلم الكافر حين أوجده في بيئة كافرة؛ حيث:
1 – إن الله عز وجل جعل الكافر مُخيَّراَ بين أن يختار طريق الهداية فيؤمن بإلهه وخالق، وبوحدانيته وعظيم صفاته وطلاقة قدرته، ويتبع أنبيائه ورسله وبين أن يظل على كفره وفسوقه وعصيانه واتباعه لكبره وهواه وشهواته.
2 – إن الله عز وجل لم يحجب الحق عن الكافر، بل جعل الحق دومًا على مرئى ومسمع منه، ففطرته التي فطره الله عز وجل عليه تدُله على وجود الإله الخالق ووحدانيته؛ حيث إن كل مولود يُولد على الفِطرة، والعقل الصريح الذي منحه الله تعالى للإنسان يتوافق مع الفطرة السويّة له، ويشهدان بوجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته.
ولقد أرسل الله عز وجل إليه – الكافر – الأنبياء والمرسلين لدعوته إلى الإيمان به جل وعلا، وإلى طاعته واتّباع أنبيائه ورسله.
ولكن ذلك الكافر، والمشرك، والمُلحد آثر الباطل وفضّله على الحق اتباعًا لكبره وجحوده، وأهواءه وشهواته، مع أنه لو آمن واتّبع الحق لكان له من الأجر والثواب الضِّعف، فضلًا من الله تعالى.
فالله سبحانه وتعالى إذا لم يهد الكافر إلى الإيمان والصلاح، فذلك ليس معناه أن الله قد منع الكافر ما هو له.
فالهداية ملك لله عز وجل يختصّ بها من يشاء، فيرحم من يشاء من عباده.
فقد قال تعالى: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 35].
وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الجمعة: 4].
فالله سبحانه وتعالى أعلم بمن يقبل الهدى.
وأيضًا قد يطرأ تساؤل آخر في شأن من مات على الكفر في مُقتبل عمره، بعد بلوغه:
هل يُعَدّ ظُلمًا لمثل هؤلاء الذين ماتوا على الكفر في مُقتبل عمرهم – بعد بلوغهم -؛ لأن الله عز وجل لم يزِد ولم يُطِل في أعمارهم؛ حيث كان من الممكن أن يلحقوا بأهل الإيمان بعد توبتهم مما هم عليه من الكفرِ، وذلك في أواخر أعمارهم؟!
أولًا: نُكِّرر بإيجاز: أن الله عز وجل قد جعل الكافر مُخيّرًا بين طريق الهداية وبين أن يظلّ على كفره، ولم يُجبره ولم يُرغمه على شيء.
وأن الله عز وجل له يحجب الحق عن الكافر كما أوضحنا,
وأن الله عز وجل قد أرسل الأنبياء والرسل لدعوة الناس إليه جل وعلا، وليبيّنوا لهم سبيل الحق من غيره.
ثانيًا: قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 44].
فالله سبحانه وتعالى لا يظلم أحدًا، ولكن الناس هم الظالمين لأنفسهم، حيث كان ينبغي عليهم أن يؤمنوا بما جاءت به الأنبياء والرسل، فيعلموا أن تلك الدار التي يحيون فيها ما هي إلا دار فناء، ودار للامتحان والاختبار، ويعلموا أن حياتهم فيها ليست للعبث واللهو والترف المُحرّم أو بُعدٍ عن الدين، وعن ما جاءت به أنبياء الله ورسله.
فكان عليهم أن يُسارعوا في مرضات إلههم وخالقهم، وأن يُسارعوا في اتباع الحق وترك الباطل.
فكونهم يُعرضون عن كل ذلك ولا يأبهون به، إنما هو من ظلمهم لأنفسهم، وليس من ظلم الله عز وجل لهم.
ثالثًا: قال الله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
إن الله سبحانه وتعالى هو علام الغيوب، فيعلم ما كان وما سيكون، وهو سبحانه وتعالى له الكمال المطلق في عِلمه وفي صفاته وأفعاله.
فالله سبحانه وتعالى يعلم أن مثل هؤلاء الذين ماتوا على الكفر في مقتبل أعمارهم ليسوا بأهل لرحمته وهدايته جل وعلا.
وأن الله سبحانه وتعالى قد سبق في علمه الكامل المُطلق – الغير مسبوق بجهل – أن مثل هؤلاء الذين ماتوا على الكفر في مقتبل أعمارهم لن يؤمنوا ولن يهتدوا، حتى وإن طالت أعمارهم أضعاف أضعاف ما كانت عليه.
ومثال ذلك:
أنه قد نجد مِمن هم على الكفر أو الفسوق والعصيان كثيرًا ما يدعون إلى الحق وتَرْك ما هم عليه من باطل، ولكننا نجد: أنهم لا يُذعنون للحق ولا يستجيبون له وإن طالت أعمارهم؛ اتباعًا لأهوائهم وشهواتهم، مع علمهم بما هم عليه من باطل.
وشاهد على ذلك: أبو طالب عمّ النبي محمد  الذي كان يدافع عن النبي  ويعلم صدقه، حيث دعاه النبي  مرارًا وتكرارًا، وإلى أن حضرته الوفاة – أبو طالب- ودخل عليه النبي  فقال: أي عمّ، قُل لا إله إلا الله ، كلمة أُحاجّ لك بها عند الله، فقال بعض من كان عند أبي طالب من المشركين: يا أبا طالب ترغب عن مِلّة عبد المطلب [والد أبي طالب وجدّ النبي  ، وهو سيد مكة]!، وأخذ من كان عنده من المشركين يُكلمانه، إلى أن قال آخر شيء كلمهم به: بل على مِلّة عبد المطلب.
ومثال آخر: نجد كثيرًا ممن يُنسـبون إلى الإسلام يجحدون فريضة الصلاة، ولا يُصلون إلى أن يُرَدُّوا إلى أرذل العمر – المرحلة المتأخرة من العمر – وإلى أن يموتون على ذلك، أعاذنا الله، مع أنهم كانوا دائمًا يسمعون نداء المؤذنين للصلاة في كل وقت، ويسمعون القرآن والتكبير – الله أكبر – في الصلاة من خلال الإذاعات الحديثة القوية بالمساجد، وكثيرًا ما يُدعون إلى إقامتها وتأديتها من الدُعاة والوعّاظ.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.
لذلك فإن خلود الكافرين والملحدين في نار جهنّم، مع فترتهم القصيرة التي حيوها في دار الدنيا إنما هو من عدل الله عز وجل بهم، وعلمه تعالى بقلوبهم، وعدم إيمانهم، وعدم اتباعهم للحق حتى وإن خُلِّدوا في تلك الدنيا.
قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا﴾ [مريم: 70].
أي: أن الله عز وجل أعلم بمن يستحق دخول النار ومُقاساة حرّها.
فالله سبحانه وتعالى أعلم بقلوب عباده، وأعلم بمن يصير من المهتدين المؤمنين الصالحين إذا ما ازداد عمره وأدرك العمل فيه، فلا يظلمه الله جل وعلا، بل يهديه ويوفقه للإيمان والخير والصلاح.

حق الله عز وجل على العباد
وحق العباد على الله تبارك وتعالى
جديرٌ بنا أن نعرف حق الله عز وجل علينا بعد أن مَنَّ علينا سبحانه وتعالى بالهداية إلى الإيمان بوحدانيته، والتعّرف على عظيم صفاته وكمالها، وبعد أن مَنَّ علينا سبحانه وتعالى بالإيمان بأنبيائه ورسله والإيمان بكل ما جاءوا به، وبكل ما أخبروا عنه، وأن جعلنا من أمَّة النبي محمد  خاتم الأنبياء والمرسلين؛ حيث إنها خير أمَّة أُخرجت للناس، والتي تكفّل ربنا تبارك وتعالى بحفظ كتابها – القرآن الكريم – وحفظ سنة نبيها ، ومن ثَمَّ حفظ شريعته وحفظ دينه العظيم، الإسلام.
ويجب علينا أيضًا معرفة حق الله عز وجل علينا لنؤديه، فالمقصد من حياتنا على هذه الأرض أداء حق الله عز وجل.
ومن عظيم فضل الله تبارك وتعالى ومَنّه وكرمه: أن جعل مُقٍَابلًا لمن يؤدّي حقه جل وعلا، وجزاءً وأجرًا حسـنًا، مع أن الله عـز وجل هو الإله الخالق الذي لا يُسئل عن شيء، والبشـر هم عبـاد مخلوقين كغيرهم من المخلوقـات، ويُسئلون منه جل وعلا عن كل شيء – يوم الحساب -.
فالأصل: أن العباد ليس لهم حق على ربهم؛ لأنه لا فضل لأحد عليه جل وعلا، ولكنه الفضل والكرم من الله تبارك وتعالى على خلقه.
ولمعرفة حق الله عز وجل على عباده، وحق العبـاد على الله تعـالى، نذكر ما أخبر به النبي محمد  في حديثه الشريف، الذي رواه الإمام البخاري من حديث مُعاذ، قال رسول الله :
((يا معاذ: هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟))
قلت – قال معاذ -: الله ورسوله أعلم.
قال : ((فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولايُشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يُعذب من لا يشرك به شيئًا)) [رواه البخاري].
ونشير إلى جانبًا من حق الله تعالى على عباده، بإيجاز شديد:
أ – التوحيد:
فمن حق الله تعالى على عباده أن يُوحدّوه توحيدًا كاملًا، بأن:
- يعقتد الإنسان ويتيقن بأن الله سبحانه وتعالى هو الرب الخالق له ولكل شيء، وأنه سبحانه وتعالى هو البارئ المصوّر، القادر ، الرازق ... إلى غير ذلك من صفات الربوبية، وأن هناك أفعالًا لا يفعلها ولا يستطيع فعلها إلا الله سبحانه وتعالى.
وهذا الذي ذكرناه هو ما يُسمى بتوحيد الربوبية.
- أن يعلم الإنسان تمام العلم أن الرّب الخالق سبحانه وتعالى هو وحده المتصف بكل صفـات الكمال، وأنه سبحانه وتعالى له الصفات والأسماء الحسنى؛ فلا يُنسب إليه ما يُذمّ من الصفات أو الأسماء.
أن يعلم الإنسان تمام العلم أن الربّ الخالق سبحانه وتعالى هو الذي يستحق العبادة وحده؛ فلا يُعبَد معه غيره، وهو ما يُسمّى بتوحيد الألوهية.
ب – العبادة والطاعة:
فكما أن حق الله تعالى على عباده أن يوحّدوه ولا يُشركوا به شيئًا، فإن من حقّه جل وعلا على عباده أن يعبدوه وحده جل وعلا، وأن لا يطيعوا أحدًا سواه.
فلا يُشركوا في عبادتهم مع الله تعالى أحدًا، وأن يمتثلوا لأوامره، مجتنبين نواهيه، مُبتغين في ذلك رحمته ورِضاه تبارك وتعالى عليهم، وأن يُصرف عنهم عقابه وعذابه.
حق العباد على الله تعالى:
كما أشرنا، فإن الأصل: أن العباد ليس لهم حق على ربهم؛ لأنه ليس لأحد فضل عليه جل وعلا، ولكنّه الفضل والكرم والمِنَّة من الله تعالى على خَلْقِه.
وموجز لحق العباد على الله تعالى: هو ما أخبر به الرسول  وأشـار إليه من أن الله سـبحانه وتعالى لا يُعذّب من يوحده في الاعتقاد والعبـادة، فلا يُشرك به جل وعلا شيئًا.
بل إن الله تبارك وتعالى جعل جنته، ودار نعيمه لعباده الموحدين المؤمنين الصالحين الطائعين له جل وعلا؛ حيث يُنعمّون فيها نعيمًا أبديًا، لا زوال له بفضلٍ من الله تبارك وتعالى؛ حيث يُحْلِل (جل وعلا) عليهم رضوانه، ولا يسخط عليهم أبدًا.
ولا نجد ما يُقال في فضل الله تعالى إلا كما قال ثاني الخلفاء الراشدين المهديين، عمر بن الخطاب: كَثُر خير الله وطاب.
وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء:70].

ختـامًا
- مما سبق يتحقق لنا وجود الإله الخالق لهذا الكون، والخالق لكل شيء، ويتحقق لنا وحدانيته جل وعلا، وعظيم صفاته وأفعاله، وطلاقة قدرته، وكمال علمه وحكمته.
فلقد تضافرت الدلائل على ذلك، كما أشرنا.
- ويتحقق لنا وجوب تعظيم وتمجيد الله جل وعلا، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن كل ما يُنسب إليه من عيب أو نقص أو ذمّ، مما قد افتراه المفترون الكاذبون، سواء كانوا من اليهود أو النصاري أو غيرهم.
- ويتضح لنا: أنه لم يُعظَّم ولم يُمجَّد ولم يُنزَّه الإله الخالق جل وعلا إلا في شريعة الإسلام، التي جاء بها خير الأنام محمد 
- ومن ثَمَّ يتحقق لنا: أن الهداية ليست إلا في شريعة النبي محمد  الذي بشرت به التوراة والإنجيل وكتب الأولين، وليست إلا في الدين الذي جاء به، وهو الإسلام.
- وأن الإسلام هو دين الله عز وجل؛ فليس بعد رسالة النبي محمد  أية رسالةٍ أو نبوةٍ أخرى، ولذلك فقد تكفّل ربنا تبارك وتعالى بحفظ كتابه (القرآن الكريم) الذي أنزله على خاتم أنبيائه ورسله محمد ، ومن ثم حفظ دينه الإسلام.
- وأن النجاة كل النجاة في اتباع هذا الرسول الأمين محمد ، والالتزام بما كان عليه  وبما كان عليه أصحابه الكرام من اتباعٍ لهَدْيِه وتمسّكٍ بسنته .
وأن النجاة في اجتناب كل ما يُخالف نهج النبي  ونهج أصحابه الكرام الذين آزروه ونصروه واتبعوا النور الذي معه، ومن ثمّ اجتناب جميع تلك الفرق الباطلة المُحدثة، المُغايرة لهدى النبي محمد ، والمخالفة لما كان عليه أصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان.
- ويتضح لنا: أن التمسّك بدين الله عز وجل (الإسلام) وتعاليمه السامية، وشرعه القويم ... هو السبيل الوحيد للنهوض بمختلف المجتمعات في شتى جوانب الحياة، ومن ثم الرواج والازدهار الاقتصادي، والتقدم الحضاري، ويتضح أن الإسلام هو السبيل الوحيد للنجاة في الدنيا والآخرة.
- ومن ثم، فإنه يَتَوجَّب علينا:
أن نؤدي حق الله تعالى، الخالق لنا والخالق لكل شيء.

رسـالة
علينا أن نعلم أنه:
بعد ما تحقق لدينا وجود الله تعالى، وثبوت وحدانيته، وعظيم نعمه الكثيرة التي لا تُعَدّ ولا تُحصى، وأولها نعمة الهداية: بأن مَنّ سبحانه وتعالى علينا بنعمة التوحيد والإسلام، يستلزم علينا:
1 – مَحَبَّة الله سبحانه وتعالى:
فالله عز وجل هو الإله الذي تألهه القلوب وتألفه وتحبه، وتشتاق وتحن إليه، ولم لا!!
وهو سبحانه وتعالى الخالق لنا، بعد أن لم نكن شيئًا؛ حيث كنّا عَدَمًا، فمَنَّ علينا تبارك وتعالى بالقلب والعقل والروح والجسد ... إلى غير ذلك من نعمه تبارك وتعالى علينا، والتي لا تُعَدّ ولا تُحصى، بل إن النعمة الواحدة منه تبارك وتعالى لا تُعَدّ ولا تحصى.
وهو سبحانه وتعالى الذي مَنّ علينا بالهداية والرحمة، فهدانا إلى الإيمان به سبحانه وتعالى والإيمان بوحدانيته، وبأنبيائه ورسله، وأن جعلنا من خير أُمّة أُخرجت للناس، أُمّة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد ، وليس هذا فحسـب، بل هدانا إلى حُبّه جل وعلا وحُبّ نبيه  وحُبّ أصحابه الكرام من بعده، واتباعهم اعتقادًا وعملًا، لتمسكهم بهدي وسُنّة نبيهم .
- فالله سبحانه وتعالى قد وصف نفسه بعظيم وجميل الصفات، وسمّى نفسه بأحسن الأسماء، فله سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى.
-فالله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، حيث كتب على نفسه الرحمة، وأن رحمته تبارك وتعالى سبقت غضبه.
- وهو سبحانه وتعالى الحق، فلا يظلم أحدًا أبدًا وإن كان مثقال ذرّة أو أصغر من ذلك؛ فالله سبحانه وتعالى هو الحق ووعده حق.
- وهو سبحانه وتعالى الغفور، الودود، الكريم، المحسن، ........ إلى غير ذلك من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى التي قد اختص بها سبحانه وتعالى نفسه، لمن آمن به ووحده وأطاعه، وامتثل أوامره، مجتنبًا نواهيه.
- ومن كمال حكمته، أنه سبحانه وتعالى هو الجبّار القهار .... إلى غير ذلك من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى التي قد اختص بها سبحانه وتعالى نفسه لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، ولمن أشرك به، ولمن يعصيه ويحيد عن طاعته والامتثال لأوامره.
- وهو سبحانه وتعالى الواحد الأحد، العظيم ، القدير، العليم، الحكيم، المجيد، ... إلى غير ذلك من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى التي تدل على عظمته المُطلقة سبحانه وتعالى.
لذلك: فإنه يتوجب علينا مَحبّة الله تعالى وتنـزيهه وتمجيده وتعظيمه، فلا نُحبّ أحدًا ولا شيئًا إلا له سبحانه وتعالى وابتغاء مرضاته، ولا نكره ولا نبغض أحدًا ولا شيئًا إلا له سبحانه وتعالى خشية عقابه وأليم عذابه، فلا نُحبّ إلا ما يحبه الله تبارك وتعالى، ولا نكره إلا ما يكرهه سبحانه وتعالى.
وكذلك أيضًا: محبة النبي محمد  أكثر من أنفسنا التي بين جنبينا، حيث:
أ- إن النبي محمد  هو أحب الخلق إلى الله تعالى، فكان خير نموذج يُقتدى به في تعبده لربه تبارك وتعالى.
لذلك، فإنه يجب علينا محبة النبي محمد  أكثر من أنفسنا التي بين جنبينا؛ لأنه أحب الخلق إلى الله تعالى؛ حيث إن من محبة الله عز وجل محبة خاتم أنبيائه ورسله محمد .
ب- إن النبي محمد  قد جعله الله تبارك وتعالى سببًا في هدايتنا وهداية العباد إلى الحق المبين، إلى ما يرتضيه سبحانه وتعالى، وإخراجهم من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد.
جـ- إن النبي محمد  يحب أُمَّته، ويشتاق إلى مَن لم يَرَهُ منها -من أمته -.
ليس هذا فحسب، بل يخاف ويخشى عليها أشد ما يكون الخوف والخشية، فلم يدع سبيلا للخير يقربنا من الله عز وجل ومن رحمته ومغفرته إلا وأمرنا به وحثنا عليه، ولم يدع سبيلا للشر يبعدنا عن الله تعالى وعن رحمته ومغفرته إلا ونهانا عنه، ونفَّرنا منه.
ولم يتعجل بدعوته على قومه حين كذبوه، بل ادخرها إلى يوم القيامة (يوم الحساب) للشفاعة في أمته .
2 – تعظيم الله سبحانه وتعالى:
حيث يجب علينا تعظيم الله تعالى في قلوبنا، ومن ثم تعظيم حُرُماته وتعظيم شعائره، ومن ثم تقوى الله سبحانه وتعالى في السرّ والعلن، وطاعته والامتثال لأوامره، والاجتناب لنواهيه، فقد قال تعالى:
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج:30].
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
3 – نُصْرة الله عز وجل، ونصرة دينه:
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].
لقد مَنَّ الله تبارك وتعالى علينا بأن جعلنا مِمن آمنوا به وبوحدانيته، وبأنبيائه ورسله، ومن ثمَّ فإنه يستلزم علينا أن ننصر الله عز وجل بأن:
أ – نُحكِّم كتابه (القرآن الكريم) ونلتزم شريعته ونقتدي بسُنة نبيه .
ب – الامتثال لأوامره جل وعلا، والاجتناب لنواهيه.
جـ - حفظ حدوده جل وعلا ورعاية عهوده.
د – نصر عباده الموحدين المؤمنين في كل مكان على أعدائهم، أعداء الدين، غير آخذين في الحُسـبان لمثل تلك القوميات الجاهلية والحدود الجغرافية المصطنعة، فلا فرق بين مُسلم عربي ومسلم غير عربي، فالكل سواء في الإسلام.
هـ - نصر عباده الموحدين المؤمنين بنصحهم، والإصلاح بينهم.
قال الله تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات:10].
وإلى غير ذلك من وسائل نصرة الله عز وجل.
ويستلزم علينا أيضًا: أن ننصر دين الله عز وجل بأن:
أ – نستمسك به، وأن ندعوا إليه بشتى أساليب الدعوة التي قد أتيحت في هذا العصر:
- من طباعة لكتب الدعوة والشريعة الإسلامية والسيرة والسُنّة النبوية بمختلف اللغات، العربية والأجنبية وتوزيعها على مراكز الاستشراق، والمكتبات العامة والجامعية حول العالم.
- إنشاء مواقع على الإنترنت متخصصة في الدعوة الإسلامية باللغات المختلفة وبالأخص اللغة الإنجليزية.
- إنشاء قنوات فضائية وإذاعات ومجلات تتحدث عن الإسلام وتدعوا إليه باللغات المختلفة وبالأخص اللغة الإنجليزية.
ب – نرفع لواء العلم النافع شعارًا لنا، وأن نسعى جادّين في نشر ورفع مستوى العلم الديني لدى أفراد الأمة الإسلامية وغيرها بكافة صوره، من عقيدة وتفسير، وفقه، وسيره، وتاريخ إسلامي.
وأن نتصدّى للإعلام الغربي والصهيوني المضاد، والردّ على ما يُثيرونه من أباطيل.
وأن نتصدى لمثل تلك المواقع المصمّمة من أعداء الإسلام على شبكات الإنترنت، والتي تنسب وتلصق نفسها بالإسلام لمهاجمته، وأن نقوم بتوعية المسلمين وغيرهم بها.
جـ - ننتهج نهج سلفنا الصالح، وأن نسلك طريقهم، فهو الطريق الذي سلكه رسولنا محمد  وصحابته الكرام، وأن نجتنب تلك الفرق والطرق الضّالة والمُضلّة، المُحَدثة، والمبتدعة، والتي تظهر وتتجدّد كل يوم.
د – أن نعرف لعلماء الدين المعتمدين -المُجمع عليهم، والموثوق بهم- قدرهم وعظم شأنهم، وأن ندافع عنهم وننتصر لهم.
هـ - ندافع عن هذا الدين العظيم – الإسلام – بكل ما هو ثمين من نفس ومال وجهد ... إلى غير ذلك.
و – نحمد الله تبارك وتعالى ليل نهار على نعمه العظيمة التي امتنّ علينا بها، وأن جعلنا موحدين، مسلمين، مؤمنين ندين بخير دين، ألا وهو الإسلام، الذي جاء به خاتم الأنبياء محمد ، فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة الإيمان.
وصل اللهم وسلم وبارك على رسولنا الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين محمد ، وآته الوسيلة والفضيلة وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته.
وصل اللهم وسلم وبارك على آله وأصحابه الأخيار الأطهار وعلى من اهتدى بهديه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك