مصر من الوثنية إلى التوحيد

قَسَمُ المؤلف
حرصاً مني على سلامة العلاقة بيني وبين قارئي، مع غض النظر عن معتقده، ونظراً لما قد يسببه موضوع الكتاب من إزعاج لبعض المتعصبين والمتطرفين؛ ولأن الكتاب يعالج أكاذيب وضلالات احتلت مكانة عالية بلغت موقع الاعتقاد؛ فقد ألزمت نفسي بهذا القسم ، وهو تقليد غير مسبوق، ترسيخاً لمبدأ احترام الآخر.
كما أقسم بالله العظيم، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي أعبده ولا أشرك به أحداً، أن تأليفي وإصداري لهذا الكتاب، لا أبتغي به غير وجه الله تعالى، ثم صالح مجموع الأمة من مسلمين ونصارى وشيوعيين وغيرهم، حرصت فيه قدر الاستطاعة، التزام المنهج العلمي، والانضباط الشرعي؛ من صدق قول، وأمانة نقل، وموضوعية طرح، وأدب خطاب، ونبذ عصبية، وإخلاص نية لله، وإن وردت عبارة فيها شبهة من الميل أو التحامل، فأرجو أن يتأكد القارئ أنها ليست من عندي، و له أن يراجع مصدرها العلمي.
كما أقسم بالله العظيم، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي أعبده ولا أشرك به أحداً، أن كل ما ورد من معلومات ونصوص، هي منقولة عن المصادر العلمية والأدبية التي التزمت الإشارة إليها في الهوامش، وغالبها الأعم هو من المصادر الكنسية، وإنني أبداً ما استخدمت المنهج الانتقائي كوسيلة لتحقيق أهداف أولية، إنما كانت الغاية هي البحث العلمي، في موضوع علمي، يتفق أولاً وحاجة المكتبة العربية، وثانياً؛ لتحرير بعض المفاهيم الثقافية المغلوطة عند كثير من المسلمين والمسيحيين، حتى أصبحت ثوابتاً في مفاهيمنا الكلية، أو معتقداتنا الجزئية المخزونة في صدورنا كما لو كانت هي الحق، وما هي بحق. وباب الحوار مفتوح، وليس من كامل الصدق، تام الحقيقة؛ غير كتاب الله.
أبو إسلام أحمد عبد الله


سقوط الصليب في مصر

قراءة في كتاب ملاك لوقا(*)

في هذا الفصل صورة إجمالية للقرون الستة الأولى من دعوة المسيح عليه السلام في مصر، توضح قدر المعاناة والظلم والاضطهاد الذي مارسه الاحتلال الروماني، بعدما أصبح صليبياً فجأة، ضد أجدادنا المصريين، الذين تحولوا إلى النصرانية المعجونة بالوثنيتين الرومانية والفرعونية، فلما أراد بعض رجال الكنيسة أن يحرروها من وثنيتها، أبى ورفض كبار الكنيسة المصرية فكانوا ضحايا أنفسهم من ناحية، ثم كانوا ضحايا نصرانية روما الرافضة لنصرانيتهم من ناحية أخرى، فشاء الله لهم أن يعيشوا العمر كله في ظل هذا العذاب بما كسبت أيديهم، وقد عاهدت الله أن تكون كل مصادري المعرفية، هي نماذجاً من كتابات الكنيسة المصرية وأعلامها المعتمدين، بادئاً بأحداثها من حيث قرب الزمان، وعلى الله قصد السبيل.
أبو إسلام

1- من وثنية الصلب إلى وحدانية الرب.
2- عندما تكتلت مصر الأرثوذكسية.

من وثنية الصلب إلى وحدانية الرب
يقول ملاك لوقا: كان خليقا بمصر أن تكون أسعد بلدان الأرض قاطبة .... لكن يبدو أن المصريين لم ينعموا بالحرية يوماً واحداً في تاريخهم كله.
[ تلك خلاصة الفقرة الأولى، نقلتها نصاً كما أوردها لوقا عن تاريخ مصر قبل الفتح الإسلامي بقرون ستة، ثم استطرد قائلاً].
لم تكن روما في ذلك الحين تُعِد مصر ولاية تابعة لها، بل كانت تعدها من أملاك الإمبراطورية نفسها، كمورد للحبوب، فانتزعت من الكهنة مساحات واسعة من الأرض وجعلتها ضياعا واسعة من الأرض وجعلت ضياعاً واسعة يعمل فيها الفلاحون بلا رحمة( ) وكان سكان الإسكندرية ومصر خليطاً من:
ـ المصريين
ـ والأحباش ومعهم أجناس أفريقية عديدة
ـ والعرب ومعهم أجناس عربية عديدة
ـ والفينيقيين والهكسوس ومعهم أجناس شامية عديدة
ـ والفرس ومعهم أجناس كلدانية وبابلية وآشورية عديدة
ـ والليبيين
ـ واليونان يقودهم الإسكندر المقدوني وأجناس أوربية عديدة ثم الرومان( ).
[وتلك هي مكونات الشعب المصري الحقيقية، جميعا أصبحوا من نسيج المصريين لحماً ودماً حتى يومنا هذا].
مرقس أول البطارقة
ومما لا ريب فيه، أن التاريخ لتأسيس كنيسة الإسكندرية يبدأ مع مرقس، [الذي لم يتيقن أحدُُ حتى يومنا هذا من تاريخ ميلاده( )، ولا اسم البلد التي ولد فيها، فيعتقد بعض أنه ولد في ليبيا قبل هجرة والديه من بلاد المغرب، ويعتقد بعض أنه ولد بأورشليم( )، كما يفتقد التاريخ إلى تحديد زمن مجيئه إلى مصر.
ورغم ذلك لم يتورع المؤلف ملاك لوقا، مثله مثل كل مؤرخي الكنيسة، أن يقول وبجرأة غريبة:] أما عُمر مرقس منذ ميلاده إلى حين شهادته [موته]، تبلغ 89 سنة و 5 أشهر [هكذا تحديداً جازماً]، ثم [وبناءً على هذا العمر الوهمي الذي اختير بعناية]، يقول المؤرخ، [ويا حسرة على العلم وأهله]: وعلى هذا يكون سن مرقس وقت ميلاد المسيح 21 سنة، وأن مدة إقامته على الكرسي السكندري [هكذا جعلوا للإسكندرية كرسياً وبطريركية] هي سبع سنين وثمانية أشهر ويوم واحد( )، [وهكذا يتجسد الدجل التاريخي الذي تتعمده الكنيسة، حيث لا تجد توثيقاً لكتابها الذي تقدسه، ثم تجد توثيقاً دقيقاً لما لا حقيقة له ولا سند]
والغريب في هذا القول المتبجح، أن أوثق الكتب عند النصارى( ) - وهي عندي غير ثقة - تقول أن النصارى لم يعرفوا كتاباً من تلك التي تدعى أناجيلاً، قبل كتاب مرقس، وأن كتاب متى هو الذي تلاه في الظهور، ثم جاء بعد ذلك كتاب لوقا، ثم بعد ذلك بربع قرن من الزمان ظهر كتاب يوحنا.
ونسأل: فكيف تكون أعمال الرسل، وكتاب لوقا، قد بلغا إلى أحد النصارى في مصر، قبل أن يوجدا أصلاً، وقبل أن يأتي مرقس بكتابه ؟
وعودة إلى تأريخ ملاك لوقا، الذي أوغل في التدليس والخيال، يقول (ص 38 في السطر العاشر) "وقد دخل مرقس البشير من باب المدينة الشرقية حيث كانت المسلة قائمة".
ثم يقول (ص 40 في السطر الخامس): "وقد دخل مرقس البشير من باب المدينة الشرقية حيث المسلتان موجودتان".
وللقارئ الذكي أن يختار النص الذي يروق له بين النصين، إذ القصد منهما، أن مرقس أتى إلى مصر وهي وثنية تعبد المسلات، وأنه هو الذي حررها من عبودية المسلات وأنعم عليها بعبودية الصليب والسجود لأصنام مرقس ومن تبعه من تلاميذ يسوع الرب.
أول بطريرك لمصر (اسكافي)
ويستطرد المؤلف قائلا: "إن مرقس لما اقترب من الإسكندرية، رأى حذاءه قد تهرأ من طول المسير، فمال إلى إسكافي (رجل يصلح الأحذية) اسمه "أنيانوس" ليصلحه له، فإذا بالإسكافي وهو قائم بإصلاح الحذاء دخل المخراز في إصبعه فأدماها ، فصاح قائلاً قولاً اختلف فيه المؤرخون"( ).
فالبعض قال إنه صرخ قائلاً: قدوس الله، والبعض قال: يا الله الواحد، أو يا إلهنا الواحد.
ويستطرد المؤلف المؤرخ: فَحَوَّل مرقس وجهه إلى الشرق [وكان المسيح عليه السلام يحول وجهه إلى القدس] وصَلّى بحرارة، ثم أخذ طيناً( ). وتفل [نفث] فيه، ووضعه موضع ثقب المخراز، وقال: "باسم الآب والابن والروح القدس"( ).
فاستجاب الله وأبرأ جرح الإسكافي في الحال.
والمهم، أن أنيانوس الإسكافي، قد آمن بأن مُرقساً هو بشير يسوع، وأن يسوع هو بشير الرب أو هو الرب نفسه، وبهذا يكون بحسب تعبير المؤلف: "قد امتلأ من النعمة الإلهية"( ).
وآمن معه أهل بيته، ثم معارفه، فجمعهم مرقس جميعا وعمَّدهم وباركهم( ) [رغم أن بدعة التعميد لم يكن أحدُُ قد عرفها]
وليكون أساس بنيان الكرسي الإسكندري ثابتا إلى الأبد فَرُسِّمَ"( ).
أنيانوس الإسكافي أسقفاً"( ).
وهكذا جعل مرقس نفسه في مرتبة أول بطريرك في مصر، وجعل من الإسكافي نائباً له في رتبة أول (بابا) تم تعيينه في تاريخ النصرانية في مصر، ولا ندري أساساً تاريخياً له مرجعية علمية ، تقول أن المسيح عرف شيئاً اسمه "بابا"، ولا عرف شيئاً اسمه "البطريك"، إنما هي إرادة مؤرخي الكنيسة التي زادت على الأساقفة، أن مرقس منح وظيفة "قس" لثلاثة آخرين، ومنح وظيفة "شَّماس" لسبعة ليكتمل الشكل القانوني لما يسمى بـ"الكرسي الرسولي"( ).
وغادر مرقس مصرا عام (65ص) وهو مطمئن عليها، ليعود إليها بعد عامين اثنين فقط فوجد الإسكندرية"، وقد رفع فيها لواء المسيحية، وانتكس علم الوثنية"( ) هكذا ببساطة شديدة، في عامين اثنين، استطاع الإسكافي أن يفعل المعجزة ويحقق ما لم يحققه المسيح نفسه عليه السلام .

المصريون يمزقون لحم مرقس
ثم ينسى المؤلف المؤرخ ما قاله في السطر الخامس عن انتكاسة علم الوثنية في الإسكندرية، ويقول في السطر التاسع إنه بينما كان مرقس يصلي في الكنيسة – برغم أن المسيح عليه السلام لم يكن له كنيسة، ولم يكن لنفسه كنيسة، ولم يأمر ببناء كنيسة، ولم تَرَ عينه طوال حياته كنيسة – فالمهم أن الوثنيين وثبوا من شدة غضبهم وقبضوا عليه ووضعوا حبلاً في عنقه، وأخذوا يجرونه في ساحات المدينة حتى تمزق لحمه ونزف على الأرض دمه، كل هذا ولواء المسيحية مرفوع وعلم الوثنية منتكس.
ويا لفجيعة معاني الرفع والانتكاس، التي انتهت بموت مرقس من العام 68ص، مقتولاً من الوثنيين من أهل مصر، الذين رفضوا دعوة هذا الغريب الآتي لهم من مكان غير معلوم ، ليفسد عليهم دينهم، ويضع الفتنة بينهم .
وعلى الفور يترقى أنيانوس الإسكافي من رتبة أسقف (كبير قسس)، الرتبة بطرك ، ليشغل الموقع الوظيفي لمرقس، ويبقى على كرسي البطريركية [بحسب تعبيرهم] حتى عام 84ص"( ).
ثم تولى البطركة الثالثة بعد مرقس (الأول)، والإسكافي (الثاني)، ميليوس الذي مات عام 96ص، ليحل محله كرذونوس، الذي ألقي القبض عليه بسبب إثارة الفتنة ومحاولة قلب نظام الحكم بالدعوة إلى دين غير دين البلاد، وإله غير إله الشعب، وممارسة ذلك بأسلوب انقلابي في خفاء عن النظام الحاكم ، فكان جزاؤه القتل عام 106ص، فلم يتول أحد منصبه وظل شاغراً لمدة ثلاث سنوات بسبب عاصفة الاضطهاد"( )، وإلى هنا يصمت التاريخ الكنسي عن أي حدث أو خبر حول القرن الأول من تاريخ النصرانية في مصر .


تقرير عن الحالة السياسية والاجتماعية في نهاية القرن الأول
كان أباطرة الرومان يدعمون حكمهم في مصر بكل الوسائل، وكان والي مصر يُعَيِّنه الإمبراطور نفسه.
كان العدد الأكبر من الموظفين يتم تعيينه من اليونانيين والمصريين الذين تحولوا إلى الإغريقية، وكانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية للإرادة.
وكان الرومان يهتمون أساساً بمصر باعتبارها مصدراً للمواد الغذائية، وساروا في جمع الضرائب على نظام بطليموس واشتدوا في تطبيقه، فزادوا الضريبة على الزراعة وعلى رؤوس البالغين من المواطنين المصريين (حتى لو حصلوا على المواطنة الرومانية، وتحول عمل المصريين) الإداري إلى خدمة مدنية إجبارية [أي بدون أجر مثل الخدمة العسكرية].
أما الموارد التي يتم جمعها ، فكانت تُحَوّل بانتظام إلى روما، فزاد حجم الكوارث التي نجمت عن نظام الضرائب المدمر الذي فرضوه ، بعد ما أدت بطريقة حتمية إلى الإفقار المستمر لشعب مصر.
كما فرض الرومان ضريبة إجمالية على كل قرية، وأصبح سكان القرية جميعاً مسئولين بصورة جماعية عن زراعة الأرض المهجورة ودفع الضرائب( ).
ولقد زار الإمبراطور الروماني أدريانوس، مدينة الإسكندرية، وأخذ يتجول في مناطقها، وشاهد نمو النصرانية فيها [ولم يوضح لنا المؤلف المؤرخ وسيلة المشاهدة]، لذا لم يتورع في اضطهاد نصارى مصر وإبادة عدد كبير منهم، حتى أن ظنه الخائب، قاده إلى الاقتناع باقتلاع النصرانية من مدينة الإسكندرية ...... إذ كان ينظر إلى النصرانية كخرافة سخيفة( ).
وتشاء الظروف [بحسب تعبير المؤلف وهو قدر الله] أن الكوارث تعاقبت على دولة روما، متمثلةً في فيضان نهر تيبر المدمر، وانتشار وباء الطاعون من إثيوبيا إلى فرنسا، إضافة إلى الزلازل المتعاقبة ، فربط رجال حكومته بين الكوارث وبين غضب الآلهة من النصارى، أعداء هذه الآلهة، فكانت الثورة عارمة ضد النصارى، وقتل منهم عدد كبير( ).
وكان من بين القتلى، الفتاة بوتا مينا، التي أحرقت بالنار مع أمها مرسيلا، إذ كان الزفت المغلي يصب قليلاً قليلاً فوق أجزاء مختلفة من جسمها( )، وقيل أن كثيرين من الإسكندرية تنصروا بسرعة في تلك الأيام، لأن بوتا مينا كانت تظهر لهم في أحلامهم وتقدم لهم النصائح اللازمة لهم( ).
القرن الثاني
فإذا ما انتقلنا إلى القرن الثاني ، فنقرأ أول عبارة للمؤلف المؤرخ يقول فيها: "في مطلع هذا القرن كانت الكنيسة لا تزال شبه سرية، وكان النصارى هم الأقلية .....كانوا معروفين ولكنهم محتقرون [هكذا نصاً]، ولهذا كانوا من أوائل الناس الذين يلقى بهم للوحوش المفترسة، أو النيران الملتهبة، لكي يتسلى الجمهور بمنظرهم في أيام الأعياد العامة إرضاء للجمهور"( ).
بعنقود عنب أصبح الفلاح الجاهل بطريركاً
وإذا كانت أسقفية ثم بطركة أنيانوس كان ثمنها إصلاح حذاء البطريرك مرقس، فإن تأريخ ملاك لوقا، وقد قفز فجأة إلى البطريرك الثاني عشر، ليكشف لنا أنه هو الآخر قد حصل على البطريركية بثمن أقل كثيراً من إصلاح حذاء مرقس، فيقول: "لقد كانت مفاجأة لبعض أفراد الشعب الذين كانوا يجالسون الأنبا يوليانوس البطريرك الحادي عشر وقد داهمه المرض، عندما جاءه ديمتريوس الكرَّام [الفلاح الذي يزرع العنب] ومعه عنقود من العنب، هو باكورة زراعته، وحا لما رآه البطريرك المريض، فقال للمحيطين به: هذا هو البابا الذي سيكون بعدي ، فقد رأيت في رؤيا الليل ملاكاً جاء ليقول لي البارحة: إن الذي سيأتيك غداً بعنقود عنب، سيخلفك"
وهكذا تتجاوز الرؤيا كل من كان حول البطريرك من تلاميذ من أساقفة وقسس وكهنة وشماسين، وتمنح أعلى منصب في الديانة الوليدة، إلى الكرَّام الذي جاء للبطريرك بعنقود عنب، ولا شك أنه كان من أهل الإسكندرية، وأن حقل عنبه لم يكن في روما، أو في بلد بعيد( )، ولتلبيس الحدث الأسطوري ثوب الصدق والقبول، كان حتما أن تُنسج له قصة ، خلاصتها أن ديمتريوس نشأ مزارعا وسط الكروم مثل أبيه، وعندما أصبح شاباً، زوَّجه أبوه رغماً عنه، دون أن توضح المصادر سبب هذا الإرغام، ولكنه قطع عهداً مع زوجته، أن يحتفظ كل منهما ببتوليته، وفي الحال وافقت زوجته، لذلك فبرغم زواجه، تمت رئاسته للكنيسة طبقا لوصية البطريرك السابق( ).
وأدرك التاريخ الكنسي أن العقل كان عسيراً عليه أن يتقبل هذه القصة بهذه الصورة الساذجة، فأكدها بحلقة أخرى من المسلسل، فقال ملاك لوقا أن بعض النصارى احتجوا على بطركة ديمتريوس، ليس لأنه لا علاقة له بالكهنوت فقط، ولا بالنصرانية وأسرارها من قبل، إنما لأنه متزوج ، ويفضح كذب هذا الكلام أن شرط عدم الزواج لم يكن قد فُرِض حتى الآن على من يتولى رئاسة الكنيسة ، ولم يكن هناك رهبنة بعد ، ليمتنع أحد عن الزواج.
واستطرد ملاك لوقا قائلاً: "لكن العناية الإلهية أرادت أن تتصدى لهذه الشوشرة، فظهر ملاك الرب لديمتريوس في حلم ذات ليلة، وأرشده عن كيفية درء هذه الشوشرة –بحسب تعبير المؤلف– ففي صباح اليوم التالي، وكان يوم الأحد، طلب الأنبا ديمتريوس من المصلين أن يظلوا في أماكنهم بعد انتهاء الصلاة .
وللعجب أيضاً، أن لم يكن في القرون الثلاثة الأولى كلها صلاة يوم الأحد، وأن يوم الأحد قد قرر بعد ذلك بسنوات طويلة إثر حروب ومعارك طويلة حول ما إذا كان يوم الرب هو السبت أم هو يوم الأحد.
ولكننا نتجاوز عن ذلك كله، ونعود إلى قصة ديمتريوس، الذي أمسك المبخرة، ووضعها على "كُمِّه" وعلى ملابس زوجته، ولم يوضح لنا كيف يضع المبخرة في وقت واحد في مكانين مختلفين، إلا أن الحادث أن ذلك قد حدث، وأن البطريرك وزوجته أخذوا يطوفون في الكنيسة، والشمامسة ينشدون التراتيل الروحية، بما يعني أن الأمر كان معداً من قبل، فكانت النتيجة أن ملابس البطريرك وزوجته لم يحدث بها أي تأثير من نيران المبخرة( ).
الأحلام تعالج غباء البطريرك
يقول ملاك لوقا: أدرك المؤمنون الحقيقة التي كانت خفية - دون أن يذكرها لنا - وأوصى ديمتريوس زوجته بأن تعيش مع العذارى اللواتي نذرن العفة وانفردن للعبادة( )، وتلك كذبة فاقع لونها، إذ لم يكن هناك نظام الرهبنة أو عُزلة للعذارى حتى ذلك الزمان.
ولا تتوقف قصة بطريرك مصر عند هذا الحد، إنما يستمر المسلسل ليعالج مشكلة جهل المؤلف المؤرخ ملاك لوقا بالنصرانية وتعاليمها، فيقول: وبدأ البطريرك ديمتريوس يجلس كتلميذ أمام المعلمين والعلماء، وقيل إنه في البداية – والتعبير لملاك – يجلس هو على الكرسي والمعلم يجلس عند موطئ قدميه، فلم يكن يفهم شيئاً.
وذات ليلة، ظهرت له أم الإله ـ يقصد مريم عليها السلام، ولا ندري لماذا لم يكن الآتي هو ملاك الرب الذي جاء من قبل، أو الرب نفسه ـ وقدمت له دواة ملآنة ماء فشربها، وأنبه القارئ أنها لم تقدم له كوباً، أو قنينة، أو إناء، إنما قدمت له "دواة" نسبة إلى العلم والمعرفة.
فلما أقبل الصباح، طلب من معلمه أن يجلس على الكرسي ويجلس هو تحته ، ففتح الله ذهنه وصار يفهم ما يلقى عليه من الدروس، فحصل على علم غزير في وقتٍ قليل( ).
وأنبه أن ذلك كله بما فيه من مناصب رئاسية ومنشآت كنسية وتراتيل روحية ومباخر وطقوس، كان يدور في سرية شديدة وكتمان ، خشيَة أن يعلم الحاكم بذلك، إذ يقول ملاك لوقا أن الحاكم سبتيموس ساويرس (193-211)، كان قد أصدر مرسوماً يقضي بمنع أتباع هذه الطائفة من نشرها بين الناس، وبسبب مخالفة ديمتريوس وأتباعه لهذا القانون، وإصرارهم على تأليب الشعب ضد عقيدة الحاكم، حلت أشد الإضطهادات بالنصارى، وأُلقي القبض على ديمتريوس، ونُفِي إلى بلدة أوسيم، ولم يعد إلى الإسكندرية إلا بعد موت ساويرس( ).
وعن خلاصة القرن الثاني من تاريخ ولادة النصرانية، يقول ملاك لوقا: إنه كان العصر الذهبي للهرطقات.
القرن الثالث الصليبي
أما القرن الثالث، فيبدأه المؤلف المؤرخ قائلاً أنه بدأ والحكم الروماني مازال تحت سلطة أسرة ساويرس (193-235ص)، ثم عَمَّت فترة طويلة من الفوضى (235-284ص) بلغ عدد الأباطرة الذين حكموا الإمبراطورية 36 إمبراطور، خلال 49 عاماً.
ولعل هذه الفوضى التي أعطت للعقيدة الجديدة فرصة الازدهار والانتشار بين شعب الإمبراطورية الذي أصبح كارهاً لها وللقائمين عليها، باحثاً عن مخرج له، فوجد الديانة الجديدة المناهضة للإمبراطور وللإمبراطورية، والمتمردة على النظام القائم.
يقول ملاك لوقا: وعلى الرغم من قطع الرؤوس والحرق للأحياء واصلت النصرانية بين شعب مصر، وتَعَرّض النصارى"( ) في الإسكندرية لعمليات هجوم عنيفة وسلب ونهب من جانب الوثنيين.
ثم جاءت موجة الاضطهاد والعنف أثناء حكم الإمبراطور ديسيوس (249-251ص)، عندما أصدر قراراً يرغم كل مواطن من شعب مصر، أن يحصل على شهادة من السلطات المحلية، تؤكد احترامه لقداسة الآلهة الرومانية والأباطرة الرومان، وهكذا أصبح الشعور العام بالعداء نحو الذين انضموا للنصرانية، سمة معظم الوثنيين من شعب مصر أو من اليونانيين، فقد نظروا إليهم كجماعة من الملحدين الذين يثيرون غضب الآلهة فتصيب الكوارث البلاد، وكانوا يجرون النصارى إلى المعابد ويجبرونهم على تقديم الذبائح للأوثان ويحطمون ما لديهم من ممتلكات( ).
يقول ملاك لوقا: ومما يؤسف له، أن كثيرين من النصارى من أهل مصر، قد ارتَدّوا ثانية إلى الوثنية الرومانية، رعباً وهلعاً، وأنه ليس من الإنصاف أن نصور جميع النصارى في القرون الثلاثة الأولى، تصويراً يجعلهم كلهم على نمط الشهداء الذين نعتز بذكرياتهم، فقد أصاب بعض النصارى شيء من الجبن وخوار العزم والضعف والجزع والوهن، وارتد بعضهم عن دينهم ليخبوا بأموالهم ومناصبهم وحياتهم( ).
يقول ملاك لوقا: "ثم خف الاضطهاد مؤقتا عندما أصدر الإمبراطور جالينوس (253- 268غ) أول مرسوم لإقرار سياسة التسامح الديني، فتمكن النصارى من ممارسة عقيدتهم، لكن ذلك لم يلبث أن أعقبته أسوأ موجات الاضطهاد الشيطانية البشعة التي تركزت في حوليات المصريين، جروحاً دامية غائرة في تاريخهم الطويل"( ). فلما مات ديمتريوس، تولى ياروكلاس رئاسة النصارى في مصر من بعده (البابا الثالث عشر).
وكانت الأحوال هادئة، إلا أن ذلك الهدوء تبدد ، عندما اكتشف الإمبراطور مكسمنيوس مؤامرة لاغتياله"( )، اتهم فيها النصارى، فشن الإمبراطور عليهم حملة شديدة، خاصة على رأس الكنيسة والقسس، مما اضطرهم للهرب على مضض( ).
فلما جاء الإمبراطور ديسيوس، وجاء معه ديونيسيوس (البابا الرابع عشر)، شن الإمبراطور اضطهاداً عنيفاً خَصّ به البابا وكهنته، فقبض على عدد كبير منهم وزج بهم في السجن، لكن البابا استطاع الهرب بعد أن لاقى صنوفاً عديدة من المطاردة والضرب والسحب على الأرض مقيداً بالحبال .
ومات ديسيوس عام 251ص، فأرسل له ديونيسيوس أنهم ضحية لظلم أبيه، فكان يستجيب لتخفيف وطء الظلم على النصارى في مصر، لكن وباء "الدفتيريا" الذي تفشى في أنحاء مملكة مصر وروما، أكد كهنة المعابد أنه بسبب غضب الآلهة من وجود النصارى في البلاد، فأعمل فيهم كل صنوف العذاب إلى أن مات بعد عامين (253غ)( ).
وتولى الحكم من بعده الإمبراطور فالريان (253-260)، فأرسل ولاته أمراً يقضي بإعدام جميع رؤوس النصرانية فوراً، وأن يحرم أي مصري في مجلس الشيوخ والفرسان من ألقابه ويجرد من ممتلكاته، فإن لم يرجعوا عن النصرانية تبتر رؤوسهم، أما صغار المواطنين فيقيدون بالسلاسل ويرسلوا للعمل في ضياع الإمبراطور( ).
القرن الرابع
ومع القرن الرابع، تولى دقلديانوس حكم إمبراطورية روما، وأحدث فيها تعديلات ونظم ضجة في النواحي العسكرية والمدنية، أما موقفه من عقيدة النصارى فقد أصدر مرسوماً عاماً باضطهادهم، والبدء بكبارهم، فتضمن المرسوم: الحرق حياً لكل من يرفض تقديم القرابين، وهدم كل مكان تعقد فيه طقوسهم وإعدام كل شخص يجرؤ على عقد لقاء لهذه الطقوس .
يقول ملاك لوقا: وبمقتضى هذا المرسوم، صودرت في الحال أملاك النصارى وبيعت لمن يدفع أكبر ثمن، أو ضُمَّت لأملاك الإمبراطورية، وخضع لأشد العذاب الذي لا يطاق؛ أولئك المتمردين الذين أصروا على رفض آلهة روما، أو أي آلهة أخرى داخل الإمبراطورية"( ) ثم يستطرد ملاك لوقا: ولم يكد هذا المنشور ينشر علناً، حتى مزقه مسيحي مباشرة فاستحق الإعدام، وقد شوي على النار الهادئة "( )، واستنفذ جلادوه في تحمسهم للثأر ، كل أفانين القسوة والعنف …… وقد اعترف بعض المسيحيين في ذلك الوقت بأن تصرفه لم يتفق مع قواعد الحذر، إلا أنهم أعجبوا بتوقد غيرته المقدسة"( ) وبعد خمسة عشر يوماً اشتعلت النيران مرتين في غرفة نوم دقلديانوس فحامت الشهادة حول المسيحيين، وملأ الحقد والحنق كل صدور المصريين والرومان الوثنيين، فزج في السجون بعدد كبير من ذوي المناصب والحظوة، وبلغ الإمعان في التعذيب حد الشطط، وتخضب القصر والمدينة بدماء الذين نفذ فيهم حكم الإعدام … وسرعان ما دمرت الكنائس وأحرقت وكأنها كرمة جنائزية"( ).
معجزات البابا بطرس
ومن بعده يأتي البطريرك السابع عشر المدعو بطرس، وتشغل حكاياته وأحلامه وأعاجيبه عشر صفات متوالية أكثر من كل سابقيه، لينتهي به المقام مثل سابقيه ، لكن المشهد الدرامي الذي يحفظه التاريخ الكنسي لموته يجعلني حريصا على نقله ، ليقف القارئ على قدر الإمكان، عند النمط العقلي الذي يحمله النصارى في أذهانهم، ويحكم معتقدهم .
يقول ملاك لوقا: "أرسل الحاكم الروماني أوامره بإلقاء القبض على بطرس، فأودع في السجن سنة 311ص وصدر الأمر بقتله، فتجمهر الشعب حول السجن، يريد أن يفتدي راعيه [والمؤلف المؤرخ هو الذي حكى عن خزي وجبن شعب الكنيسة منذ قليل، كما حكى عن ارتداد البعض إلى الوثنية بسبب الخوف والرعب من التعذيب والقتل].
المهم، أن بطرس طلب من سجَّانيه أن يخرج لشعبه ويهدئهم ويطلب منهم الانصراف، فسمحوا له وفعل وانصرفوا، فطلب منهم أن يسمحوا له بزيارة المقصورة التي تحوي رأس مرقس .
وهذا نوع من الخبل؛ أن الدولة التي تهدم الكنائس على من فيها، وتشعل النار في القسس، وتقتل الباباوات، كان يمكن أن تخصص مكاناً ويسمى مقصورة للحفاظ على رأس مؤسس الكنيسة المتمردة على الحكم الروماني، وعلى عقيدة الإمبراطورية.
ولنتجاوز ذلك أيضاً، ونقول مع المؤلف أنهم سمحوا له أن يقف أمام رأس مرقس في كاتدرائيته [إي والله هكذا] وسقط على ركبتيه وصلى بحرارة وقال: "تقبل يا ألله حياتي فداء لشعبك".
ولا نعرف على الحقيقة من سمعه وهو يقول ذلك، ولا من الذي نقل عنه هذا القول، إلا أن ذلك كان حدثاً هيناً، إذ ما حدثَ بعد ذلك كان أشد إضحاكاً وأعظم، إذ يقول ملاك: "وحينذاك، سُمع صوت من السماء يقول: آمين" .
إلا أن هذه المعجزة لم تؤثر هذه المرة فيمن سمعها، إن كان أحد قد سمعها ، فيضطر ملاك لوقا للاستطراد قائلا: "ولما فرغ من هذه الصلاة ، تقدم هو نحو الجند بشجاعة وثبات، وقد سطع وجهه بنور وبهاء أذهلا الجنود جميعاً، فلم يجسر أحد أن يرفع يده عليه، لكن رئيس الجند اتخذ قراراً سريعاً بإغراء الجنود، فأعلن تخصيص خمسة وعشرين قطعة من الذهب لمن يقطع رأس بطرس، فتجاسر واحد منهم وضرب عنقه بالسيف، فقطع رأسه".
وهكذا لم يمنع النور البطرسي، الجندي، من أداء واجبه، وكانت الخمس والعشرون قطعة من الذهب هي الملهمة والدافعة له على التجاسر - بحسب وصف المؤلف المؤرخ - ثم ويا للعجب بعد كل هذه المعجزات والمواقف الدرامية "تركوه ملقى حيث هو ومضوا"، ولكن لأن أحداً من هؤلاء الذين صرفهم منذ قليل على ما يبدو لم يكن يعلم أن بطرس سوف تقطع رقبته ، فيقول ملاك لوقا: "ولم يلبث أن انتشر الخبر، فتجمع المؤمنون باكين متألمين ورفعوا الجسد، وأخذوه إلى الكنيسة المرقسية، حيث خلعوا عنه لباس القتيل، وألبسوه ثياب القديس، حتى يصبح قديساً على الحقيقة، ولم يكتفوا بذلك، بل أجلسوه على كرسي مرقس، ولكن طبعاً كان بلا رأس، أو أنهم أعادوا إليه رأسه دون أن ينتبه المؤلف، فكان دمه آخر دم سفكه الإمبراطور الروماني دقلديانوس، فأقبل الشعب على الجسد، يقبلوه ويتبركوا منه"( ).
وقبل رحيل بطرس، كانت فتنة عظيمة قد بدأت تشق جدار النصرانية إلى مائة مائة جزء، فما كادت تستقر الأمور، وتستعلي مكانة الديانة الجديدة، بعدما حوصر حكام الإمبراطورية من كل جانب، وفي كل أنحاء بلادها، في بلاد الشام وفلسطين شرقاً، وفي أنحاء كثيرة من أسيا وأوروبا شمالا، وفي ليبيا ومصر جنوباً، ووجد قسطنطين نفسه مرغماً على قبول هذه الديانة لرأب الصدع في الجبهة الداخلية، وعدم تشتيت جهوده في مواجهة خصومه الذين استطاع أن يخطف منهم الإمبراطورية .
آريوس والبطريرك الخفي
في ظل هذه الأوضاع السياسية المضطربة، والدينية التي يجب أن تكون مستقرة مستفيدة من هذا الاضطراب، ظهرت فتنة عظيمة شقت جدر الدولة والكنيسة والديانة، غير كل الفتن التي أثيرت خلال القرون الثلاثة الماضية، ولم أشر إليها، تلك الفتنة التي عرفت باسم "آريوس" التوحيدي.
فلما أصبحت الكنيسة جبهتان سعت كل واحدة للفوز بنصرة الحاكم وتأييده، كما سعى الحاكم جاهداً أن يرأب الصدع الذي صنعته الديانة الجديدة في دولته، وهكذا سعت الكنيسة بكل طاقتها نحو الملك والعسكر والسياسة، وسعت الدولة والجيش والحكم نحو الكنيسة، فتعسكرت الكنيسة، وتديَّن الملك، فيقول ملاك لوقا: "ومن هنا نشأ الصراع، الذي سببه الرئيس أساقفة الإمبراطورية، ولعل ذروة الصراع، عندما تحول الأباطرة إلى حكام سياسيين يرتدون الثوب الديني"( ).
وفي هذا الإطار التمردي، علا شأن آريوس وهبط شأن أثناسيوس بطرك النصارى في مصر، ثم علا شأن اثناسيوس وهبط شأن آريوس، وساند قسطنطين آريوس حيناً، وغضب عليه حيناً آخر، والحال نفسه كان مع أثناسيوس، وعُقِدَت مجامع (مؤتمرات) للتقريب، واشتد الصراع، وتحزبت الأحزاب، وكانت هناك أسواق ومزادات، ومكائد وافتراءات، فاتُّهِمَ أثناسيوس مرة بقطع ذراع أسقف ثم قتله، واتُّهِمَ بتحطيم كنيستة، واتُّهِمَ بالزنا مع امرأة، واتهم بمنع إرسال الغلال إلى الإمبراطورية في عاصمتها الجديدة القسطنطينية، وبغض النظر عن صدق الاتهامات أو زيفها؛ فإن الذى أوقع وشهد وقدم هذه الاتهامات هو الجناح الآخر من رجال الكنيسة التابعين لآريوس( ).
ولا شك أنه يكون من الظلم، أن نأخذ كل هذه المعلومات على أنها الصدمة كلها، لأن الطرف الآخر وهم أتباع آريوس، لم يكن لهم تاريخهم الذي يقولون فيه كلمتهم، ويعرضون فيه وجهة نظرهم فيما ألصق بهم من تهم ، ولعل أشدها تلك التي قيل أن الآريسيين وجنود الحاكم قد هجموا على كنائس خصومهم في يوم "جمعة الصلب" وقتلوا منهم عدداً كبيراً واعتدوا على الفتيات والنساء، حتى أرسل أثناسيوس رسالة إلى سائر أساقفة الدنيا، يستغيث فيها من هول ما حدث له ولأتباعه وكنائسه( ).
يقول ملاك لوقا: "وأخيراً قُتل غريغوريوس الكباروكي بطريرك الإسكندرية الموالي لآريوس عام 349ص، واحتل أثناسيوس كرسي البابوية، حيث احتفل الشعب به احتفالاً عظيماً"( ).
فلما مات "قسطاس" قيصر روما (المؤيد لعقيدة اثناسيوس) وانفرد شقيقه "قسطنديوس" (المؤيد لعقيدة آريوس) بحكم روما، أصدر قراره بنفى أثناسيوس باعتباره مثيرا للفتن ومصمماً على عقيدة الشرك بالله وجعل المسيح عليه السلام مساوياً لله سبحانه ومشاركاً له في الخلق والإيجاد .
لكن "أثناسيوس" رفض طاعة "سريانوس" والي مصر، في تنفيذ أمر النفي، فجهز الوالي حملة عسكرية حاصر بها كنيسة العذراء، فلما حاول المصلون الانصراف، أعمل فيهم مقتلة كبيرة، وهرب أثناسيوس بأعجوبة، وظل مختفياً لمدة ست سنوات، حتى أطلقوا عليه لقب: (البطريرك غير المرئي)، ولم يعد إلا بعد موت والي مصر عام 368ص( ).
وبعد رحيل سريانوس والي الإمبراطورية في مصر، تولى حكم الولاية من بعده أكربكبيوس، الذي سمح بعودة أثناسيوس مرة أخرى إلى كرسي البابوية في الإسكندرية، متغافلاً قرار الإمبراطور يوليانوس في روما، بنفي أثناسيوس، فما أن علم الإمبراطور بتلك المخالفة حتى أرسل رسالة ساخنة يعنف فيها واليه على مصر، ويتوعده بالعقاب إن لم ينفذ القرار فوراً متهماً أثناسيوس بأنه "يوجه إلى الآلهة الازدراء والاحتقار، فيا له من شقي كريه وغد"( ).
فلما علم أثناسيوس بذلك، يقول ملاك لوقا: "لجأ البابا في حرص شديد إلى أديرة الصحراء، وأفلت بمهارته المعتادة (هكذا نصاً) من شراك عدوه"( )، وهكذا احترف باباوات الكنيسة في مصر الكَرّ والفَرّ، وفنون الهرب والاختفاء.
الحرب ضد الثُلث الثالث من الرب
وتدور عجلة التاريخ الأسود للكنيسة في مصر، كشريط سينمائي متكرر المشاهد، ولولا اختلاف الأشخاص وتاريخ كل مشهد منها لأحسسنا بالملل أكثر مما عليه حالنا الآن .
فقد مات الإمبراطور يوليانوس عام 363، فتولى شأن الإمبراطورية من بعده الإمبراطور فالنس، وكان أيضاً آريوسى المذهب، موحد الاعتقاد، فما أن استتب شأن الإمبراطورية تحت ملكه، إلا وأصدر قراره الأول في حق نصارى مصر المتمردين على التوحيد عام 367 ص، بنفي أثناسيوس، الذي علم أيضاً بالقرار قبل تنفيذه، فهرب من الإسكندرية متخفياً لمدة أربعة أشهر، أمعن فيها والي الإمبراطور في اضطهاد الأرثوذكس وتعذيبهم.
ثم لأسباب لم تفصح عنها المصادر الأرثوذكسية، عاد أثناسيوس بعد عام من الهروب إلى كنيسته، واستمر في إدارتها لمدة خمس سنوات متواصلة حتى مات عام 373 ص، ليحل محله بطرس الثاني.
ومثل الألغاز، لا نقرأ في كتب التاريخ الأرثوذكسي إلا أن البابا هرب، البابا عاد، البابا اختفى، والبابا أصبح بابا، وهكذا دون أن نعرف بوضوح وجلاء لماذا هرب؟ وممن هرب؟ وما الأسباب التي أدت إلى الهروب؟ وما صورة العودة؟
وعلى ذلك الوصف تولى البابوية البطريرك الحادي والعشرون بطرس الثاني بعد أثناسيوس عام 373ص، وأول خبر يذكره تاريخ الكنيسة حول أعماله، أنه: "غضب الإمبراطور وأرسل إلى بلاديوس والي الإسكندرية، رسالة يأمره فيها بنفي بطرس وتعيين الأنبا لوسيون الآريوسي المعتقد بدلاً منه، على رأس الكنيسة الأرثوذكسية بمصر( ).
لكن شعب الكنيسة وقف في مواجهة البطريرك الجديد ورفض دخوله مقر الرئاسة الكنسية، مما اضطر الوالي لتجهيز حملة من قواته لتمكين البطريرك التوحيدي من امتلاك كرسي البابوية، فاشتدت المواجهة بين الفريقين وسالت دماء كثيرة، وتمكن بطرس من الهرب بعدما أهاج شعبه المواجهة.
فلما علم الوالي بهروب بطرس، أمر جنده بالبحث عنه لمعاقبته على ما أثاره من فتنة في البلاد، فتبين أنه قد رحل إلى روما وأقام في كنف أسقف روما المخالف له في الاعتقاد لمدة خمس سنوات عادت فيها كل الكنائس المصرية إلى الإيمان التوحيدي، رافضة إلوهية المسيح عليه السلام.
لكن بطرس خلال هذه السنوات الخمس لم يكف عن إرسال الرسائل لأتباعه في مصر والإسكندرية يؤلبهم ضد الحاكم وضد قيادة الكنيسة، إلى أن شاء الله دخول الإمبراطور الروماني في مواجهة مع إمبراطورية الفرس، وبدأت قبضة الولاة تهتز في السيطرة على البلاد، فتمكن بطرس من العودة إلى مصر، ليموت فيها بعد رحلة طويلة وشاقة، في العام 380 ص( )، أو في العام 379غ( ).
وهذا الاضطراب في تاريخ موت بطرس الثاني، هو من المؤلف المؤرخ وليس مني (أبو إسلام).
ورغم تأكيد المؤلف المؤرخ ملاك لوقا أن بطرس الثاني في صفحة (211) مات في العام 380 ص، ثم تأكيد موته في صفحة (212) العام 379 ص، إلا أنه بعد سطر واحد من الصفحة (212) يقول: إنه في المجمع المسكوني الثاني الذي عُقِدَ بالقسطنطينية العام 381ص، برزت مواهب بطرس الثاني، حيث دحض بشكل قاطع بدعة مقدونيوس الذي أنكر إلوهية الروح القدس.
وبغض النظر عن الهرج والخلل في توثيق الأحداث التاريخية الكبرى للكنيسة، فإن الذي نلفت إليه الأنظار بشدة، أن الكنيسة ما تكاد تنتهي من مشكلة عقدية، إلا وتتولد لها مشكلة أخرى، مثل إلوهية الروح القدس في هذه المرة، والذي تواكب معها انشقاق كنيسة القسطنطينية عن كنيسة روما، بل انشقت الإمبراطورية كلها، وأصبحت هناك إمبراطورية (رومية الجديدة) التي عاصمتها القسطنطينية( ).
ومع هذه الفتنة جاء ثاؤفيلس، البابا الثالث والعشرون، الذي تقول سيرته أن خادمة أبيه لما أخذته (ثاؤفيلس) وأخته الصغرى لأحد المعابد، فإن الأصنام التي في المعبد سقطت على الأرض وتهشمت( ).
ولما كبر الطفل الصغير ونال رتبة الشماس، امتلأ غيرة لديانة يسوع، وارتدى الوقار الذي للرتبة الكهنوتية، فجلس على عرش البطريركية بالإسكندرية( ).
ويضيف ملاك لوقا دون قصد منه على ما يبدو قائلاً: فأنار الإسكندرية بشعلة إيمانه، واستطاع أن يجنب مصر عقيدة الأصنام المرذولة، فلم يسمح بأي عابد للأصنام أن يكون له إقامة( ).
وأرجو من القارئ ألا تفوته تلك الوقفات الغريبة، التي يقف بنا عندها ملاك لوقا، وهو يتابع نصرة كنيسته في سبيل إعلاء شأن الأصنام الصلبان حيناً، ثم إعلاء شأن رافضي الأصنام والصلبان حيناً آخر.
القرن الرابع والقرن الخامس
بعد استعراض المؤلف المؤرخ لمن قتلهم الرومان من أجدادنا رجال الكنيسة المصرية في القرن الرابع على مدى أربعين صفحة، ينتقل بنا إلى القرن الخامس من مولد المسيح عليه السلام، والذي بدأه بسيرة البابا الرابع والعشرين، وهو الأنبا (كيرلس) الموصوف بعمود الدين، لنكتشف أنه ورث هذا المنصب مباشرة من خاله البابا السابق ثاؤفليس.
النساطرة وعبودية المسيح
ومع اعتلاء كيرلس لكرسي البابوية الإسكندرية ، كانت تنتشر دعوة نسطوريوس أسقف القسطنطينية، أن الله لا يمكن أن يتجسد في صورة إنسان، ولا أن يرقي الإنسان ليكون هو الله، وأن عيسى عليه السلام هو مولود بشري من أم بشرية، وغير مقبول أن الإله يمكن أن يولد من امرأة بشرية .
ولمواجهة هذه الدعوة شبه التوحيدية المنزهة لله عن التجسد، نظم كيرلس حملة ضخمة لمواجهة نسطورس، ثم عقد مجمعاً خاصاً في الإسكندرية مع أتباعه، ثم مجمعاً مسكونياً آخر في أفسس (7/6/431ص)، وأصدروا القرار التالي:
(مثلما آمن بولس أن ملء اللاهوت حل في المسيح جسدياً، فإننا ندرك أن الله لا يستقر فيه كما استقر في قديسيه، إنما نؤمن أن اللاهوت والناسوت قد اتحدا في المسيح كما تتحد الروح بالجسد في الإنسان، فهو إذن رب واحد وابن واحد).
ومات كيرلس عام 444ص، بعد هذا الانتصار الكبير للكنيسة في مواجهة دعوة تنـزيه الله عن التجسد، ليتولى البابوية من بعده الأنبا ديسقوروس السكرتير الخاص للبابا السابق، والذي استقبلته دعوة جديدة بعد الآريوسية والنسطورية، وهي دعوة الأسقف أوطاخي، الذي أنكر أن يكون المسيح عليه السلام ناسوتاً مثل الناس، إنما هو كائن فوق البشرية، وأقل من الله، وإنه له طبيعة مستقلة في كل حالة من الحالتين.
شذوذ الكنيسة وتطرفها
وعلى الفور عقد مجمع جديد في أفسس (8/8/449ص)، ليقضي على كل دعوة مخالفة لما عليه الكنيسة الرسمية، لكن أصحاب هذه الدعوات لم يكن سهلاً أن يستجيبوا للأحكام التي صدرت ضد بعضهم بالقتل أو التعذيب أو الحرمان من الكنيسة، وظلت صرخات المعترضين المكتومة تغل بها الصدور، حتى أقر قادة الكنيسة بأن مجمع أفسس ما أصدر قراراته إلا تحت تهديد السلاح( )، وبناء على تلك الحقيقة، تقرر عقد مجمع جديد بمدينة خلقيدونية (8/10/451غ)، حضره (630) أسقفا، اجتمعوا لأكثر من خمسة عشر جلسة، بذل فيها بابا مصر جهوداً مضنية لإثبات أن:
- المسيح لا يمكن أن ينقسم إلى اثنين، لكنه إله متأنس.
- إله اتخذ لنفسه جسداً ظهر فيه كإنسان.
- الله في صورة إنسان.
- الله ظهر في الجسد، وهو بهذا المعنى ابن الله.
- ولأنه اتخذ من العذراء مريم جسدا فهو ابن الإنسان.
- فالمسيح هو الله غير المنظور وقد صار منظوراً.
- ولما صار منظوراً في الجسد، أصبح هو ابن الله( ).
بهذه العبارات السبع، دار الرجل يقنع كل العقول من حوله، من كبار الأساقفة الذين أتوا من كل أنحاء الدنيا، لكن أحداً لم يتفق معه، وأجمع كل رجال الدين المسيحي في كل أنحاء الدنيا، ومن كل الطوائف المسيحية، أن الله لا يمكن أن يكون إلهاً وإنساناً في آن واحد، ولا يمكن أن يكون الله آب وابن في آن واحد، ولا يمكن أن تكون إرادة الله الآب هي نفسها إرادة الابن، فلما ضاق رجال الدين بشذوذ بابا مصر، في حضور الملك وحاشيته، أصدر المجمع قراره بإجماع الحضور، سحب الثقة عن الأسقف المصري ديوسفورس، ونزع درجة الأسقفية منه، وعزله من خدمة الكهنوت، ونفيه إلى جزيرة نائية، حتى مات عام 457 ص، فتدخلت بوليكاريا زوجة القيصر، حفاظاً على وحدة الإمبراطورية من ناحية، وحفاظاً عل وحدة الكيان المسيحي من ناحية أخرى، فقالت له:
- با ديوسقوس، قد كان أبي في زمان، إنساناً قوي الرأي مثلك، فَحُرِمَ ونُفِيَ من كرسيّه (إشارة إلى يوحنا الدمشقي).
- فقال لها ديوسقورس: نعم، وقد عرفت ما جرى لوالدتك، وكيف ابتُليَت بالمرض الذي تعرفينه، إلى أن مضت إلى جسد يوحنا، واستغفرت فعوفِيَت.
وأمام هذا الرد الذي لم يكن لائقاً من رجل يشغل رأس واحدة من أكبر كنائس العالم، تضايقت زوجة القيصر، وغضب لأجلها جميع الحضور، وهنا بدأ المؤلف المؤرخ ملاك لوقا يحكي لنا أساطيراً وغرائباً، يغطي بها انتكاسة بابا مصر وخذلانه، وعدم لباقته، فقال:
- لما خُنِقَت بوليكاريا من قوله؛ لكمته.
- وكما لو كانت هي (محمد كلاي)، سقط له ضرسان.
- وتناولته أيدي الرجال، فنتفوا له شعر لحيته .
لكن الأسقف المعزول لم يهتم بكل هذا التعذيب، وانشغل بجمع الضرسين والشعر المنتوف، وأرسلهم لأبنائه في مصر، قائلاً لهم: هذا ثمر جهادي [إي والله هكذا نصاً]( ).
وجاء البابا تيموثاوس الثاني، البطريرك السادس والعشرين، مُنَصِّباً نفسه في مواجهة البطريرك الذي عينته الإمبراطورية، وراغباً في السير على درب سابقه، عناداً للكنيسة الرومانية فشعر الإمبراطور بخطورة ذلك الاتجاه على شق الجبهة الداخلية للإمبراطورية، فابتعثه هو الآخر منفياً إلى نفس الجزيرة التي نُفيَ إليها سلفة، حتى مات الملك، وأتى الذي بعده فاستدعى تيموثاوس من منفاه لكنه لم يعش طويلاً، ورحل عن الدنيا 31/7/477ص.
فلما انتخبت كنيسة الإسكندرية خلفاً له بطرس الثالث ليتولى منصب البطريرك السابع والعشرين، أعلن أنه على درب سلفه، رافضاً لما عليه الكنيسة الرومانية، وما عليه الإمبراطورية التي تحكم البلاد، فصدر القرار بنفيه لعدة سنوات، استطاع بعدها أن يهرب لمدة خمس سنوات ظل فيها مختفياً، لكنه لم يكف عن إرسال الرسائل لأتباعه، داعياً إلى مذهبه المرفوض، ومؤلباً شعب مصر على نظام الحكم، حتى مات العام 489ص( ).
عندما تكتلت مصر الأرثوذكسية
وجاء من بعده أثناسيوس الثاني، البطريرك الثامن والعشرين، مستفيداً من تجارب سابقية، فوضع يده في يد القيصر، راضياً بالإيمان المسيحي الكاثوليكي لإلوهية المسيح، مؤمناً بأن له طبيعتان ومشيئتان وإرادتان، وأعاد السلام في الشرق بوجه عام، وفي مصر على وجه خاص، دون أن يثير أية قلاقل دينية أو سياسية حتى مات العام 496ص( ).
ويقود الكنيسة بعده يوحنا الأول، البطريرك التاسع والعشرين، كما قادها البطريرك السابق، فاتسمت الفترة الزمنية بالسلام والاستواء، لم يكدر صفوها غير وباء مرضي انتشر بالإسكندرية بغتة، وأصاب عدداً كبيراً من شعب الكنيسة وقادتها، إلى أن مات هو العام 505ص.
وقبل أن يبدأ ملاك لوقا جولته في صفحات القرن السادس، أشار إلى أن المسيحيين المصريين من شدة الظلم الواقع عليهم، قد قاموا بثورة عاصفة في الوجه البحري، تحت قيادة ثلاثة أشقاء؛ هم أبو سخيرون ومينا ويعقوب، انتقاماً من والي سمنود الذي كان قد ألقى القبض على اثنين من وجهاء الولاية، لكن الوالي استطاع أن يقمع هذه الثورة، بأن ألقى القبض على بعض عظماء المصريين ووضعهم على الشاطئ الآخر من النيل المقابل للثوَّار، ثم أمر الثوَّار بطرح أسلحتهم وإلا قضي على الأسرى، واستعطف الأثرياءُ الثوَّار كي يكفوا عن ثورتهم فاستجابوا لهم، فانقضَّ عليهم جنود الوالي وهرب منهم البعض نحو مدينة صان بالشرقية، فتبعهم الجنود وقبضوا على الجميع، ثم صدر الحكم بقطع رؤوس الأشقاء الثلاثة ومصادرة أملاكهم( ).
ثم اندلعت عدة ثورات في عدة مدن قبل سنهور وأخيم وبسطة، ولكنها جميعاً بائت بالفشل( ).
أما عن سيرة البطاركة، فقد تولى يوحنا الثاني منصب البطريرك الثلاثين لمدة ثلاث سنوات حتى مات أول العام 508غ، وتولى بعده ديوسفورس الثاني منصب البطريرك الحادي والثلاثين لمدة عامين حتى نهاية العام 510ص( ).
ويغفل المؤلف تسعة أعوام كاملة، لم يوضح ماذا جرى بها، ومن كان يحكم الكنيسة ، ثم يأتي إلى العام 519ص، فيذكر فيه اختيار شعب الكنيسة لـ تيموثاوس الثالث، ليتولى منصب البابا الثاني والثلاثون، مؤيداً من الإمبراطور أنستاسيوس.
لكن أنستاسيوس يموت في العام نفسه، ويتولى الإمبراطورية بعده، الإمبراطور يوستنيان، الذي اتخذ موقفاً متشدداً من البابا تيموثاوس ثم ألقيَ القبض عليه - لكن لم يوضح المؤلف سبب ذلك - إلى أن مات العام 536ص( ).
ومن بين السطور نلمح أن الكنيسة المصرية كانت تعاني من هموم داخلية ضخمة، لا تقل شراسة عن تلك الهموم التي تعاني منها جراء مواجهات الحاكم البيزنطي.
فيقول ملاك لوقا أنه بعد انتخاب شعب الكنيسة لـ ثيوديوسيوس الأول في منصب البابا الثالث والثلاثون، فإن شعباً آخر من شعب الكنيسة رفض هذا الانتخاب ، وانتخب واحداً من كبار الشماسين يدعى فيانوس، ليكون هو الأحق بالبابوية.
فتدخلت زوجة الإمبراطور وطلبت من فيانوس الاعتذار لثيودسيوس والاعتراف أمامه بالخطأ، ففعل واستقر الحال بين البطريرك وشعبه.
لكنه لم يستقر بين البطريرك والإمبراطور، إذ أعلن الأول رفضه لقانون الإيمان في الكنيسة الإمبراطورية، ودعوته للانشقاق عن الكنيسة الرسمية، فيقول ملاك لوقا:
واستقبل الإمبراطور ست مرات، يطالبه فيها بالتوقيع على قرارت مجمع خلقيدونية، دون جدوى، وأخيراً سجنه بالقسطنطينية لمدة ثمانية وعشرين عاماً، حتى مات 568ص( ).
واختار والي الإسكندرية رجلاً من عنده ليكون هو البطريرك الرابع والثلاثون، إلا أن أتباع الكنيسة المصرية اختاروا واحداً آخر يدعى بطرس الرابع، كان راهباً في دير الزجّاج، لكن الإمبراطور رفض دخول هذا الراهب إلى الإسكندرية أصلاً، فاضطره لأن يكون بطريركاً متجولاً بين الأديرة والقرى، لمدة عامين مات بعدهما في العام 557ص( ).
وتسقط من تاريخ ملاك لوقا اثنتي عشرة سنة أخرى، لم يشر إلى أي حدث خلالها، ولا أدري كيف تهون مثل هذه الفترات الطويلة على مؤرخ تجرأ على كتابة تاريخ كنيسته، دون أن يهتم بتلك الثغرات، لأنه إن لم يكن قد انتبه إليها، وهو كذلك في الغالب، فإنما لأن تاريخ الكنيسة كله لا يتطابق فيه حدثان، ولا تتطابق فيه واقعتان، ولا أحد يرفض، ولا أحد يعترض، فكل شيء مستباح، وكل شيء يؤخذ على وجه الإجمال، فيقول ملاك لوقا: عندما مات البابا بطرس الرابع والثلاثين، اتفق رأي الأساقفة على اختيار كاتم سره دانيال، ليكون هو البطريرك الخامس والثلاثين، الذي اعتلى كرسي البطريركية في 26/6/569 ص( ).
ولم يذكر المؤرخ؛ متى مات هذا البطريرك ولا كيف عاش، وينتقل مباشرة إلى القرن الذي يليه.
القرن السابع
في أوائل هذا القرن، يعتلي الإمبراطور هرقل عرش الإمبراطورية الرومانية الشرقية (التي عاصمتها القسطنطينية)، بعد انشقاقها عن الإمبراطورية الغربية (التي عاصمتها روما).
وكان الفرس قبل اعتلائه العرش، قد أغاروا في عهد عاهله (خسرو الساساني) على الجزيرة وبين النهرين وسورية، وعبروا أسيا الصغرى [تركيا]، حتى بلغوا مدينة خلقيدونية سنة 608ص، واستولوا على دمشق سنة 613ص، وعلى فلسطين سنة 614ص، واجتاحوا مصرا سنة 616ص.
وبعد عشر سنوات كاملة، ينهض هرقل من سباته، ويخوض خمس حملات بطولية، يحطم فيها شوكة الفرس، ويسترد أذربيجان وأرمينية العام 624ص، ويسترد القسطنطينية العام 626غ، وبين النهرين 628ص، ثم مصر في العام 629ص.
وكجزء من جهوده لإخضاع مصر، قام هرقل بتعيين ساويرس (كورش) المعروف عند العرب باسم المقوقس، بطريركاً ووالياً إمبراطورياً في نفس الوقت، فبدأت معه حقبة ظالمة فائقة في قسوتها على نصارى مصر، فاضطر بنيامين بابا المصريين، إلى أن يعيش لاجئاً في الأديرة( ).

خلاصة الكتاب
وهكذا بإيجاز شديد، اختصر المؤلف المؤرخ ملاك لوقا، كل عهد حكم المقوقس لمصر، في سطر واحد، بعد أن تابعنا معه تاريخ مصر منذ بداية الاحتلال الروماني حتى نهايته، خطوة خطوة، لم نر فيه يوماً واحداً سعيداً مر بأجدادنا المصريين، على مدى ستة قرون متواصلة من التعذيب، والتنكيل، وسفك الدماء، والحرق، والهدم، والقهر، والذل، والهوان، والحرب الضروس ضد ملة الكنيسة المصرية، وفرض ملة الكنيسة الغازية تحت تهديد السلاح.
زمن طويل حقاً ذلك الذي حكاه لنا كل كَتَبَة التاريخ المصري والكنيسة المصرية، في صورة بكائية شديدة الألم والنحيب، وشديدة الأسى والأنين، وكئيبة الذكرى لا تسرّ القارئين.
لكن الأسوأ في ذكراه، والأسوأ في نقله على الحقيقة، هو ذلك الدجل والكذب والوقاحة، التي ينقلب إليها مؤرخو الكنيسة دفعة واحدة، في صورة كريهة للنفس، لا تليق بعلم التاريخ، ولا ترقى بالمنهجية، ولا يمكن أن تنتمي إلى اتزان العقول واحترامها.
لذلك، فإننا سوف نكتفي بنقل أول جملة، من أول فقرة من فقرات التأريخ الكنسي لدخول المسلمين إلى مصر، نجد أنها كافية كل الكفاية لتشهد على سوء هؤلاء القوم، وسواد قلوبهم، وغليل صدورهم، وضلال عقولهم، وفساد نواياهم، وخلل ذمتهم، وكذب علومهم، وخراب معارفهم، وبجاحة جرأتهم، وانحطاط أخلاقهم، إذ يقول ملاك لوقا نصاً:
وقبيل مجيء الغزو العربي؛ كانت مصر كجنة الله( ).
وأمام هذا التحدي السافر للتاريخ، أطلب من قارئي الكريم، أن يرجع سريعاً إلى الفقرة الأولى التي استفتح بها المؤلف المؤرخ تاريخ مصر (ص 24 من كتابة)، وهو ما نقلته عنه، من أول فقرة من هذا الكتاب الذي بين أيدينا، التي قال فيها نصاً:
لم تكن روما في ذلك الحين تعد مصر ولاية تابعة لها، بل كانت تعدها من أملاك الإمبراطورية، كَمُوَرِّد للحبوب، فانتزعت الأرض وجعلتها ضياعاً واسعة يعمل فيها الفلاحون بلا رحمة .
وهنا، أترك عزيزي القارئ ليدلي بشهادته لنفسه، ويحدد موقفه من هذا المؤرخ المسيحي المصري، وهذا التأريخ المصري، لأنتقل بك إلى رحلة جديدة، مع مصر الحبيبة، وأيضاً من خلال كتاب كنسي آخر، يحكي قصة تاريخ أمتنا المسلمة.




من لسع سياط الفرس
إلى لسع عقارب الصليب

قراءة في كتاب: د. ألفريد.ج.بتلر
في هذا الفصل أتناول بالتفصيل أكثر، جزءاً مما ورد في الفصل السابق, حول انتقال مصر من حكم الدولة الرومانية, إلى حكم الدولة الرومانية الشرقية (البيزنطيين), لبيان حقيقة ما كانت عليه دولة الصليب التي تحتل بلادنا حينذاك, ويتباكى عليه شراذم المسيحيين المصريين اليوم.
أبو إسلام
1- مصر تركة بين وريثين صليبيين.
2- ظفر بها الوريث هرقل ، عابد الصليب المتمرد.
3- سرقها منه الفرس عبده النيران.
4- ثم استعادها هرقل.
5- المصريون ثانية من سياط الفرس إلى عقارب الصليب.

إن كانت ألسِنَة الفتنة تُزَيِّن مصر للناظرين، أنها كانت بقرة حلوب يتدفق لبنها أنهاراً حتى يفيض ويُقذف به في النيل, عندما دخلها عمرو بن العاص فاتحاً، فإن بتلر يقطع بحقائقه هذه الألسنة قائلاً( ):
استُهِل القرن السابع والدولة الرومانية تلوح كأنها تنحدر من حال الاضمحلال إلى حال الفناء، وكانت قبل ذلك بستين عاماً، تمد سلطانها إلى بلاد القوقاز وبلاد العرب (شرقاً)، وإلى أعمدة هرقل عند مدخل جبل طارق بن زياد (غرباً) حتى قالوا أن العالم كله، أضيق من أن يسع سلطان روما.
ثم يستطرد بتلر قائلاً:
على أن خط الاضمحلال كان مائلاً بتوالي النوازل على الدولة، فمن فساد خُلقي إلى آخر سياسي، واجتاح الوباء بلاد الشرق كلها، بادئاً من مدينة الفارما (قرب الإسكندرية)، مجتازاً البلاد من خلال بلاد لوبيا(ليبيا)، وأنشب مخالبه في فلسطين وما يليها حتى بلاد فارس، ثم انتشر الوباء في أرض القسطنطينية (تركيا اليوم).
وأعقب هذا الوباء زلزالاً دمر من المدن ما قد يعدل ما أصاب أهل الدولة الرومانية من "الموت الأسود"، حتى أصاب الجنون ملكها حينذاك جستن.
كانت الدولة كأنها سائرة إلى الدمار لا ينجيها منه شيء، فالجيش يعمه الفساد وتنتشر الرذيلة بين الأشراف( )، وسلط على أنحاء الدولة سوط العذاب من الحكم السيئ، حتى لأصبحت وأقل بلادها عذاباً، تلك الأقاليم التي تستعر فيها الحرب مع الفرس، أو مع همج الشمال الآتين من شاطئ أوربا.
يقول بتلر: وفي الحق لم يكن في بلاد الدولة الرومانية، ما هو أشقى حالاً من مصر، الذي سعى حاكمها جستنيان جهده ليجبر القبط الذين ليسوا على مذهب الدولة الملكاني ( الكاثوليكي) فيدخلهم فيه، مما أثار الضغينة عليهم وعلى مذهب المونوفيس (اليعقوبي الأرثوذكسي) وصار العذاب أشد سعيراً( ).
وينقل بتلر عن حنا مسكوس قوله: "فلم يكن عجباً أن يسمع صليل السلاح بين حين وحين في مدينة الإسكندرية نفسها، وأن تمتلئ أرض الصعيد بعصابات اللصوص وقطاع الطرق، ولم يكن عجباً أن يكون هذا في بلاد أصبح الحكام فيها لا همَّ لهم إلا أن يجمعوا المال لخزائن الملك البيزنطي وحاشيته، والظلم ونشر الشقاء( ).
نصارى مصر بين غاشِمَيْن نصرانيين
ووجدت مصر نفسها في لحظة واحدة، بين فكين مفترسين، كليهما ينتسب إلى روما، أحدهما وهو الإمبراطور فوكاس الذي يحكم من روما وتنهار الإمبراطورية تحت قدميه، والآخر هو هرقل يريد أن يسرق الحكم لينهض بإمبراطورية جديدة تمثل القسطنطينية باسمه، على أنقاض الإمبراطورية القائمة.
الإمبراطور الحاكم فوكاس سلم قيادة الجيش إلى كلبه المفترس (بنوسوس) القادم من فلسطين وبلاد الشام، وهرقل المتمرد سلم قيادة جيشه إلى بيقتاس القادم من ناحية ليبيا.
الأول قادم في طريقه، يسير في أمن وأمان داخل مملكته، والثاني سُلِّمت له مدينة كبسين غرب الإسكندرية، فأعتق حاميها وأخرج من كان في سجونها فأصبحوا له جنداً، وسار بهم حتى بلغ الإسكندرية فوجد حاكمها يرفض التسليم له وفاءً للإمبراطور فوكاس، وكانت بينهما معركة شرسة انتهت بانتصار بيقتاس، نصراً مبيناً (بحسب تعبير بتلر)، وقَتَلَ القائد الإمبراطوري وجعل رأسه على سنان رمحه، ورفعه بين أعلام الانتصار وهو داخل المدينة بجيشه من ناحية (باب القمر)، فوجد أن حنا حاكم المدينة قد هرب، وثيودور رئيس خزانة الدولة، واحتميا بكنيسة القديس تيودور، بينما هرب البطريق الملكاني إلى كنيسة القديس أثناسيوس وظل بها حتى هلك( ) .
يقول بتلر: واجتمع القسوس والعامة عند ذلك، وأجمعوا رأيهم على إسقاط بنوسوس ووحوشه المفترسة، ورحبوا بقائد هرقل، ثم علقوا رأس المقتول على باب المدينة، ووضعوا أيديهم على قصر الحاكم الإمبراطوري، واستولوا على خزائن القمح، ونهبوا الأموال العامة، ثم أخذوا كنوز فوكاس، وملكوا حصون جزيرة فاروس وسفنها، وكانت هي المفتاح الغربي لمصر، كما كانت الفرما هي المفتاح الشرقي لمصر( ).
ورحبت كل أقاليم مصر بالمحتل الجديد هرقل أيما ترحيب(!!)، فيقول بتلر: ولما مَلك بيقتاس عاصمة القطر، أرسل وفوده ينشرون عَلَم الثورة في مصر السفلى الدلتا، وقد كان عملهم هيناً، لأن المصريين كانوا يكرهون حكم بيزنطة، فدخلت جنود هرقل المدائن واحدة بعد الأخرى تحت لواء (جيش الخلاص):
- ففتحت نقيوس أبوابها وفيها مطرانها الكبير ثيودور.
- وقام حزب الثورة في بلدة منوف فنهب دار الحاكم.
- كما نهب الحزب دور كل من كان في المدينة من كبار الرومان.
- ورحبت كل المدائن وحكامها بالإمبراطور الجديد، باستثناء مدينتي سبنيتس (سمنود)، وأتريب (بنها العسل) وحاكمَيْهما، فرفضا الانقلاب على الإمبراطور، وأعلنوا ولاءهم له( ).
وعلى الصعيد الآخر[لبيان حال مصر قبل أن يشملها الله برعايته، ويرزقها الله بالفتح الإسلامي اليسير] حيث المدخل الشرقي لمصر، كان بنوسوس قد وصل إلى مدينة قيصرية، وعلم هناك بنبأ سقوط الإسكندرية، وصمود سمنود وأتريب، فاشتد غضبه وزادت قوته، وقسَّم جنده إلى قسمين، الأول سلك طريق الفرما واحتلها، واتخذ طريقه على الفرع الشرقي الأكبر من النيل، أما الثاني فقد نهض لدعم سمنود وأتريب حتى أنقذوهما، وتوجهوا بجيوشهم إلى منوف حيث التقى جيشا بنوسوس، وهناك كانت المواجهة مع جيش بوناكس والثوَّار (التابع لهرقل)، واستعر القتال بين الفريقين فكانت الغلبة لجيش بونوسوس، وقضى تماماً على أتباع هرقل، فقتل منهم من قتل، وأسر من أسر، بما فيهم بوناكس الذي كان قائداً لجيش الثوار( ) .
وهنا خرج المطران تيودور الذي كان هارباً مختفياً، ومعه ميناس مراقب الأموال، رافعي الإنجيل والصلبان في موكب مهيب، سائرين إلى القائد المنتصر، نازلين على حكمه راجيِّ عفوه( ).
الإرهاب الحزبى لنصارى مصر
ثم يستطرد بتلر قائلاً: وكان خيراً لهما أن يلقيا بأنفسهما من أعلى أسوار مدينتهما [ يعني ينتحراً!!]، فقد أودع ميناس السجن وأذيق كل صنوف العذاب ، وجلد جلداً طويلاً وغرم 3000 قطعة من الذهب، ثم أطلق سراحه فمات من شدة ما لاقاه من العذاب..
أما ثيودور [ البطريق ] فقد أخذه بنوسوس عند باب مدينة نيقوس التي كان ثيودور أمر الناس فيها بأن يحطموا تماثيل الإمبراطور فوكاس، وأجلسه على الأرض إلى جوار التماثيل المحطمة، وأمر بأن تضرب عنقه؛ فضربوها، فلما علم رهبان الكنائس بما حدث لرئيس كنيستهم ثيودور هموا بتسليم كل الهاربين من البطش ممن لجأوا على الكنائس والأديرة، تقرباً إلى بنوسوس (ولاحول ولا قوة إلا بالله) .
لكن الحزب الأخضر[الذي هو ثالث ثلاثة أحزاب ، الحزب الأزرق وهو موالي للإمبراطور فوكاس، ثم الحزب الأحمر مع الأخضر، الحزبيين الثائرين على الحكم الإمبراطوري في مصر حينذاك] قد أعد العدة ومنح ولاءه لجيش نيقتاس، وحشدوا في مدينة الإسكندرية جيشاً منظماً، معززاً بكثير من العتاد.
وهكذا دارت رحى القتال الدائم، والكَّر، والفَّر بين القوتين الرومانيتين [الصليبيتين] المتصارعتين، وقوىً أخرى عديدة لم يأتى ذكرها على التفصيل، حتى قال بتلر:
"فالحق أن الإنسان كلما أمعن في درس ذلك العصر [الذي كانت عليه مصر قبل الفتح اليسير] تبين له وزاد عنده وضوحاً، أن مصر كانت فيه من أكثر البلاد هياجاً، وأيقن أن أمورها كانت في اضطراب يكاد يكون مطرداً، منذ أن انعقد مجمع (خلقيدونية)، وما أكثر الأدلة على ذلك الاضطراب في ثنايا كتاب حنا النقيوس، وفي كتب أخرى مثل (تاريخ بطارقة الإسكندرية)، وهي تصف إضطراب مصر، بغير أن تعرض للقصة التي نحن بصددها، قصة هرقل ذاتها( ).
ثم يستطرد بتلر قائلاً: "ويقيناً أنه إذا جاء الوقت الذي يُكتب فيه تاريخ هذا العهد كتابة وافية، ظهر أنه كان عهد صراع (متصل) بين المصريين والرومانيين، صراع متصل يزكيه اختلاف في الجنس، واختلاف في الدين، وكان الاختلاف في الدين أشد أثراً فيه من اختلاف الجنس، إذ كانت علَّة العلل في ذلك الوقت، تلك العداوة بين الملكانية والمنوفيسية، والأول كما يدل اسمها هي حزب مذهب الدولة الإمبراطورية والبلاط والملك، على حين أن الطائفة الأخرى، وهي حزب القبط المنوفيسيين (الأرثوذكس) أهل مصر، التي كانت تستبشع عقيدة الملكية وتستفظعها وتحاربها حرباً عنيفاً في حماسة هوجاء، يصعب علينا أن نتصورها أو نعقلها في قوم يؤمنون بالإنجيل [من شدة ما كانوا عليه من التعصب المقيت]( )
نصارى مصر يقتلون بعضهم
ونرجيء قليلاً حلقة التواصل مع بتلر، لنتوقف برهة مع المونوفيسية التي أوردها بتلر منذ سطور قليلة، والتي هي ملة المصريين (اليعاقبة الأرثوذكس) الرافضة لملة الرومان (الكاثوليك)، فيشرحها لنا محمد فريد أبو حديد مترجم كتاب بتلر في هامش (ص27)، فيزيد هماً وغماً جديدين على تاريخ أجدادنا النصارى في مصر، قائلاً: "لم يكن المنوفيسيون فيما بينهم وحدة، بل كانوا أحزاباً يشهد بذلك ما كان من الخلاف بين ثيودوسيوس الرجل العالم، وجايان القبطي، وصراعهما على ولاية البطرقة اليعقوبية [منصب البابوية أو البطريركية] في أوائل القرن السادس وكان (كل) الرهبان مع (جايان).
لكن ثيودوسيوس سبق جايان وقام بالصلاة في كنيسة مرقص، وقلد نفسه الولاية قبله، لكن الناس ثاروا عليه وأنزلوه عن عرشه، وأجلسوا جايان مكانه، لكن ما كان جايان يتولى البطرقة، حتى تدخلت ثيودورا زوجة الملك، وكانت تخفي أنها على ملة المنوفيسيون غير ملة زوجها، لكنها كانت متعاطفة مع ثيودوسيوس، فأرسلت من قادة قصرها من يخلع جايان ويخرجه من الكنيسة [هكذا كان حال الكنيسة من الهرج والمرج]، ويجلس ثيودوسيوس مكانه، فقامت ثورة بين الناس، ونشب قتال بين النصارى المصريين اليعاقبة المنوفيسيين الأرثوذكس (بعضهم البعض) في شوارع الإسكندرية، وأريقت فيه الدماء واشترك فيه الناس جميعاً حتى النساء كن يرمين بالحجارة الضخمة من أعلى المنازل على رؤوس خصومهم من أبناء مِلَّتهم.
وكان الخلاف بين الطائفتين؛ منشؤه اعتقاد جايان بأن جسد المسيح خالد لا يفنى، أما ثيودوسيوس فاعتقد أن جسد المسيح مثل أجساد البشر تفنى وتفسد.
لكن الحاكم (جستنيان) رأى أن يقلد أحد قواده زوبليوس ولاية الدين، مستبعداً جايان وثيودوسيوس، لكن ثورة أجدادنا الأقباط زادت اشتعالاً، إنما ضد الحاكم الرومان في هذه المرة، فخلع الحاكم زوبليوس وجعل بدلاً منه أبوليناريوس، ومنحه ولاية الحكم والكنيسة معاً، فما كاد الخبر يعلن في أنحاء الإسكندرية، حتى نشأت مذبحة شارك فيها المطارنة (كبار الكهنة) فخرجوا من كنائسهم خالعي زي الكهنوت لابسي عدة الحرب، فجرت الدماء بين القبط، لم يوقفها غير استمالة رجال جايان نحو ثيودوسيوس، وإقناعهم بفناء جسد المسيح عليه السلام، وهو الذي عليه نصارى مصر حتى الآن.[ولا حول ولا قوة إلا بالله].
نصارى مصر سفاكو دماء
وأعود إلى بتلر ثانية، ليكمل لنا وصف حال أجدادي المصريين (الأقباط) قبل الفتح الإسلامي مباشرة، فيقول: "الحق أن روح التعصب الشديدة التي ثارت بالأقباط يوم مزقوا جسد الفتاة الجميلة (هيياشيا) قطعاً في هيكل الكنيسة( ) لأنها أصرت على وثنيتها، هي نفس الروح التي لا تزال كامنة في قلوبهم اليوم لم تتغير، غير أنها صارت تثور في فرقتين، كل منها تدعي أنها ابنة المسيح، وترمي الأخرى بأنها ابنة الشيطان.
وفوق هذا، كان يزيد الأمر شراً ما كان بين الحزبين الأخضر والأزرق من صراع، إذ كانت عداوة هذين الحزبيين القبطيين في مصر، عداوة حقيقية بلغت أشد ما بلغته عداوتهما في أي جهة من جهات الدولة الرومانية( ) .
ثم يلخص د. بتلر هذه الصورة الدموية السوداء الكريهة إلى النفس التي كان عليها حال أجدادنا الأقباط قبل سنوات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من الفتح الإسلامي مباشرة، فيقول( ): حسبنا هذا القول لندلل به على ما كانت عليه مصر في ذلك العصر، أما ما يزعمه الزاعمون أنها كانت بمنجاة من غزوات الأجانب وإغارتهم، فيكفي لإظهار خطئه أن نذكر إغارة الفرس في أيام الإمبراطور أستاسيوس حيث أحرقت كل أرباض الإسكندرية، كما يشهد بذلك سعيد بن بطريق وهو كاتب نصراني مصري المولد، وهو يذكر: أن القتال ظل قائماً بين المصريين وغزاة الفرس في مواقع يتلو بعضها بعضاً، وأن البلاد عصفت بها مخالب الخراب، فلم تكد تنجو من السيف، حتى أصابتها مجاعة دفعت الناس إلى الثورة".
ويستطرد بتلر قائلاً: وماذا عسانا أن نذكر من عسف الاضطهاد، وعن المذابح؛ وما سال فيها من الدماء، وتشجيع الحكام لذلك، وماذا عسانا أن نذكر من الثورات الصغيرة، ومن خروج اللصوص في عصابات منظمة، ولئن كانت الحرب في كثير من الأحيان غير ثائرة في البلاد في الحقيقة، فإن شبحها المخيف كان يتراءى لها أبداً، ويرفعها الآل على آفاقها.
ولا يفوت بتلر رصده الدقيق لما كان يجري في مدينة سلاينك بتركيا، حيث اتخذ منها هرقل مركزاً لجيشه، ومقراً لأعماله في مواجهة القسطنطينية ، التي هي مقر فوكاس الإمبراطور الروماني، وأعد هرقل أسطولاً وجيشاً يكفيان لما كان مقبلاً عليه لقتال فوكاس، فلما فرغ من تجهيزهما، أقلع الأسطول متجهاً نحو الإسكندرية، لكن بنوسوس وجنده كانوا قد أعدوا العدة لاصطياد جنود هرقل بعد إقلاعهم، إلا أن أعوانه خزلوه وتخلوا عنه عند أول مواجهة، فقذف بنفسه في الماء في محاولة منه للهرب، فغاص به، وما أن طفا مرة حتى أصابه سيف شق رأسه نصفين.
ولم يكتف جند هرقل بذلك، إنما أخرجوا جثة بوناسوس القائد الأول للإمبراطور الروماني فوكاس وجرَّها الناس إلى سوق الثيران في سلاينيك فأحرقوها( ).
ويصف بتلر هذه الجثة قائلاً( ) "فأحرقوها يجللها العار، وتشيعها اللعنات".
ثم يستطرد نقلاً عن حنا النقيوسي: ومنذ علم الإمبراطور فوكاس وهو في القسطنطينية ما أصاب بنوسوس، عرف أن ساعته قد دنت، ولم يكن في نيته أن يخلع عن نفسه التاج، وعلى ذلك جهز أسطولاً وجعل رجاله من الحزب الأزرق، في ميناء أيا صوفيا وجمع مع ليونتيوس خازن أموال الإمبراطورية كل ما في الخزائن من ذهب وجواهر وأموال وكل ما كنزه بنوسوس من تحف ونفائس، وجعلها في سفينة من سفنه، فلما كانت الحرب والمواجهة أصابت الهزيمة سفن الإمبراطور سريعاً وقذف بها إلى الشاطئ بعد أن أغرق فوكاس سفينة الأموال شفاء للغل، ورياً للحق، وفر هارباً، فلحق به بعض جند هرقل، وضربوا التاج عن رأسه فتردى عنه، ثم أمسكوا به ووضعوه في القيود والسلاسل، وجيء به يُجَر جراً، وقد تمزقت ثيابه كل ممزق، إلى حضرة الفاتح المنتصر في جزيرة الرسول توماس وصيحات اللعن الصاخبة تصدع أذنيه.
يقول بتلر( ): ومن الجائز أن هرقل اختار كنيسة الرسول توماس ولم يختر كنيسة أيا صوفيا، إذ كان بها عدد عظيم ممن فروا من الحزب المقهور، ولم تكن تتسع لجمع كبير فوق ذلك.
ثم يعقب: ولسنا في حاجة إلى أن نكلف خيالنا شططاً؛ ليصور لنا كل ما جرى بين قطبي الإمبراطورية الرومانية الشرقية[الَّذَين كانا يتصارعان على حكم روما].
وحسبنا أن نتصور: كنيسة ضخمة تزدحم برجال الدولة من قواد وشيوخ وجنود ، وقوم من رجال الدين وقفوا في ثيابهم البهية حول الهيكل ، وقد وضعت عليه آنية الذهب.
ومن حولهم يدوي المكان بأصداء النشيد لشكر الله، ثم يدخل [الإمبراطور الساقط ] فوكاس مكبلاً بالقيود ليمثل أمام هرقل ، ثم تلى رجل الكنيسة عليه كتاب ذنوبه جريمة بعد أخرى.
ثم قال له هرقل: أهذا سيل حكمك؟
فكان رد فوكاس: وهل أنت من يحكم خيراً من هذا؟
الذبح البشع ببركة إنجيل المحبة
يقول بتلر( ): وحكم عليه بالقتل وأنفذ فيه ذلك، وارتكب في قتله مُثْلَة فظيعة، لعمري أن تلك المثلة لم تكن من عيب في هرقل، إنما كانت من عيب في العصر وعلى بشاعتها، فإنها لم تكن أفظع مما كان مباحاً في قانون بلادنا (بلاد الإنجليز التي جعلت من الإنجيل موثقاً لها).
فقد قُطِّعت أعضاء فوكاس
يداه أولاً
ثم بتر ذراعاه
ثم شوهوا وجهه
ثم قطعوا رأسه
ثم وضعوها على راس قضيب أرسلوه لينصب في أكبر طرق المدينة
أما ما بقى من جسده:
فسحبوه على الأرض إلى ميدان سباق الخيل
ثم إلى سوق الثيران
ثم أحرقوه في المكان الذي كان فيه رماد بنوسوس.
ولم يكتفوا بذلك؛
فبعثوا رسلاًَ أتت بتمثاله في موكب استهزاء،
يحمله جماعة يلبسون ثياب الكهنوت البيضاء
وفي أيديهم الشموع
حتى ألقوه فوق نار جسده التي كانت مشتعلة
فلما سكتت النار وأصبح الجسد والصنم رماداً
تسابقوا في أخذه وذروه في الهواء كراهية وغلاً
وألبسوا هرقل تاج الإمبراطورية( )
بعد أن أدى الصلاة في كنيسة القديس توماس !!!
وفي اليوم الخامس من أكتوبر سنة 610ص، أعلنت ولاية هرقل للإمبراطورية، وأصبحت عروسه المخطوبة فابيا إمبراطورة الدولة، وصار اسمها أودوقيا [وبالطبع بارك له الرهبان والكهنة إقامة هذه الخطيبة مع خطيبها الإمبراطور في قصر الإمبراطورية، على اعتبار أنها مشروع زوجية سوف يتم في المستقبل القريب].

ظفر بها الوريث المتمرد هرقل
مصر في حكم الإمبراطور الجديد
أرسل الإمبراطور الجديد هرقل إلى نيقتاس، وجعله نائباً عنه في مصر، فكان هَمّ نيقتاس أن يعيد للحكم المدني الروماني نظامه، وأن يعيد للجيش الروماني كيانه، وكان الحكم المدني والجيش كلاهما في يد السادة الحاكمين.
ثم يعقب بتلر على هذه الفقرة بقوله( ): وليس فيهما ( الحكم والجيش ) أحد من أقباط مصر أهل البلاد... ذلك أن حكومة الرومان في مصر، لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم ترقية حال الناس، أو العلو بهم، أو تهذيب نفوسهم، أو إصلاح أمور أرزاقهم، وكان جند الحكومة وجباة ضرائبها ينتشرون في كل المدائن، يُظهرون هيبة السلطان ويجمعون الأموال، على حين كان تجار الروم، واليهود يحلون حيث شاءوا تحميهم الجنود، ينافسون الأقباط في كل أرزاقهم منافسة شديدة( ).
التاريخ الغائب
ومنذ اعتلاء هرقل لعرش الإمبراطورية الرومانية الشرقية وولايته الجديدة على مصر عام 610ص، حتى الفتح الإسلامي عام 640ص، مضت ثلاثون عاماً من تاريخ مصر، فماذا دار خلال هذه السنوات؟
يقول بتلر( ): من سوء الحظ أن تاريخ مصر في هذه الفترة عسير إدراكه، فإن كتاب حنا النقيوسي لا يذكر عنها شيئاً، وعليه جُلَّ اعتمادنا إلى ذلك الوقت، فإن بالنسخة التي ننقل عنها نقصاً كبيراً، إذ تغفل ثلاثين عاماً من ذلك الوقت، وكأن يداً أثيمة قد عمدت إلى ذلك الكتاب فأودت بكل ما فيه ذكر لحكم هرقل.
ونعقب على كلام بتلر أن وصف الإثم هو أقل ما يمكن أن نشير به إلى هذه اليد التي تآمرت على تاريخ الأمة، وأفسدت مصدر تاريخها الوحيد واليتيم، لتسرق منه ثلاثين عاماً كاملة، هي تلك السنوات التي مهدت للفتح الإسلامي.
إنه مهم جداً أن نقف على حال مصر والمصريين في هذه السنوات الثلاثين التي نؤكد أنها أبداً لم تكن أفضل من السنوات التي سبقتها، بل هو بالضرورة كانت أشد سواداً وأكثر دموية، وأعم قتلاً.
يقول بتلر( ): فإذا نحن أردنا أن نعرف تاريخ مصر في هذه المدة، فلا مناص لنا من أن نلجأ إلى ما كتبه رجال الكنيسة، ومن لهم ميول دينية قوية، تجعلهم غير أمناء في رواياتهم.
ووصفاً لما كان عليه حال أجدادنا الأقباط من كراهيتهم لبعضهم البعض، والحقد والغل الذي يسيطر عليهم بسبب الشقاق الديني وتعدد الطوائف والملل.
فحق على مصر المسيحية قول الشاعر جوفنال، إذ يصف ما كان بين قومه من النزاع والشقاق متسائلاً على أيها أفضل لهم في العبادة:
عبادة التماسيح، أم عبادة القطط، ثم مجيباً على نفسه: "كل مكان يكره الآلهة التي يعبدها جيرانه، ويعتقد أن الآلهة الحقيقية هي التي يعبدها هو"
3- ثم يضيف بتلر مستنكراً( ) وعلى هذه الآثار[النادرة غير الأمينة]، تعتمد في معرفة تاريخ مصر في ذلك العهد.
ثم يبدأ يحكي في مرارة شديدة:
كان في مصر في ذلك العصر ما كان فيها منذ مجمع خلقيدونية عام451، فرقتان من المسيحيين، لكل منهما بطريقها[بطريركها]، ولكل منهما أمورها الدينية، حزبان: أولهما حزب "اليعاقبة" وهم القبط، والثاني حزب "الملكانية" وهم حزب الملك.
كان اليعاقبة على مذهب المونوفيسيين، وأغلبهم من المصريين وكان الملكانيون على مذهب مجمع خلقيدونية وأغلبهم من أصل إغريقي أو أوربي.
4- يقول بتلر( ): ونجد إجماعاً من المؤرخين على أنه لم يتولى مصر إمبراطوراً، إلا كانت غايته القضاء على مذهب اليعاقبة في مصر، بلا هوادة وبلا رحمة، وكان اليعاقبة لا يرضون بديلاً إلا أن يمحوا كل أثر من آثار مذهب خلقيدونية.
وقد سبق ذكر مقتل المصريين للبطريق الملكاني ثيودور عند فتح نيقتاس للإسكندرية عام 609، وكان القبط بتعاونهم مع نيقتاس وهرقل ضد فوكاس، أملاً في أن يجدوا حاكماً أرفق بهم.
والحق [يقول بتلر]( ): أن القبط" لم يشعروا بخيبة أمل في أول ست سنوات من حكم نيقتاس، كما أن البطريق الملكاني في هذه الفترة حنا الرحوم أحبه اليعاقبه وبجلوه في حياته وعظموه بعد مماته، إذ اتخذوه أحد قديسيهم إذ كان حنا لا ينقطع عن بذل الهبات والعطايا والأموال وإطعام الطعام، وكان من الرحمة أنه لم يُعَنِّف أغنياء النصارى المصريين، الذين بلغت بهم ضعة النفس، أن يستفيدوا من إحسانه (برغم أنهم أغنياء)( )
أما عن صراع الملتين فيقول بتلر: لكن رغم ذلك فإن رئيس القبط لم يستطع أن يبقى في العاصمة التي كان بها رئيس الملكانيين، فقد كانت العداوة بين الشيعتين مستعرة, وإن خمدت تتقد في خفاء ويندلع منها اللهب إذا ما هب عليها أضعف ريح من الفتنة( ).
وليس من المجدي أن نأسف، أن الأخبار المفصلة عن الكنيسة والتي لا تلذ كثيراً للقارىء، هي كل ما مضت من تاريخ مصر في السنوات الست التي جاءت بعد اعتلاء هرقل لعرش الإمبراطورية.


سرقها الفرس من هرقل
يتلمس النصارى كل سبيل لتأكيد أن كسرى ملك الفرس كانت عنده ميول شديدة لعقيدة النصرانية، فيقولون أنه عندما ثار عليه أحد قادة جيشه بعد ولايته بأيام قلائل, هرب إلى قرقيسيا إلى نهر الفرات باحثاً عن كنيسة يؤدى فيها الصلاة ويسأل ربه أن ينصره على أعدائه، فرمى أعنة فرسه على غاربه حتى بلغ حدود الروم الصليبية، فأنزلوه ضيفاً عليهم وهم الذين ظلت بلادهم في حرب مستعرة نحو سبعة قرون مع قومه, وفي هذا القول إشارة إلى كرم عبدة الصليب مع خصومهم، وهو ما لم يذكره التاريخ أبداً ولو على سبيل المجاز.
يقول بتلر: فلقيه نائب الإمبراطور الروماني موريق وأرسل الإمبراطور إليه هدية من الجواهر لا يقدر لها ثمن (!!!) كما زوجه من ابنته مارية، وجَهَّز له جيشاً قوامه الألف من جنود الروم، استعاد به كسرى عرشه، وعاد ملكاً للفرس كما كان من قبل، فكانت بين المملكتين علاقات حميمة حتى لقد قيل أن كسرى تنصر( ).
وهنا تتجلى علاقة إمبراطورية الصليب, بالكرم والشهامة، إذ ما كادت الأمور تستقر بكسرى على كرسيه، فإذا بالروم يطالبونه - هكذا يقول بتلر نصاً - برد الجميل ومنح الروم مكافأة تعاونهم معه، بأن يضم إليهم أرض فسيحة من مملكته, توسع لهم حدود إمبراطوريتهم، وهنا يستطرد بتلر قائلاً:
كان هذا الطلب سبباً في إيلام كسرى وقومه، وأيقظ مشاعر كسرى تجاه عقيدة النصارى وما سببه ذلك من آلام لكهنته، فبادر بالعدول عن ميوله هذه وإصلاح خطئه، فقطع صلته، ونقض عهده مع الدولة البيزنطية، وصرف حرسه الذين كانوا من الروم، واستبدل رئيس جيشه بفارسي، واتفق ذلك الوقت مع انقلاب حدث ضد إمبراطور بيزنطة، موريق، انتهى بمقتله هو وكل أولاده ذكوراً وإناثاً، واعتلى القاتل فوكاس عرش الإمبراطورية, فكان ذلك مبرراً لتجديد الحرب بين المملكتين, واستطاع ملك الفرس أن يصل إلى أرمينيا ويفتحها، ثم توجه بجيشه نحو ذلك إلى بلاد الشام وفتح مدينة أنطاكية، في الوقت الذي اعتلى فيه هرقل عرش الإمبراطورية الرومانية، لكن قائد الفرس لم يوقف زحفه في بلاد الشام واستطاع أن يحكم قبضته على ما يقع تحت يديه من المدن حتى استطاع الاستيلاء على دمشق وقيصرية وقد مضى من ملك هرقل خمس سنوات، وطمع قائد الفرس أن يختتم فتوحاته ببيت المقدس، فأرسل رسلاً إلى أهلها، فرحب اليهود منهم ترحيباً شديداً أن يسلموا للفرس الأرض والوطن، ليس حباً في الفرس وإنما كراهية في المسيحيين وحقداً عليهم وانتقاما منهم لما كانوا يلاقونه من العذاب والتعذيب والتضييق والقتل من المسيحيين شعباً وحكومة( ).
أما المسيحيون أصحاب الأرض حينذاك، وحكامها من البيزنطيين، فقد اختاروا الخزي والعار وارتضت أغلبية الشعب المسيحي أن تهجر الأرض والوطن.
أما الجيش البيزنطي فقد استسلم للمحتل القادم حتى قبل أن يأتي، وما كاد الفرس يستقرون داخل بيت المقدس لعدة شهور قليلة إلا وقد تمكن منهم المسيحيون غدراً، فأغلقوا عليهم أبواب المدينة، وكادوا يقضون عليهم لولا تعاون اليهود مع الفرس والذين فتحوا لهم ثغرة في أسوار المدينة بعد تسعة عشر يوماً فأعقب ذلك كما يقول بتلر: مشاهد مريعة من التقتيل والنهب والتدمير في المسيحيين، وكانت الضحايا عظيمة وأقرب ما قيل فيها إلى الأفهام، أن عدد القتلى بلغ (57) ألفاً، وعدد الأسرى (35) ألفاً، ويقول مؤرخي بيزنطة أن عدد من هلكوا كانوا(90) ألفاً، الثابت أن القتلى كان بينهم آلاف كثيرة من الرهبان والقديسين والراهبات.
يقول بتلر( ):
ولعل ذلك الحادث من انتصار الفرس أهل الأوثان في بيت المقدس وما أوقعوه فيه من كوارث السيف والنار، هو الذي نزلت بمناسبته الآية الشهيرة غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ[سورة الروم ]
ولكن الملجأ الأكبر للهاربين المشتتين من المسيحيين،كان القطر المصري، ولاسيما الإسكندرية، وكان عدد سكانها قد تزايد بمن كان يرد إليها من اللاجئين الذين كانوا لا ينقطع سيلهم منذ أن ابتدأت غزوة الفرس في الشام.
ثم يضيف بتلر( ):
كان فتح بيت المقدس آخر ما كان على الفرس القيام به هناك، فلما اقترب خريف سنة 616ص، كان الاستعداد قد تم لغزو مصر فاتخذ شاهين قائد جيش الفرس على مصر طريقه إلى العريش ثم تتبع ساحل البحر إلى أن وصل الإسكندرية سنة617ص، فلم يكن لدى أهل وادي النيل المسيحيين, رغبة في قتال ولا قدرة عليه، ولهذا لا نجد ذكراً لوقعة ذات شأن، ولا محاولة سعي في سبيل الدفاع عن البلاد( ).
ويصف مؤرخو اليونان هذه الحرب السهلة فيقولون:
جاء الفرس:
5- فأخذوا مصر كلها.
- والإسكندرية كلها.
- وليبيا كلها إلى حدود أثيوبيا.
ثم عادوا:
- ومعهم عدد عظيم من الأسرى.
- وغنائم جليلة المقدار
يقول بتلر( ):ويزيد المؤرخون المصريون النصارى أبا صالح على تلك القصة شيئاً يسيراً لا يشفي غليلاً:
- أن الفرس خربوا من الكنائس والأديرة الكثير.
ثم يفصل بتلر: نقلاً عن كتاب ساويرس الأشموني (حال مصر وأقباطها في الإسكندرية من جراء هذا الاحتلال الفارسي)
فيقول: "جاء في الأخبار أنه كان بأرباض الإسكندرية نحو ستمائة من الأديرة، لها آطام على شكل أبراج الحمام، وكان الرهبان آمنين وراء هذه الحصون, واثقين بمناعتها, فلم يلتفتوا إلى اتخاذ الحيطة، بل دفعهم الاطمئنان إلى الجرأة على استعداء عدوهم، فجاءت إليهم كتيبة من الغرب حيث كان معسكر الفرس وأحاطت به، وما أسرع أن دكوا حصونهم الضعيفة الساذجة، وقتلوهم جميعاً إلا من دخل الجحور، ونهبوا ما في أديرتهم من أموال وأمتعة، ثم هدموها وأحرقوها( ).
يقول بتلر: ولعل مفاتيح الإسكندرية قد أرسلت إلى كسرى في أول سنة 618ص مع عدد كبير من أهل مصر، أخذوهم سبايا( )، فلما خبت ثورات الفرس في البلاد، واستقر أمرهم وفر جند الروم جميعاً في البحر، استقر القبط على شيء من الاطمئنان، وخضعوا مرة أخرى لسيد جديد بعد زوال سلطان السيد القديم، وكان هذا هو شأن تاريخ الأقباط السياسي منذ أقدم الأزمان، أن تتبدل عليهم السادة وتتعاقب، على حد تعبير ألفريد بتلر.

ثم استعادها هرقل
بدأت أعين كسرى تتجه نحو القسطنطينية، وعزم على فتحها والقضاء التام على إمبراطورية الروم، وتحرك بأسطوله ليخترق بلدان آسيا الصغرى حتى وصل إلى مدينة خلقيدونية، وهناك ذهب إليه هرقل متوسلاً الصلح معه ووقف الزحف، ولكن كسرى الذي سيطر على مصر وبلاد بابل والشام وفلسطين وآسيا الصغرى، ما كان له أن يقبل أي تفاوض مع المهزوم، وقد عقد العزم على إسقاط دولة الصليب، فخاطب رسول هرقل قائلاً له: قل لمولاك أن دولة الروم أرض وما هو إلا عاص ثائر، وعبد آبق، ولن أمنحه سلاماً حتى يترك عبادة الصليب ويعبد الشمس.
فأثار هذا القول همة هرقل ومن حوله من الكهنة وقادة الجيش والملك وحاشيتهم، واجتمعت كلمتهم حول هرقل الذي استعاد نفسه، ونهض من سباته،ونفض عن نفسه الإحساس بالهزيمة، وبدأ يعد لأول حرب صليبية كبرى في التاريخ، استغرق الوقت لها أربعة أعوام من الإعداد وأقرضته الكنائس لأجلها كل ما كان لديها من كنوز عظيمة وأوان من ذهب وفضة ونفائس، سكها كلها نقوداً أمد بها خزائن الإمبراطورية الخاوية( ).
فلما تم له ترتيب جيشه وأسطوله البحري استخلف هرقل على الحكم ولده، وجعل وصيين أحدهما هو بطريرك الروم (سرجيوس) والآخر هو النبيل (بوتوس)، ثم انتعل نعلاً أسوداً ودخل الكنيسة الكبرى يسأل ربه المعونة فدعا له شماس الكنيسة وسادنها فقال: "اسأل الله أن تصبغ نعلك في نعال عدوك حتى يصبح أحمر لونه"( )
ويعلق بتلر على هذا الدعاء الدموي من أحد رجال الكهنوت الكنسي يُفترض فيه التقوى والورع والرغبة في السلام.
فيقول:وتلك لعمري دعوة تقي، نغتفرها لشاعر الملك ، لكن لا نغتفرها لقسيس الجيش وإمامه.
وبدأ هرقل رحلته في يوم الاثنين، يوم عيد الفصح لسنة 622ص (التي توافق عام الهجرة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم),
وبعد ست سنوات من الحروب والنزال والمعارك والقتال، حتى فبراير 628 ص[الموافق سنة 6 من الهجرة] استرد هرقل آسيا الصغرى وبلاد الشام وبيت المقدس ومصر.
أما كسرى فقد قَبَضَ عليه شيرويه نائبه الذي خلفه في الحكم وأذاقه أشر أنواع التعذيب والقهر والذل ثم قتله( ).
يقول بتلر: وانتهت تلك الحرب الصليبية الكبرى بنصر "عجيب"، قَلَّ مثله في التاريخ فيما يثيره في النفوس، وعقد الصلح بين دولتي الروم والفرس، واحتفلت دولة الروم بانتهاء الحرب والنصر في يوم عيد العنصرة، الذي كان في 15/5 من السنة ذاتها 628ص، وقرأت البشرى من هيكل كنيسة آيا صوفيا، فكان لها في النفوس وقع كبير، إذ خلص دولة الروم، وحفظ دين المسيحيين، بعد أن كان على شفا جرف هار من الضياع والدمار( ).


المصريون ثانية
من لسع سياط الفرس إلى لسع عقارب الصليب
يقول بتلر: في أواخر سنة 622ص وأوائل سنة 623ص، عندما مات أندرونيكوس كبير أساقفة القبط الأرثوذكس، وخلفه من بعده بنيامين، كان حُكم الفُرس في مصر غير مزعزع، ولا يخشى عليه من قبل هرقل. وقد وافق اختيار بنيامين لولاية دين القبط في مصر هوى في القلوب، فلم يتساهل في أمر الدين، ولم يغض الطرف عن رذيلة في الخلق، فشرع يأخذوا قسوسه بالشدة إذا هم جازوا حدود الحمى في حياتهم( )، فيقول بتلر: [واصفاً حال رؤساء دين القبط] وما كان هناك من يفعل ذلك أكثر منهم، حتى أنه أرسل كتاباً إلى أساقفته قال لهم فيه: "لقد رأيت في مقامي في حلوان وبابليون، جماعة من أهل العناد والكبر، وكانوا قسوساً وشمامسة وما أكثر ما كرهت نفسي أفعالهم"( ).
لكن الحرية التي تنفسها أقباط مصر لأول مرة في تاريخهم لم تدم أكثر من السنوات الأربع الأولى لبنيامين، هي التي قضاها في سلام تحت ظل الفرس في الإسكندرية، ثم رأى جنود الفرس تجلوا عن مصر عندما غلب هرقل ملكهم وقهره سنة 627ص، ورأى قدوم جند الرومان لإخلال مصر سنة 629ص، وقد رحب به النصارى جميعاً في مصر وهم يتابعون جهاده المدهش وفرحهم بنصره على اختلاف نحلهم من قبط وملكانيين( ).
وقد فطن هرقل إلى هذا وعرف تعلق أهل مصر به، غير أنه لم يفطن إلى أن اختيار قيرس في خريف 631ص لزعامة الدين رسمياً في مصر, كان كمن يسعى إلى المصاعب سعياً، إذ كان قيرس نجساً أنكد النقيبة، كما أن هرقل قد أخفق بشؤمه في سعيه لتوحيد المذاهب في مصر، وكان شر الطرق التي استخدمها قيرس وإمبراطوره, ضم المصريين إلى جماعتهم، أن يرغموهم على مذهبها ويقذفون به في حلوقهم، إذ قدم كرهوا مرارة مذاقه.
لقد عسف قيرس في الحكم مع نصارى مصر، حتى صار اسمه مفزعاً لهم،كريهاً عندهم، مدة عشر سنين، أمعن فيها ما استطاع من اضطهاد مذهبهم، حتى استحال بعده أن يبقى في القبط ولاء لدولة الروم الصليبية، وكان فوق كل ذلك خائناً، فإذا ما اشتد الكرب وجَدّ الجَد أسلم البلاد لأعدائها، فذاع بين الناس سوؤه، وقبح ذكره فمهد السبيل بذلك إلى فتح العرب للبلاد( ).
يقول بتلر: ما إن قدم قيرس إلى الإسكندرية حتى هرب البطريق القبطي.. ففي الحق، قد رأى القبط في مقدم قيرس، إيذاناً لهم بحرب يثيرها الروم على عقيدتهم، وكتب إلى أساقفته جميعاً يأمرهم بالهجرة إلى الجبال والصحاري ليتواروا فيها حتى يرفع الله عنهم غضبه( ).
ثم يضيف: وأنبأهم أن البلاد سيحل بها وبال، وأنهم سيلقون عسفاً وظلماً عشر سنين، ثم يرفع الله ذلك عنهم.
ثم أخذ يتنقل بين الصحاري والجبال حتى بلغ مدينة قوص في صعيد مصر، ولاذ هناك بدير صغير بالصحراء، غير بعيد من تلك المدينة.
يقول بتلر:
ولم نجد كلمة واحدة في خبر من الأخبار، تدل على أن قيرس سعى مرة إلى أن يتقرب إلى بطريق القبط أو يتفق معه، فالظاهر أن مجيئه إلى مصر كان بقصد تشريد القسوس القبط فزعين...ولا شك أن قبضة قيرس على رياسة سلطة الدنيا والدين، مما هو الذي زعزع أمر بنيامين( ).
على أن الذنب في ذلك الإخفاق كله، كان ذنب كلا الفريقين، فقد كان قيرس عاتياً متكبراً، وكان القبط معاندين قليلي البصيرة، وذلك إذا نحن سلمنا أن قيرس قد أوضح لهم مذهبه الجديد، فإنه لم يكن ثم فرق كبير بينه وبين مذهب القبط، لو أن كلا المذهبين طرح أمام أعين الناس أجمعين، لكن القبط في ذلك الوقت قد ارتكبوا خطأً كبيراً برفضهم ما عُرض عليهم من أمر توحيد المذاهب، وكان خطؤهم ذاك سبباً في مصائب عظيمة تحل بهم( ).
ثم يعقب بتلر بقوله: "ولأن استقلالهم في أمور الدين هو أكبر ما تتعلق به نفوسهم، فإنهم لم يعزموا الاستقلال القومي قط، ولعلهم لم يحلموا يوماً بمثل هذا الأمل.
وبرغم أن قيرس بدأ فتوحاته لجميع بلاد مصر، حتى أصبحت تحت حكمه من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال على الجنوب، وأنه بالضرورة كان يحرك الجيوش ويستقبلها مع كل فتح، فإنه لم يبعث على الحزن والأسى، بأن نصارى مصر لم يكن لهم شأن بأي شيء من هذا، وأن كل ما تخلف من أخبارهم طوال العشر سنين، لم يكن إلا شيء واحد وهو أن الروم كانوا يخيرون الناس بين قبول مذهب خلقيدونية الكاثوليكي الملكاني، وبين الجلد أو الموت ولم يكن في عقول (!!) مؤرخي القبط إلا هذا الاعتقاد يدونونه في دواوينهم( ).
عودة إلى الفتنة الكبرى
إذ لما ذهب الاحتلال الفارسي للمرة الثانية، وجاء الاحتلال الروماني للمرة الثالثة، ولما كانت مصر تخلصت تماماً من كل أوكار اليهود، فلم يبق للنصارى غير الخلاص من بعضهم البعض، شركائهم في العقيدة، خصومهم في الاعتقاد, إذ قرر هرقل التماس وسيلة لجمع مذاهب دولته وتوحيدها، باعتباره هو بطل النصرانية وناصرها وحاميها من الفناء، ولم يكن أحد ليستطيع أن يزحزحه عن رأيه في ذلك، خاصة فيما يتعلق في اليعاقبة وهم حزب الخوراج [ بحسب تعبير بتلر]( )، والملكانيين, وهم حزب الجماعة, وكانت تلك الصورة تقضي بأن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن طبيعة المسيح [عليه السلام]:
عما إذا كانت له صفة واحدة، أم صفتان.
وأن يشهدوا فقط أن له إرادة واحدة ومشيئة واحدة.
واستطاع هرقل أن يجمع بولص زعيم الدين في أرمينيا، وسرجيوس رئيس كنيسة القسطنطينية الذي هو صاحب هذه المشورة منذ البداية مع هرقل، وعرض على إثناسيوس رياسة الدين في أنطاكية بالشام على شرط الإقرار بمجمع الخلقيدونية (الكاثوليك) وتأويل التوفيقيين (المونوثيليين).
وأقر الثلاثة لهرقل إقراراً كاملاً بقبول التوفيق بين طوائف النصرانية، وفرحوا كثيراً أن يسود السلام الكنيسة لأول مرة، منذ القرن الأول للنصرانية عام 631، ولما عاد هرقل إلى بيت المقدس اختار صفرونيوس( )كبيراً للأساقفة على نفس الشروط، فقبل صفرونيوس مرحباً بذلك، وأرسل هرقل إلى قيرس بَطرَق (بطريرك) الإسكندرية الجديد، أخبره بما تم وطلب منه أن يؤيد ذلك، فجاءت الأنباء إلى هرقل من مصر، مبشرة بالنجاح والقبول فقد وصف قيرس نجاحه وصفاً بليغاً، حتى كان يخيل إلى الناس أن هرقل قد بدأ باسترجاع دولة الروم بعد ما كان مزقها الفرس كل ممزق( ).
لكن الحقيقة كانت غير ذلك على الإطلاق، فإن كل بطرق من البطارقة رضى بشروط هرقل وتنازل عن أساس عقيدته طمعاً في منصب البطرقة, وإرضاء للإمبراطور، إلا أن شعوب الكنائس المتصارعة لم يكن لها نصيب مما تمتع به بطارقتها، فرفضوا جميعاً قبول التوفيق:
وتعصب الملكاني لملكانيته, وكره أن يكون على اليعقوبية الكافرة، وتعصب اليعقوبى إلى يعقوبيته وكره أن يكون على الملكانية الكافرة...
وما حدث في الشام, حدث في بيت المقدس، ومثلهم, وأسوأ كثيراً، حدث في مصر.
كان الأمر في بلاد الشام أهون مما كان عليه في مصر وبيت المقدس، فقد كان أثناسيوس صاحب كياسة وأناة، كما كان لوجود الإمبراطور حينذاك في الشام، الأثر الجيد في تخفيف حدة الخلاف ومنع الخروج على طاعة أثناسيوس، ومن ثم على طاعة الملك( ).
لكن الأمر المحقق، هو رفض أتباع أثناسيوس لما أسموه بالبدعة المونوثيلية التوحيدية.
يقول بتلر( ): وفي بيت المقدس كان أول ما قام به صفرونيوس بعد ولايته أن جمع رجال كنيسته وقال فيهم كلمة, طعن فيهم بدعة الإمبراطور، بل تجاوز ذلك وندد بها في غير حيطة ولا هوادة، وحكم على كل بطرق من بطارقة الكنيسة يقبل بهذه البدعة أنه من "الخوارج" على الدين( ).
وبرر صفرونيوس قبوله لرئاسة الكنيسة وهو يعلم شأن الإمبراطور، فقال إنه كان يظن من غير شك، أن الإمبراطور سيعدل عن بدعته ، ويعود إلى مذهب السُنَّة الأرثوذكس.
يقول بتلر معقباً: في حين أن الإمبراطور كان يظن أنه استمال صفرونيوس باختياره كما استمال أثناسيوس من قبله، فلعل هذه الإستمالات كانت أشأم زلة زلها هرقل، لا تفوقها إلا زلة اختياره قيرس لرئاسة الكنيسة في مصر( ).
وليس من المبالغة القول، إن زلة اختيار صفرونيوس هي السبب في ضياع فلسطين كما أن زلة اختيار قيرس كانت سبباً في ضياع مصر.
ذلك أن الذي حدث في مصر-كما يقول بتلر - كان نكبة حلت في تلك البلاد، فقد لقي قيرس مقاومة ومخالفة من كل جانب، ابتداء من صفرونيوس الملكاني في بيت المقدس، والذي حاول كثيراً إقناعه بالعدول عن هذه البدعة، فما كان منه غير الشطط والعسف مع كل الملكانيين الأقباط الذين رفضوا طاعته، كما رفض كل القبط المنوفيسيين (اليعاقبة الأرثوذكس) عامتهم وقسسهم، تعصباً لطائفتهم( ).
فما كان من قيرس إلا أن قلب لهم ظهر المجن، وأعلن الحرب على مذهبهم وسعى لتمزيقهم، وشرع يحملهم على الخروج من مذهبهم جبراً واضطراراً، بالعسف والاضطهاد( ).
وأعلنت حالة الطوارئ في مملكة روما في الشرق كله، بعدما فشلت كل مساعي هرقل وأعوانه في توحيد الأمة النصرانية على مذهب واحد، والتوفيق بين عقائدها, والتقريب بين قوانين إيمانها، والاجتماع على محبة المسيح السلام كما يدعي جميعهم، إلا أن طائفة من الطوائف لم ترتض ذلك، وانتصرت كل ملة لعقيدتها، وأعلنوا (الملكانيون واليعاقبة وما بينهما من مذاهب أخرى) العصيان العام على هرقل في كل الأنحاء، فأصدر هرقل أمراً لكل الدولة قال فيه:
"كل من يأبى الطاعة للمجمع، يجدع أنفه وتصلم أذناه، ويهدم منزله( ).
(فلما أحس أثالاريك ابن هرقل من صُلبه، بالأخطار التي تحدق بأبيه بسبب طموحاته من أجل توحيد الديانة مع رفض أهلها، كاد لأبيه مشتركاً مع ابن أخته ثيودور وجماعة من الأرمن وتآمروا لخلعه، لكن أحدهم أفشى السر لهرقل فقبض عليهم وأمر بأن يكونوا أول من تُجدع أنوفهم وتُقطع أيديهم.)
وهكذا اجتمعت الزلات الثلاث لهرقل، وكان عليه أن يحصد ثمارها، زلة قيرس المنتقم من القبط، وصفرونيوس المتمرد على طاعة الملك، ومقتلة اليهود الذين هربوا إلى الصحراء فيما بعد نهر الأردن، وتربصوا هناك الدوائر بأعدائهم، وكانت قلوبهم تتقد بنار الغيظ وطلب الثأر.
ووقع القبط في دائرة عنف بشعة، لمن يخالف قرارات هرقل، ولمن لا يترك معتقده ليعتقد بدين هرقل الجديد، فكان اضطهاد لا يقدر أحد على فظاعته وشناعته، من جلد وسحل وتجويع وترهيب وذبح وإغراق ، فيقول بتلر:
وكان ميناس شقيق البابا بنيامين ممن عُذبوا ثم قتلوا غرقاً، وكان تعذيبه بأن خلعوا أسنانه, ثم أوقدت المشاعل وسُلَّطت نارها على جسمه ، فأخذ يحترق حتى سال دهنه من جانبيه على الأرض، ثم ربطوه في كيس مملوء من الرمل، وسحبوه حتى صاروا به إلى الشاطئ فرموا به في البحر فمات غرقاً( ).
يضيف بتلر:
كان قسوس القبط يُقتلون ويشردون في أنحاء الأرض يلتمسون فيها ملاذاً، وكان السعي حثيثاً غير منقطع وراء بنيامين، ولكن لم يُعثر عليه في مكان، وقد جاء في كتاب ساويرس أنه كان يتنقل من دير إلى آخر، ولأنه ما كان لشعب بأكمله أن يستشهد في سبيل طائفته، فقد دخل جماعة من الأساقفة القبط في طائفة المذهب الجديد، ولجأ جماعة إلى التقية، وأظهر غير ما يبطن( ).
حتى لم يبقى في الإسكندرية غير قس واحد اسمه أجاتوا كان كل يوم يخاطر بحياته في سبيل دينه ، فكان يتخفى في لباس نجار في النهار، فإذا ما جاء الليل أقام شعائر العبادة لإخوانه.
يقول بتلر:
وهكذا بلغ البطش النفوس فثلمها، وجعل الداء ينخر في جراحهم واستفحل الأمر عداوة ومرارة وكراهية لسلطان الدولة البيزنطية ودينها جميعاً( )"وكأنهم قد خرجوا من حُكم الفرس إلى حكم الرومان، قد رفع عنهم التعذيب بالسياط، ليحل بهم التعذيب بلسع العقارب( ).
إذ كان هرقل ورجاله كذئب ضار يفتك بالقطيع ولا يشبع نهمه( ).



مصر تستقبل بشارة الإسلام

قراءة في كتاب الفريد بتلر
إطلالة سريعة على أحوال المسلمين, وموقف دولة الرومان منهم, واستعدائهم لدولة الإسلام الوليدة, الأمر الذي حدا بالمسلمين أن يبدأوا رحلة الجهاد في سبيل الله, إلى أن تأتي الساعة يوم اللقاء الأكبر، فتحررت بلاد الشام، ثم نقف هنا عند أبواب مصر.
أبو إسلام
دعوة الإسلام وتهيئة أهل الصليب للمسلمين، بدء رحلة الجهاد.
تحرير بلاد العراق والشام وفلسطين.
فرحة النصارى بدين العرب.
وانقلب السحر على الساحر
دعوة الإسلام وتهيئة أهل الصليب للمسلمين بدء رحلة الجهادز

دعوة خاتم الأنبياء
صلى الله عليه وسلم
ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام (570ص) بحسب التقويم الصليبي وفي العام 622ص كانت هجرته صلى الله عليه وسلم وإعلان قيام دولة الإسلام في المدينة المنورة، وقبل نهاية العام 627ص أرسل رُسُله إلى ملوك وأمراء الأمم يبشرهم بدين الإسلام ويدعوهم إلى عقيدة التوحيد والشهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
وممن كتب إليهم صلى الله عليه وسلم وأرسل رسله، أمراء اليمن وأمراء عمان واليمامة والبحرين وأمير الغساسنة على حدود الشام وكسرى ملك الفرس والنجاشي ملك الحبشة وهرقل قيصر الروم وجورج حاكم الإسكندرية الذي عرف خطأً باسم المقوقس.
أما أمراء اليمن فقد جاء رَدُّهم فاحشاً، وكان أكثرهم من اليهود ومطاريد النصارى الأحباش تحت حكم بلاد فارس، أما أمراء عمان واليمن والبحرين فقد صَدَّقوا بالنبي الكريم وردوا على رسائله رداً جميلاً ، ولم يأت ذكرُُ لأمير الغساسنة في المراجع التي تحت يدي، وأجاب النجاشي رداً حسناً ولكنه لم يعلن إسلامه بالدين الجديد وإن أسلم بعد ذلك، وألَّف اللواء الشيخ محمود شيت خطاب رحمه الله رسالة في إسلامه قبل موته، إلا أنَّ الثابت والمتفق عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسل جيشاً لفتح الحبشة، وشاء الله أن تُسلم على يد ملكها النجاشي، بعد ذلك.
أما ملك القبط ففي شأنه خلط كبير في تحديد شخصيته, حيث كان زعيم القبط حينذاك يُدعى المقوقس وهو لقبُُ له مثل لقب الأمير أو الملك، فقد أكرم وفادة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، رسول النبي صلى الله عليه وسلم، ووعد أن يرى لنفسه رأياً في الأمر، وبعث معه هدايا وجاريتان إحداهما كانت مارية التي أسلمت وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وأحبها وأصبحت من أمهات المؤمنين، ولكنها ماتت سنة 636ص، فلم تشهد فتح العرب لمصر وخضوعها لهم.
ويبقى ممن بلغتهم الرسائل النبوية، كِسرى ملك الفرس، وهرقل ملك الروم، فالأول ما إن أمسك برسالة النبي صلى الله عليه وسلم حتى شَقَّها ثم مَزَّقها، وأرسل رسالة إلى أميره في إقليم حِميَر باليمن، يأمره بأن يأتي إليه برأس النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائل: مُزِّق ملكه أو مَزَّق الله ملكه فكانت نبوءة ودعوة لم تمضي أعوامُُ قليلة حتى تحققت بإذن الله( ).
فإذا ما انتهينا إلى هرقل، فقد شاء الله أن يفعل فعله في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتحة خير للإسلام والمسلمين على مدى الدهر، وكانت زلته الرابعة هي قاصمة ظهره التي أنهى بها على تاريخه وتاريخ سلطان دولة الروم في أرض المشرق العربي كلها.
كان هرقل يجوب أرجاء الأوطان، قادما ًمن عاصمة مملكته في قلب آسيا، يشق بفتوحاته كل بلاد الشام وبيت المقدس، حاملاً معه الصليب الأعظم عند النصارى المعروف بـ صليب الصلبوت، قاصداً بالتعاون مع مملكة الفرس في الشرق والجنوب، إلى تطويق الأمة الجديدة حتى لا يستفحل أمرها، إذ طلع عليه وفد المسلمين من أتباع نبي الأمة الجديدة صلى الله عليه وسلم. وسلموه يداً بيد كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن رواية أخرى تقول أن الذي التقى به سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان أحد ملوك الروم في بلاد الغساسنة في بلاد الشام على حدود الجزيرة العربية.
ورواية ثالثة أن وفد السفراء سَلَّم الرسالة إلى ملك الروم في بلاد (البصرة بالعراق).
لكن المهم والمتفق عليه أن هناك وفداً تحرك من المدينة المنورة، حاملاً رسالة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كبير الروم وملك مستعمراتها، وهو الإمبراطور على أمة الصليب في أوربا وبلاد المشرق العربي.
وتعود الروايات التاريخية لتختلف فيما بينها في جميع مصادرها العربية والغربية أن الملك الرومي أياً كان هو (هرقل أو ملك غسان أو ملك البصرة)، قد أحدث قتلاً في وفد السلام الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم، حاملاً رسالة الإسلام, فهناك من قال أن الوفد قد قُتل جميعاً باستثناء واحد، وقيل أن بعضاً من رجاله تعرض للتعذيب ثم القتل، وقيل أن رجلاً واحداً هو الذي قتل.
لكن المهم والمتفق عليه، أن وفد سفراء السلام المرسل من المصطفى صلى الله عليه وسلم، قد تعرض لحادثة قتل، وهو أمر كبير في أعراف العلاقات(الدبلوماسية) بين الأمم على مدى التاريخ حيث إن للسفراء حصانة تصل إلى درجة التحريم والتجريم بحسب القوانين الدولية، ثم أنه من الأعراف أيضاً أن احترام السفير هو احترام لمن أرسله، وإهانته هي إهانة لمن أرسله، فما فعله ملك كسرى من تمزيق الرسالة لوفد سفراء المسلمين إليه, هو إهانة للمسلمين جميعاً، وما فعله ملك الروم من قتل لأحد من سفرائه، هو أيضاً قتل للمسلمين جميعاً.
وهنا يجب أن نقف وقفة مهمة وهى أن الفتح الإسلامي لبلاد العراق والشام وفلسطين ثم مصر، لم يكن أبداً موضوعاً حينذاك في حسابات الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب الظن، على الأقل في الفترة الزمنية التي حدث فيها هذا الحدث، كما أن المشكلات الداخلية والقلاقل التي كانت تتكالب على المسلمين في الجزيرة العربية مع كل صباح، هي فوق طاقة المسلمين، وقد بذلوا فيها أموالاً وأرواحاً كثيرة، كلما سدُّوا جبهة انفتحت عليهم عشرات الجبهات.
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم راغباً في قتال النصارى الروم خارج الجزيرة وهو لم ينته بعد من تثبيت أركان دولته في قريش والبطون والقبائل والعشائر التي حولها.
فهاهو ملك اليمن المجوسي يرد الرد الفاحش على وفد سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يُجهز له جيشاً للقتال.
وهاهو ملك الحبشة الصليبي، يرد الرد الجميل ولكنه يرفض دين محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يجهز له صلى الله عليه وسلم جيشاً للقتال.
وهاهو ملك مصر الصليبي الرومي يرد الرد الجميل، بالهدايا والجواري، لكنه يتوقف في إجابة الدعوة، ولم يجهز له صلى الله عليه وسلم جيشاً للقتال.
وهاهو ملك الفرس القميء خِلقة وخُلقاً يشق رسالة السلام والإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم أمام وفد سفرائه ، ثم يمزقها في وجوههم، وكأنما هو يمزقها في وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يجهز له عليه الصلاة والسلام جيشاً للقتال.
لكن أن يُقتُل واحد من المسلمين وتهدر دماؤه دون جريرة ارتكبها، إلا أنه حمل رسالة أياً كان محتواها ومضمونها ، فهذا هو إعلان القتال والرغبة فيه، ليس من المسلمين وإنما من عبدة الصليب وأمراء بلادها، أو من أميرها الأكبر بحسب الروايات المتعددة.
هنا فقط، من أجل دم المسلم, اجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته رضوان الله عليهم، في أعلى مجلس عسكري لدولة الإسلام الوليدة ليقرروا تغيير إستراتيجية الحروب، وليبدلوا جداول الأولويات، وليعدو العدة لعدو جديد لم يكن محسوباً في قائمة الأعداء.
فللحقيقة إن جيش محمد صلى الله عليه وسلم، حينذاك لم يكن ساعياً على الإطلاق لأي حروب خارجية، ولم يكن في قدرته أن يجهز جيوشاً إضافية لمقاومة عدو جديد يتربص بالمسلمين على بعد أميال طويلة من مركز قيادة الجيش الإسلامي وهو عبء ضخم من كافة النواحي العسكرية بل والسياسية أيضاً.
وبرغم ذلك فإننا لا نحسب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أغفل أن الفرس في الشرق والجنوب يرقبونه، ويتابعون أخباره ويدعمون أتباعهم في قريش وبطونها لتأليب المجتمع ضده صلى الله عليه وسلم, للحد من انتشار دعوته الجديدة التي أعلنت في سفور تسفيهها لكل أشكال الوثنية.
ولا نحسب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أغفل الصليبيين المتاخمين لدولته الجديدة في الغرب كله وشماله كله، ويدعمون أتباعهم من اليهود والنصارى في قريش وبطونها لتأليب المجتمع ضد الرسالة الجديدة التي أعلنت في سفور تسفيهها لكل أشكال تأليه البشر، خاصة تأليه مريم وابنها المسيح عليه السلام.
لكن الذي نحسبه ونثق فيه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومجلسه العسكري ومستشاريه السياسيين ووزراء الخارجية والعلاقات الدولية والداخلية، كانوا جميعاً متفقون على أن جبهة الروم الصليبيين جبهة جديدة شاء الله لهم أن تنفتح عليهم، ولا مناص ولا مفر من مواجهتها والتصدي لمؤامراتها والضرب بيد من حديد على أيديها, حتى لا تتطاول مرة ثانية على دماء وحرمات المسلمين وإلا أصبحت دولة الإسلام فريسة مثل كل الفرائس التي اقتنصوها في بلاد المشرق ظلماً وعدواناً.
الثأر للدين وكرامة المسلمين
وباستعداء سافر من بلاد الصليب، هيأ الله للمسلمين تطبيق فريضة الجهاد في سبيل الله وبدأ صلى الله عليه وسلم أول رحلة للجهاد خارج بلاد الحجاز، لقتال الروم الذين لم يكفوا عن الاعتداء على المسلمين عند حدود الشام ودعم ثورات اليهود في قلب قريش، وتأليب النصارى لهز أركان الدولة الجديدة، والتعاون مع كفار قريش على تهديد استقرار الحكم للمسلمين.
وعلى الفور تجهزت سريَّة من جيش المسلمين قوامها ثلاثة آلاف فارس, أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مؤتة، بقيادة زيد ابن حارثة, لتثأر لرسوله الذي قُتل غدراً وخداعاً, فشاء الله أن يلتقي الجيشان عند قرية مؤتة على حدود الشام وتحدث مقتلة شديدة بين المسلمين في كبار قادة جيشهم، حتى ولي القيادة خالد بن الوليد فاستطاع بما له من مهارة في الحرب وسداد في الرأي أن ينحاز بمن بقي من جنوده وعاد بهم إلى المدينة آسفاً جذعاً، وقد سمى من يومها بسيف الله المسلول.
ثم كانت غزوة تبوك حتى تحررت كل أرض الشام والعراق من الإحتلال الروماني الصليبي, ثم كان قرار التوجه لمصر و لمتابعة القائد الصليبي لجيش فلسطين, الذي توعد المسلمين بتجهيز جيش في مصر ثم العودة إلى ملاقاتهم.
فرحة النصارى بدين العرب
رغم أنف الرافضين
لم يكن للقبط في ذلك العصر زعيم يأتمرون بأمره، ولا جماعة يلزمونها، فلم تكن بهم قدرة على أن يتعاونوا على أمرهم، فكان كل رجل منهم يرى لنفسه ما يراه، وكانت كل طائفة منهم يرون لأنفسهم ما يرون، ولم يكن بينهم تساند أو تعاون، إذ لم يكن لديهم سبيل إلى توحيد قصدهم، أو التكاتف في السعي إليه، فلما سمعوا أن هناك ديناً جديداً في الجانب الشرقي من البحر، استشعر كبارهم أن الخلاص حتماً سوف يكون لهم في هذا الدين.
يقول بتلر: وليت شعري ماذا كان يدور في نفوس أهل مصر إذ ذاك ، وبأي عين كانوا ينظرون إلى تلك الحركة العظيمة التي ثارت في بلاد العرب، فما زالت حتى قرعت الشام وهزت مدائنها هزاً.
ثم يستطرد بتلر وكأنما يؤكد ويلفت الأنظار إلى كلماته فيقول: إننا نقول وأن قولنا إنمما يشرف القبط، أننا لم نجد أقل دليل يبعثنا على الظن أنهم نظروا إلى تلك الحركة نظرة الميل والرضى( )، على أنهم لابد قد بلغهم أن المسلمين يَدَعُون للنصارى أمور دينهم.... وأن سيف قيرس قد قطع آخر ما كان يربطهم إلى الدولة الرومانية لكثرة ما لاقوه من الظلم الذي نزل بهم إلى حضيض من الشقاء لا أمل معه، فكان بعمله هذا، يمهد السبيل لمطلع جنود المسلمين( ).
وبينما هم على تربصهم لاحت لهم أعلام الإسلام وهي طالعة، فرحبت بهذه الجموع التي جاءت تطلب قتال الدولة الرومانية( ).
ثم يعقب بتلر قائلاً: وهكذا فيما كانت أعمال هرقل قد طبقت شهرتها الخافقين، وجعل الملوك من أقاصي الأرض في الشرق والغرب، من الهند ومن فرنسا، يرسلون إليه الرسل والهدايا الثمينة وآيات خضوع العالم والإعجاب،كانت السحب الدكناء، تتعالى بعضها فوق بعض على أفق الدولة، وكان العرب يقرعون أبواب الشام قرعاً عنيفاً.
وينقل بتلر عن المؤرخ الفرنسي دي جوجة في كتابه
(CONQUETE DE LA SYRIE)
عن شدة ما كان في نفوس النصارى بين بعضهم البعض من الحقد والكراهية، أن مطراناً سوريا ًقال في كتاب له: "وهؤلاء العرب الذين أعطاهم الله السلطان في أيامنا، هم لا يحاربون دين المسيح، بل هم يدافعون عنه، ويجلون قسسه وقديسيه، ويهبون الهبات لكنائسنا وأديرتنا."( )
ويعقب بتلر: وكانت الكنيسة الكبرى في دمشق إذ ذاك، يستعملها المسلمون والمسيحيون على حد سواء.
ثم ينقل نصاً عن المؤرخ النصراني الأرثوذكسي أبى الفرج، قوله:
"لقد أنجانا الله المنتقم من الروم على يد العرب، فعظمت نعمته لدينا أن أخرجنا من ظلمهم، وخلصنا من كراهيتهم الشديدة وعداوتهم المرُة"
فيعقب بتلر: وإنه من المحزن أن يقرأ الإنسان مثل هذا الترحيب من قوم مسيحيين بحكم العرب لهم( ).
لكن أكبر الظن أن أهل الإسكندرية كانوا يرددون فيما بينهم ما سمعوه من قوافل العرب عن ظهور النبي في مكة، ولكن ما كان لأحد أن يذهب به الظن ويحمله الخيال- ولو كان ظناناً بعيد الخيال – إلى أنه لن تمر عشرون سنة حتى يكون الفرس قد أخرجوا من مصر، إذ يجليهم الروم عنها، ثم يعود الروم بعد ذلك فيُقهر سلطانهم وتخبوا نيرانهم وينمحي أثرهم على يد الكتائب الشعثاء من جنود الإسلام.
• ثم ينقل بتلر: عمَّن يُدعى قيدرينوس قوله: أما الكنيسة فكانت تحتوشها الملوك, ومن لا يخشون الله من القسوس, خرج من الصحراء عملاق الإسلام ليعاقبنا على ما فينا من الذنوب( ).
ثم يعقب هو قائلاً: هذه هي كلمات قيدرينوس التي ذكر فيها نشأة الإسلام، وهي كلمات قليلة ولكنها تدل على أن المسيحيين كانوا يشعرون أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) كان رسولاً من عند الله, أو سوطاً من الله أرسله عليهم ، وهذا شعور ظهر على لسان كثير ممن كتب من المسيحيين في ذلك الوقت, أمثال الأرمني سبيوس.
ويضيف بتلر ونورد قولاً لسبيوس وكان أسقفاً في الكنائس قوله، وهو قول عجيب: "وفي ذلك الوقت ظهر رجل من ولد إسماعيل اسمه محمد (صلى الله عليه وسلم)كان تاجراً وقال للناس: إن الله أرسلني بدعوة الحق، ولما كانت الدعوة من الله، اجتمع الناس بأمره، ودانوا لشريعته، وهجروا عبادة الأوثان الباطلة، وأنابوا إلى الله الحي القيوم. الذي ظهر لأبيهم إبراهيم وقد أمرهم محمد (صلى الله عليه وسلم) ألا يأكلوا الموقوذة، ولا يشربون الخمر ولا يكذبون ولا يزنون.
يقول بتلر: لقد أحس القسس والأساقفة والكتَّاب، أنهم لو وضعوا النصارى في كفة والعرب في كفة لرجحت كفة العرب وشالت كفة النصارى( ).
يقول بتلر: وليس من العسير أن ندرك كيف قَوِيَ الإسلام، بما وقع في قلوب النصارى من الخوف، وتَوَقَع قسوسهم وجندهم على السواء البلاء.
يقول بتلر:وقد كان لوقا الذي أسلم مدينة حلب للعرب، ممتلئ القلب بما علمه من أحد قسيسيه قبلاً أنه كان محتوماً أن يفتح العرب البلاد.
وكان بازل الذي أسلم مدينة صور ، قد أخذ عن راهب سابق جعله يترك دين الروم ويوصي أهل الدولة الرومانية بدين الإسلام
ثم يختم بتلر كل تلك النصوص بقوله: إن هذه الشهادات كلها, تدل على أمر واحد لا شك فيه ولا يكذبه التاريخ، ذلك أنه قد شاعت بين النصارى نبوءة، فارتجفت لها أفئدتهم، أن الإسلام حق وأن نصره محقق وحق.


تلبية النداء إلى مصر

قراءة في كتاب ألفريد بتلر
في هذا الفصل نلقي الضوء سريعاً على واحدة من أعظم رحلات الفتوح الإسلامية قاطبة، حيث حرر المسلمون أرض مصر من الاحتلال الروماني ليضع عمرو بن العاص اللبنة الأولى في بناء صرح الإسلام في أفريقيا قاطبة منذ القرن الأول الهجري إلى يوم الدين بمشيئة الله.
1. مصر تنادى الإسلام
2. سقوط حصن بابليون وبناء الفسطاط
3. سقوط الإسكندرية

مصر تنادي الإسلام
لقد بلغ الخبر أهل مصر بعزم المسلمين على غزو بلدهم، وسمع المقوقس سِيَر هؤلاء الأعداء أولى البأس، فرمم الأسوار والحصون وجهز المدائن وأعد الجيوش.
غادر جيش المسلمين على العريش وساروا في الطريق إلى الغرب بعيدين عن البحر، حتى وصلوا إلى مدينة (بلوز الفرما) قرب الإسكندرية.
فيقول بتلر:ولم يلق المسلمون أحداً من جنود الروم، حتى اقتربوا من المدينة( ).
وكان فرع من النيل اسمه الفرع البلوزي بقربها، وكان لها شأن كبير، لكنها لم تكن منيعة، إذ لعل الفرس عندما جاءوا إلى مصر قبل المسلمين، دكوا حصونها وخربوا حصونها كما خربوا كنائسها، وكان في استطاعة الروم أن يرمموها ويحصنوها قبل مجىء المسلمين ولكنهم لم يفعلوا، ورغم ذلك لم يلجأ جيش المسلمين للهجوم على المدينة، وفضل البقاء خارج أسوارها، إذ كان عدد جندهم قليل، ولا خبرة لهم بعدة الحصار( )، فكانت جنود المدينة تهبط بين الحين والآخر لقتال المسلمين ثم العودة، لمدة شهر (ويقول الكندي لمدة شهرين)، إلى أن خرج عدد كبير من جنود الرومان في المدينة، فقاتلوا المسلمين ثم عادوا لائذين، لكن المسلمين تابعوهم وملكوا باب المدينة قبل أن يُغلق, ثم اقتحموها وغلبوا الروم واحتلوا المدينة وصارت في أيديهم كمعقل مهم يؤمن لهم الطريق إلى ممفيس(القاهرة)، ولسنا ندري ماذا كان يفعله الروم في هذه الأثناء حتى أنههم لم يرسلوا أحداً لنجدة المدينة أو تخليصها( ).
كان ذلك، وقد مضى نصف شهر يناير من عام 640ص للميلاد، وذلك العام الميلادي يكاد يتفق مع سنة 19 من الهجرة [أول محرم وافق 2يناير640ص] إذ سار عمرو بن العاص ولم ينقص عدد جيشه، بعد أن لحق به مَن أسلموا من المناطق القريبة للمدينة.
فعَوَّض عليه هؤلاء، من قتلوا في المناجزة، أو لقد زاد عليهم.
ثم أخذ طريقه في موضع عند قناة السويس (القنطرة)،
ثم إلى مدينة الصالحين (القصاصين)
ثم إلى بوبا ستيس (سنهور وصان وتل بسطة بالزقازيق)
ثم إلى وادي الطميلات (قرب التل الكبير).
وما أن خرجوا من الوادي, وقبل بلبيس بمسافة يسيرة، حتى تصدى لهم جند الروم، بقيادة أريطيون الذي كان هو حاكم بيت المقدس، في مواجهة جيش المسلمين ثم هرب إلى مصر لتكوين جيش رومي قوي يقضي به على الدولة الجديدة للمسلمين, غير أن جماعة الروم على رأسهم أسقف ملكاني، ذهبوا إلى عمرو ليفاوضوه على السلام, فلم يأتي اليوم الثاني لبدء المفاوضات، إلا وكان أريطيون قد بيت بياتاً شديداً للمسلمين ... وهجم على المسلمين فناجزوه، لكن الدائرة دارت عليه فهزموه، ومزقوا له جيشه وتحركوا قليلاً حتى بلغوا بلبيس، ولبثوا عندها شهراً كانت كل أيامه مواجهات، فقَتَل من المسلمين عدد ليس بقليل، ويقال أن الروم قد خسروا ألف قتيل وثلاثة آلاف أسير( ).
ومن بلبيس توجه ابن العاص نحو هليوبوليس (عين شمس)، ثم إلى قرية أم دنين (ميدان الأزبكية والعتبة الآن وكان يجري أمامها النيل) وكانت معسكراً قوياً استطاع عمروا أن يسيطر عليه، وملكه فكان لجيش المسلمين به موقعُُ جيد على النيل وسفنه.
وهنا تنبه جيش الروم إلى الخطأ (!!), هكذا يقول بتلر( ) وكأن كل الرحلة السابقة لم تنبه جيش قيرس في مصر، وجيش هرقل في القسطنطينية هناك.
ثم يستطرد: وما كان ثيودور قائد جيش الروم ليرضى أن تقع تلك القرية في يد الغزاه.. وهي موضع حصين فيه مرفأ وسفن كثيرة، فنهض وقيرس (المقوقس) حاكم مصر وبطريق الإسكندرية الإمبراطوري، لتعبئة جيش كبير وذهبوا به إلى حصن بابليون ليتترسوا به، فكان باستطاعة الجيش الرومي الذي في الحصن أن يهبط في أي وقت شاء ليضرب العرب ثم يعود آمناً وراء أسواره العظيمة.
يقول بتلر: ومضت على ذلك عدة أسابيع في مناوشات وقتال خفيف، ولم يُؤذ الروم خلالها أذىً كبيراً، ولكنه قلل من عُدًّة المسلمين بمن كان يقتل منهم، حتى صاروا قلة لا تستطيع إتمام ما جاءت له من الفتح( ).
لكن ذلك ما كان ليرد القائد العربي عن قصده، فلم تكن من شيمته أن ييأس أو يفر، فترك حصن بابليون وتوجه نحو إقليم الفيوم.
ثم يقول بتلر في الفقرة الثانية: ولا شك أن العرب لم يستطيعوا فتح مدينة الفيوم، وأنهم عادوا على أدراجهم إلى الشمال منحدرين مع النهر...
وفي الفقرة الثالثة يقول: ولكن العرب لم يعودوا من الفيوم لأنهم أحسوا بالفشل، فلعمري أن ابن العاص أتم في رحلته تلك أكثر مما كان يطمع فيه:
فقد أخرج جيشه من مأزق وقع فيه عند أم دنين (؟!)
وانتقل به إلى موضع أكثر أمناً [ولقى في غزوته فوزاً كثيراً ونصراً في مواطن عدة، وإن لم يحرز انتصاراً عظيماً.
وشغل جنده مدة, فقطع عليهم مدة الانتظار حتى جاء المدد بعد شهر من بداية رحلة الفيوم حتى عاد( ).
جيش المسلمين يتنزه في مصر
ثم يزيد بتلر تفصيلاً:
ومن الأشياء الغريبة في تاريخ فتح مصر، هو ذلك الأمان الذي كان يستشعره جند المسلمين ، وهم يتجولون في أنحاء مصر، فلا يجدون أي مقاومة على الإطلاق، باستثناء بعض المواقع العسكرية في داخل بعض المدن، وسريعاً ما كانت تنتهي ليعود جيش المسلمين على ما كان عليه من تجوال.
لكن الأعجب من هذا كله أن الإمدادات التي أرسلها عمر بن الخطاب لقائد جنده في مصر، بعد شهور طويلة من دخول مصر، لم يذكر التاريخ على الإطلاق أنها لاقت أي عناء في طريقها، كما لم تجد أي قوى تحول بينها وبين الوصول إلى غايتها كما لو كانت تسير في أرض تحت إمرتها وسيطرتها، حتى أن بتلر يقول واصفاً ذلك( ):
وكان عمرو قد علم أن أمداد المسلمين سائرة بين طائفتين [وهذه من ذكاء العرب]، طائفة ميمنة [متجهة] شطر عين شمس (هليوبوليس) في الجانب الشرقي من النيل، وكان هو في الجانب الغربي من النيل، ولو كان عند جيش الروم علم بالحرب، لاستطاعوا أن يمنعوا عَمُرَاً من العبور إلى الجانب الشرقي، فكانوا يجعلونه بذلك في معزل عمن جاء يمده، ولعلهم كانوا يستطيعون بذلك القضاء عليه.
النصارى يتآمرون ضد الحضارة
يقول بتلر: لكنهم لم يفعلوا، واستطاع عمرو وقد فطن لذلك، أن يعبر النهر إمَّا عنوة وإما على غرة منهم، حتى بلغ عسكر المسلمين في هليوبوليس, وقد امتلأت قلوب أصحابه عزة وبشرى، بما وفقوا إليه( ).
وكانت مدينة هليوبوليس معروفة بعظمة آثارها، كما كانت معروفة بأنها قبلة لأهل العلم وكعبة للدين، على أن الزمن كان غَيَّرها، وجرَّت صروفه وحروبه وحصاراته ذيل العفاء على أكثر معابدها وتماثيلها، فلما أتى العرب لم يكن باقياً من مجدها القديم إلا قليل من أسوار مهدمة، وتماثيل لأبي الهول قد دفن نصفها تحت الثرى، ومسلة واحدة لا تزال باقية إلى اليوم ذكرى من ذلك العالم الغابر( ).
ذلك أن نصارى الرومان ومن بعدهم نصارى بيزنطة، ما كان لهم أن يتركوا أثراً ولا معبداً ولا تمثالاً يمت بصلة إلى الفراعنة إلا وهدموه، وأزالوه وجعلوه مسحاً بالأرض التي أنشئ عليها إلا ما شاء الله له أن يفلت من تحت أيديهم، من خراب وتدمير لآثار مصر القديمة وتاريخها العريق.
تعقيب مهم
منذ أوائل العام 2000ص حسب التقويم الصليبى، تزعَّم قلة من المسيحيين المقيمين خارج مصر، لحساب قوى صهيونية دولية، عدة تنظيمات متطرفة، تسعى لإشعال نار الفتنة الطائفية الدينية في مصر، مرددين أن مصر أيام الفتح الإسلامي كانوا يعيشون في يسر وهناء، فلما جاء عمرو بن العاص واحتل البلاد عنوة، قتل أهلها، وسفك دماءها، وهدم كنائسها، وخرب بيوتها، وحرم المصريين المسيحيين مما كانوا فيه من نعيم ورخاء، وفرضوا عليهم الإسلام بالسيف، أو دفع الجزية بالسيف أيضاً لذلك ،فإننى (المؤلف) أنبه أبناءنا المسيحيين المصريين، أن هذا الكلام لا أساس له من الصحة وأنه يقصد به الكذب، والخداع وإثارة مشاعر الكراهية بين الأهلية، بعد أن أخذوا ثمن ذلك بالدولار، ونشير بهدوء إلى حقيقة بسيطة للغاية، نوجزها فى السطور التالية.
لقد مرت مصر بكل صفوف الاحتلال العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، كما مرت بكل صفوف المحتلين الليبية والإثيوبية والهكسوس والإغريق و.....كان آخر هذه الصفوف الرومان والمجوس ثم الرومان ثانية فنقول:
فإن دين المجوسية الذي أتى إلى مصر، جاء وافداً من خارجها، من بلاد فارس في أقصى الشمال، لابساً زي الدولة المغتصبة، أو أن الدولة المغتصبة هي التي جاءت لابسة زي الدين المجوسي، وفي كلتا الحالتين، فقد سلم العرب- في العراق والشام وفلسطين ثم في مصر-، بمشروعية عبادة الشمس والنار تحت سطوة هذا الملك الفارسي، أو ارتضى بهذا الملك تحت سطوة رجال هذا الدين الوثني، وكان الدين والملك غرباء في بلاد العرب وفي مصر.
وكان ممكناً أن تقضي دولة المجوس على دولة الصليب، عندما احتلت بلادنا بدلاًُ من الرومان عام500ص في انتصارها واحتلالها الأول للبلاد.
وكانت الفرصة أكثر سناحة، وأقوى قبولاً أن تقضي دولة المجوس على دولة الصليب. عندما احتلت بلادنا بدلاً من الرومان عام 617ص في انتصارها واحتلالها الثاني للبلاد.
ومثل ذلك فإن دين النصرانية الذي أتى لمصر، أتى وافداً من خارجها، ولما أتاها، فهو لم يأتها من موطن النصرانية الأولى، إنما أتاها من بلاد الرومان، ولبس الدين الوافد ثوب الدولة المغتصبة، أو لبست الدولة المغتصبة ثوب الدين الوافد، وفي كلتا الحالتين فقد آمن العرب في العراق والشام وفلسطين ثم في مصر، بهذا الدين تحت سطوة هذا الملك، أو إنهم ارتضوا بهذا الملك تحت سطوة رجال هذا الدين، وكان الدين والملك جميعاً غرباء في بلاد العرب ومصر، يفرضون ديناً غير دينها، ويحتلون أرضاً غصباً عن أهلها، وينهبون ثرواتهم، ويسرقون قوتهم، ويذلون شعوبهم.
وهكذا ففي كل الحالات كانت بلاد العرب ومصر، لا ناقة لهم ولا جمل في حكم أرضها، ولا سلطان لها على ثمارها، ولا حق لها في حصادها، ولم يكونوا أبداً شركاء للرومان أو للفرس أو الهكسوس أو الأحباش أو الليبيين، من قبلها في أي قوة دفاعية أو جيش نظامي أو مشاركة عسكرية ومعلوم أنه لا يؤخذ رأي المغلوب فيمن يغلبه ولماذا غلبه وإلى متى يبقى غالباً عليه وله.
وإن كانت هذه القوى جاءت على بلاد العرب ومصر لتزول بعد ذلك دولتها، فقد أتت قوى الإسلام إلى بلاد العرب ومصر، ليبقى الإسلام عليها، وتبقى هي على إسلامها، بإرادة أهلها، الذين كفروا بكل الوثنيات والحيوانات المعبودة ، والملوك المؤلهة.
كان الإسلام غير كل من سبقه من ملل وعقائد، فقد ذاب على أرض هذه البلاد، وتسلل إلى شقوق أرضها، واختلط بمياه أنهارها، وامتزج أثير نداء المساجد بهوائها، وجرى طعامه الحلال في دمائها، فأصبحت هي الإسلام ذاته، وأصبح الإسلام هو ذاتهم، إلا من أبى وعاند واستكبر، وكانوا قلة مثل نكتة سوداء في قلب، أو بقعة في ثوب، أو كلمة مطموسة في كتاب ضخم.
فيقول بتلر بكل ما أوتي من عنصرية وتعصب لعقيدته النصرانية: "ومهما يكن من الأمر، فقد كانت صلة الجنس[بين المسلمين وأصحاب البلاد التي كانت تحت نيران الاحتلال الصليبي القادم من الغرب البعيد] تجعل رجحان الميل إلى المسلمين.
حصن بابليون المنيع والسقوط اليسير
كان حصن بابليون هو مصر، وكانت مصر هي القاهرة اليوم،
فإن سقط حصن بابليون سقطت عاصمة مصر الكبرى.
لذا،كان حصن بابليون على النيل, وهو المنطقة المعروفة اليوم بكنائس "ماري جرجس" في مصر القديمة، مجهزاً بالعدة والعتاد لمواجهة كل من تسول له نفسه لأن يغزو مصر.
يقول بتلر: كان ذلك الحصن منيعاً على أعدائه[جيش المسلمين] ولا بد أن تطول بهم مدة الحصار، إذ كان لا علم لهم بحيل الحصار( )، وليس معهم من عدته شىء، في حين كانت تحيط بالحصن أسوار عظيمة وصروح عالية، يحيط بها من وراءها نهر النيل، وكان الخندق الذي حولها ملئ بالماء( ).
ويقول بتلر: ولا خلاف بين المؤرخين في أن المقوقس - وهو بطريق نصارى مصر- وقيرس القائد الأكبر لجيش الروم وخليفة هرقل على مصر كان بالحصن عند ابتداء الحصار، وكان ثيودور قائد الجيش الموفد من هرقل كذلك بالحصن، كما كان في الحصن أيضاً قائد آخر وهو أودوقيانوس، ولعل الجنود التي كانت تحت إمرتهم، تبلغ الخمسة أو الستة آلاف، وكان بالحصن كثير من الأزواد والذخائر من كل نوع( ).
ويقول بتلر: ولكن يجدر بنا هنا أن نذكر أن جميع الكنائس التي كانت في داخل الحصن -والكلام لبتلر-، كانت تؤمها قسوس على المذهب الملكاني المخالف لمذهب القبط، ولم يُسمح لأحد هناك من الخمسة أو الستة آلاف الذين داخل الحصن أن يتعبد على غير ذلك المذهب، فإن قيرس كان لا يزال[حتى وهو في هذه المحنة] على عهده، أنه العدو الأكبر لمذهب القبط، وبقى على ذلك إلى آخر عمره.
وإن وجوده في الحصن، لأقوى دليل، إذا احتاج الأمر لدليل [والعبارة لبتلر] على أنه لم يكن بالحصن من القبط إلا من حَوَّلهم الإضطهاد عن عقيدتهم القبطية إلى العقيدة الملكانية( ).
ويقول بتلر: بل إن الروم أساءوا الظن ببعض هؤلاء[ المتحولين من مذهب القبط إلى مذهب الملك] فأوضعوهم في السجن وأنزلوا بهم فيه نكالاً فظيعاً.
ويؤكد بتلر على هذه النقطة بشدة، لا ليُظهر إرهاب المحتلين الرومان من عبدة الصليب الملكاني، إنما ليُبرئ المصريين (القبط) من أنهم شاركوا في أي قتال ضد المسلمين، وكان ذلك منه أمراً عجيباً، فإني (المؤلف) لم أقرأ من قبل اتهاماً مثل ذلك، بل العكس هو الذي تتناقله الكتابات، أن القبط هم الذين شاركوا المسلمين في قتال عبدة الصليب الملكانيين.
فيقول بتلر وكان خيراً ما قاله: أن القبط لم يكونوا في شىء من القتال ولا الجيوش وكان الاضطهاد في مدة السنوات العشر، قد شطر مذهبهم وفرقتهم، فكان منهم من ذهبوا أفراداً وجماعات، هاربين في بطون الجبال والكهوف، أو آووا إلى الصحراء، أو لاذوا بالأديرة الحصينة في الصعيد( ).
ويستطرد بتلر: أما أقباط مصر السفلى(الدلتا) وبابليون (القاهرة) والإسكندرية، فقد اضطروا للدخول في مذهب الدولة ولم يغن عنهم شيئاً ما كان في قلوبهم من كره لدينهم الجديد.
ويكرر بتلر إعلان براءة أجدادنا القبط المسيحيين من مشاركة المحتلين الروم المسيحيين في أي اقتتال، فيقول ثانيةً: فعلينا أن نبين هنا بياناً لا شك فيه، أنه لم يكن في ذلك الوقت شىء اسمه القبط في ميدان القتال، ولم يكن منهم طائفة لها يد فيه، بل كان أجدادنا القبط إذ ذاك بمنجاة عنه، قد أذلهم قيرس وأرغم أنوفهم، وليس من الحق في شىء، أن يقول قائل: أن القبط كانوا يستطيعون أن يجتمعوا على أمر، أو ينزلوا إلى القتال، أو يصالحوا العرب( ).
ولأن قيرس[ أمير هرقل في مصر] قد قطع بعسفه، أسباب المودة بين الحكام والرعية قطعاً، فما كان له أن يتوقع خيراً من القبط، بل كان خير ما يقع منهم له، أن يعتزلوا كل ما يخص مصر وهم جاهمين ، وينظروا إلى قتال بين طائفتين، كلاهما غريب عنهم، كريه في أعينهم( ).
الهروب إلى الحصن
يقول بتلر: كان جيش الروم لا يقل عن عشرين ألفاً، عدا من كان في الحصون [ والمواقع العسكرية]،
وكانت خطة عمرو (رضى الله عنه) أن يجعل الروم يخرجون إليه فيقاتلونه بعيداً عن حصن بابليون، فلما أحس ثيودور قائد جيش الروم من نفسه القوة، جعل يناجز المسلمين، وسار إليهم بجيوشه نحو هليوبوليس( ).
وكان جهاز المخابرات العامل في الجيش الإسلامي، قد أسرع فحمل إلى عمرو ما عزم عليه النصارى، فاستطاع أن يوجه جنوده على مواضعها، فجعل من جنوده ثلاثة جيوش، جيش تحت قيادته سار هو به للقاء جيش النصارى، وكتيبة أم دنين بوسط القاهرة تحت إمرة خارجة بن حذافة، وكتيبة ثانية توجهت إلى ثنية الجبل قرب منطقة القلعة، على ألا يهبطا إلى ساحة المعركة إلا عند الضرورة، فتهبط الأولى على جانب جيش النصارى، وتهبط الثانية عند مؤخرته( ).
وخرج النصارى من بين البساتين والأديرة والكنائس، وكان اللقاء بين جيش ثيودور وجيش عمرو بن العاص رضى الله عنه، في مكان وسط بين معسكري النصارى والمسلمين عند الموضع الذي اسمه اليوم (العباسية)، وكانت كل من الطائفتين موقنة أن ذلك اليوم سيكون يوم الفصل في أمر مصر، فقاتلت قتال المستميت، فلما حمى وطيس القتال وعض الناس على النواجذ، أقبلت كتيبة تهوي من مكمنها في الجبل، كأنما هي عاصفة تجتاح مؤخرة النصارى، فلما رأى النصارى أنهم قد أخذوا بين جيشين من عدوهم، وقع الفشل في صفوفهم، واتجهوا يساراً نحو أم دنين ، فلقيهم الجيش الثالث، فانتثر نظامهم وحلت بهم الهزيمة، ففروا لا يلوون على شىء يطلبون النجاة من سيوف المسلمين، وهي تلمع كأن وميضها وميض البرق( ).
يقول بتلر: وهكذا أصبحت مدينة مصر في قبضة المسلمين بغير قتال، وكانت من قبل يحميها الجيش الذي كان في الحصن، وأصبح المسلمين يملكون ناصيتي نهر النيل من أعلى الحصن وأسفله، ونقلوا عسكرهم إلى جوار الحصن, في ذلك الموضع الذي صار يعرف فيما بعد بالفسطاط، بعد أن قضوا على جيش الروم، فلم تبق منه إلا الفلول التي لاذت بالحصن أو هامت على وجهها في بلاد مصر السفلى.
يقول بتلر: لكن هناك دلالات واضحة على أن بعض القبط، اختاروا الإسلام وفضلوا الدخول فيه على وضع الجزية( )، فقد رأى هؤلاء أن الإسلام يجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويساويهم بالفاتحين في " شرف مكانتهم " ويجعلهم" إخوانهم " في كل شىء" يسهم لهم " في الفيء، ولا "يفرض" عليهم الجزاء فكان في ذلك، باعث قوي لكثير منهم على الدخول في الإسلام لاسيما...
يستطرد بتلر قائلاً:" لاسيما وقد طَحَنَ المقوقس عقيدتهم طحناً، وحطم يقينهم باضطهاده"( )
ويزيد بتلر: وكذلك دخل في الإسلام كثير من الروم، بعضهم جنود، وبعضهم من حل في مصر ساكناً فيها.
وأمام هذا القبول للإسلام، يكتب المؤرخ الأول في تاريخ النصارى على لسان بتلر, واصفاً هؤلاء الذين أسلموا قائلاً في صفاقة وقلة أدب: "هؤلاء قوم ارتدوا عن دينهم المسيحي. ودخلوا في دين البهائم" فتلك كانت ألفاظ كبارهم منذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا, ولعنة الله على الظالمين.
على مائدة المفاوضات
ظن المقوقس أنه آمن في قصره المنيع بحصن بابليون، تحيط به مياه النيل، لكن ما كانت تلك الحال لتبقى، فإن الماء في الخندق الذي حول الحصن كان لا بد له أن يهبط بعد حين، بعد انتهاء موسم فيضان النيل، ولذلك كان صبر جيش المسلمين في حصار الحصن، وشدة بأسهم في الانتظار بأناة حوله، لا سبيل غيره كوسيلة ناجحة لإسقاط الحصن دون قتال أو خسائر في الأرواح أو العتاد( ).
يقول بتلر: فما مضى شهر من الحصار حتى جمع قيرس من وثق بهم من رؤوس الحرس ودعا معهم أسقف بابليون الملكاني، واستشارهم سراً في الأمر وبسط لهم رأيه وكان ذلك في أوائل شهر أكتوبر سنة 640ص، وقال لهم:
إن الدائرة في الحرب عليهم وإننا في معزل عن جيوشنا وأتى الأعداء لحصارنا بما لا قِبَل لنا به فهم قوم أكثر منا عدداً(!!!) وأشد في الحرب بأساً.
وإذا كان الحصن يستطيع المقاومة والصبر مما لاشك فيه, فإن عقبى الحرب هي كذلك لا شك فيها. ولن تكون تلك العقبى إلا وبالاً علينا، فيكون خيراً لنا أن نفدي أنفسنا بدفع جزية للعرب ويرحلوا عنا( ).
يقول بتلر: وجعل قيرس يضرب لهم الأمثلة، ويسوق إليهم الحجج حتى تبعه من اجتمع معه, وتسلل في ظلام الليل مودعاً من تقرر خروجه من قادة الجند والكنيسة والأسقف واستقلوا السفن وعبروا إلى الجزيرة (جزيرة الروضة)( ).
فلقيهم عمرو وأكرمهم [ثم بدأوا التفاوض فأدوا رسالتهم التي اتفقوا عليها من الترهيب والوعيد والتخويف لعمرو وصحبه فقالوا[ والنص حرفياً عن بتلر]:
إنكم قوم قد وجدتم في بلادنا [ وهي ليست بلادهم]
وألححتم على قتالنا [ وهم اللذين آووا رئيس جند الشام عندهم]
وطال مقامكم في أرضنا [لأنهم لم يبغونها مقتلة ودماء]
وإنما أنتم عصبة يسيرة [وهذا حق من حيث العدد والقوة]
وقد أظلتكم الروم واحتووكم وجَهَّزوا إليكم
ومعهم من العدة والسلاح
وقد أحاط بكم هذا النيل وإنما انتم أسارى في أيدينا
فابعثوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم
فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم علىماتحبون ونحب.
وينقطع عنا وعنكم القتال.
قبل أن تغشاكم جموع الروم [لم يذكر الأقباط]
ولعلكم تندموا إن كان الأمر مخالف لطلبتكم( ).
ذلك هو ما قاله قادة الروم، و هذا ما كان عليه حال مفاوضتهم، غطرسة واستفزاز وإهانة للخصم واستهزاء به وتحقير من شأنه ولو كان هذا الكلام لغير المسلمين ما سمحوا لقائليه أن يكملوا قولهم، ولكنها سماحة الإسلام وحكمة أتباعه.
إذ يقول بتلر: "فلم يبعث عمرو بن العاص جواباً لهم، وحبسهم عنده ليومين ليريهم حال المسلمين الذي هم عليه.
فأباح لهم حرية السير بين جنوده، والإطلاع على ما فيه عسكره، وكان قد اجتمع مع قادته، وبعثوا بردهم الذي اتفقوا عليه مع رسل الروم بعد أن أنهوا جولاتهم، وكان رَدَّ عمرو هو قوله:
ليس بيني وبينك إلا إحدى ثلاث خصال:
1) إما أن تدخلوا في الإسلام فكنتم إخواننا وكان مالكم مالنا ومالنا مالكم
2) فإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون.[وهذا حق المنتصر]
3) وإما إن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وهو أحكم الحاكمين.
تلك هي وقائع مائدة المفاوضات التي حدثت بين قواد جيشين متقاتلين على أرض مصر، لم يشارك فيها أجدادنا أهل البلاد ولاناقة لهم ولا جمل في أي شأن من شئونها، فإن كان هناك سلام فهو لهم وعليهم، وإن كان هناك قتال فليس لهم فيه أو منه مظلمة.
والذي يهمني الإشارة إليه في شروط الصلح التي فرضها عمرو بن العاص، ويراها جهلة المسيحيين ورعاعهم من أنصاف وأرباع المثقفين أنها شروط ظالمة أو قاهرة لأعدائهم الصليبيين الروم، أن جيش الروم على مائدة المفاوضات يعرض على جيش المسلمين اختياراً واحداً لا بديل له، وهو إفنائه إن عاند واستكبر ورفض أن يرحل.
وأما جيش المسلمين فقد عرض على جيش الروم ثلاثة اختيارات، أولهما سلام، وثانيها استسلام، وثالثهما كان فيه جهاد "الصبر"، مقدم على جهاد القتال حتى يرحلوا عن البلاد في أمن وأمان فيتحرر أهلها، ويترك الحكم لله الذي هو أحكم الحاكمين.
تلك هي الوقائع على حقيقتها, بلا تزييف، ولا ضغائن، ولا أحقاد، ولا تهييج، رِقيّ في الخطاب، وتحضر في الحوار، ومكرمة في الطرح، وعبودية في أشد الاختيارات كراهة للنفس.
الصيغتان الآن أمامنا، ورقتي العمل لكل من الوفدين وضعتا على مائدة الحوار، وثائق المفاوضات معلنة، تشهد كل واحدة منهما على خُلق أصحابها، فلا لوم ولا تثريب عليكم اليوم يا أمة الإسلام، والريب والتثريب على نصارى مصر الذين امتلأت نفوسهم بالظلم والظلمات وتشبعت قلوبهم بالحقد والضغائن.
لسوء الظن بالمسلمين والإسلام، ولإضلال العقول في فهم الوقائع والأحداث، ولتزييف الشواهد التي لا تقبل التأويل أو الشبهات.
يقول بتلر: فلما عاد الرسل إلى قيرس، فرح لعودتهم، إذ كان قد خاف عندما حبسهم عمرو ليومين، وجعل قيرس يقول لأصحابه [كما يقول النصارى الآن في مصر لأبنائهم وذويهم]:
أترون أن العرب يقتلون الرُسُل؟
أترون أن العرب يستحلون ذلك في دينهم؟
فلما جاء الرسل وقد وقع في نفوسهم ما كان لهم عند العرب من بساطة وإيمان فقالوا: رأينا قوماً الموت أحب إلى أحدهم من الحياة،
والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة
ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة
جلوسهم على التراب.
وأكلهم على رُكَبهم .
وأميرهم كواحد منهم.
ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم [ولا وضيع عندهم]
ولا السيد منهم من العبد [ولا عبيد فيهم]
وإذا حَضَرَت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد.
يغسلون أطرافهم بالماء.
ويخشعون في الصلاة.
فلما سمع قيرس وصفهم، ولما سمع شروطهم رأى فيها ما يمكن الصلح عليه، فأرسل على عمرو أن يبعث إليه جماعة من ذوي الرأي، فبعث عمرو عشرة نفراً على رأسهم عبادة بن الصامت, وكان شديد السواد (رضى الله عنه)
فلما دخلوا على المقوقس خلف عبادة، هابه المقوقس وقال: نَحُّو عني ذلك الأسود وقَدِّموا غيره، قال وفد العرب:
هو أفضلنا رأياً وأكثرنا علماً والمقدم علينا نُجمع جميعاً لقوله، وقد جعله عمرو أميرنا.
فتحدث عبادة قائلاً للمقوقس:
إن فيمن خَلَفْتُ من أصحابي ألف رجل أسود
كلهم أشد سواداً مني.
وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي
وكذلك أصحابي
وإنما رغبتنا في الجهاد وغزو من حارب الله
ليس الرغبة في الدنيا
ولا طلب للاستكثار منها.
فغاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يَسُدّ بها جوعه.
وشملة يلتحفها
فنعيم الدنيا عندنا ليس بنعيم
ورضاؤها ليس برضاء
إنما النعيم والرضاء في الآخرة
فلما سمع المقوقس ذلك بادر قائلاً:
أيها الرجل الصالح...
لقد توجه إلينا من جند الروم لقتالكم ما لا يحُصى عدده
قوم معروفون بالنجدة والشدة
ما يبالي أحدهم مَنْ لَقَى ولا من قاتل
وإنا لنعلم أنكم لن تَقِدروا عليهم ولن تطيقوهم
لضعفكم وقلتكم
ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم
على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين
ولأميركم مائة دينار
ولخليفتكم ألف دينار
فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم.
يقول بتلر( ):
قال عُبادة بن الصامت له:
يا هذا... [ولم يذكر له اسماً ولا لقباً]
لا تَغُرَنَّك نفسك ولا أصحابك
أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم
وأنَّا لا نقوى عليهم
فاَلعُمري ما كان هذا بالذي تُخَوِّفنا به
وإن كان ما قلتم حقاً
فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم
وأشد لحرصنا عليهم
لأن ذلك[ ليس رغبة في قتل أو قتال] إنما:
أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه
إن قُتلنا عن أخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته
ولا شىء أحب لنا ولا أَقَرّ لأعيننا من ذلك
وإنا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين
فإما أن تُعَظَّم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم
أو تُعَظَّم لنا بذلك غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا.
والآخرة أحب الِخصْلَتَين إلينا بعد الاجتهاد منا
وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه:
كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
وما منا رجل إلا وقد استودع ربه ، أهله وولده( )...
فلما استشعر قيرس شدة ما عليه المسلمين من طلب الحق في إجلائهم عن مصر، وتأمين غرب الجزيرة من غدرهم وخيانتهم ، وتحرير المصريين من ظلمهم وقهرهم، وإبلاغ الإسلام لهم. حاول أن يفاوضهم وليس عنده غير المال والدنيا يفاوض عليها، فقال له عبادة وقد نفذ صبره ورفع يديه إلى السماء( ): لا ورب هذه السماء، ورب هذه الأرض، ورب كل شىء.. مالكم عندنا من خصلة غير الثلاثة، فاختاروا لأنفسكم.
خيانة الروم لعهد المسلمين
اجتمع المقوقس ببطانته وانتهوا على أن اختيار الحرب لا طاقة لهم به، وأن المسلمين لابد منتصرون، وأما الاختيار الأول فلا إجابة عليه لأنهم لن يتركوا أبداً دين المسيح إلى دين لا يعرفونه، فيبقى الشرط الثاني وهو الجزية عن يد وصغار، فقالوا: فإنا إذا أذعَنَّا للمسلمين ودفعنا الجزية لم نعد أن نكون عبيداً، والموت خير من هذا.
فقال لهم عبادة:
إن دفعتم الجزية كنتم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، مُسَلّطين (لكم السلطة) في بلادكم، على ما في أيديكم وما تتوارثونه فيما بينكم ، وحُفِظت لكم كنائسكم لا يتعرض لكم أحدُُ في أمور دينكم.
فلما سمع المقوقس ذلك مالت نفسه إلى الإذعان، لكن قائد جنود الحصن رفض الإذعان ورأى الحرب والقتال، بينما رأى كبار الروم أن يطلبوا من العرب هدنة لمدة شهر، يروا فيها رأيهم.
وكان القصد منهم هو تأجيل الحرب حتى يصل إليهم الدعم الحربي الآتي من بلاد الروم من عند هرقل.
أما عمرو الذي كان يعرف ما يبيتون له, فأجابهم جواباً قاطعاً على ألا يمهلهم أكثر من ثلاثة أيام, لكن نصارى الروم لم يبعثوا رسولهم ليجيب المسلمين بعد ذلك على مدة الهدنة، وفيما كان يفكر عمرو وصحابته [رضي الله عنهم] فيما يصنعون خرج عليهم الروم فجأة وغدراً فأخذوا جنود المسلمين على غرة منهم.
يقول بتلر:
غير أن البغتة لم تذهل العرب، وقد شعروا بالغدر والخيانة، فأسرعوا على سلاحهم وقاتلوا الروم قتالاً شديداً، وقاتل الروم يومئذ مستبسلين غير أن العرب تكاثروا عليهم من كل جانب، فما استطاع جند الروم إلا أن يتراجعوا حتى عادوا ثانية إلى الحصن بعد أن قتلت منهم مقتلة عظيمة( ).
يقول بتلر: فلما علم هرقل ثار ثائرة فقد دهاه ما كان من أمر جنده، وعظم غيظه أن ينهزم من جنده مائة ألف ليس أمامه من العرب إلا اثنا عشر ألفاً( ).
يقول بتلر: ومر اليوم بعد اليوم ولا شيء يبشر أهل الحصن, ولا كتاب يدخل إلى قلوبهم الرجاء، فلم تبلغهم إلا أنباء سوء وشؤم، فقد بلغهم غضب هرقل على المقوقس ونفيه، ولكن لم يبعث الإمبراطور أحداً من جنوده الذين كان معجباً بهم، وبقي الناس يعللون النفس بالآمال إلى أن سمعوا يوماً تكبيراً عالياً في عسكر المسلمين في أوائل شهر مارس من سنة 641ص، فلما استطلعوا الأمر، [وكان أمراً مضحكاً أن يبلغ بهم الحال من الانقطاع بينهم وبين قادة جيوشهم وسائر حكامهم إلى هذا الحد] عرفوا أن ملك إمبراطوريتهم هرقل قد مات( ).
وكان المسلمين قد وضعوا خطة لاقتحام الحصن، واستطاع جندهم التسلل إلى أسواره ولو كان في قلوب مَن بالحصن بقية من القوة، لاستطاعوا أن يرموا المسلمين بسهامهم ، لكنهم ما كانوا ليفعلوا وقد بلغت أرواحهم التراقي. فاجتمع كبارهم على عجل وسألوا عمرو الصلح، على أن يؤمن كل من في الحصن. من الجند ورجال الدين على أنفسهم، فقبل عمرو على الفور، لكن الزبير بن العوام رأى غير ذلك وخالف عمرو خلافاً شديداً حيث كان الحصن في أيدي المسلمين وعلى وشك أن يُفتح عنوة, وأن يكون نصراً للمسلمين بأن تصبح مصر بهذا الانتصار هي مالكة مصِر, فتحدد لها الدين الذي تعتقده, واللغة الذي تتكلمها كما يفعل كل المنتصرون.
لكن عَمراً ما كان ليلتفت لذلك، إذ الغاية عنده نحو السلم أقرب إليه من الحرب، والحفاظ عنده على أرواح الناس أولى من نصر فيه قتل واقتتال.
وكتب عَمرو عهد الصلح مع جورج قائد الرومان في الحصن وفي مصر، على أن يخرج الجند من الحصن في ثلاثة أيام، فينزلوا بالنهر حاملين معهم ما يلزمهم من القوت لبضعة أيام، وأما الحصن وما فيه من الذخائر وآلات الحرب، فهي لجند المسلمين.
وكان ذلك في يوم الجمعة السابق لعيد الفصح، السادس من أبريل سنة641ص، وكان خروج الروم من الحصن يوم الاثنين وهو يوم الفصح، فكان عيداً حزيناً على نصارى الروم, وعيداً سعيداً على نصارى مصر( ).
ويتساءل بتلر: أما قادتهم فلسنا ندري ماذا يصنعون، وما الذي حملهم على أن يخلوا بين المسلمين وبين حصن بابليون حتى استطاعوا أن ينزلوا فيه( ).
ثم يرد بنفسه على تساؤلاته التي طرحها فيقول مباشرةً:
ولكنا نعلم حق العلم أن الروم ضعفت قوتهم وخارت عزيمتهم، عندما فتح العرب ذلك الحصن، في حين أن العرب زادوا قوة وجرأة، وأصبح في يد عمرو مُلك الفرما(عند الإسكندرية)، وبلبيس، وأثريب وعين شمس، فكان باسطاً سلطانه على الجانب الشرقي كله من مصر السفلى، فلما دان له الحصن، صار سلطانه ثابتاً على مجمع البحرين، وجمع في يده أزمة وادي النيل الأوسط، وتم له بذلك الشطر من فتح مصر( ).
الروم يثأرون من الأقباط
لهزيمتهم من جند الإسلام
يقول بتلر: ويجدر بنا أن نذكر هنا أن كبار الروم وجندهم لم يتعظوا بما كان، ولم ترق قلوبهم لما نزل بهم من الآلام، ولم تقع في نفوسهم حرمة ليوم الفصح الذي خرجوا فيه، فبقيت في نفوسهم العداوة والشحناء من أجدادنا نصارى القبط المخالفين لهم في الاعتقاد، وقد ذكرنا من قبل أنهم قد سَجَنوا في أول الحصار كثيراً من القبط الذين قد تحولوا من قبل إلى عقيدة الروم من باب سوء الظن بهم وخشية منهم أن يخونوهم في حربهم ضد المسلمين، فلما جاء يوم الفصح الذي كان فيه الخروج من الحصن، جعلوه يوم وقعة ونقمة على هؤلاء الأقباط المسجونين التعساء، فسحبوهم من سجونهم على وجوههم وضربوهم بالسياط, ثم قطعوا أيديهم تقرباً إلى الرب يسوع، أمرهم بذلك كبيرهم (أودوقيانوس)
ثم ينقل بتلر على لسان الأسقف المؤرخ الأرثوذكسي القبطي حنا النقيوسي (ص267) من تاريخه, قوله في الروم الكاثوليك :
"أعداء المسيح الذين دنَّسوا الدين برجس بِدَعِهم, وفتنوا الناس فتنة شديدة عن إيمانهم، لم يأتى عبدة الأوثان ولا الهمج بما أتوا به، وعصوا المسيح [عليه السلام] وأذلوا أتباعه ، فلم يكن في الناس من أتى بمثل سيئاتهم"
ويصف الأسقف المصري حنا النقيوسي أنين أولئك الأسرى الذين مثل بهم وساقوا من نجا منهم طرداً من الحصن يشيعونهم بسبابهم، فيقول عن فتح الحصن للمسلمين: لم يكن إلا عقاباً من الله على ما فعل الروم المسيحيون من الأفاعيل في القبط [المسيحيين]( )..
ثم يعقب بتلر: على أن ذلك الأمر له معنى، إذ يدل على ما كان بين شيعتى المذهبين المسيحيين، من عداوة لا تُحل عقدتها، بقيت في القلوب لم تخبوا نارها، ولم يخمد لهيبها، مع ما ظهر من ثمار اختلافهم ، وعواقب تخاذلهم ، من فوز الإسلام وعلو أمره.
إنشاء مدينة الفسطاط.
فلما فرغ عمرو من فتح الحصن، أمر بإقامة جسر من السفن بين شاطئي النهر، بين حصن بابليون في الفسطاط، والروضة في الجيزة، فاستطاع أن يملك ناصيته، ويشرف على ما ينتقل فيه من السفن والبضائع( )، ثم أمر على الفور ببناء مدينة جديدة للمسلمين. تكون فيها إمارتهم، وكان طبيعياً أن تقام هذه المدينة حيث يقيم جيش المسلمين في حصن بابليون الذي فيه دير لليهود وكنائس للنصارى الروم المحاربين وبعض من أهل القبط، ولأنه أنسب الأماكن كموقع للدفاع وإقامة لمن سيتولوا أمر البلاد.
لكن عَمراً بن العاص ومن معه من كبار الصحابة، رأوا كما يقول بتلر: أن حصار الجنود الرومان في الحصن كان قد أفسد حالهم ونغص عليهم عيشتهم، وما كان من العدل ولا من المستحسن، أن يخرج المسلمون أهل البلاد من ديارهم ليحلوا محلهم.
يستطرد بتلر قائلاً: وعلى ذلك فقد رأى المسلمون أنهم يستطيعون البناء خارج أسوار الحصن( )، فابتدأت المدينة صغيرة، ثم نمت نماءً سريعاً، ومنذ ذلك الوقت صارت عاصمة مصر، إلى أن جاء الفاطميون إلى مصر وبنوا القاهرة كعاصمة جديدة..
سقوط الإسكندرية
ومزيداً من تعذيب النفس يقول بتلر: وما كان أعظم سرور عمرو إذ رأى نفسه على ظهر جواده، يسير مع جيشه مرة أخرى إلى وجه الجهاد, فقد جعلوا الحصن وراء ظهورهم وساروا نحو الشمال يتبعون شاطئ الفرع الغربي من النيل وتركت خيمة القائد في مكانها فإنه عندما أزمع السير وأمر الجند أن ينزعوا خيمته، وجدوا في رأسها عش "يمامة" قد باضت، فقال عمرو: لقد تحرَّم هذا اليمام منا بمتحرَّم فأقروا هذا الفسطاط في موضعه حتى يفرح ويطير( ).
ويعقب بتلر على هذا الخبر شبه الأسطوري تعقيبين، الأول في المتن والثاني في الهامش, فيقول في تعقيبه الذي في المتن: وقيل أن عَمْراً ترك على الفسطاط حارساً، يمنع تلك اليمامة أن يَمسَّها أحد بأذى وقال بتلر في هامشه: "لقد أوردنا رواية ياقوت لهذا الخبر المعروف، وهي تتفق مع الوقت الذي ترك فيه عمرو حصن بابليون وإنا لنتبين في تلك الرواية صورة الحقيقة والصدق، فقد كان حسن الجوار، والاعتصام به مقدساً عند المسلمين ولو كان المستجير عدواً"
ذلك هو تقرير بتلر الصليبي عن "يمامة" قائد جيوش المسلمين التي أتت لتؤدب الروم، وتحرَّر القبط، ووالله الذي لا إله إلا هو، لو ترك بتلر الأمر لي (المؤلف) في تقييم هذه الحادثة ما استطعت تصديقها إلا من باب التأثير الإعلامي فلما أكدها بتلر كان حتماً أن أقبلها تمام القبول، وأجعلها من مفاخر أخلاق المسلمين في فتحهم لمصر, وتحرير أجدادنا الأقباط من نيران المحتلين الصليبيين الدمويين.
الرحيل إلى الإسكندرية
ولا شك أن أول ما قصد إليه عمرو في سيره نحو الإسكندرية كان مدينة نقيوس[وهي قرية شبشير حالياً قرب مدينة منوف على نهر النيل] وكانت ذات شأن عظيم، وحصناً ذا منعة وقوة، وكانت مقر أحد كبار رؤوس الدين المسيحي، ولها مكانة حربية كبرى، فكان لا بد للروم أن يجتمعوا هناك للقاء العرب، وأن يقفوا للدفاع عنها، فخرجوا لملاقاته عند مدينة الطرانة وأبلوا بلاءً حسناً، غير أنهم انهزموا واستطاع عمرو أن يستأنف السير نحو مدينة نقيوس( ).
وكان يستطيع جيش الروم أن يحاصر جيش المسلمين عند عبور النيل من الشاطئ الغربي إلى الشاطئ الشرقي حيث تقوم المدينة لكن قائد الروم عندما رأى المسلمين على كثب منه، خانه جنانة، وترك جيشه وسفنه، ولاذ هارباً في سفينة نحو الإسكندرية فلما رأى الجنود قائدهم يفر عنهم ذلك الفرار، فوضعوا أسلحتهم ولحقوا به( ).
وليس من شك، في أن الشقاق والاضطراب قد دهما البلاد، واجتاحها كما يجتاح الطاعون الأرض، فلم يمضى زمن طويل حتى عمت الفوضى، واندلع لهيب الحرب الأهلية بين أهل مصر، فانقسمت مصر السفلى إلى حزبين، حزب مع الروم ، وحزب يريد أن يكون مع العرب.
يعقب بتلر على ذلك بما في قلبه من رصيد الكراهية للمسلمين ، وإحساسه بالمهانة التي كان عليها أجدادنا النصارى في مصر فيقول:
ولست أدري إذا كان الفارق بين الحزبيين فارقاً من جنس أو من مذهب أو من تشيع سياسي، وقد أصبح من الأمور المعتادة (!!!) في ذلك الصراع بين الحزبيين أن يتقاتل الناس، وينهب بعضهم بعضاً أو يحرقوا البلاد، في حين كان العرب ينظرون لكلا الحزبين نظرة ازدراء( )، ولا يأمنون لأيهما، ولا يتعاونون مع أحد منهما. لأنهم غير ذوي مهابة أو سلطان.
وكان جيش المسلمين يجوب البلاد من شرقها إلى غربها،
لم يثبت خبر واحد، أن المسلمين نالوا من رجل، أو امرأة، أو بيت أو زرع أو شجر لشعب أجدادنا الأقباط على مدى ثلاثة أعوام هي فترة القتال مع الروم.
دخول الإسكندرية
يقول بتلر: لما خلا الطريق أمام العرب حتى بلغوا الإسكندرية، رأى عَمرو أن يستريح جنده من عناء القتال (!!) ووعثاء السفر، وكانت الإسكندرية مُسَلحة عند ذلك بنحو خمسين ألفاً وأسوارها منيعة تحميها الآلات القوية، وفي يد الروم من العدة والعدد ما يستطيعون به أن يقووا على حرب فرسان المسلمين، الذين ليس لهم من العُدة إلا سقيمها، ولم يكن لهم سفينة واحدة، ولا دراية لهم بفنون الحصار وحربه( ).
لكنهم قبل ذلك كانوا قد فتحوا الفتوح العجيبة في بلاد الشام، فلم تقف دونهم حصونها( )، وكلما ذكروا ذلك امتلأت قلوبهم إيماناً وقوة, ووثقوا من أن العاقبة لهم، وقنعوا أن يجعلوا عسكرهم بعيداً عن منال مجانيق الروم، وانتظروا أن يتجرأ عدوهم ويحمله التهور على الخروج إليهم( ).
يقول بتلر: وهو حر فيما يقول: كان لوقوف العرب بعسكرهم على كثب من المدينة أثر كبير، إذ كانوا هناك يحادون الروم، ويقطعون صلتهم بسائر البلاد( ).
ثم يقول: وهو حر فيما يقول: إن المسلمين عجزوا عن أن يقوموا بعمل، وقنعوا بالوقوف والمرابطة، ولم يكن عسكرهم حيث كان، إلاً مرصداً يرقبون فيه عدوهم.... ولم يكن قائد العرب بالرجل الذي يخادع نفسه، ويعلل نفسه باستطاعة فتح الإسكندرية عنوة، فقد علم حق العلم أنه لن يستطيع أخذها بالهجوم، إنما كان واثقاً من شىء واحد أن أصحابه إذا خرج لهم العدو وناجزهم القتال، صبروا وثبتوا وغلبوه( )(!!!)
وكان جميلاً جداً من بتلر أن يتحدث عن جيش المسلمين بقوله: "قائد العرب"، وقوله: "أصحابه"، ولم يقل "جُنده " أو "عسكره"، ففي ذلك دلالة جلية غير مباشرة، على ما كان عليه جيش الإسلام من أخوَّة، ورباط، وتكاتف، وحسن خلق، ومجاهدة.
يقول بتلر: وعلى ذلك عَوَّل قائد العرب أن يخلف في عسكره جيشاً كافياً للرباط، وأن يسير هو مع من بقى منهم فيضرب بهم في بلاد مصر السفلى"( )
حقيقة إنها صورة مذهلة من صور الحرب التي لا يمكن أن تتكرر في تاريخ الأمم، ولا يمكن أن يعقلها عاقل، وكأنها من الأساطير وحكايات الخيال، أن يترك القائد بعض جنده في حصار أكبر وأعتى مدينة عسكرية ودينية في مصر، ثم يأخذ بقية جنده ليتجول في أنحاء البلاد الأخرى في أمان تام، فلم يأتى خبرُُ أن قبطياً من أهل البلاد منعهم من سير، ولا أن جيش المسلمين آذى قبطياً أو أسره أو اغتصب له أرضاً وزرعاً.
كما لم يأتي خبر واحد - ولو على سبيل الشبهة - يحكي أن مسلماً قصد سوء بواحد من أهل مصر، إنما الذي تتناقله كتب المسيحيين من كتابات الأولين, أمثال حنا النقيوسي، فقد أفاد كل مؤرخي الغرب بإجماع غريب, أنه محض افتراء، وكانت أشد الصور التي ممكن أن تحدث هي تلك التي كتبها بتلر: "وكان الروم قد هاجروا من حول الإسكندرية فصارت قصورهم البديعة ومنازلهم الجليلة فيما وراء أسوار المدينة فيئاً للعرب, فغنموا منها غنيمة عظيمة"( ).
ثم يعقب قائلاً في هامشه قائلاً في غل شديد: "إذ كان بعض الروم أو القبط يلحقون بالعرب وينضمون إليهم أفراداً وأنه كحالة عامة، كان مُسلِمى القبط( )، كما غيرهم من القبط الذين أرغموا [كذب] على الخدمة قد قدموا للعرب بعض المساعدات.
ثم يضطر بتلر للاعتراف بالحق والحقيقة مغالباً ذاته: لسنا ننكر أن الروم عند فتح الإسكندرية، لم يكن لهم أمل في مقاومة جيش المسلمين أو إخراجهم من البلاد، لكنهم أيضاً لم يكونوا مجبرين على التسليم للمسلمين بهذه السرعة، وكان يمكن أن يقاوموا برغم ما فيهم من خوار النفس وتفرق وتشيع والإبقاء عليها لو لبعض الوقت( ).
ولذلك يتساءل بتلر: لا نزال نسأل النفس: ما السبب الذي حمل أهل الإسكندرية على قبول الصلح مع المسلمين؟
ثم يجيب هو نفسه، إذ أنه في الحقيقة كان يكتب هذا الكتاب بعقله وقلبه ومشاعره فكان دائماً في حالة من الغضب والضيق والأسف والنكد والغل والتخبط، لم يستطيع أن يخفيها أبداً، ففضحته كلماته وتعبيراته الكثيرة، فيقول: ليس ثمة رأي بعد ما سبق لنا ذكره, يمكن أن نفسر به ما كان، إلا أنهم (أهل الإسكندرية) كانوا قد سئموا:
- من كثرة ما أصابهم من أحداث
- وكرهوا فساد الحكم الذي أثقل كواهلهم مدة أربعين عاماً،
- وقالوا في أنفسهم:لعلنا نجد في حكم المسلمين قراراً واطمئناناً
- نأمن فيه على قدر ديننا ولا نُكره على شىء فيه.
- ونأمن على أموالنا، فلا نتحمل من الخراج والجزية إلا قدراً نطيقه
- ورفع ما كان يبهظهم من الضرائب فقد كان الروم يجبون من مصر أموالاً يتعذر علينا معرفة مقدارها كثيرة الأنواع، ثقيلة الوطأة، شديدة الأذى، فأحلَّ العرب محلها الجزية وخراج الأرض , ومهما يكن من مقدارها فقد كانت لها فضيلة البساطة ولعل ذلك كان من أكبر العوامل على فوز المسلمين في فتوحاتهم جميعاً.
- ومنذ كان شعور الأقباط الوطني ضئيلاً، كان تأثرهم بمن يمس أموالهم شديداً( ).
وكانت بلاد الصعيد قد تم فتحها قبل أن تخبوا نيران الحرب في بلاد مصر السفلى بزمن طويل. ولنا أن نقول أن بلاد الصعيد أذعنت للعرب بغير قتال بعد فتح الإسكندرية ، وكانت الإسكندرية قد ازدحمت بمن لجأ إليها من كل أنحاء مصر، ثم تركوها عند مقدم المسلمين إليها, فلما عُقد الصلح, كان من شروطه أن جند الروم ومن حل بالإسكندرية (من الرومان) لهم الخيار إذا شاءوا جلوا عنها بحراً أو براً، (أما القبط) فلم يذكروا في العهد بشىء( ).
على أن الذين دخلوا في الإسلام لم يكونوا كلهم من القبط فإن بعض من أسلم من كبراء القوم كانوا من الروم( ).
والظاهر أن الذي كان يقوم على ترحيل جنود الروم من الإسكندرية إثنان من القادة هما ثيودور الذي أصبح حاكم مصر الروماني بعد موت قيرس، وقسطنطين الذي أصبح قائداً للجيش بعد ترقية ثيودور، وكانا يقومان بذلك بالاتفاق مع المسلمين، وكان الجيش الإسلامي قد أطلق سراح كل من كان لديه من الرهائن الرومان الذين كانوا مودعون في حصن بابليون وذهبوا بهم إلى الإسكندرية يلحقوا بأصحابهم، فيعلق بتلر على ذلك( ):
وكان ذلك من جيش المسلمين عجيباً، أن يطلقوا سراح الرهائن وكانوا لم يدخلوا الإسكندرية بعد ولكن ذلك (والكلام لبتلر) يدل على قوة المسلمين وضعف النصارى الروم.
وكان قد جاء في معاهدة الصلح أن يحمل النصارى الروم معهم كل متاعهم وكان عددهم (60000) من الجنود. وبقى منهم في مصر (600000) ضعف الذين رحلوا عشر مرات( )، أقاموا في مصر وأصبحوا من شعبها، فأسلم منهم من أسلم، وبقى على دين آبائه من بقى, وكان من الحكام الذين ولاّهم هرقل على بلاد مصر عدد من العرب المسيحيين، يحكموها -كرعايا وشعب وجند- من ذوي المكانة العليا في الدولة الرومانية, ولعل أشهر هؤلاء الحكام وأكثرهم بلاء في سيبل الدولة الرومانية, رجل يدعى أبو طور وكان عربياً نصرانياً( ) يحكم مدينة تنيس (صان الحجر حالياً) قرب بورسعيد وكانت ذات شهرة كبيرة( ) إذ خرج أبو طور بعد الفتح الثاني للإسكندرية لقتال جيش المسلمين على رأس عشرين ألفاً من القبط الروم والعرب، مما يعني أن شعب الإقليم أيضاً كان فيه عرب مصريين مسيحيين أصحاب عزوة، وجنداً في جيش مملكة الروم التي تحكم مصر.
يقول بتلر:"فناجز أبو طور المسلمين في مواطن كثيرة قبل أن يظفر المسلمين بالنصر، ويهزمون جيشه, ويأخذونه أسيراً( ) وفتحت لهم المدينة، لكن المدينة برغم ما كان فيها من خير وصناعات وغنى( )، لم يجد المسلمون بها ما يُحَبب إليهم المقام بها، ولا من أشباهها من مدن أخرى كثيرة( )، وقد ظلت كلها على دينها النصراني زمناً طويلاً بعد ذلك لا يكاد يمسها دين الإسلام( ).



عندما حكم الإسلام مصر

قراءة في كتاب يعقوب نخلة روفيلة
لم أصدق عيني وأنا أقرأ هذه الشهادة ، التي وجدت حيثياتها متناثرة بين ثنايا ظلم كثير وضلالات أكثر، لقد نقل يعقوب نصوصاً عن أساقفته الأولين، يعترفون بعظمة الإسلام، وبعدل المسلمين, متمثلين في كثيرين كان أولهم الصحابي الجليل عمرو بن العاص, الذي يحاول أن يحط العلمانييون الشعوبييون من قدره, حَطَّهم الله في نار جهنم، بينما رفعه النصارى الأقدمون بما يليق بقدره ومقامه رضى الله عنه.
أبو إسلام
أ

نصارى مصر في ظل الإسلام
منذ الفتح الإسلامي حتى العام2000

في كتابه (تاريخ الأمة القبطية)( )، أنصف يعقوب نخلة روفيلة، شخصية عمرو بن العاص كثيراً، كما أنصف الفتح الإسلامي لمصر بصورة راقية للغاية، وإن لم يمنعه ذلك من الإساءة للإسلام والمسلمين في مواطن عديدة من كتابه، لعلها احتلت النصيب الأوفر فيما أدلى من آراء شخصية، أو شارك به في تحليل حدث من الحوادث، حتى نجده عنصرياً شديد الكراهية للحق والعدل, إذا ما تعلق ذلك بدين التوحيد.
لذلك كانت فرحتى شديدة لهذه النصوص التي فلتت من بين ضروسه، أما فرحتى الأشد فلأن مصادره الأساسية التي اعتمد عليها فيما أورد من الأخبار السارة, من بين تلال الظلم والجور كانت كلها مسيحية, وليس من بينها كتاباً واحداً لمؤلف مسلم.
يقول المؤلف تحت عنوان (الأقباط تحت حكم الرومان): وبانقضاء مدة الدولة اليونانية الإغريقية, أو بالأحرى, العائلة البطليموسية في سنة 30 قبل الميلاد، دخلت مصر في حكم الرومان، وكان سكان مصر يتألفون من ثلاثة عناصر:
الأول: الأقباط وهم العنصر الأصل وأهل البلاد وذووها.
والثاني: اليونانيون
والثالث: اليهود( ).
[ ثم أضيف إليهم عنصر الرومان بعد ذلك]
... ولما حُكمت البلاد بمقتضى شرائع وقوانين دولة الرومان المتغلبة، فكان هذا موجباً لنفور الأقباط، والذي زادهم نفوراً أن الرومانيين خَصُّوا اليونان واليهود بامتيازات خاصة.
وظلت مصر على هذا الحال (670عاماً)، أي إلى سنة 640 بعد الميلاد، ولم يحدث في كل هذه المدة الطويلة ما يستحق الذكر، سوى ظهور الديانة المسيحية ودخولها مصر في منتصف القرن الأول للميلاد( ).
وبعد تقلبات الزمان ووصول هرقل إلى عرش الإمبراطورية، فقد اهتم بتأييد مذهبه الذي حاول فيه أن يوفق بين اعتقاد روما المسيحي، وبين اعتقاد الأقباط المسيحي أيضاً، باعتقاد وسطي، رغبة منه في رأب الصدع بين الحزبيين، لكن الأقباط وقفوا موقفاً رافضياً، ليس لمسيحية روما الملكية، ولكن أيضاً لمسيحية هرقل البيزنطي التوفيقية، مصرين على عقيدتهم المسيحية التي تفردوا بها بين كل المسيحيين في الدنيا، الذين أصبحوا منذ رفع المسيح مباشرة شيعاً وأحزاباً ومللاً وطوائفاً.
يقول يعقوب نخلة: وبينما كان الملك هرقل مهتماً بتأييد مذهبه وتعذيب مخالفيه في سوريا ومصر، متشاغلاً عن إجراء ما فيه حفظ البلاد وصونها، وراحة العباد، وتنظيم أحوال المملكة ولم شعثها، ظهرت الدولة العربية الإسلامية في أوائل الجيل السابع للميلاد، وكان ظهورها قاضياً على مملكة الروم الشرقية بالويل والخراب( ).
إذ لما قصد العرب فتح سوريا وغيرها من البلاد لم يلاقوا صعوبات كثيرة بسبب ما كان مستولياً عليها من الفشل والانقسام وميل الناس لمن يحكمهم غير الرومان، مهما كانت عقيدتهم وديانتهم.
ولما رأى هرقل ما كان من استيلاء العرب على سوريا، خاف على مصر التي لم يبق له في الشرق سواها، لئلا يلحقها ما لحق غيرها , وأراد أن يستبقيها له.
وإذ لم يكن باستطاعته ذلك بالقوة، بادر بعقد معاهدة مع الخليفة عمر بن الخطاب، مؤداها أن هرقل يدفع إلى خزينة المسلمين جزية سنوية معلومة نظير تغاضيه عن فتح مصر، إلا أنه لم يقم بدفع ما اتفق عليه، فاعتبر الخليفة هذه المعاهدة لا غية لا عمل لها.
ثم يستطرد يعقوب: وكان بين قواد جنود العرب رجل يسمى عمرو بن العاص، اشتهر بالبسالة والشجاعة وإصابة الرأي وحسن التدبير، وجاء في بعض الروايات أنه كان قبل الإسلام يتعاطى التجارة فجاء إلى مصر غير مرة ورأى بالعيان ما كانت عليه البلاد من سوء الحال وميل الأقباط للتخلص من نير الرومان( ).
وتحرك عمرو بن العاص في أربعة آلاف فارس، من نخبة الجند وأبطالهم، وكان عدد جنود عمرو يتزايد كل يوم بانضمام القبائل البدوية، التي كان يلتقي بها في طريقه( ).
وصار عمرو يخترق الهضاب والبطاح
ويجوب الفيافي والبلاد حتى وصل إلى مصر( ).
ودخل العريش ، ثم بلبيس ، وصار يتقدم حتى وصل إلى بابليون (مصر القديمة حالياً) وكان بها قلعة عظيمة وحصن منيع ، فحاصره عمرو وضَيَّق على من فيه.
واستمر ذلك لمدة سبعة أشهر، موالياً الهجوم من وقت لآخر، وجعل بتخابر مع الروم في أمر التسليم بالتي هي أحسن، فأبوا كل الإباء( ).
لكنهم بعد ذلك أدركوا خطأ تقديرهم, فبادر المقوقس ملك الروم في مصر وبطريركها الديني, بإرسال كتاب إلى عمرو بن العاص، ظاهره، التهديد والوعيد، بأنهم أصبحوا أسرى في أيد الروم, والأولى بهم الاستسلام، قبل أن تغشاهم جموع جيوش الروم.
وبعد تداول للرسل بين القائدين، انتهى قائد الروم إلى أنه لا خيار أمام المسلمين إلا الموت أو الإستسلام ، وانتهى قائد المسلمين إلى أنه لا خيار أمام الروم إلا واحد من ثلاث:
ـ الإسلام
ـ أو الصلح
ـ أو الحرب مع دفع الجزية.
فكان بذلك عَرْض المسلمين أكرم وأتقى مما عرضه الروم، بينما نسيَ المؤرخون اختيارات وتهديدات الروم ووعيدها للمسلمين ، ولم يبق في ذاكرتهم غير اختيارات المسلمين فجعلوها ظلماً وعدواناً من المسلمين ، وإن الظالمين الكاذبين إلا هم.
واتجه المقوقس إلى أمرائه يحاججهم ويناقشهم ويقنعهم حتى أذعنوا للجزية، وتقرر الصلح بين المسلمين والروم بوثيقة، أن يعطي المسلمون الأمان للأقباط ولمن أراد البقاء بمصر من الروم، على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وفي نظير ذلك يدفع كل قبطي دينارين، ماعدا الشيخ والصبي الذي لم يبلغ الثالثة عشر من عمره والمرأة( )، ورجال الدين( ).
فلما علم هرقل بهذا الاتفاق ثار ثورة كبيرة وغضب غضباً شديداً، فأرسل إلى المقوقس يعاتبه ويلومه، أن جند الأقباط إن تخلفوا عن نصرته، فمعه مائة ألف فارس من الروم معهم العدة والقوة.
وهذا الرقم يدل دلالة كبيرة، إلى فساد ما يذهب إليه نصارى مصر اليوم, حول عدد المسلمين الذين أتوا إلى مصر مع الفتح الإسلامي، فلو افترضنا أنهم جميعاً قد بقوا في مصر ولم يغادروها، وأقاموا بها وأصبحوا من أهلها، فإن عددهم لم يكن يساوي (4%) من عدد جيش الروم، لو تصورنا أنه لم يكن بمصر غير جيش الرومان، فإن كانت المصادر تختلف فيما بينها حول عدد الأقباط بين الستة إلى الثلاثين مليوناً، ولنفترض أنهم كانوا ستة ملايين فقط, وأن جند المسلمين كانوا ستة آلاف، فإن نسبة المسلمين لا تتجاوز (1%) ولو كان المسلمون اثنى عشر ألفاً, لكانت نسبتهم (2%)
فإذا ما أكدت كل الوثائق التاريخية، أن ما بقى من جيش المسلمين في مصر لم يتجاوز الخمسمائة جندي، فتكون نسبة المسلمين أقل من (ستة/عشرة آلاف) = (0.0006 %)، وذلك أبلغ رد يجب أن يبتلعه نصارى مصر بكل رضى وأن يزدردوه غجر المهجر غصباً منهم ورغماً من أنوفهم، وعودة إلى هرقل والمقوقس فقد ذهب الأخير إلى عمرو بن العاص وأبلغه بغضب هرقل عليه قائلاً له: إن هرقل قد كره ما فعلت، وكتب إلي ألا نرضى بمصالحتك، وأمر جماعة الروم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم، ولم أكن بناكث عهدك، وإنما سلطاني على نفسي وبمن أطاعني، وقد تم الصلح بينك وبينهم، ولم يأتِ من قِبَلِهِم نقض، وأنا مُتم لك على نفسي، والقبط مُتمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه، وأما الروم فأنا منهم برىء، وأطلب إليك أن تجيب ملتمسي في ثلاثة أمور( ):
الأول: ألا تنقض عهد القبط وأن تدخلني معهم، وتلزمني ما لزمهم وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم، على ما عاهدتك عليه, فهم متمون لك على ما تحب( ).
الثاني: فإن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم، حتى تجعلهم فيئاً وعبيداً، لأنهم أهل لذلك لأني نصحتهم فاستغشوني، ونظرت إليهم فاتهموني.
أما الثالث: فإني أطلب إليك أني إذا مت تأمرهم أن يدفنوني بجسر الإسكندرية( ).
ثم يعقب يعقوب نخلة روفيلة على هذا الكلام، الذي نطق به عاقل حكيم، مراعياً مصالح نفسه وأمة المصريين أميناً عليهم، مشغولاً بأمنهم وأمانهم، فيقول: فأجابه عمرو بن العاص على ما طلب على أن يكون القبط أعواناً له.
ثم يستطرد مباشرة: وفي قوله (إني نصحتهم ونظرت إليهم) دليل على أن المقوقس بصفته حاكماً مسئولاً وأمين الدولة الرومانية، لن يتأخر عن تمحيص النصيحة لدولته، بأن الاستمرار على سوء معاملة الأقباط، وهضم جانبهم، ربما يجرهم إلى مالا تُحمد عواقبه، فلم يلتفتوا إلى نصيحته ورموه بالغش والبهتان وسوء النية وخبث الطوية، وكأن الله أصم آذان الروم ليقضي أمراً محتوماً( ).
إن هذه الحقائق التاريخية، الغائبة عن ساحة الحوار والنقاش اليوم وقبل اليوم هي السبب الأساسي فيما عليه أجيال وأبناء المسيحيين في بلاد المسلمين من الغضب والتطرف والاستثارة، عندما تسلط عليهم العملاء والمأجورين والخونة والطابور الخامس من أبناء ملتهم ومن المسلمين العلمانين أو الشيوعيين الكارهين لكل دين في بلادنا، فكتبوا لهم تاريخاً غير التاريخ، ونسجوا لهم أقاصيصاً غير الأقاصيص، فظلموا التاريخ ، وظلموا أجدادهم، وظلموا وطنهم، وظلموا أنفسهم وكانوا عوناً للباطل، وخداماً للشياطين, وأعداءً للأمة، وشراً على أبنائهم في الحاضر وفي المستقبل
يقول يعقوب نخلة: أما الروم ( وليس الأقباط) فهاجروا إلى الإسكندرية، وتحصنوا بها، استعداداً لمقابلة العرب، وتَعَقَّبهم ابن العاص وجنوده، فوقع بخدعة أسيراً لديهم مع اثنين من جنده دون أن يعرفه أحد، فسألهم أمير المدينة:
ـ ما الذي حملكم على قتالنا؟
فأجاب عمرو بغير خوف ولا رعب( ): قد أتيناكم ندعوكم إلى الإسلام فيكون لكم مالنا، أو أن تدفعوا الجزية وأنتم صاغرون، وإلا فلا نكف عن قتالكم، فإن الله يأمرنا به، إلا إذا أجبتمونا إلى إحدى الخصلتين، ذلك ما نطق به عمرو بن العاص وهو أسير في الإسكندرية، ويتضح من السياق والتاريخ للأحداث، أن أقباط مصر لم يكونوا أبداً طرفاً في قتال أو مقاتلة، أو حوار أو مساومة أو مواجهة، ولم يكونوا أبداً خصوماً للمسلمين، ولا أعداءً لهم ولا رافضين لهم، ولا معترضين على فتحهم للبلاد، إنما كل الخلاف التاريخي الذي يثيره بعض مؤججي الفتنة اليوم، هو باختصار شديد:
هل كان أجدادنا الأقباط عوناً للمسلمين أم لا؟
لكن أبداً لم يثبت أن قبطياً كره الإسلام أو المسلمين، أو كاد لجندهم، إلا أن يكون خائناً شاذاً خارجاً عما اجتمع عليه الأقباط من الحياد حتى تنتهي العاصفة.
واستطاع عمرو بن العاص أن يخرج من الأسر مع جنديه بحيلة ذكية، وعاد سالماً إلى جيشه؟
ثم وتحت عنوان (إمارة عمرو بن العاص)، يقول يعقوب نخلة في كتابه الذي هو اليوم من أشهر كتب تاريخ الأقباط في المكتبة الكنسية:
فلما فتح عمرو بن العاص مدنية الإسكندرية أراد أن يجعلها عاصمة الدين كما كانت في عهد بطليموس، فعهد بها إلى المقوقس حاكمها السابق في ظل الحكم الروماني( ).
وهذا في الحقيقة شىء عجيب يدل على ما كان عليه أقباط مصر تحت مظلة المقوقس، من وداعة واستسلام وترحيب بالحاكم المسلم وتعاون بلغ أعلى سقف للثقة، كما يدل من ناحية أخرى على أن عمرو بن العاص ـ ممثلاً للإسلام والمسلمين ـ لم يكن ولو للحظة واحدة عدواً أو خصماً لنصارى مصر، وكان على قدر كبير من الثقة بالله ثم الثقة بنفسه، ثم الثقة في أقباط مصر وولائهم له، إلى درجة أن يجعل العاصمة الثانية للبلاد والميناء الأول لها والموقع العسكري الأول على شاطئ البحر، والمدخل الوحيد لخصومه الآتين من روما في يد (المقوقس) الذي حمل هم أقباط مصر، وانشغل بسلامهم وأمنهم وأمانهم، وتمنى لو يدفن بينهم وفي أرضهم بعد مماته، برغم ما حاول مؤرخي الكنيسة أن يلطخوا تاريخه بأسوأ ما رغبت فيه نفوسهم المريضة.
يقول يعقوب نخلة:
عَيَّن عمرو بن العاص، المقوقس، حاكماً على الإسكندرية وجميع الوجه البحري، وترك فيها حامية من العرب، وعاد بمن معه من الجند إلى حصن بابليون، واختار له محلاً بين الحصن وبين جبل المقطم، وأقام فيه هو ورجاله ومن ثم أخذ هذا المحل يعمر شيئاً فشيئاً، حتى صار مدينة واسعة تسمى بالفسطاط أو فسطاط مصر، وسُميَ بعد ذلك بمصر القديمة( ).
ووجدت أنني أكون مجحفاً لعمرو بن العاص، أن أغفل حكاية حكاها يعقوب نخلة، إثر هذا القول وقد حكاها بتلر من قبله ونقلتها عنه من قبل في موضع سابق من هذا الكتاب ولا أجد ما يمنعني من تكرار ذكرها، أن عمراً لما عزم على فتح الإسكندرية، قصد رجاله أن يحلوا خيامه ليتأهبوا للرحيل، فوجدوا أن خيمته قد أوكر في قمتها زوج من الحمام تحته صغاره، فلما رأى عمرو هذا أمر أن تُترك خيمته منصوبة قائلاً: معاذ الله أن نأبىء حماية ذي حياة استجار بنا فاتركوا خيمتي منصوبة حتى نعود إن شاء الله.
ولما عاد عمرو وجدها كما تركها والطيور بها، فبنى في مكانها جامعاً [هو جامع عمرو بن العاص اليوم].
وبنى العرب حوله منازلاً فأصبحت مدينة, وأسماها بالفسطاط، ومن ثم صارت عاصمة الديار المصرية، ومركز الإمارة العربية إلى زمن الفاطميين الذين ابتنوا القاهرة وكان القبط هم أهم العاملين في عمارتها( )، لا سيما وأن رجال الحكومة كان معظمهم - إن لم نقل كلهم - من الأقباط فشيدوا بها القصور العالية [لأنفسهم]، والدور الرحبة والكنائس والأديرة الواسعة، والمنتزهات والبساتين النضرة، بتشجيع من العرب لما في ذلك من العمران.
وهكذا أصبحت الفسطاط تحاكي في البهجة والرونق، مدينة منف القديمة التي شيدتها أيدي الملوك الفراعنة، بهمة الأقباط الذين بذلوا النفس والنفيس في تشييدها، وفي هذا دليل على أحكام الوفاق، وتمكين العلاقات بين القبط والعرب في ذلك الزمن( ).
ثم يعقب المؤلف مباشرة، مخبراً عن هذا الحدث الجلل في تاريخ أقباط مصر قائلاً:
ولم يمنع المسلمون الأقباط من بناء كنائس ومعابد متعددة، في وسط الفسطاط، التي هي مقر جيش الإسلام على حين أن المسلمين كانوا يصلون ويخطبون في الخلاء، أو أنه لم يكن لهم غير جامع واحد الذي بناه عمرو بن العاص( ).
فلما ثبتت قدم العرب في مصر , شرع عمرو بن العاص في تطمين خواطر الأهلين، واستمالة قلوبهم إليه , واكتساب ثقتهم به، وتقريب سراة القوم وعقلائهم منه، وإجابة طلباتهم، فكان أول شىء فعله من هذا القبيل استدعاء بنيامين، البطريرك الذي كان مختفياً من أمام هرقل ملك الروم( )[المسيحيين].
ومهم للغاية أن يفهم أهلنا من نصارى مصر اليوم، أن عَمراً بن العاص لم يكن في حاجة إلى هذا التطمين، ولا في حاجة لاكتساب ثقة أحد، لأنه ما فعل ذلك إلا بعد أن انتصر، وأحكم قبضته على البلاد تماماً، إنما ذلك راجع إلى طبيعة العقيدة التي يؤمن بها عمرو وجنده، فهو داعية إلى الله وإن ارتدى زى الجند وهو داعية إلى الإسلام وإن أمسك في يده اليسرى درعاً وفي اليمنى سيفاً، وكان عمرو بن العاص قادراً على أن يقضي على المسيحية في مصر قضاءً نهائياً، لولا أنه لو فعل ذلك لأقام عليه أمير المؤمنين الحد وقتله، لما في دين المسلمين من التقديس لحرمة الدماء، وهذا هو التاريخ يتكلم على لسان عشرات من كبار المؤرخين المسيحيين شاهداً أن عَمراً بن العاص لم يكن في حاجة إلى نصارى مصر، وإن كان في حاجة إليهم فقد كان مستطيعاً أن يأمرهم بتلبية حاجته بالحال التي كان يأمرهم بها إخوانهم في الدين من الرومان والبيزنطيين.
لذا فإنني أخاطب عقل ووجدان كل مسيحي، أن يكون عدلاً عدولاً، ليس في أحكامه، فلا حكم على تاريخ مضى، إنما في ضبط مشاعره وأحاسيسه، وتنقية صدره، مما علق به من الظلم والعداء والاستنفار والكره والحقد، بسبب أخطاء تاريخية لا ذنب له ولا للمسلمين فيها.
يقول يعقوب نخلة: ولما حضر بنيامين ذهب لمقابلة عمرو بن العاص ليشكره، وأظهر له الولاء فأكرمه عمرو، وأقسم له بالأمان على نفسه، وعلى رعيته، وعزل عمرو البطريرك الرومي الذي كان قد أقامه هرقل على مصر، ورد بنيامين إلى مركزه الأصلي، معززاً، مكرماً بعد اختفاء عشر سنوات قاسي فيها ما قاسه من الشدائد( ).
فهل نجد وفاء وولاء للمسيحيين , لما والى عليه أباهم الأول بنيامين للمسلمين؟
إنني أحسب أن عهد بنيامين لعمرو ، هو عهد أمانة في رقبة كل الذين بقوا على المسيحية في مصر على مدى التاريخ كما أن عهد عمرو بن العاص للمسيحيين هو عهد أمانة لهم في رقبة كل الذين أسلموا ، ليس في مصر وحدها, إنما في كل أرض مسلمة، لأن عهود صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي سُنة عند المسلمين إلى يوم الدين.
يقول يعقوب نخلة:
وقيل أن عمراً لما تحقق العقل والمعرفة والحكمة من بنيامين، قَرَّبه إليه، وصار يدعوه لمجلسه بين الوقت والآخر، ويستشيره في الأحوال المهمة المتعلقة بالبلاد وخيرها، فحسب الأقباط [الأولون] هذا الصنيع, فضلاً كثيراً من عمرو عليهم.
وسمح عمرو لمن لا يرغب من الروم [الذين كانوا بالأمس محاربين ومقاتلين للمسلمين] البقاء في مصر، أن يخرج منها بأمان ، ومن يُفَضّل البقاء تُفرض عليه الجزية ، ويكون له ما للأقباط وعليه ما عليهم( ).
وهنا أتوقف قليلاً عند إدعاء بعض أصحاب الفتنة والوقيعة بين الأهلين في مصر ، أن عَمراً بن العاص ، بالقول أنه : لولا حاجته لنصارى مصر ما أحسن التعامل معهم، فنقول في هدوء:
- ألم يكن قادراً على التعامل معهم كعبيد محاربين ؟
- ألم يكن قادراً على التعامل مع الروم عليهم؟
- ألم يكن قادراً على تقديم الروم في الحكم ومُصالحتهم؟
- ألم يكن يعرف أن نصارى الروم أكثر خبرة ومعرفة بأصول الحكم والحرب والقتال من نصارى مصر، فيستخدمهم في الخلاص من نصارى مصر، والإبقاء على ما كانت عليه الأحوال من قبل؟
- إن الذي ينكره أهلنا النصارى في مصر وبجفاء شديد , أن عمراً بن العاص كان هو حينذاك ملك البلاد، تماماً كما مَلَكها اليونان من قبل فمسخوها من الفرعنة إلى الإغريقية ، وتماماً كما ملكها الرومان فمسخوها من الإغريقية إلى الرومانية ، وتماماً كما ملكها البيزنطيين فمسخوها من الرومانية الغربية إلى الرومانية الشرقية، فهل كان عمرو أقل من هؤلاء جميعاً قوة أو شكيمة أو جرأة أو علماً؟
إنما هي ضوابط الإسلام التي تتحكم في سلوك المسلم ، قائداً كان أو جندياً ، حاكماً كان أو محكوماً, ولنقرأ السطور التالية للمؤرخ يعقوب نخلة:
كان عدد الروم في مصر، ينوف عن ثلاثمائة ألف نفس ، [أي أكثر من ربع مليون]، فهاجر أغلبهم [لما وجدوا من ميل عمرو بن العاص لنصارى مصر]، ولم يبق منهم إلا من كانت له علاقات ومصالح ، [فانظر ماذا حدث].
انتهز القبط خروج الروم فرصة مناسبة ، فوضعوا يدهم على كثير من كنائسهم وأديرتهم وملحقاتها ، بدعوى [والتعبير ليعقوب نخلة] أنها كانت في الأصل ملكاً لهم وأن الروم نزعوها من يدهم بسبب ما كان بينهم من الشقاق.
ثم يستطرد يعقوب: ومن ذلك الحين [الفتح الإسلامي] عاش الروم والأقباط بالحسنى، وانتهت من بينهم النزاعات والمخاصمات التي كانت تقضى إلى قتل الألوف المؤلفة، لزوال أسبابها( ).
ثم أخذ عمرو في تنظيم البلاد، مستعيناً بفضلاء القبط( ) وعقلائهم على تنظيم حكومة عادلة، تضمن راحة الأهالي والوالي معاً.
- فقَسَّم البلاد إلى أقسام، يرأس كلاً منها حاكم قبطي.
- ورتَّب مجالس ابتدائية واستئنافية من ذوي النزاهة.
- وعيَّن نواباً مخصوصين من المسيحيين، منحهم حق التدخل في القضايا المختصة بأهل دينهم، والحكم بمقتضى شرائعهم الدينية والأهلية.
- وضرب الخراج بطريقة عادلة ، تُقبض على آجال معينة ، حتى لا يتضايق أهل البلاد( ).
- ورتب الدواوين فاختص الأقباط منها بمسك الدفاتر والأعمال الكتابية والحسابية.
فبلغ ما جباه عمرو بن العاص بهذا العدل من الخراج في السنة, إثنا عشر مليوناً من الدنانير، وكان المقوقس في أيام الروم يجبي بالظلم والقهر ثمانية عشر مليوناً، فكان الأقباط بالجملة (الذين أسلموا والذين بقوا على نصرانيتهم) قد نالوا في أيام عمرو بن العاص راحة لم يروها منذ أزمان طويلة سابقة( ).
ولاية عبد الله بن سعد
فلما رحل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، تولى أمير المؤمنين عثمان بن العفان الخلافة من بعده ، فأحدث تغييرات في ولاة الأمصار، كان من بينها عزل الصحابي الجليل عمرو بن العاص من ولايتة لمصر، ووضع مكانه الصحابي الجليل عبد الله بن سعد، الذي كان حاكماً على الوجه القبلي في ولاية ابن العاص لمصر، وكأنما كانت ترقية له في المنصب ، إلا أن الروم في القسطنطينية ظنوا في أمة الإسلام سوءاً بعد رحيل فاروقها، ففكروا في العودة لاحتلال مصر ثانية ، وجرّدوا حملة لذلك ، فساروا بمراكبهم حتى دخلوا الإسكندرية، وحاولوا النزول بها.
وهنا يهدي لنا يعقوب نخلة روفيلة، رسالة طيبة من هذا التاريخ الطيب لتاريخ أمتنا الطيبة، فيخبر: إن الذي تصدى لهذه الحملة الصليبية، كان هم أقباط الإسكندرية ، خرجوا خلف أميرهم وحاكمهم المقوقس ، دفاعاً عن أرض الإسلام ، فيقول:
حاولوا النزول بمراكبهم على شواطئ الإسكندرية ، فمنعهم المقوقس , إلا أنهم استطاعوا النزول إليها، وانضم إليهم من كان بالإسكندرية من الروم الذين نقضوا العهد، أما المقوقس والقبط فقد تمسكوا بعهدهم مع المسلمين ، ودافعوا عن المدينة ما استطاعوا ، حتى خرج منها الروم ، ولكنهم هربوا إلى القرى يعيثون فيها فساداً ، وينهبون ما بها ، ويقتلون سكانها [كسابق عهدهم] فخاف أهل مصر سوء العاقبة ، واجتمعت كلمة القبط والمسلمين على أن يطلبوا من الخليفة عثمان بن عفان ، أن يرسل لهم عمراً بن العاص لمقاتلة الروم ، لتدربه على الحرب، ولهيبته في عين العدو[هكذا بهذا التعبير الجميل الصادق]، فأجاب أمير المؤمنين طلبهم [وأتى ابن العاص سريعاً ملبياً أمر أمير المؤمنين] فصار يحارب الروم ويقاتلهم ويضيق عليهم ، حتى ركبوا سفنهم وعادوا إلى بلادهم بالخيبة( ).
وللمرة الثانية يكون لعمرو بن العاص ولجيش المسلمين دَين كبير في رقبة الأقباط ، على مدى تاريخ الأمم إلى يوم نلقى الله فيه ، إذ يقول يعقوب نخلة: كان القبط [النصارى] يحاربون في هذه الواقعة مع المسلمين [الأقباط]، ويقاتلون الروم خشية أن يتمكنوا من البلاد ويأخذونها ، فيقع الأقباط في يدهم مرة أخرى ، وبذلك ينتقمون منهم لتفضيلهم المسلمين عليهم ، فتكون الواقعة الثانية شراً من الأولى( ).
ولما انتهى عمرو بن العاص من قتال الروم، أراد الخليفة عثمان بن عفان أن يكافئه على جهده الكبير في هذه الحرب الأخيرة، بأن يوليه رئيساً على جند مصر وعبد الله بن سعيد على خراجها، فلم يرض عمرو [زهداً في الملك] وانصرف عنها، ولم يعد إليها إلا في سنة 38هـ، عندما ولاه أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، بعد مقتل الإمام على بن أبي طالب رضى الله عنه ، والياً على مصر للمرة الثانية.
ونحسب أنه لولا ما كانت عليه أحوال دولة الإسلام من فتن حينذاك ما قبل عمرو بن العاص هذه الولاية وقد بلغ من العمر عتياً حتى توفاه الله بمصر، عام 43 هـ، فيقول يعقوب نخلة:
بينما أصاب الخلل أنحاء المملكة الإسلامية بعد الفتنة,كان الأقباط في مصر ملازمين للهدوء والسكينة, فلم يخطر لهم على بال قط شق عصا الطاعة أو التخلص من حكم المسلمين, ولو أرادوا ذلك لأمكنهم لما كانت عليه أحوال البلاد من الفوضى والانقسام حينذاك( ).
وتلك رسالة أخرى لأهلنا نصارى مصر في زماننا وفي الأزمان التالية لنا أن أجدادنا الأقباط قد ارتضوا بحكم الإسلام كامل الرضا، وأنهم أبداً ما فكروا:
ـ في العودة إلى الرومان الظالمين.
ـ أو إعلان التمرد على المسلمين.
ـ أو التفكير في الاستقلال عن حكم العرب.
ولو كان أي طرح من هذه التصورات الثلاثة, هو أفضل لأجدادنا المصريين قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، ما تأخروا عن تحقيقه ، خاصة وقت واتتهم الفرصة وتهيأت لهم الأحوال ، إنما هو الإحساس بالأمن التام والأمان الكامل في كنف المسلمين، لما أدركه كبارهم وعقلائهم أنهم لم يكونوا أبداً مؤهلين لحكم البلاد، ولم يطمحوا لذلك، وليس هذا ذماً فيهم، ولا يشينهم، وهم مؤتمنون وآمِنون على عقيدتهم وأموالهم وأرزاقهم وأمنهم، من الظلم والجور أو العسف والاضطهاد، فيقول يعقوب نخلة:
وآثر الأقباط الاستمرار على التمسك بالمعاهدة التي أبرمت مع ابن العاص أيام الفتح الأول ، ولم يدر بخلدهم أبداً نقضها راضون بها ، هانئين بحكم الإسلام فيهم .
فلما عاد إليهم عمرو بن العاص في أيام معاوية ، فرحوا به , ولما مات حزنوا عليه ، وكان لهم الحق في ذلك الحزن، لأنه لم يتولى على مصر أميرُُ أحسن التدبير مثله( ).
وبعد موته بأيام قلائل، مات أيضاً بنيامين البطريرك، فكان حزن الأقباط حزنان، أن فقدوا حكيمين من حكمائهما، وراعيين من أفضل رعاتها.
ثم يستطرد يعقوب نخلة متغزلاً في عمرو بن العاص قائلا:ً ومما حبب الأقباط في عمرو وجعلهم يميلون له كل الميل، أنه كان مراعيا ً في كل تصرفاته مصلحتهم وراحتهم، فلم يأخذ منهم في مدة إمارته من الأموال أكثر مما صولحوا عليه، بغير زيادة أو نقصان، ولا في غير آجالها المضروبة لجمعها وتحصيلها.
ومن حسن حظ ابن العاص أنه لم يحصل في أيامه جدب، ولا نقص في النيل، ولو حصل لرفع عنهم الخراج بقدر النقص( ).
والله إنها لشهادة من هذا المؤرخ المسيحي لعمرو بن العاص، هو أحق بها, يعجز أي مسلم أن يدلي بمثلها، فكانت وساماً على صدر أجدادنا الأقباط، وهم يعرفون الفضل ويردونه إلى أهله ولا ينكرون ما أنعم الله عليهم من هذا الفضل، أن جعل عليهم حاكماً مثل عمرو بن العاص فإن كان هذا القول في حق ابن العاص صدقاً، فهو في حق هذا المؤرخ مكرمة له عند ربه وياليت قومي يعلمون.
ويزيد هذا المؤرخ المسيحي غزلاً في ابن العاص، فيقول:
قلنا فيما تقدم أن المقوقس لما رأى تَغَلُّب العرب على حصن بابليون وعرض على حكماء القبط الصلح ، فأبوا أن يكونوا بالصلح عبيداً في بلادهم، فقال لهم عمرو ابن العاص:(وإن تكونوا بدفع الجزية عبيداً إلا أنكم تكونوا مُسَلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم).
ثم يعقب يعقوب نخلة على هذا قائلاً: وفي الواقع أن [عمراً بن العاص صدق فيما وعد] وكان الأقباط هم المسلطين في بلادهم ، بيدهم كل شيء ، فعاشوا آمنين على أنفسهم وأموالهم، ولم يكن للعرب سلطة عليهم، إلا في تحصيل الخراج, ودفع الجزية التي كانوا يدفعونها عن طيب خاطر، راضين بما قسم الله لهم من الأرزاق( ).
عبد العزيز بن مروان
فلما تولى عبد العزيز بن مروان ولاية مصر بعد عمرو بن العاص، وكان الطاعون قد تفشى في مصر، فأعلى الضرائب والعوائد على جميع المصريين سواء كانوا من الأقباط أو المستوطنين فيها من غير الأقباط، لكنه خص الأقباط أهل البلاد بزيادة الجزية التي فرضها، كما فرض الجزية على رجال الإكليروس [رجال الدين] وكانوا في عهد عمرو بن العاص معافين منها، فألزم كل واحد منهم بدفع دينار في العام، كما ألزم البطريرك بثلاثة آلاف دينار وكان الأمين على بيت مال المسلمين، رجل قبطي يدعى أنيتاس.
ويستطرد يعقوب نخلة بعدها مباشرة قائلاً: وجاء في بعض التواريخ أن عبد العزيز هذا كان جواداً حليماً بشوشاً، وأنه سكن حلوان ولما أعجبه موقعها ابتنى له فيها قصوراً شاهقة، وزينها بالبساتين الناضرة. ولما كان معظم العرب الذين في مصر هم من الجند المسئولين عن أمن وسلامة البلاد، في حين كان القبط حينذاك هم أهل البلاد وذوي الثروة والاقتدار على الأعمال، وعليهم مدار العمران, فقد كلف الأمير عبد العزيز أهل اليسار[الأغنياء] من القبط أن يبني كل منهم له داراً بحلوان, التي كان يريدها مدينة تحاكي الفسطاط( ).كما كلف إيساك بطريرك المصريين، أن يبني له فيها داراً وكنيسة، حتى يُرغب باقي الأقباط في التوطن بها... فكان البطريرك يتردد كثيراً على حلوان لزيارة الأمير عبد العزيز، الذي أمر أراخنة الصعيد وكل القرى، أن يبني كل واحد منهم لنفسه مسكناً بحلوان، واستمر حكم عبد العزيز عشرون عاماً، حتى مات سنة 86هـ( ).
ويحلل المؤلف سبب فرض الأمير عبد العزيز ديناراً على رجال الدين المسيحي، وهو ما لم يكن معمولاً به من قبل، فقال: إنه لما كان رجال الإكليروس مُعفون من الضرائب برغم [تفاهتها] فقد لجأ بعض النصارى[مكراً] إلى الأديرة حتى بلغ عددهم في الأديرة حتى ستة آلاف راهب، فألزم كل واحد منهم بدفع ديناراً سنوياً، وأن يضع في إصبعه خاتماً مكتوباً عليه اسمه واسم الدير التابع له يتسلمه كل واحد من جابي الخراج.
ثم يشرح حقيقة هذه الأمور فيقول في هامشه( ): هذا ما رواه بعضهم، وقد لا يكون خالياً من المبالغة, والذي نراه [والكلام للمؤرخ يعقوب نخلة] أن نقص إيرادات الخراج حينذاك لم يكن بسبب اعتناق الكثير من الأقباط للديانة الإسلامية، ولم يكن بسبب تشديد الولاة على الرهبان وربط الجزية مقصوداً به جمع الأموال، بل يمكن أن يقال وهو قول غريب الاحتمال، أن العرب في ذاك الحين ما كانوا يجهلون القلاقل والاضطرابات[والخيانات] التي كانت تحصل أيام الدولة الرومانية، وما كان يعانيه الحكام من تجمهر الرهبان( ) بسبب الثقافات الدينية والاختلافات المذهبية.
يقول يعقوب نخلة: فلما رأى ولاة العرب أنه يوجد في ديارات برية شبهات وحدها، عدد كبير من الرهبان كهذا، خشي حدوث ما يخل بالنظام، فعمد إلى ربط الجزية عليهم وشدد في تحصيلها، لفائدة الخزينة من جهة، ولإنقاص عددهم من جهة أخرى، ويؤيد هذا [والكلام ما يزال ليعقوب] أنه حصل مرة في أيام العرب، أن بعض أهالي الوجه البحري من المسيحيين الأقباط والروم، ثاروا على الحكومة، وكان بطريرك الأقباط في مقدمة الثائرين منهم( ) وكذلك الرئيس الديني للروم فحاربهم الحاكم وقهرهم وقبض على الاثنين، فضرب عنق الرئيس الرومي بسيفه بغير توان، أما بطريرك الأقباط فأبقاه ولم يطلق سبيله إلا بدفع مبلغ طائل جداً قام بدفعه هو وكبار الأقباط فداءً لحياته( ).
ولاية هشام بن عبد الملك
ولما تولى هشام بن عبد الملك الخلافة سنة 105 هـ شكا إليه المسيحيون من ظلم عمال الخراج [وكان أغلبهم من الأقباط]
فأصدر أمره للوالي بوجوب معاملتهم بمقتضى العهد الذي بيدهم، ولما خرج أحد الولاة عن ذلك، عزله الخليفة وولى آخر مكانه، وأمره أن يحصن أهل البلاد، ويوزع عليهم الخراج بطريقة عادلة فارتاح القبط في مدة هذا الوالي التي دامت تسع سنوات.
ولما توفى الله الخليفة هشام بن عبد الملك أسف الجميع لموته ولاسيما النصارى لأنه لم يميز في أحكامه بين مسلم ونصراني أو يهودي، وكان يشدد على الولاة في جميع الولايات بانتهاج منهج العدل في أحكامهم، وإنصاف المظلوم بصرف النظر، عن الدين والجنسية( ).
ومن حسن الحظ أن علاقة الأقباط مع أفراد المسلمين المستوطنين بينهم،كانت مُرضية، ولم نر في التاريخ ما يدل على تعصبات دينية، بل ربما وُجِدَ بين المسلمين من أنصفهم ودافع عنهم، وقد احتال الروم على أحد خلفاء هذه الدولة وتحصلوا على أمر منه بإعادة ما كان لهم من الكنائس بمصر، قصداً في نزع إحدى الكنائس من يد المسيحيين الأقباط، بدعوى أنها كانت في الأصل ملكُُ لهم، فأدى ما حصل بين الروم و المسيحيين القبط من النزاع، إلى رفع المسألة لقاضي المسلمين للفصل فيها، فلم يراع القاضي المسلم في حكمه غير الحق، وأثبت أن الكنيسة ملكاً للمسيحيين القبط، وحكم بعدم جواز نزعها من يدهم ، وإعطائها لمن لا حق له فيها( ).
وينقل يعقوب نخلة عن الأب ساويرس بن المقفع في كتابه (تاريخ البطاركة) عند ذكر تاريخ حياة الأسقف مرقس البطريرك الثامن والأربعين، فقال: لما رأى الأساقفة ووجهاء المسيحيين الأقباط أن الوالي المسلم( ) يبدي اهتماما بأمر البِيَع، قال إخيال أسقف مصر: إن الواجب أن نهتم بأمر الكنائس في هذا الوقت، فلما كان الغد عاد البطريرك إلى الوالي، فَسَلَّم عليه الوالي، وبجله, وأكرمه، ورفعه، وخاطبه، قائلاً:
قلت لك أمس أني أقضي جميع حوائجك ولم تطلب منى حاجة، والآن مهما يكن لك من حاجة فاذكرها فإنها مقضية عندي لمحبتي لك.
قال البطريرك: حفظ الله أيامك أيها الوالي، وزاد من رفعتك وسلطانك، تعلم أن عبدك لم يولى على مال ولا خراج، بل على الأنفس والبِيَع، فأرغب إلى جلالتك أن لنا هنا كنائس، قد هدم الظالم بعضها قبل وصولك إلى مصر، هَدَّم الرب دياره، وقطع حياته من على الأرض، فإن رأى رأيك فيها، أن يتقدم لنا بعمارتها لنصلي فيها وندعي لجلالتك فالأمر لك ؟
فأجاب الوالي سؤاله، وأمر بعمارتها فبنيت جميع كنائس فسطاط( ) مصر.
ولاية المأمون
وبرغم أن يعقوب نخلة كان كثير الظلم للمسلمين والإسلام في كتابه هذا كما أشرت في المقدمة ، وأن ما التقطناه من زهور جميلة، كان انتقاء من بين تلال الشوك الشرسة التي حفل بها الكتاب ، واحتاج ذلك جهداً كبيراً ، نجده يدلي بواحدة من الشهادات الرائعة ، قائلاً: يقول مؤرخي المسلمين أن الخليفة المأمون ، لما كان في مصر ، ورأى انتقاص من أقباط الوجه البحري فحكم بقتل رجالهم , وبيع نسائهم , وسبي أطفالهم( ).
ثم يستتبع يعقوب هذا القول بقوله: أما مؤرخو القبط, فيقولون : أنه لما وصل المأمون إلى مصر ، ذهب إليه البطريرك , وهو حينئذ الأب يوساب ، فقابله الخليفة بما يليق بمقامه ، وأكرمه ، وكلمه في أمر مخالفة أقباط الوجه البحري ، وطلب إليه أن ينصحهم ويحذرهم بأن يكتب لهم منشوراً يدعوهم فيه إلى الطاعة , حقناً لدمائهم ، ووعده أن ينظر في راحتهم وفيما يشكون منه ، فلبى البطريرك طلبه ، وكتب المنشور ، فامتثل المسيحيون الأقباط جميعاً إلا أهل (البشمور) بمديرية الدقهلية ، فلم يقبلوا النصيحة وأبوا إلا المقاومة ، فلما بلغ المأمون هذا الخبر ، حمل عليهم بعساكره ، فشتت شملهم وفرق جمعهم، وقتل رجالهم , وسبى نساءهم , وسلب أموالهم ، وهدم كنائسهم.
ويعقب المؤرخ يعقوب نخلة قائلاً: ولو قبلوا النصيحة لنالوا من لدنه خيراً ونعمة وراحة , لكنهم جلبوا على أنفسهم مصيبة لم يبرأوا منها.
فلما خمدت نار الفتنة ، وهدأت الأحوال ، شرع المأمون في تطييب خواطر الناس ، فصار يطوف البلاد وأخذ يتفقد أحوال الرعايا بنفسه لتسكين جأشهم ، وقيل أنه في أثناء تجوله ، مر بضيعة تسمى (طاء النمل) فلم يدخلها لحقارتها، ولما تجاوزها خرجت إليه عجوز قبطية تسمى (ماريا) صاحبة القرية ، وأخذت تصيح على المأمون مستغيثة ، فظنها متظلمة ، فوقف لها وسألها عما تريد ، فقالت: يا أمير المؤمنين نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي ، والقبط تعيرني بذلك ، فأتوسل إليك أن تشرفني بحلولك في ضيعتي ، ليكون لي ولعقبي الشرف ، ولا تشمت بي الأعداء.
فأجاب المأمون طلبها، وثنى عنان فرسه إلى قريتها، ولما نزل بها جاء ولدها إلى صاحب المطبخ وسأله: كم يحتاج من الغنم والدجاج والفراخ والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع وغير ذلك مما جرت به عادته فأحضره إليه( ).
يقول يعقوب نخلة : وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس، فقدمت له المرأة ولجميع من معه من فاخر الطعام شيئاً كثيراًَ حتى استعظم ذلك ، فلما أصبح الصباح ، وكان المأمون قد عزم على الرحيل من مصر ، حضرت إليه المرأة القبطية ، ومعها عشر وصيفات في يد كل وصيفة طبق ، ووضعتها بين يديه ، إذا في كل طبق كيس من ذهب ، فاستحسن ذلك منها وأمرها بإعادته .
قالت : يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا, ولا تحتقر بنا.
إن في بعض ما صنعت لكفاية ، ولا نحب التثقيل عليك ، فَرُدِّي مالك بارك الله فيك .
فلم ترض , وألَحّت عليه بقبول الذهب ، فلم يسعه إلا أن أجاب طلبها. ثم سألها:
• من أين لك كل هذا؟
فأخذت قطعة من الأرض وقالت:
• يا أمير المؤمنين: هذا (وأشارت إلى الذهب) من هذا (وأشارت إلى الطينة) ، ثم من عدلك يا أمير المؤمنين.
فوافق أن يؤخذ منها ما أهدته، واقطعها عدة ضياع ومن قريتها أقطعها مائتي فدان بغير خراج( ).
ولما كان المأمون بمصر، أعطى البطريرك يوساب فرماناً بخط يده، بإقراره رئيساً عاماً روحانياً على الأمة القبطية، وأن له السلطة العامة على جميع كنائس مصر وخدامها( ).
ولاية أحمد بن طولون
كما ذكر يعقوب نخلة عن أحمد بن طولون ، أنه أراح المصريين كثيراً ، فرفع ما كان باقياً عليهم من الضرائب غير الاعتيادية التي فرضها بعض الولاة الظالمين ، وخفض الضرائب عن الأطيان ، فانتفع الأقباط من ذلك كثيراً ، واتسعت في أيامه الزراعة واستقامت الأحوال ، وشيدت المباني العالية ، والقصور الشاهقة ، كما صارت في عهده جميع الأعمال العسكرية والإدارية والمالية على أحسن مما كانت عليه قبلاً فنال ثقة المصريين عموماً، وكان أول ما أتاه هو إلغاء الضرائب غير الاعتيادية، وقام بتعيين عمال مخصوصين من الأقباط على الخراج، وأناط إليهم مهمة تحصيله، فكان هو أول من أدخل القبط في الأعمال الإدارية بشكل كامل، وأسند إليهم مهمة إصلاح الجسور والقناطر وكل ما تعود منه راحة المزارعين، فنمى في أيامه الإيراد، وتوفرت النقود أكثر من ذي قبل، لما كان يأتيه من العدل وحسن المعاملة، فلما رأى القبط من الاطمئنان على أنفسهم ، استغلوا الأرض فتيسر لديهم الخراج وصاروا يدفعونه عن طيب خاطر بلا عناء ولا تعب.
وبالجملة، فإن المصريين عموماً, لم يروا من بعد عمرو بن العاص أياماً أحسن من أيام ابن طولون والدولتين الفاطمية والأيوبية، بصرف النظر عما أصابهم على يد الحاكم بأمر الله أحد الخلفاء الفاطميين( ).
ولما طالت مدة راحة الأقباط نوعاً, وتحسن حالهم, أخذوا يشيدون الأبنية العالية، والدور الواسعة, ولا سيما الأديرة والكنائس، فإنهم صرفوا كل جهدهم في عمارتها وتشييدها، وأوقفوا عليها الأوقاف الواسعة، وأحاطوها بالبساتين النضرة، .. وكانت تقام بهذه الديارات، أعياد في أيام معلومة من كل سنة، فكان كبار الأقباط يذهبون إليها أفواجاً، ويقيمون بها أياماً, ويذبحون الذبائح، ويولمون الولائم، ويصرفون مدة إقامتهم بها في سرور وانشراح( ).
ولاية الحاكم بأمر الله
أما في عهد إمارة الحاكم بأمر الله، فقد تقلبت أحوال البلاد بين عدل وهدوء وخير، ثم ظلم وجور وعسف وخلل، ثم استقامة وصلح وإصلاح وعيش وأعمال جليلة ونهضة كبيرة.
إلا أن الجانب الخفي في فترة الظلم والعسف والخلل، فقد أخفت (الكتابات) أسبابها، ولا يستقيم العقل أن ينقلب حاكم على بعض شعبه دون مبرر.
يقول يعقوب نخلة واصفاً الحال الذي بدأ عليها الحاكم بأمر الله فترة ولايته: لقد أظهر في أول أيامه ما دلَّ على حسن التدبير والسياسة، والتصرف في الرعايا، والإنصاف والكلف بتقدم العلوم والمعارف، فأمر أن توقد القناديل والمصابيح على أبواب الدور والحوانيت في كل المحال والسكك، فصار الناس يصلون الليل بالنهار من كثرة الأنوار، وتواتر البيع والشراء والأخذ والعطاء، فراجت الحال.
وكثيراً ما كان الحاكم بأمر الله يطوف البلاد، ليتفقد حال الرعية بنفسه، ويزجر حاشيته إذا منعوا الناس عنه، فكانوا يقتربون منه، ويحدقون فيه، ويكثرون من الدعاء له.
كما أنشأ في القاهرة مكتبة سماها دار العلوم، ودار الحكمة، وزخرفها بأحسن النقوش والفرش الثمينة, وجلب إليها الكتب النفيسة من كل الجهات، فكانت تغص بالجماهير من جميع أنواع طلبة العلم، وكان يرى في مناظرة العلماء لذة عظيمة، فكان يدعوا إليه العلماء والأطباء والفقهاء وكل فئة على حدتها ويجعلهم يتناظرون أمامه ويتحفهم بالصلات والعطايا( ).
تلك هي الحال الذي كان عليها هذا الحاكم وهي شهادة له ويكون من الخبل بنا أن نتصور العدول أو التحول عن هذه الحال بغير مبرر مقبول، غير الذي قالوه عنه أنه أصيب باختلال في عقله.
وتلك هي الحقيقة التي كشف عنها يعقوب نخلة، بعدما أفرغ ما في جعبته من مثالب وانتقاصات وأذى واتهامات وافتراءات، فقال أن الحاكم بأمر الله اشتد على النصارى، وزاد في اضطهادهم، فألزمهم بلبس العمائم السوداء، وتعليق الصلبان الخشب في أعناقهم طول كل صليب ذراعاً، ووزنه خمسة أرطال، ومنعهم من ركوب الخيل، وألا يستخدموا مسلماً، ولا يشتروا عبداً، وأن تهد كنائسهم بمصر والقاهرة، وقبض على القسوس، وقتل منهم عدداً عظيماً، وهرب الكثير إلى الديارات البعيدة، وقبض على الأب زكريا البطريرك وألقاه للسباع.
وهنا يأتي السؤال الكبير والمهم:لماذا فعل الحاكم بأمر الله ذلك ؟ وما الذي جعله يقلب ظهر المجنة للنصارى؟
الإجابة لم تكن بعيدة, إنما وضعها يعقوب نخلة في هامش الصفحة نفسها، مع الكلمة الأخيرة من مطاعنة على الحاكم. فقال( ) (نصاً): يقال أن اشتداد الحاكم على البطريرك بهذه الدرجة، لم يكن من تلقاء نفسه بل بسبب تهمة اتهمه بها أحد الرهبان، ذلك أن هذا الراهب، رغب أن يكون أسقفاً، وكان للبطريرك أبن أخ يسمى ميخائيل، التمس منه مالاً على سبيل الرشوة ليسعى له عند البطريرك في نوال مرغوبه، فلم يجب طلبه في الحال، بل وعده بالوفاء بعد تعيينه فعمل على معاكسته فما زال بالبطريرك حتى غَيَّر رأيه فأضمر الراهب للبطريرك شراً، وكانت عادة البطاركة في هذا الزمن، مكاتبه ملوك الحبشة والنوبة مباشرة، فوشيَ الراهب للخليفة أن البطريرك يكاتب هؤلاء الملوك ويكشف لهم عن كل ما يجري في البلاد، فغضب الخليفة وأمر بالقبض على البطريرك وإلقائه للسباع لكن السباع لم تؤذه (!!!!)
هكذا اعترف يعقوب نخلة بالحقيقة الغائبة ثم أضاف مستطرداً: فأصدر الحاكم بأمر الله أمره بنفي البطريرك زكريا إلى أحد الديارات البعيدة، وألا يسمح لقبطي مسيحي بأن يتخاطب بأي رسائل مع الأحباش والنوبيين، كما طلب من ملوك الحبشة والنوبة أن تكون مكاتباتهم إليه ومنه مباشرة (أ.هـ)
من تلك السطور نعرف أسباب غضب الحاكم بأمر الله، وانقلاب حاله مع المسيحيين في مصر بعد رغد العيش والهدوء والاطمئنان والسكينة والبحبوحة والحرية، إلى النكد والفزع والقلق والضيق والاستعباد.
فلما تاب وآب كبار المسيحيين الأقباط، وندموا على خيانة رؤساء كنائسهم، وتعهدوا أن يكونوا أهلاً للثقة( )، وأن يحافظوا على مصر، وألا يعودوا للتآمر عليها والسعي في خرابها، أمر الحاكم بأمر الله بأن من يرغب في العودة إلى وثنيته ممن كانوا أعلنوا إسلامهم أيام الغضب فليعد وأن يحصر المسيحيون الكنائس التي تهدمت أو أصابها أذى فيعاد بناءها أو إصلاحها على نفقة الحاكم.
[وكان قد أمر بتطهير البلاد من جميع المسيحيين المصريين الخونة واليهود الذين تآمروا معهم ضد الحاكم دفعة واحدة، ونقلهم إلى بلاد الروم, فلما قدم المسيحيون التماساتهم، بأن المسلمين الذين في مصر هم أرحم عليهم من إخوانهم المسيحيين في بلاد الروم تجمعوا ومعهم أولادهم وأطفالهم ونساءهم حتى عفا عنهم وسمح لهم بالبقاء في وطنهم( ).
واتفق أن الراهب بيمين تَقَرَّب من الخليفة، وصارت له دالة، فسأله أن يصرح له ببناء دير يقيم فيه هو ومن معه من جماعة الرهبان، فقبل طلبه فبنى بيمين ديراً في طريق حلوان – باق للآن - يُعرف بدير العريان، وكان يُسمى قبلاً بدير شهران ( وهو الإسم القديم لبلدة المعصرة حالياً).
ثم استطرد يعقوب نخلة قائلاً: وإذا كان الحاكم قد تغير حاله، صار يتردد على هذا الدير, ويصرف وقتاً طويلاً مع من به من الرهبان ويأكل ويشرب معهم, ويناظرهم, ويباحثهم, فلما أَنِسوا منه إجابة الطلب بعودة البطريرك [الخائن] بعد غياب تسع سنوات دير بوادي هبيب، عفى عنه الحاكم وأقره في مركزه، وسلمه أمراً بفتح وبناء الكنائس ورد أوقافها إليها كما كانت( ).
دناءة شنودة
ومات الحاكم بأمر الله سنة411هـ 1021غ، وتولى الخلافة من بعده ابنه (على أبو الحسن) الملقب بالظاهر، ودامت خلافته سبعة عشر عاماً، أقرّ فيها النصارى على وظائفهم، ومنحهم حرية العبادة والاحتفال بعاداتهم وأعيادهم ومواسمهم.
ومات البطريرك زكريا (الخائن) ، فكان للنصارى رجل مسموع الكلمة يسمى (ابن بقر)، فسعى لدى الخليفة حتى أذن بتقليد كبير أساقفتهم وكان يدعى شنودة ، بطريركاً يحل محل زكريا، فوافق الخليفة ورفع عنه الجزية التي كانت مقررة عليه.
ثم يستطرد يعقوب نخلة قائلاً نصاً: إلا أن البطريرك شنودة لم يلبث أن أظهر من الدناءة ومحبة المال، ما أوجب إعراض أبناء
أمته جميعاً عنه ولاسيما صديقه (ابن بقر) لأنه أهانه لما نصحه( ).
ولاية المستنصر بالله
وبعد الظاهر تولى المستنصر بالله خلافة مصر سنة 427 - 1036غ ، وحدث شح في ماء النيل فأوفد الخليفة بطريرك المصريين وكان يدعى حينذاك الأب ميخائيل الملقب بالحبيس إلى ملك الحبشة، محملاً بهدية سنية ليفتح سداً من سدود الحبشة ليجري النيل على مصر فاستجاب ملك الحبشة وجرت المياه في أرض مصر، وزاد النيل حتى رويت البلاد وزرعت الأرض.
وكانت سوريا في ذاك الحين تابعة لمصر والوالي عليها رجل يسمى (بدر الجمالي) من أصل أرمني استدعاه الخليفة للقضاء على بعض الفتنة في مصر، فأتى على رأس جيش صغير قوي، فتتبع أهل الفساد والفتن, وكانوا من الأتراك وعملائهم في البلاد، فقتلهم وغنم أموالهم واستعان بها على إصلاح حال البلاد، وسهل للفلاحين زراعة الأرض، وللتجار سبل البيع والشراء، واشتغل الناس في إقامة الأبنية، وأحاط مصر القديمة والقاهرة بأسوار منيعة قام على إنشائها يوحنا الراهب فكثرت أسباب المعايش، وارتاح الناس في أيامه راحة عظيمة لم تخطر على بال، ودامت مدة حكمه على مصر عشرين سنة، أتى في أثنائها بأعمال لا يتيسر لغيره عملها( )، وتوفي وله ومن العمر ثمانون سنة, وتوفي بعده بأيام الخليفة المستنصر بالله عن سبع وستين سنة.
بدر الجمالي
يقول يعقوب نخلة: وفي أيام بدر الجمالي أمير الجيوش، أتت مصر عائلات مسيحية كثيرة من الأرمن، غير العساكر الذين كانوا في الجيش، فرحب بهم الأقباط وعاشوا بينهم عيشة رضية وتوطنوا الديار المصرية، وكانت أسباب معيشتهم التجارة والصناعة( ) أما الأقباط من المسلمين والمسيحيين فقد تقلدوا الوظائف العالية في دواوين الحكومة , واستقلوا استقلالاً تاماً بكل الأعمال الحسابية، وامتازوا على غيرهم بوضع قواعد دقيقة، وكانوا قد تمكنوا من معرفة اللغة العربية، فعرفت الدولة كفاءتهم وفضلهم, فراعت جانبهم وقدرتهم حق قدرهم, ومنحتهم الألقاب السامية, مثل الرئيس، هبة الله، الأمجد، الأسعد، الشيخ، نجيب الدولة، تاج الدولة، فخر الدولة( )، وتحت العنوان التالي بدأ يعقوب نخلة روفيلة مرحلة جديدة من مراحل العلاقة بين الحكام المسلمين وبين النصارى في مصر.
المصائب التي حلت بالقبط
بسبب حرب الصليبيين
فبدأ يعقوب قائلا: في عهد المستنصر ويا للأسف, قامت الحرب بين المسلمين والإفرنج على ساق وقدم، وهي التي تذكر في التاريخ باسم الحروب الصليبية، نسبة إلى الصلبان التي كان يعلقها عساكر الإفرنج في أعناقهم وعلى ثيابهم( ).
فقد حرض البابا في روما ملوك الإفرنج على قتال المسلمين ونزع الأرض المقدسة من يدهم، فلبوا دعوته وخرجوا من بلادهم بجيوش جرارة لهذا القصد، فحصلت بينهم وبين المسلمين وقائع كثيرة واستمر القتال بينهم مدة من الزمن أريقت فيها دماء كثيرة، من الفريقين بلا جدوى، واستولى الإفرنج على بلاد كثيرة من ضمنها مدينة القدس، ولبثت تحت حوزتهم أكثر من تسعين سنة إلى أن خلصها من أيديهم السلطان صلاح الدين الأيوبي سلطان مصر( ).
وفي أثناء هذه الحروب أتت عساكر الإفرنج إلى مصر واستولوا على جهات منها واستمروا في سيرهم حتى صاروا على مقربة من القاهرة, وكانوا في كل بلد يدخلونها يقتلون سكانها، ويسبون نساءها, وينهبونها، فأثرت هذه الفظائع تأثيراً رديئاً في نفوس المسلمين، ونفرت قلوبهم من كل نصراني مهما كانت جنسيته ومذهبه، فلم ينل نصارى مصر من جراء هذه الحروب, غير اشمئزاز خواطر مواطنيهم منهم، وكراهيتهم لهم، ونفورهم منهم، مع أن الأقباط لم ينجوا من أيد الإفرنج، ولم يسلموا من شرهم( ).
وما زال تاريخ مصر في ظل الدولة الإسلامية, مليء بالمواقف النبيلة, والأحداث الحضارية والأيام السعيدة التي عاشها المسيحيون القبط, في كنف إخوانهم في الأرض والتاريخ المسلمين القبط, إضاءات تنير الأبصار, وتبهج القلوب, تذكرها كتب التاريخ الكنسي, بين ثناياها, عندما يضطر المؤرخ منهم إلى قول الحق,ولا يجد أمامه سبيلاً غيره.
ولأن هذا الكتاب هو عن رحلة مصر من الوثنية إلى التوحيد، فقد اكتفيت بما أوردت من وقائع محدودة، للاستشهاد والاستئناس بها، على سبيل المثال لا الحصر، أن المسلمين أبداً لم يكونوا ظالمين لإخوانهم المسيحيين، إنما كان المسيحيون دائماً هم البادئون بالتعدي أو الخيانة، أو الاستفزاز أو الإثارة.
وفي كتاب آخر بمشيئة الله سوف أجمع المزيد من هذه المواقف النبيلة، التي نعم بها المسيحيون، كما وسوف أجمع صور ومواقف أكثر بكثير، مما كان يدور بين المسيحيين بعضهم البعض في مصر، ليس بين الطوائف العديدة التي ينتمون إليها، إنما بين أبناء الطائفة الأرثوذكسية الأم، والذي كان بين الباباوات فيهم، كان أشد بشاعة وظلماً وطغياناً.



ملاحظات تاريخية حول كتبة التاريخ
مَنْ كتب تاريخ الفتح الإسلامي؟

وفي محطتى الأخيرة من هذه الرحلة الشاقة، أجد نفسي مضطراً للتعبير عن شديد أسفي وحزني، بسبب هذا العناء الذي عليه حال مثقفي النصارى في مصرنا اليوم ، فقد أثقلوا على أنفسهم، وأتعبوا عقولهم، وأوغروا صدورهم، وجرحوا قلوب أشياعهم فزادوهم نكداً على نكد ، وحَزَناً على حَزَن ، وكمداً على كمد.
لقد انكبوا على ما خُطِّط وًدُبّر لهم باليل ، من صفحات من تاريخ مصر , انتقاها لهم أبالسة من عبدة الشيطان ، من آلاف الصفحات الأخرى ، لتحقيق مآربهم الإبليسية ، في إفساد حياة النصارى الأقباط وحرمانهم من السكون النفسي ، والأمان الذهني، والاستقرار الوجداني ، تجاه وطنهم ، وهم يعيشون فيه ، أو وهم يعيشون في خارجه ، تحت ظل الإسلام ورايته وأحكامه.
ولذلك كثيراً ما أتعجب وأتساءل: أليس فيهم من يملك ولو قدراً يسيراً من الحكمة ، فيحاول ولو من باب الفضول أن يتثبت مما هو متداول بين يديه حول "حكاية مصر" مع النصرانية ، ثم حكاية مصر مع الإسلام ؟
إن إرادة الله شاءت أن يلتحف هذا التاريخ العريق لهذه الأمة العريقة ، بكثير من الغموض، وأن تضيع منه صفحات نحن أحوج ما نكون إليها ، وأن تضاف إليه صفحات ، نحن أحوج ما نكون للاستغناء عنها , والخلاص منها , وتنقية الماضي والحاضر والمستقبل من سيرتها.
ويشتد عجبي عندما تصل قناعات النصارى في حاضرنا اليوم ، إلى حد الاعتقاد بأن مصر هي مصرهم وحدهم ، وأن المسلمين محتلين لها ، مطالبين بتحريرها من هؤلاء الأوغاد (بحسب أخف الصفات وأرقها مما يردده النصارى في محافلهم وأدبياتهم)
وأسأل نفسي: هل يعقل هؤلاء النصارى ما يقولون ؟
إن الإجابة المؤكدة , أنهم لا يعقلون , ولا يفهمون ، ولا يدركون ما يقولون ، لأنهم لو عقلوه أو فهموه أو أدركوه ، ما قالوه.
فإن افترضنا أنهم قالوه وهم له فاهمون وعاقلون ومدركون ، لكانت الطامة الكبرى على رؤوس من قال ، لأنه لم يعقل ولم يفهم ولم يدرك أنه إن كان يملك لساناً ، فهناك ستة وستون مليون لسان هم عدد المسلمين اليوم في مصر ، يمكن أن يردوا عليه جهالاته.
وإن كان يملك لما يقول قلماً ، فقد أصابته الغفلة عن ستة وستين مليون قلم ، وهكذا يُدخل نفسه في دوامة صراع لا طائل له ولا لشيعته أن يقترب منها.
لذا ، فإن خطاب العقل والحكمة , هو المخرج الأمثل لهذا الصنف من النصارى , فإن لم يستجب لهذا الخطاب ، فلا بأس من الضرب على يده وبشدة حتى لا يصنع ـ بغبائه وحمقه ـ جبهة مضادة على شاكلته من بين المسلمين (معاذ الله).
ونعود إلى تاريخ الفتح الإسلامي ، لنؤكد أن مشيئة الله اقتضت غياب كتابته على وتيرة ما كتبه المسلمون عن سيرة حياة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتاريخ نشأة دولتهم , بأحسن ما تكون عليه المناهج العلمية في النقل والرواية والدراية.
كما اقتضت مشيئة الله سبحانه وتعالى , ألا يجيد أجدادنا في مصر , الذين كانوا على النصرانية ، فن كتابة السير والتاريخ ، ففشلوا في رصد واحدة من أهم وأخطر فترات حياتهم التي شهدت تحوّل أمتهم من الوثنية إلى الفرعونية , ثم إلى الوثنية الفارسية , ثم الوثنية اليونانية , ثم الرومانية , ثم البيزنطية الصليبية , ثم أخيراً إلى دين الإسلام التوحيدي.
وذلك هو ما استفاض فيه د. ألفريد ج. بتلر ، في كتابه الشهير (فتح العرب لمصر) ، قائلاً في أول سطر من سطور مقدمته:
"...لم يسبق لأحد أن كتب تاريخاً واسع المدى ، مفصل الأخبار لفتح العرب لمصر ، إلا رسائل متفرقة ... ما هي إلا بعض أبواب أو فصول موجزة ، داخلة ضمن مؤلفات مكتوبة عن دولة الروم أو عن دولة العرب"( ).
ثم يستطرد بتلر مباشرة قائلاً: وفي الحق إنه لمما يسترعي النظر ألا يكون في أي لغة من اللغات ، بحث مفصل له قيمة ، يصف تاريخ هذا الفتح( ).
وحتى نسد الباب على أي وسواس خناس يوسوس في صدر نصراني متعصب تجاه هذا الكلام الذي أدلى به بتلر ، نجده يقول: "وقد يلوح قولنا هذا كأن فيه مبالغة ومغالاة ، ولكنه الحق لاشك فيه ، يعززه رأي كاتب معروف وهو المستر (E.W.BROOKS)، إذ يقول: وقَلَّ أن نجد حادثاً هاماً من حوادث التاريخ , قد حفيت أخباره ، واختلف في رواياتها ، كما هو حال تاريخ الإسكندرية مثلاً ، حقاً إن تاريخ فتح العرب للدولة الرومانية كله تاريخ مظلم غامض ، ولكن تاريخ مصر أشد ظلمه وحلوكة"( ) وأرجو بشدة أن ينتبه القارئ لدقة كلمات (BROOKS)، ودلالاتها في حل واحدة من معضلات سوء الفهم المتسلط اليوم على أذهان النصارى الأقباط, وغذَّاه المتطرفون منهم في الداخل والخارج ، العاملون لحساب المنظمات الصهيونية , لإشعال الفتنة بين الأهلين في مصر(المسلمين والنصارى).
لقد قال (بروكس): "حقاً إن تاريخ فتح العرب للدولة الرومانية, كله تاريخ مظلم غامض...." والذي يجب أن يفهمه النصارى اليوم كما يجب أن يعيه المسلمون ، أن الفتح الإسلامي اليسير لمصر لم تكن مصر هي المقصودة به ذاتها ، فقد سبق فتح مصر: فتح فلسطين والشام وأرض بابل وآشور على ضفاف الفرات ، وسبق هذه جميعاً عقد سلام وعهد أمان مع دولة النجاشي في الحبشة ، وفتح سلمي مع دولة اليمن وعمان ، وقبل ذلك كله فتح كل بلاد الجزيرة العربية ذاتها.
كما لم تكن مصر هي غاية المسلمين من هذا الفتح ، فقد انطلق الجيش الإسلامي بعد مصر نحو الغرب ، يجوب بقاع ليبيا ثم تونس ثم الجزائر ثم المغرب , ويتجاوز البحر الكبير ليحط الجند رحالهم في أرض الأندلس ، وينطلق حتى حدود فرنسا.
فأين مصر من كل هذه الفتوحات؟
إنها واحدة من بين عشرات الدول والأمم التي بلغتها رسالة الإسلام فأسلمت ، أو قاومت ثم استسلمت ، فهي رحلة دفاع عن البشرية ، حررت منها ملايين العبيد , وقضت على آلاف الآلهة الصنمية التي جاء المسيح عليه السلام قبلاً من أجل القضاء عليها ، لأجل هذه الغاية جاء سائر الأنبياء من قبلهما عليهم السلام.
لقد سلب الإسلام مُلكاً كثيراً من أصحابه الملوك والأباطرة هذا حقاً , إنما كان ذلك حرباً على الظلم وجنوده ، وعلى الاستعباد وطواغيته ، واستبدال ذلك كله بمنح الأمن والأمان والسلامة والإسلام والحرية والتوحيد لجميع شعوب هذه الملوك التي زالت فقد جاء الإسلام ليقضي على الظلم ويعيد الحياة للمظلومين ، ويكون من الظلم والضلال أن يبكي إنسان على مَلك من ملوك الأرض هؤلاء ، إنما الحق والعدل أن نحمد الله كثيراً ونشكره أن قضى على الشرك والعبودية والسخرة والقتل والهمجية ، وأنه سبحانه وتعالى شاء الحرية لشعوب هذه الملوك ، فكانت بدعوة الإسلام نقلة تاريخية للكون كله أرادها الله سبحانه وتعالى ليميز بين الحق والباطل ، بين النور والظلام ، ولم يكن واحد في البشرية كلها قبل الإسلام يعرف معنى الحرية ، بل ولا يتصور أن الشرك يمكن أن يُقهر.
وهناك حقيقة مهمة لا يجب على نصارى مصر ألا يتغافلونها أبداً، وهي ما قاله (بروكس): "حقاً إن تاريخ فتح العرب للبلاد الرومانية، كله تاريخ مظلم غامض"، فمصر لم تكن مصرية، ولم تكن أرثوذكسية، ولم تكن فرعونية, عندما قرر الجيش الإسلامي فتحها إنما كانت قطعة من ممتلكات الدولة الرومانية التي أوجعها ولادة الأمة الإسلامية في الجزيرة العربية، وإحساسها بالخطر القادم إليها من هناك ينشر معاني جديدة للحياة والسياسة والحكم والدين لا عهد لشعوب العالم بها من قبل.
لكن سؤالات مهمة تطرح نفسها عند المسلمين قبل النصارى:
ـ لماذا بادرت دولة الإسلام الجديدة بالهجوم على دولة الرومان العتيقة؟
ـ لماذا لم تعش دولة الإسلام في أمان إلى جانب دولة الرومان؟
ـ هل الفتح الإسلامي كان حقاً للمسلمين, تقبله المواثيق الدولية؟
وقد يقول قائل من أهلنا النصارى الذين أسعى بكل جهدي لكشف حقيقة ما هم عليه من غلواء ، وفضح ما هم عليه من جهالات في الفكر والفهم , استدرجهم إليها أبالسة الإنس والجن, ليجعلوا منهم حطباً لنار يتمنون لو تشتعل وتتأجج في مصرنا ومصرهم.
قد يقول قائل من أهلنا النصارى: إن التاريخ فيه من الأعلام النصارى والمسلمين, ما يحق لنا أن نأخذ منهم ونثق في أخبارهم.
ـ فنسألهم: مثل من؟
= يقولون : فلان وفلان وفلان.
وهنا أجد نفسي أمام حوار حضاري , أتمنى لو تم بيننا وبين أحد من أهلنا النصارى على هذا المستوى الهادئ الذي تُطرح فيه الأسئلة بصيغ استفهامية لا استنكارية، لكان جدير بنا أن نزيل كل التباس ، ونقاوم كل فتنة ، ونستجلي كل خفي ، ونستكشف كل مجهول.
وهنا أجد نفسي مسوقاً بكامل إرادتي من أجل الحق وحده ، ومن أجل حماية الوحدة بين الأهلين في مصر ، ومن أجل تقديم العون ، في ترسيخ مفاهيم السماحة والسلام أن أنقل هذا التحليل العلمي الراقي، الذي استفاض فيه د. ألفريد بتلر خلال خمسة وعشرين صفحة في مقدمة كتابه( ) من تمنيت لو أضعها هنا مصورة كما هي، وتمنيت لو أنقلها نصاً، إلا أني وجدت أن المقام هنا أقل من أن أفعل فيه ذلك، وأكتفي في إيجاز في غير إخلال، واختصاره بغير زلل أو انحراف.
يقول د.بتلر (وألتزم بتعبيراته الأدبية نصاً) :
أولاً: من التواريخ القصيرة التي كتبها أهل الغرب باللغة الإنجليزية.
- كتاب (HIS.OF THE SARACENS) وهو تاريخ عجيب ألفه أوكلي.
- كتاب جبون: (ROM.EMPIRE)
- كتاب شارب: (EG.UNDER THE ROMANS)
- ونجد أخباراً طريفة، وبحثاً حديثاً في الطبعة التي أخرجها الأستاذ (بوري) من كتاب تاريخ (جبون) والكتاب الذي ألفه هو نفسه: (LATER ROM. EMPIRE)
- ونجد مثل هذه الفوائد في كتاب (ملن):(EG.UNDER ROM.RULE)
- وكتاب ستابلي لين بول:EG.IN THE MID. AGES
- وكتاب فيل: (GESEHICHTE DER CLALIFEN) وهو لا غنى عنه.
- كتاب فونك رانكة:(WELTGESCHICHTE) يحوي نبذة عن الفتح ومقالاً عن عمرو بن العاص وفيه يردد الأخبار المتداولة.
ثانياً: من التواريخ التي كتبها أهل الغرب باللغة الفرنسية:
- كتاب ليبو طبعة سان مرتان: (HISTOIRE DU BAS EMPIRE) وهو كتاب لم يزد عليه المتأخرون إلا قليلاً.
- كتاب سيديو: (HISTOIRE GENERALS DES ARABS) جاءت فيه نبذة عن الفتح, لا يكاد الإنسان يجد بها جملة واحدة دقيقة.
- كتاب د يهل في كتابه القيم: (AFRIQUE BIZANTINE) ردد ما قاله السابقون.
- كتاب رينودو: (HIS. PATR. ALEX.) مؤلف فيه بحث مستفيض.
- وكان كاتر مير مؤلفاً إشتهر بسعة علمه ودقة حكمه.
ثالثاً: أما المراجع اليونانية فمخيبة للظن والأمل, ومنها:
- كتاب تيوفانز الذي ألفه عام 813غ، وأساء كل الإساءة لفهم أخبار الفتح، ويخترع معاهدة بين الطرفين، وهو السبب في كثير من التاريخ المختلط المكذوب.
- كتاب نيقفوروس، وهو خير من سابقه ولكن ليس به أخبار من ما بين 641-668، وما بقى هو ثبت بأسماء القواد المنهزمين.
رابعاً: بطارقة بيت المقدس:
- حنا مسكووس
- زكريا
- صفرونيوس
كانوا جميعاً كتاباً دينين، نلمح فيما كتبوه بعض إشارات إلى حوادث سبقت الفتح.
خامساً: وقد ترك ليونتيوس النيابولى في قبرص ترجمه لحياة حنا الرجوم بَطْريق الإسكندرية, وفيه فائدة لمدة الفتح الفارسي.
سادساً:وأما المراجع الأرمينية, تكاد لا فائدة فيها ، مثل مؤلف الأسقف سبيوس، وميخائيل السوري، واليشع النصيبي.
سابعاً:ولنأت الآن إلى الكُتّاب المصريين النصارى:
- أولهم وعلى رأسهم حنا النقيوس، وهو أسقف قبطي ولد زمن الفتح، وكتابه الذي عثر عليه هو باللغة الأثيوبية وهو عبارة عن مؤلف في تاريخ العالم، لا يذكر به شىء لسوء الحظ (بحسب تعبير بتلر) ما بين تولية هرقل وبلوغ العرب حصن بابليون، فضاعت منه كل مدة الفتح الفارسي، وعودة مصر إلى الروم، كما اختلطت عنده أخر أخبار مدة الفتح اختلافا عظيماً، إذ هي مقلوبة عقباً على رأس لا يمكن إقامتها، على أنه قد ثبتت منه بعض الحقائق الكبرى، لم يكن في الإمكان أن يكتب تاريخ الفتح العربي لمصر بدونه.
- أما المخطوطات القبطية, فلا يعرف منها إلا النذر اليسير مما لا علاقة له بموضوعنا، فقد كان هم من كتبوها, ذكر الأمور الخاصة بالكنيسة, وكلما كانت تلك الأمور خارقة للمألوف, كانت عنايتهم بها أعظم.
- ولا حاجة لنا إلى الأسقف (والكلام لبتلر) على أن هؤلاء الكتاب كانوا يستطيعون أن يدونوا لنا الأخبار الكثيرة ولكنهم لم يفعلوا.
وأنه لأشد أسفنا، أن ما تم الحصول عليه من أوراق البردي الكثيرة، ليس لها كبير جدوى في تاريخ العرب، غير أن بعض خطابات عن عمال اشتركوا في ميدان الفتح.
- سعيد بن بطريق (876-960) وهو مؤرخ نصراني معروف معرفة عظيمة باسم آخر أكثر شيوعاً وهو (أونيكيوس)، وُلد في الفسطاط وكان يدين بالملة الملكانية(الكاثوليكية)، ومات عليها، وقد جمع في تاريخه كل ما وجده من خيوط أخبار، غير أنه لم يكن تاريخاً نقدياً وعنده خطأ ثابت في التواريخ مقداره ثمان سنوات.
- الأسقف القبطي للأشمونيين، ساويرس (ابن المقفع)، كتب تاريخ حياة البطارقة وليس فيه كبير غناء سوى ذلك.
- وقد قال ساويرس في مقدمة كتابه التي كتبها بنفسه، أنه كان يلجاً إلى بعض القبط ليترجموا له الوثائق القبطية واليونانية على اللغة العربية، إذ أن اللغتين المذكورتين أصبحتا عند ذلك الحين غير معروفتين لأكثر النصارى، وهذا عظيم الدلالة على ما وصل عليه الحال من الاضمحلال التي هوت إليه لغة القبط ولغة اليونان, وكان ذلك في القرن العاشر (الرابع بحسب التقويم الهجري للمسلمين).
- وكتب أبي صالح الأرمني حوالي سنة 1200ص، تاريخه، وطبع في أكسفورد سنة1895ص.
ثامناً: أما أكبر مؤرخي العرب، فنأتي منهم للفائدة:
- أول مؤرخي العرب وأعظمهم قدراً هو الواقدي (747-823), فقد ضاع كتابه إلا من مقتبسات وإشارات بقيت في كتب المؤرخين الآخرين، وليس "فتوح مصر" هو كتابه، إنما ينسب إليه خطأ على سبيل العادة.
- البلاذري (806-892)، صاحب كتاب "فتوح البلدان" وهو بغير شك حجة من أعظم المراجع قيمة ، لكنه يفصح عن الخلاف العظيم في زمانه حول الآراء عن تفاصيل فتح مصر.
- ابن عبد الحكم (المتوفى بالفسطاط سنة870): له مخطوطة وحيدة في باريس لم تنشر، ونقل عنها فيل وكاترمير وكثير من المؤرخين المتأخرين من العرب, ويختلط فيها كثير من قصص الخيال بأخبار التاريخ.
- ابن قتيبة (828-889): خلف "كتاب المعارف"، وهو قاموس تاريخي لتراجم حياة الأعلام، نقل عنه متأخري المؤلفين العرب، غير أنه لم يأتي إلا بالقليل من الأخبار، وأسلوبه غير مفصل.
- الطبري (839-923), وهو من أشهر الكتَّاب وأجلهم قدراً في أكثر ما كتب، وقد ولد في بلاد طبرستان، وأخباره في العادة دقيقة ويعني بها عناية كبيرة, ويفصل فيها تفصيلاً لكن أكبر ما يدعو للأسف أن كتابه ناقص نقصاً عظيماً في أخبار فتح مصر.
- الماوردي (975-1058) الذي ولد في بغداد، كتب مؤلفه النفيس (الأحكام السلطانية)، فيه قوة في البيان، وعمق في البحث وهو عمدتنا فيما نعرف عن نظام الضرائب في الإسلام وكثير غير ذلك من مسائل الشريعة والعرف.
- ابن الأثير (1160-1232)، وهو من أهل ما بين النهرين، قضى معظم حياته في الدرس والأدب, لكن كتابه (الديوان الكامل) لا نستطيع أن نجعله في الميدان الذي نحن فيه، إلا في مرتبة دون مرتبة كبار المؤرخين، ولعله نقل أخبار الفتح عن كتاب الطبري، وما جاء فيه من ذلك لا يزيد الأمر إلا تحييراً، وتزيد قيمته إذا خرج من هذا الباب.
- ثم ذكربتلر مؤلفات: عبد اللطيف البغدادي، وياقوت الروماني في كتابه "معجم البلدان" ، وكتاب "تاريخ المسلمين" لمؤلفه المكين ابن العميد، وكتاب "تاريخ الدول" لأبي الفرج بن العبري الإسرائيلي المولود في ملطية بأرمينيا وقد كتبه بالعريية، وكان أرثوذكسياً تربى في الكهنوت حتى أصبح أسقفاً.
- والنووي المولود بقرية "نوا" قرب دمشق، و"آثار البلدان" للقزويني ، وجغرافيا أبو الفداء سليل الأسرة التي أنجبت صلاح الدين الأيوبي، وأصبح في آخر عمره سلطاناً لولاية حماة، و"عبر وديوان المبتدأ والخبر" لابن خلدون المولود في تونس، والذي كان إلى جوار سلطان غرناطة قبل مماته، و"مروج الذهب" للمسعودي، والمقريزي في كتابه "الخطط والآثار" و"تراجم" ابن حجر العسقلاني، "وتاريخ مصر" لأبي المحاسن، و"حسن المحاضرة" للسيوطي, وابن دقماق المصري المتوفَى 1406ص واكتشف مخطوطه في آثار الفسطاط والإسكندرية عام 1891.
• وبعد هذه الرحلة الطويلة المستفيضة يرسو بنا د.بتلر على الشاطئ الآخر لهذا الجهد الجامع الشامل, يوجز خلاصة نتائجه التي وصل إليها فيقول: "هذه إذن أمهات الكتب الشرقية, التي استمددنا منها تاريخنا هذا, وليس منها واحد يذكر أخبار الفتح واضحة متصلة، ولا يكاد الإنسان يتصور مقدار ما فيها من خلط وكان أشد الخلط في كل هذه الأخبار:
• اتهام أقباط مصر بأنهم ساعدوا العرب في الفتح.
• اتهام العرب بأنهم أحرقوا مكتبة الإسكندرية.
فلما حاولنا تبيين مواطن الخلط, والوصول إلى الحقائق, اضطررنا بعد علم وتحقيق , إلى الإقرار بأن التاريخ قد ظَلم أجدادنا القبط فيما اتهمهم به ظلماً فاحشاً ، وأن التاريخ قد ظَلم أجدادنا العرب فيما اتهمهم به ظلماً فاحشاً.
• على أن ذلك لا يحملنا على الانحياز لأحدهما، فما كان لنا إلا قصد واحد ، أن نصل إلى الحق، وتصفية الباطل وإجلاء الظلمة عن عصور تاريخنا( ).
~ * ~
تم بحمد الله تعالى
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وخير المرسلين.
أبو إسلام
ذي الحجة 1425هـ
يناير 2005غ.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك