إسلامٌ ضِدَّ الإسلام

إسلامٌ ضِدَّ الإسلام

في الدِّفاع عن حرية الفن

بقلم: صلاح بو سريف  

كنتُ حريصاً على متابعة ما يجري من كلام على مسرحية " كفر ناعوم " للفنانة لطيفة أحرار، وكنتُ حريصاً، على متابعة ما دار من نقاش حولها، من خلال ما كُتِبَ في بعض الصُّحُف. ما كان يَهمُّنِي، هو طبيعة الرؤية التي كان يَصْدُرُ عنها هذا النقاش، وما صَدَر في حقّ المسرحية من أحكام أخلاقية، تتعلّق بمشهد ظهرت فيه لطيفة أحرار شبه عارية.

لم تكن إدانة المشهد تصدر عن فهم لطبيعة العمل الفنّي، باعتباره كُلاًّ، لا يقبل التجزيء. بل إنّ الذين عملوا على تضخيم المشهد، كانوا ينظرون إليه أوّلاً من زاوية أخلاقية، وكانوا في رؤيتهم هذه يحكمون ثانياً على المشهد من زاوية دينية، هي نوع من التأويل الخاص، المرتبط بفهم هؤلاء للدين باعتباره سيفاً لِجَزِّ الرِّقاب، وهُم في ذلك بقدر ما أساؤوا للفنّ، بعدم وضعه في سياقه الجمالي الذي لم يَتَعَلَّمُوه، أو لا يدخل في ثقافتهم ذات المرجعيات الأصولية، بمعناها الرجعيّ المتخلف، القائم على تأويلات بعيدة عن النص الدينيّ، أساؤوا للدين نفسه لأنهم وضعوه في مواجهة الجمال، وفي مواجهة الطبيعة نفسها.

ثمّة تمويه يحصُل في قراءة الدين، فهؤلاء الذين ينهالون علينا اليوم بهذا الفهم القاصر للدين، والبعيد عن النص في معناه الأوّل، أو كـ "نص أوَّلَ"، في فهم ما يجري، يسعون لفرض هذا الفهم علينا بما يحتمله من قيود وموانع، وبما يسعون لتكريسه من معانِيَ، لا للفن فقط بل لكل شيء في حياتنا، بوضع هذه الحياة في سياق الإكراه والقيد الذي يجعل رُؤْيَتنا تكون هي نفسها، لا أحد يقول نقيض الآخر، أو يختلف عنه، بل علينا أن نتشابه، كما يتشابَه البَقَرُ.

هذا التمويه النَّصَّي، أو التطرف في رؤية الأشياء، هو أحد أسباب ما نحن عليه اليوم من تراجع في كلّ شيء. ليس الدين حجاباً أو عقاباً، فالدين كان دائماً اعتقاداً يقوم على مبدأ التسامح والاختلاف؛ "لَكُم دينُكُم وَلِيَ دين". ولم يكن فهماً واحداً للأشياء، أو تَشْييئاً للإنسان بتحويله إلى آلة لتنفيذ الأوامر والأحكام، أو بالاستجابة دون تفكير، أو إعمال للفكر والعقل، فلو كان ما يريده هؤلاء هو تنفيذ ما في النص، لقٌلْنا لا بأس، فهذا أمر له صلة بالنص، فما يريده هؤلاء، يأتي من خارج النص، كما حدث في حكمهم على مشهد المسرحية، باعتبار الحُكم جاء من خارج العمل، ومن خارج النص، ومن خارج الفهم الجمالي للعمل الفني، وما يتميز به من خصوصيات، لا يمكنها أن تكون ذات صلة بهذا النوع من القراءات، أو التأويلات العمياء، التي تنتقي ما تحكم عليه بالمُرُوق والفساد، استجابة لِمَا في نفوسهم من مرض.

تحاول مثل هذه الصَّرَخات التي يطلقها هؤلاء، أن تَبُثَّ الذُّعْرَ في النفوس، وتجعل من فَهْمِهم القاصر والفاسد للدين وسيلة لفرض تأويلاتهم على كل مجالات المعرفة والثقافة والفن، هذه الأراضي التي اعْتَبَرُوها دائما مصدر إزْعَاج لهم، ما سيجعل من هجوماتهم المتتالية على الكُتَّاب والمفكرين والفنانين، نوعاً من اختبار تأويلاتهم في مواجهة معرفةٍ كانت، في رؤيتها وفي قراءتها للماضي وحتى للنص الديني، تستند إلى ما يجري من معطيات في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية، بما فيها ما صَدَرَ عن الغَيْب.

ألم ينزعجوا حين أقدم الراحل محمد عابد الجابري، وقبله الراحل محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم من المفكرين، على اقتحام أراضيهم وخلخلة مفاهيمهم ومنظوراتهم الراسخة التي لا تقبل التبديل أو الشك، بقراءتهم للنص القرآني وفق منظورات حديثة، لا علاقة لها بما به أَلِفُوا فهم القرآن وتأويل آياته؟

فما صدر من ردود فعل بالتكفير أو باستباحة الدِّماء وتبرير القتل وإزهاق أرواح الكُتَّاب، وغيرهم ممّن لهم رأي مخالف لرأيهم، هو انعكاس لطبيعة فساد تأويلاتهم التي كانت دائماً إساءة للدين قبل أن تكون إساءة لغيره.

فهذا الإسلام الذي يبتدعه هؤلاء، هو بتعبير إدوارد سعيد "إسلام ضدّ ثقافي"، وأُضِيفُ، في ما يخص ما جرى بصدد مشهد مسرحية "كفر ناعوم"، هو إسلام ضدّ الفنّ وضدّ الجمال، وضدّ قيم التسامُح واختلاف الرُّؤَى والمواقف، وهو بهذا المعنى إسلام لا صلة له بالإسلام، وبالتالي، فهو لن يكون إلا إسلاما ضدّ الإسلام نفسه، بما يُقَدِّمُه عن الإسلام نفسه من صورة لا علاقة لها بالإسلام كما جاء أو كما هو في مصادره الأساسية.

أليس ما نحن فيه، اليوم، من تَرَدٍّ شامل، في كلّ شيء، سوى انعكاس لهذا النوع من التأويلات القاتلة، التي لا تفتأ تنظر إلى نفسها باعتبارها حقيقةً مُطلقة، وأنها مصدر المعرفة بالغيب أو المجهول، ناهيك عن المعلوم؟

يرى إدوارد سعيد، في كتابه "تغطية الإسلام"، أن أيّ حديث عن الإسلام، ينبغي أن نبدأ فيه، أولاً، بتحديد "الصورة" التي نقصدها بالإسلام، "إنّ مصطلحيْ "الإسلام" و"الإسلامي" لا بدّ لمن يستعملهما أن يحدد بطريقة ما أي صورة للإسلام يقصدها (بل وأيّ فئة من فئاته) …".

اختلط الأمر علينا فأصبح الإسلام، في تأويلاته طبعاً، نوعاً من المساومة على القِيَم وعلى السلوكات، وأصبح عصاً في يد الكثيرين لتصفيات الحسابات مع من يرونهم "مارقين"، أو ممّن يسيئون للدين، ويخرجون به عن تأويلاتهم.

لِمَ غَضَّ هؤلاء أبصارَهُم عن معنى هذا المشهد، أعني عن هذا "العراء" الذي اختارت لطيفة أحرار أن يكون ضمن عملها، وفي هذه اللحظة بالذات، من المسرحية؟ ولِمَ رَهَنُوا العمل بكامله بهذا المشهد، بالنظر إلى ما تركه في نفوسهم من خُدوش، كما يدّعون؟ ولِمَ لا ينظرون إلى العراء، باعتباره لحظة تشي بهذا العراء الذي نعيشه في كل شيء؛ خصوصاً في مثل ما صَدَرَ عنه موقف هؤلاء أنفسهم من عمل، لا دخل للدين فيه، كما لا دخل فيه للأخلاق. لو تذكَّر هؤلاء ما قاله الأصمعي (122 ـ 216 هـ)، بصدد الشِّعر، حين اعتبر الكذب من صفاتِه، وهو يقصد ما يبتدعه الشاعر من حالات ومواقف، وما يُقْدِم عليه من خيالاتٍ، لَمَا نعتوا العمل بما نعتوه، ولما أجَّجُوا كل هذه الكلام الذي حاولوا من ورائه بَسْطَ أيديهم على هذه المساحة المتبقية من الضوء التي بها نرى ظلامَهُم.

ليس الجسد، وفق رؤيتنا، عورةً، كما تصوّره هؤلاء، فالجسد هو اليد والعين واللسان، وهو كل الجوارح التي تتصادى فيما بينها لتمنحنا صورة إنسانٍ يُحِسّ ويرى ويفكّر، وليس إنساناً تابعاً بلا إحساس وبلا تفكير، أو خضعاً لإرادة غيره، ولا إرادة له، أو هو إنسانٌ آلَةٌ، بتعبير الفارابي، الذي يرى أنّ كلّ موجود بغيره هو آلة.

تسوق منى فياض في كتابها "فخّ الجسد، تجليات نزوات وأسرار" رأي شيلدر حول الجسد باعتباره وَحْدَةً، فهو يرى أنّ صورة الجسد الإنساني هي صورة جسدنا الخاص التي نشكلها في فكرنا، أي صورة جسدنا كما تظهر لنا. لدينا الأحاسيس ويمكننا رؤية بعض الأجزاء من مساحة جسمنا، لدينا انطباعات على المستوى الَّلمْسِي tactiles ونشعر بالحرارة والألم؛ وأحاسيس أخرى تتأتى عن العضلات ومشاداتها والأعصاب التي تغذيها لتعلمنا عن التواءات العضل وأحاسيس أخرى تأتي من الأحشاء.

فإذا كانت صورة الجسد بهذا التصادي، وبهذه الوحدة التي تجعله تعبيراً عن أحاسيس، وما نشعر به من آلام وغيرها، مما يصدر عن هذا الكُلّ، ففي العمل الكوريغرافي، أو في لحظة التعبير الجسدي، يصير الجسد كلاماً أو لغة تضيف إلى اللغة ما لا تقوى على قوله، أو ما تعجز عن التعبير عنه، كما يحدث في الموسيقى، وفي الرسم التجريدي. ليس الجسد، وخصوصاً جسد المرأة مجرّد عورة، فهو تعبير عن وحدةٍ فيها تتكامل النفس مع المادة، ويتفاعلان لتوليد طاقةِ الإنسان، أعني قدرته على التعبير عن الفرح، كما يعبّر عن الرفض أو القبول، كما يمكن للجسد أن يصير شهوة، وهي على أيّ لا تحدث دون وجود طرفين.

لِنُوَسِّع من مساحة فكرنا أكثر، ونترك الدين يسير على قدميه، بدل أن نقلبه على رأسه، فتصبح الحقيقة، ليست هي ما يحدث ويجري حولنا، بل فقط، ما نريده أن يكون، أي ما نَتأَوَّلُه، وهذا ما يفضي بنا إلى مضاعفة العَماء والسَّدِيم، وتأجيل الحقيقة إلى أمَدٍ غير معلومٍ.

المصدر: http://www.alawan.org/%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8C-%D8%B6%D9%90%D8%AF%D9%91%D9%8E.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك