البناء القرآني في الحوار مع الآخر
البناء القرآني في الحوار مع الآخر
بحثٌ قُرآنِيّ في التّعَدُّدِيَّةِ وَآدابِها الإسْلامِيّةِ وَإسْقاطاتِها المَحَلِّية
بقلم: الشيخ عبدالعظيم المهتدي البحراني
الإهداء:
لكل بحريني:
يريد للبحرين أمناً مستداماً وللبحرينيين أماناً مستمرّاً...
ولكل فردٍ من هذا الوطن:
روحه الإنسانية ومقصده الإنسان...
ولكل مَن يعلم : بأنّ الله يرى وأنه يحبّ عبادَه متحابّين!!!
أُهدي هذه الكلمات، ولن تكون الأخيرة بإذن الله...
عن هذا الإصدار...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه الصالحين. وبعد:
هذه كلمة ألقيتُ خلاصتها في ندوة عقدها معهد البحرين للتنمية السياسية بتاريخ (14/5/2007) في فندق الدبلومات – قاعة السفراء واشترك فيها الدكتور علي فخرو، والدكتور الشيخ عبداللطيف المحمود، مع افتتاحية للدكتور سيد آغا الممثل الإقليمي لمكتب الأمم المتحدة الإنمائي، والتي حضرها نخبة من الشخصيات السياسية والصحفية ومن أعضاء مجلس الشورى والمجلس الأعلى للمرأة وبعض الأساتذة من جامعة البحرين. ولقد أتينا هنا لقرّائنا الكرام بمحاور الكلمة ملحقة بمحورٍ رابع تضمّن إسقاط المفاهيم على واقعنا المحلّي في دعوة خالصة لوجه الله تعالى نقدّمها إلى الجهات الرسمية ورموز الفعّاليات السياسية والدينية والمكوّنات الاجتماعية على ضوء تطوّرات المنطقة وخاصة أحداث العراق الدامية وتفجير عتباتنا المقدّسة. ترتكز أهمّ استهدافات هذا المحور على ثغرات المسيرة وما تحيطها من أوضاع تفتقر للتقويم عبر ضرورة تفعيل الحوار الداخلي بشكل جاد والتحضير لجميع الأدوات الحضارية من أجل التقريب بين المواطنين.. كل المواطنين.
وختمناها بمجموعة مقترحات عملية.. كانت هي الأخرى جزءً من الكلمة مع نقاط إضافية أردنا منها تكاملية الطرح بعون الله وتوفيقه وتسديده.
هذا الإصدار خطوة أخرى نحو المساهمة في إيجاد وتعزيز الحالة السلمية ودعم مسيرة الإصلاحات في وطننا الغالي، لعلّ الله يسرّح بها وبمثيلاتها حركة العمل الإيجابي من الكابحات وأن يحرّر النفس الانسانية وروح الأخوّة من الأمراض والآفات فـ ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾[1].
آملين أن يتقبّل الله عزّوجل منّا هذا العمل ويوفّق المجاميع المعنيّة في بلادنا إلى تحقيق الأماني الطيّبة بالمزيد من الانفتاح على مقوّمات المجتمع المدني المزدهر وعناصر الوحدة الوطنية الحقيقية.. إمتثالاً لقوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾[2].
المحور الأول: التأصيل القرآني للبحث...
إنّ لثقافة الحوار في الإسلام أسساً قرآنية واضحة لبناء السلوك الإنساني الرفيع مع الآخر. أستقصي هنا سبع آيات منها للتدليل على ما منحه القرآن الكريم من أهمّية لمبدأ القبول المجتمعي والحوار مع الغير القريب والبعيد:
1/ تكوينياً.. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء﴾[3]
هذا خطاب الخالق العظيم إلى عموم المخلوقين بكل ألوانهم الفكرية والبدنية.. بأنهم منذ الأساس قد خلقهم الله من نفس واحدة تشعّبت عبر قانون الزوجية إلى تعدّدية بشرية كثيرة من رجال ونساء. وهذه الحقيقة التكوينية تسلب كل إنسان مبرّرات التكابر على نظيره الإنسان، فكيف تسمح له نفسُه ذلك وهو ينحدر معه من أصل آدميّ واحد ونفس إنسانية واحدة ويشترك معه في المصير والمنتهى.. قد صاغه وبني جنسِه ربٌّ واحد وبتصميم أحَدِيّ لا شريك له فيه سبحانه. فالتكوين الإلهي للتعدّدية البشرية جاء بهذه الهندسة الحكيمة، والخروج عليها من قِبَل المخلوقين خروجٌ على إرادة الخالق جلّ شأنه وعلى مخطَّطه الحكيم.
2/ معرفياً.. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾[4].
وهنا يعلّل الخالق الكريم فلسفة التعدّدية البشرية بأنها معرفية كغاية أولى لغاية التكامل المشترك، فعلى الناس أن يتعرّفوا على بعضهم ويكتشفوا مكامن القوّة عند غيرهم ولا ينطووا على أنفسهم ويحبسوها عن الآخر. وهذا يدعو إلى الانفتاح والتواصل ومدّ جسور الحوار لنقل الثقافات والمفاهيم، وفيه اعتراف بالآخر كمقدّمة ضامنة لحقوق الإنسان وتقدّم الشعوب.. وإلا فلن يكون هناك شيء اسمه تعارف ولا اعتراف وبالتالي يحلّ التضارب محلَّ التقارب كما هو الحال البشري على وجه العموم الأغلب.
3/ ربّانياً.. قال الله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾[5]
قصّة إبليس وربّ العالمين، فيها الدروس الكثيرة على صعيد الحوار مع الآخر.. الحوار بين قمّة الشرّ والرذيلة من ناحية وقمّة الخير والفضيلة من ناحية أخرى.. ترى إبليس وهو الشرّ المطلق والضعيف يطلب من الله الخير المطلق القويّ المتعال أن يمهله لمشروع تخريبي طويل المدى! وربّ العالمين القادر على نسفه وإبادته يوافق على طلبه ويعترف بكيانه وحرّيته ويعطيه حسب رغبته بعد أن سمح له بالحوار الصريح. فما أعظم هذه الحرية التي يلتزم بها ربّنا جلّتْ عظمتُه مقابل أرذل خَلْقه ذلك الشيطان الرجيم!
فالقصّة.. يستعرضها القرآن الكريم لكي نتعلّم منها كيفية ممارسة الحوار حتى مع العدو وإنْ كنّا أقوياء وكان العدو ضعيفاً؟! أليس المطلوب منّا أن نتخلّق بأخلاق الله؟!
4/ سلوكياً.. قال الله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾[6]
وفي هذه الآية يدعونا الله سبحانه إلى ضرورة السلوك العملي باحترام قناعات الآخرين حينما يجعل الله العلم بالأهدى جزءً من اختصاصاته. فليس للإنسان أن يتدخّل فيما لا يعنيه فيُدخِل مَن يشاء إلى الدين ويُخرِج منه مَن يشاء. وبناءً عليه فلا يجوز تكفير الآخر لمجرد اختلاف في وجهات النظر، فالله عزّوجل لم يفوّض أحداً أن يأخذ مكانه!
فمن الصحيح أن يقود كل واحدٍ نفسَه على الطريق الذي اقتنع به من مقدّمات سليمة أو معذور فيها عند الله ثم لا يميل على غيره ميلةً تكفيرية في العقيدة ولا ضربةً تسقيطية في السياسة... كمثل الواحد منّا يسوق سيّارته على طريقه السويّ، فما أن ينحرف عنه يميناً أو شمالاً حتى يسبّب لنفسه ولغيره حادثة.
5/ حضارياً.. قال الله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[7]
ما أروع هذه الآية الكريمة! إنّ الله لا ينهانا عن ممارسة البرّ والقسط والعدل والمحبّة مع الآخرين الذين لم يقاتلونا ولم يظلمونا ولم يخرجونا من أوطاننا.. ولكنهم حتى لو فعلوا هذا فإنه كذلك لا ينهانا عن الحوار معهم ليكفّوا عن فعلهم غير السويّ سيّما عند فَقْدان التكافؤ في القوى. ومع نفاد الأدوات السلمية لمنع الظلم الدموي فهنالك يأذن الله بالجهاد الدفاعي والقتال النزيه ضمن شروط موضوعية ذكرها الفقهاء لمنع التصرّفات الشخصية المؤدّية لمزيد العناء. هذا ما كان عليه النبيّ محمد (ص) من حوارات حضارية ومفاوضات ومعاهدات مع اليهود والنصارى ومشركي قريش قبل وبعد فتح مكّة، ولم يقاتل أحداً منهم إلا إذا كان يخرج عن المعاهدة شاهراً سيفه.. كما تبيّنه الآية الثانية بعدها.
وتعني هذه الآية قبول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) المعايشة مع غير المسلمين والتعاطي السلمي معهم في قضايا الوطن المشتركة وهي من مصاديق البرّ والقسط دون مَن يثبت عليه الفعل الحربيّ.
6/ أدبيّاً.. قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾[8]
مهما افترض المسلم غيره منحرفاً و مهما استيقن بصحة آراء نفسه لم يكن ليصل إلى مستوى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في يقينه بصحة آرائه الهادية ويقينه بضلال أعدائه المشركين، ومع ذلك تجد ربّنا عزّوجل يذكّره بأسلوب المحادثة مع أهل الضلال، وهو من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) كي يتعلّم المسلمون آداب الحوار وأخلاقيات التفاوض.. والتي منها أن لا تقمع الطرف الآخر بكلمة نابية ولا بكلمة الإدانة وخاصّة إن كنتَ في بداية الدعوة له.. ومن هنا قيل أنّ "من سعادة المرء أن يكون خصمه عاقلاً".
7/ أخلاقياً.. قال الله تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[9]
هنا يبني قرآننا العظيم الموقف من الآخر المعادي (شنآن) بناءً أخلاقياً يميّز المسلم عن غيره بمدى التزامه العدل والعفو والرأفة والسماحة، فلا يجوز الانجرار مع الكراهية والتورّط في الظلم على العدو.. إنّ هذا النبل في المواجهة الغاضبة مع العدو تصنعه التقوى الحقيقية.
وإذا عرفنا أن الهدف من الصراع بين الحق والباطل هو الانتصار للقيم الإنسانية في الحياة وليس للانتقام والتشفّي فقد عرفنا كم تكون للأخلاق مساحتها الواجبة في صراعنا مع الآخر على خط التدافع من أجل الخير.
لقد قسّم علماء الاجتماع الآخر إلى قسمين: الآخر الخارجي والآخر الداخلي.. والآية هنا ناظرة إلى العدل مع الآخر الخارجي لتؤكد لنا من باب مفهوم الأوْلى وجوب العدل مع الآخر الداخلي؛ لأن أهمّية العدل مع الأقربين وعلى قاعدة أولوية المعروف للأقرب تُشكّل حلّاً قويماً للأزمة مع الآخر الداخلي حيث يصبّ مباشرة في الاستقرار والتماسك وتحقيق الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي.. وهذا من دون تردّد يترك أثراً فعّالاً على تسديد الحوار مع الآخر الخارجي من موضع القوّة. ومن هنا نعرف السرّ في المقولة الاستعمارية المشهورة (فَرِّقْ تَسُد). فالاستعمار يضرب الوحدة بين الناس لكي يفرض أجندته عليهم وهم ضعفاء.. والقرآن الحكيم يرشدنا إلى معالجة الموقف مع الآخر الداخلي ليسهّل علينا الموقف مع الآخر الخارجي، وهو ما كفلتْه لنا الأخلاق الكريمة التي ترقى بأداء الحوار وتنظّم مسارات الكلام وتثقّف الإنسان في موقفه من الإنسان الآخر مهما افترق عنه بلغته أو لونه أو دينه أو مذهبه أو وطنه أو فكره وثقافته.. فكانت الأخلاق ضمانة نجاح التنافس نحو الخير والتكامل في سبيل السعادة.
فمن الخطأ أن نقلّل قيمة الأخلاق في العملية التواصلية مع الآخرين وقرآنُ ربّنا عزّوجل يقول: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾[10].
المحور الثاني: الإرادةُ الذاتية، بدايةُ كل بداية..
قد يحمل الفرد ثقافة واسعة من المفاهيم الحوارية ومعلومات جيّدة في حقل العلوم الإنسانية وتلاقي الحضارات، ولكن المهم كيف يكون عند المحك وماذا يصنع حين الاختبار؟!
هنا تبرز الازدواجية في المعايير لمّا تصل المواقف حدّ الاصطكاك ويحين وقت المصالح وتوزيع الغنائم، لينطبق على المتنازعين (المؤمنين) قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ﴾[11].
فلكي لا يكون علمنا بلا عمل - مثل شجرةٍ بلا ثمر- ولكي لا نقع فريسة شعاراتنا الخاوية - حتى على مستوى علاقاتنا العائلية - فإنه لابد من زرع نوازع الورع والصدق والإخلاص في القلب وسقيها دائماً حتى تثمر القبول بالحق كما تقرّه مرآة الفطرة.. وتثمر القبول بالحقوق كما يقرّها صفاء الضمير.. ومن ثماره تبادل الرضا بالتقاسم المبدئي والقبول بالتنازل المرحلي حتى تحقيق الهدف المشترك الذي في ظلّه يتم التعويض عمّا يتصوّره الفرد خسارة في المفاوضات والحوارات، ولن يخسر الإيجابيّون شيئاً في تطبيق المبدأ الاسلامي (حِبّ لأخيك ما تُحِبّ لنفسِك) والذي به ينعم الجميع بالخير والبركات.
الحديث هنا عن التربية وتهذيب النفس وترويض الغرائز وجلد الذات ومجاهدة الهوى حديثٌ عن بداية كل بداية، فهذا هو الميدان الأول كما أكّدتْه التعاليم الإسلامية التي تضيف أيضاً بأن الإنسان لو فلح فيه لَفلح في الميادين الأخرى بالتأكيد.. فهي النفس إنْ عدّلها صاحبُها اعتدلتْ وإنْ حرّرها طَغَتْ ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾[12].
وتفيدنا أنّ المفاهيم الثقافية في الحرية والحوار لا تنفع خطباءها ودعاتها ما لم تكن وراءها إرادة متصلة بها من داخل النفس.. تحرّكهم لينتجوا التغيير على أرض الواقع.
ومن هذا المنطلق بيّن القرآن الكريم مقاصد الشريعة المحمّدية عندما قال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[13] فتعليم الكتاب والحكمة يأتي بعد تزكية النفس وتنظيفها من الأدران والخبائث والأحقاد من حيث الأهمية، وإن كان التعليم مقدَّماً على التزكية من حيث المنهجية.. فكما لا فائدة من أثاث جديد في منزلٍ رديء كذلك لا فائدة من علم وحكمة في قلب يحسد ويبغض ويكره ويعادي ويغلّ على الذين آمنوا.
لذلك قد سمّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الممارسة التربوية من جهاد النفس بالجهاد الأكبر في الوقت الذي سمّى جهاد العدو (عسكرياً) بالجهاد الأصغر، وذلك حتى لا يخوضه مَن لم يربِّ نفسه ويقهر هواه.. بداهة أن الضعيف أمام نفسه الأمّارة بالسوء يكون ضعيفاً أمام العدو الخارجي، وبالتالي قد يشترك معه في الخيانة والجريمة، أو يسرف في ظلم الآخرين بأساليب إرهابية دموية محرَّمة في الإسلام، أو يمزج في القتل بين البريء والمذنب وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.
فالمجاهد لهواه يكون أقرب إلى السّلم وقبول الآخر وأبعد عن العنف ورفض الآخر، ممن اتّبع هواه ولم يجاهد نفسه الأمّارة بالسوء.
ويتميّز المسلم القابض على إرادته عن المسلم التابع لهواه.. بالنقاط التالية:
1) يقرأ الآخر قراءة مباشرة ولا يعتمد الوسائط والإشاعات.
2) يقرأه شمولياً ولا يأخذ بالجزء الذي يدينه ويترك الجزء الذي يدفع عنه التقييم الخاطئ.
3) يقرأه بهدف المعرفة وقصد الوصول إلى حقيقة الطرف الآخر، فلعله يجد لديه من الإيجابية البنّاءة فيشترك معه فيها.
4) لا يسحب عليه ذنب أهله أو أصدقائه أو جماعته، لأن القرآن يقول: ﴿لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[14].
5) لا يأخذ عليه موقفاً كان فيه من قبل والآن قد غيّره بناءاً على معطيات زمنية جديدة وتبدّلات في الظروف الموضوعية.
6) لا يُطلِق تحليلات ظنّية عن الآخر وهو يجد له ما يبرّر سلوكه. ففي الحديث عن الإمام علي (عليه الصلاة والسلام): " لا تظنّن بكلمة خرجتْ مِن أحد سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً"[15].
7) يقوم بتقييم الآخر حيادياً، فيعترف له بإيجابياته ويذكر سلبياته بموضوعية وإنصاف بلا تضخيم. فكم كان اليهود يتآمرون على الإسلام والمسلمين ولكن الله تعالى حينما يذكر الأمانة يقول: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾[16].
8) يوفّر لنفسه حرية كافية للأخذ بالنتائج مادامت قد أتتْ على ظهر الدليل، فلم يتعصّب للمسبقات ولا يكبّل عقله بالموروثات على حساب الآفاق الجديدة.
المحور الثالث: نحن والغرب، قراءتان متقابلتان!
رغم أن الإسلام أمر بالقراءة وحثّ على طلب العلم ونشره وأشاد بمنزلة العلماء عموماً وعلماء الدين الصالحين خصوصاً وجعلهم ورثة الأنبياء وبنى على قواعد العلم والمعرفة حضارة متوازنة الأبعاد لازال المؤرّخون الغربيّون يذكرونها بخير...
ورغم أن الإسلام أمر بالسير في الأرض لإحياء مواتها من أجل سعادة الإنسان.. وأمر بغزو الفضاء لتسخير ما في السماء لخدمة الحياة الإنسانية الراقية...
ترى ورغم أنّ المسلمين في الأزمنة الأولى قد خاضوا معارك ضارية على مظاهر الجهل وفلول الجاهلية، ولكنهم بعد ذلك التاريخ الحضاري الحافل بالعطاء المتميّز لإنقاذ الأمم الأخرى، لماذا جمدوا وانكفؤا على أنفسهم وتأخروا عن رسالتهم الأولى؟
ذكر الباحثون لهذه الظاهرة التراجعية الخطيرة أسباباً كثيرة. وأنا أكتفي منها بما يلتقي مع موضوع الحوار والقبول بالآخر، وهو حركة الاستشراق التي في جوهرها تكمن حُبّ الاستطلاع وقراءة الآخر. وقد بدأت هذه الحركة العلمية في القرن (13) الميلادي حينما انتشرت لدى الغربيين ظاهرة الاهتمام بالقراءة حول قضايا الشرق بكل جزئياته وكتبوا في ذلك آلاف الكتب والدراسات، حتى أنشئوا في القرن (18) كلّيات في العواصم الأوروبية لتدريس اللغات الشرقية وخاصة العربية لتسهيل معرفة تاريخ البلدان الأخرى وثقافات الشعوب وسجّلوا فيها أدقّ القضايا. وكانت هذه المعلومات قد استفاد منها ساستُهم لغزو البلدان واستعمارها واستعباد شعوبها.
عكْسُهم العرب والمسلمون حيث لم يهتمّوا بقراءة الغرب وحياتهم.. ولم ينشئوا لذلك حتى مراكز دراسات تخصّصية لمعرفة طريقة التفكير عند الغربيين وأهداف قادتهم كي يدفعوا عن بلدانهم خطر الاستعمار والاحتلال. ولا غرابة في هذه الظاهرة! لأن السيكولوجية الشرقية في الغالب منطوية على ذاتها وغارقة في لذّاتها، لذلك تدور أكثر اهتمامات الإنسان الشرقي حول ترويج ذاته على الغير وتهميش الآخر في الطريق إلى المزيد من كسب المصالح للأنا، وكثيراً ما يكون على حساب حقوق الآخرين ومصادرة حرّياتهم ونقيضاً للمُثُل الإسلامية العليا وسبباً للتجاذبات بينهم من أعلى المستويات إلى أصغرها في الزقاق والبيوت.. بحرٌ متلاطم بالصراعات والنزاعات والحروب من أجل غلبة الذات، وغالباً أساسها الجهل بالآخر وعدم الاستعداد لقراءته ومعرفته.
يُذكَر بهذه المناسبة.. ما جرى في تونس (سنة 1993م) إذ دعت الجمعية العربية لعلم الاجتماع إلى ندوة دولية تحت عنوان (صورة الآخر) فأتى الباحثون الغربيون بأبحاثهم عن الآخرين من منظارهم.. بينما أتى الشرقيون عكس المطلوب فكانت أبحاثهم تركّز على التعريف بأنفسهم وتحسين صورتهم عند الآخرين! مما اضطرّ الجمعية إلى إعادة الندوة عام (1996م) حتى يكتب الشرقيون أبحاثهم كما هو المطلوب (صورة الآخر) لديهم!!
ومن ذلك ما تناقلته وكالات الأنباء من إقبال الأمريكيين على قراءة كتبٍ عن الإسلام والمسلمين بعد كارثة (11 أيلول – سبتمبر) ليعرفوا الخلفية الأيديولوجية التي تقف وراء التفجير المرعب للبرجيْن العملاقيْن. بينما لا نجد مثل هذا الإقبال لدى المسلمين لمعرفة خلفية العقل الغربي الذي يغزوهم في عقر دارهم ويحتل بلدانهم ويملي على أكثر حكوماتهم سياساتها، فلعلّهم عبر هذه القراءة يكتشفوا أسراراً تُسقِط الحسابات كلها لصالح قضاياهم العادلة فيصبحوا أعزّة على الكافرين أذلّة على المؤمنين وليس العكس!!
لقد حاول الدكتور حسن حنفي قبل عشرة أعوام تقريباً أن يؤسّس لحركة الاستغراب.. داعياً إلى قراءة الغرب بكل مكوّناته الحديثة وجذوره القديمة وكتب في ذلك كتابه (مقدّمة في علم الاستغراب).
فلماذا الإنسان الشرقي بشكل عام مأخوذ عليه التطبّع بالأنا.. فهو إن كان غنيّاً بالمال يسعى للمزيد منه ولو بسحب البساط من تحت رِجْل الآخرين في السوق! وإن كان حاكماً استبدّ وتجبّر وقال أنا ربّكم الأعلى! وإن كان عالماً اغترّ وانفرد برأيه حتى ولو تضرّر الآخرون! وإن كان ربّ أسرة صار فرعونها أو كضابطٍ في ثكنة بأحكام عسكرية! وإن كان مثقّفاً تكبّر ورأى غيره تحت أنفه ! وإن كان سياسياً باع وطنه ودينه وتآمر عليهما من أجل البقاء في المنصب! وإن كان عاملاً فقيراً يدور حول نفسه، فلا يطوّر أدواته ولا يفكّر في الخروج من أزمته أو لوّث نفسه بلقمة الحرام والخساسة!
وبكلمة واحدة: الشرقي بشكل عام.. لا يطمح أن يتكامل بشيء من التنازل للآخر حتى يتقاسم معه النجاح في أشياء أخرى.. فهو بالتالي مستعدّ ليخسر كل شيء سوى غروره وشخصنته وأنانيّته!!
وتنعكس هذه النفسية السلبية على مواقفه التالية:
1) عدم المبالاة بمستقبله ومستقبل أمّته وفق أسس علمية رفيعة الغايات.
2) عدم الاستماع للغير ومحاولة فهم الآخر.
3) عدم الإيثار والتضحية من أجل القضايا الكبرى.
4) التعصّب والعناد والتكبّر والاستبداد في سبيل الحفاظ على موروثه دون تفكيرٍ فيما لدى الآخرين من أمور قد تكون هي الأصحّ والأفضل.
5) القبول بالأمر السلبي الواقع والتثاقل إلى الأرض.
ومن سمات هذا الإنسان أنه قد يجيد الكلام بالمبالغات لتضخيم ذاته الفئوية أو تصنيم ذاته المقدّسة! ولكنه لا يجيد فنّ الاستماع لرأي الآخرين حتى لو كانوا من أقرب المقرّبين إذا ما وجدهم في الاتجاه المعاكس لمصالح الحزب أو منافع الأنا!!
ومَن يكون على هذه الشاكلة، حتى لو استجاب للحوار مع الغير تحت ضغط الأجواء ومستجدّات الظروف فإنه:
1) يرفع صوته على الآخر ولا يعطيه فرصة لبيان رأيه.
2) يفكّر في هجومه ودفاعه أكثر من أن يفكّر في فهم كلام الطرف الآخر.
3) يناقش ولكن لا لكي يصل إلى هدف يبني خيراً في الواقع بل لكي يبرّئ نفسه من أي اتهام محتمل وأن يخرج منتصراً لقناعاته فقط ولو بالمغالطات السوفسطائية.
4) يجهل الطرف الآخر ويكيل عليه التهم ويلصق به ما ليس له مِن واقع أبداً.
5) يستغل كل مهاراته لتقزيم الآخر وإظهاره بمظهر الجاهل المتطفل على العلم.
يعيش هذا الإنسان في بعض درجاته العدوانية عقلية المؤامرة ومهارة سحب البساط وفنّ التسقيط للآخر حتى تصدق عليه صفة الإقصائيّة والإيذائية والشرّية المطلقة، ويزداد فيها كلّما غابت الرقابة المجتمعية وأَمِن العقاب القانوني العادل.
ويكشف لنا الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) بكلمته "الناس أعداء ما جهلوا"[17] كيف أن هذا الإنسان الإقصائيّ يستطيع أن يبحر في ذاته ويستمر في رفضه للآخر عن أية شراكة عادلة وأن يدير ظهره لأي حوار تفاهميّ إذا ما استطاع إبقاء الناس من حوله في ظلام الجهل ونجح في تشغيلهم بعداوات وهمية مع الآخر الذي يظنّه مزاحماً لمرامه الذاتي حتى يفلت نفسه عن المحاسبة...
وإذا ما أردنا معرفة الطريق إلى الشراكة الشمولية وتأمين الحقوق العادلة ومعرفة خطورة الإقصائية وجهل المصفّقين وطبايع الاستبداد على ثقافة الحوار والقبول بالآخر وخطورتها أيضاً على أخلاقيات التعاون وسلامة الوطن من الأمراض السياسية والفكرية والاجتماعية الفتّاكة.. فإنه لابدّ لنا من وعي الأبجديات المذكورة.
المحور الرابع: إسقاطات البحث على الواقع المحلّي
لا يتردّد المنصفون في وصف واقعنا الفعلي في البحرين قياساً بالعقود الماضية أنه واقع يمتاز بإيجابيات واسعة وإنْ كان دون الطموح أكيداً.. ويعود الفضل إلى إرادة الله ولطفه وكرمه ومِنَنِه السابغة أوّلاً وأخيراً، ثم إلى جهود العلماء والشهداء والسجناء والمبعدين والقوى الوطنية وصبر عوائلهم الطويل، وإلى القرار الشجاع للقيادة السياسية التي قامت بتدشين مرحلة جديدة لتاريخ البحرين الحديث، مضافاً للتحوّلات العالمية والإقليمية في المنطقة والمخطّطات الأمريكية لشرق أوسط جديد.
ولكنه واقعٌ لا يمكن أن يرقى إلى مستوى الطموح الإصلاحي المجتمعي بقرارٍ هنا ولقاءٍ وكلامٍ ومجاملات هناك، بل يفتقر إلى التصدّي الحقيقي لكل أنواع الفايروسات وذلك بتزريق الواقع مضادّات حيوية متناسبة مع كل مشكلة وحجمها، وأن يتعاضد المواطنون لتطعيم الحالة العامّة في البلاد بكل مقوّمات (المحبّة) البينيّة المتبادلة.. وتثبيتها بدعائم (العدالة) العمومية.. وترشيدها بمبادئ (العَقْلَنَة) والحكمة العملية...
وهنا أربع إشارات للتأمّل:
الإشارة -1/ الحالة العامّة وإفرازاتها الخطيرة :
يجب أن نعلم جيّداً أنّ واقعنا المحلّي جزء من واقع عالمي متشابك على جميع مستوياته.. فالدول العظمى والدول التابعة والدول المتمرّدة.. وما يفرزه الصراع العالمي من مشكلات اقتصادية وطبقيات فاحشة، وازدياد الفقر والفساد وظهور حركات دموية وتحالفات على الضفّة الخلفية بقصد الذات واللذّات، وما هنالك من مكر وخداع وإفرازات خطيرة على المستوى النفسي والاكتئاب والقلق والخوف ومن أمراضٍ بدنية موجعة ومزمنة، كل ذلك قد رَمَى الجميع على كفّ عفريت! وأفنى راحة الإنسان النفسية حتى في بيته وبين أسرته التي غالباً ما تعيش الطلاق الروحي أو الحقيقي.
ولا شك أن هذا الواقع الضّنَك إنما حَلّ بالبشرية عموماً وبنا محلّياً نتيجة الإعراض عن ذكر الله تعالى لصريح قوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾[18].
فقد ظهر الفساد في البرّ والبحر بأنواعه وأنماطه.. من الكذب والخيانة والزنا والفسق والمجون والسرقة وعدم الوفاء بالعهد والعصبية وشدّة الفتن وسفك الدماء وتقليب الموازين وتحريف الحقائق حتى أصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً.. ذلك بما كسبتْ أيدي الناس.
الإشارة - 2/ بين السلطة والمعارضة.. البحرين إلى أين؟
سؤال نطرحه على القيادة السياسية أوّلاً باعتبار موقعها من المسئولية وما بيدها من قوّة السلطة وإمكانات الدولة. ونطرحه على المعارضة ثانياً لتشابك القضايا!!
فنقول: البحرين أمانة بيد (الجميع) ولكن الحكومة بقراراتها وقوانينها وسياساتها قادرة على أن تحافظ على هذه الأمانة أو أن تتلفها. ولا أحد من (الجميع) يشك في وجود عناصر مجهولة أو مكشوفة في البلاد تهدّد سلامة هذه الأمانة، والحكمة المرجوّة هنا أن لا تغيب عن القيادة السياسية أهمّية تحديد الطريق الذي يصون الوطن والشعب والأموال العامّة وأمانات الأجيال القادمة من أيّ خطر سواء من داخلها أو من خارجها. وهذا ما لا يخفى وجوبه الشرعي والوطني على أحد لقول نبيّنا الكريم (صلى الله عليه وآله): " كلّكم راعٍ وكلّكم مسئول عن رعيّته"[19].
وهنا عدّة آليات من شأنها أن تكفل إجراء هذه الحكمة وصناعة المسئولية الشراكية، ويتصدّرها التغليب المستمر للغة الحوار الهادئ ومدّ جسور اللقاءات والتواصل والمحادثة. ويتم هذا إذا ما جَعَلَ (الجميع) لغة اللقاء والحوار أصلاً مَرِناً في حياته لأمن الأمانة وسلامة الوطن، وإذا ما حَرَصَ (الجميع) أيضاً لتفعيله سواء بين مكوّنات المجتمع البحريني نفسها أو بينها وبين صنّاع القرار الرسمي، لأن الحوار والتواصل واللقاء المباشر يذيب جليد الحواجز النفسية من جهة، ويبيّن للأطراف زوايا المواقف وأسبابها من جهة، وهما مقدّمتان أساسيتان للتوافق والتنسيق من جهة ثالثة، وللتخفيف عن معاناة المواطنين الذين قهرتْهم ضغوطات الحياة من جهة رابعة.. وقد دأبنا في لقاءاتنا مع المعنييّن في النظام ولاسيّما مع جلالة الملك حسب المناسبات أن نلفت انتباههم إلى ضرورة معالجة جذور المشاكل، وعَمِلنا قدر المستطاع لقضاء حوائج الناس وتصحيح المعلومات التي تقرّب الحلول وتجنّب الساحة من أي عنف محتمَل، وإنْ لم تُؤخَذ بآرائنا كلّها!
ولعلّ إيماننا بضرورة الحوار ومبدأ التواصل كان المبرّر الأهم لدخولنا إلى المساحات الرسمية بعد مشاورات مع مرجعيتنا الفقهية والأصدقاء وبعد يأسنا من جدوائية معارضةٍ اعتلتْها صفات كنّا ننتقدها في السلطة!
فالمعارضة التي يجب أن تحاكي سلوكياتُها شعاراتِها ومبادئِها ما بالها قد أصبحتْ على العكس غالباً، فلا تمارس الديمقراطية بين أطيافها، ولا تستجوب رجال التأزيم لديها، ولا تحاكم المتسلّقين إلى قيادتها، ولا تحاور مَن يختلف معها مِن أبنائها، ولا تتورّع عن تشويه سمعة المنافسين في داخلها، بل تهمّشهم وتسقطهم بتُهَم مِن طرف واحد وغياب المتهَم، ولا تسمح له أن يدافع عن نفسه في معاقلها ومناطق نفوذها، وتمارس التمييز المرجعي الحادّ رفعاً لمن تشاء وكبساً لمن تشاء، ثم لا تقف إلا مع مَن يكون ظهره سهل الركوب وضرعه رهن الحلوب!
بعض الرموز في واجهة المعارضة ينخرون في سفينتها بممارساتهم الطائفية مع بني جلدتهم ومَن في صفّ المعاناة مثلهم.. وقد حوّلوا المعارضة إلى قشور بلا مضمون فتشابهتْ بالحكومات التي تنادي بشيء والحقيقة شيء آخر وهي لن تكون إلا مثلها لو حلّتْ مكانها!!
هذه الإشكالية الطافحة على السطح ولا يمكن التستّر عليها تدعو كل غيور متألّم إلى مراجعة أساسية في ثقافة المعارضة ورجالها ومنهجها وتقييم جميع مواقفها بغرض التقويم والإصلاح في بُنيتها ومفاصلها حتى تؤدي رسالتها بالمستوى الإسلامي الحضاري اللائق والمناسب للمنعطفات الجديدة، وإلا انطبق عليها الحديث المرويّ عن إمامنا عليّ الهادي (ع) الذي قال: "إنّ الظالم الحالِم يكاد أنْ يُعفى على ظلمه بحلمه، وإنّ المُحِق السفيه يكاد أنْ يُطفئ نور حقه بسفهه"[20].
ونقدنا الناصح هذا الموجَّه للمعارضة التي كنّا جزءً تأسيسياً منها - منذ سنة 1977م إلى 2004م- !! يكتمل بنقدٍ ناصحٍ آخر لأجزاء في السلطة ينقصها التعامل مع قضايا الشعب الواحد بروح الأبوّة ومبدأ الشفّافية وميزان العدالة.. فمشكلة التمييز بين المواطنين التي تهدّد الوحدة الوطنية إنما تعالجها الرعاية الأبويّة الشاملة.. ومشكلة الأسئلة التي تؤرّق المواطنين يحسُن للجهة المعنيّة أن تجيب عليها بشفّافية، وأما خيرات البلاد فتستغيث ميزان العدالة ساعةً بعد ساعة..
وعلى هذا السياق يجدر بكل وزير أن يخصّص في مبنى وزارته مكتباً لاستلام شكاوى المتظلّمين الذين يلاقون سوء معاملة من مسئول هنا أو موظف هناك بدافع الإهمال (مثلاً تضييع وقت المراجعين بقراءة الصحف وشرب الشاي والضحك مع الزملاء) أو بدافع المذهبية (من خلال فحص الأسماء!) أو بدافع العَلْمَنَة (مثلاً توظيف السفور دون المحجّبات!) أو بدافع المحسوبية (كالتسهيلات والترقيات للبعض والتعسيرات للبعض الآخر) وما أشبه..
إنّ تنفيذ مثل هذا الاقتراح بالنظرة إلى المواطنين من نافذة (المواطنة والكفاءة والإنسانية) يساعد على نزع فتيل الفتن الطائفية ويضمن لجميع المواطنين حقوقهم ومساواتهم أمام القانون.. وبذلك يستقرّ الوضع الأمني بأسس ضامنة ومعطيات مضمونة، فتمتدّ جسور الثقة بين الناس وبينهم والسلطة وتعمّ الفرحة والراحة.. وتندحر ثقافة الشك والكراهية والضغينة بإذن الله.
فيا أيها الشرفاء.. يا شركاء الوطن: نؤكّد على هذه النصائح والحلول قبل انتقال مِحَن البلدان المجاورة (والعراق خاصة) إلى وطننا الحبيب.. ألا إنّ (البحرين) أمانة في أعناق (الجميع)!!
الإشارة - 3/ المؤسسة العلمائية.. ومسئوليتها التاريخية:
بما أنّ العلماء ورثة الأنبياء - كما في الحديث النبوي الشريف – فقد كان الأمل معقوداً في علماء الدين ولا زال.. كي يقودوا مسيرة التطبيقات الدينية بنجاح ويخفّفوا بقِيَمِه السماويّة العظيمة معاناة الناس على كل الأصعدة.. ولكنهم (في الغالب) صاروا جزءً من المشكلة، وقد ساعد على ذلك أمران ترتُّبيان:
أ) عدم اجتماع كبار العلماء بمجلسٍ حواريّ موحَّد يتبادلون فيه الرأي ويحاولون التقريب والتناصح الجماعي تنفيذاً لقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[21] وليسحبوا باجتماعهم دواعي الخلافات مِن بين مؤيديهم، ويمهّدوا به للوحدة التعاونية بينهم تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى﴾[22].
بـ) فتح الطريق للصفّ الثاني والثالث والرابع منهم للاستئكال بالدين واستغلال ضعفاء الناس لحساب مصالحه الذاتية!!
وفي تحليلنا.. لولا فرديّة أكثرية العلماء الكبار - من الصفّ الأول - رغم أتعابهم المشكورة - جزاهم الله خيراً - لما كانت الصفوف المتأخرة (من بعض أهل العِمّة وفروخهم!!) تتفرّد لنفسها وتتفنّن باسم الكبار في التصنيف الانتمائي للناس وتمزيقهم مرجعياً وخَلق مجابهات استهلاكية بينهم.. مما أدّى إلى بروز فجوة خطيرة بين العلماء أنفسهم وإلى زعزعة ثقة الجمهور في جدارتهم لقيادة شؤونهم ليس على المستوى السياسي فحسب بل هناك علامات تشير إلى أنّ العلماء الصالحين أيضاً ومَن لديهم إيجابيات رغم الأخطاء ستتعرّض مصداقيّتُهم الدينية إلى هزّات عنيفة بسبب تلك الممارسات الفئوية والانقسامات التشرذمية...
فهل يتفرّج المخلصون (من العلماء وغيرهم) على هذا الواقع الانحداري حتى ساعة الخطر؟
أم هل ينتظرون الظهور العلني لتيّارات دينية منحرفة تؤازرها ردّة فعل الشباب لضرب الثوابت الشرعية وقد أطلقتْ جرس الإنذار بمن يعاني مِن الاحباط ومَن تسافل إلى الفسق والتهمتْه عَبَدَة الشيطان؟!
على ضوء هذا الواقع.. كيف يرتسم مستقبل الدين والبلد وأهله؟
أسئلة تطارد المؤسسة العلمائية وهي المسئولة تاريخياً هنا قبل غيرها عن الإجابة الواضحة والشفّافة!
أما كاتب هذه السطور (عبدالعظيم المهتدي - الواضح والصريح) فبدوره قد أتمّ الحجّة على هذه المؤسسة في البحرين وغيرها عبر اللقاءات والحوارات مع الجميع ونشر البيانات المستمرة ومؤلفات عديدة منذ خمسٍ وعشرين عاماً تحت وابلٍ مِن سهام التسقيط والإشاعة التي لا تدلّ إلا على كارثية التربية وضعْف عقول الذين يصدّقون الكذبيات من دون لقاء وحوار وتحقيق مباشر!!
وهذا ما دعاني للإعلان مراراً - وبكامل الثقة - عن الاستعداد للمناظرة المشتركة والمحاسبة - حتى في الجانب المالي - أمام الجمهور ليعرف الجميع منطقة الخلل في الحركة الإسلامية وأوضاعنا الراهنة وأسبابها. ولذلك فمادام الحوار مفقوداً واللقاءات الخاطفة لا تتجاوز حدّ المجاملات ومادامتْ الغيبة والتشهير صارت لغة العاجزين في الشارع والمنتديات.. فإننا ندعو إلى:
أ) مؤتمر عام لتقييم مراحل العمل الماضية والحاضرة وبحيادية تامّة. أو ندوات مناطقية متنقّلة...
بـ) استجواب علماء التأزيم ومَن سبّبوا فتنة الخلافات والمقاطعة والتباغض باسم المرجعية والتقليد الفقهي.
ج) المصالحة الحقيقية لبناء علاقات جديدة تحكمها قيم الدين والتسامح لا المحسوبيات والتراكمات.
لقد ترسّمتْ جديداً في وطننا الحبيب جمعية علماء الدين الخليجيين، قام بتأسيسها قرابة مائة عالمٍ مِن إخواننا السنّة.. فهذه خطوة إيجابية لترشيد أتباعهم على ضوء أحكام الشريعة وهي تدعونا للتأسي والاحتذاء كي نرتقي معاً إلى مستوى التعاون بين علماء وأبناء الطائفتين الكريمتين في بناء الوطن التعايشي المتميّز.. الخالي من حسّاسيات التمايز المذهبي أو التباين الفكري أو التنافس المرجعي أو التسابق السياسي.. لنجسّد بذلك قول النبي الأكرم (ص): " المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى". وقوله أيضاً: " خيرُ الولاة مَن جَمَعَ المختلَف وشرُّ الولاة مَن فَرَّقَ المؤتلَف ".
والبناء القرآني في الحوار مع الآخر يقتضي إنشاء مجلس علمائي موحَّد تستظلّ تحته كل التيّارات ذات الحضور والتأثير في الساحة، يحضره الشخصيات غير العلمائية أيضاً لتعزيز الشراكة الداخلية وترصيص الصفوف الناشطة على خط الإصلاحات. وبذلك سوف تأتي الأجيال من بعدنا لتترحّم على كل الذين أسّسوا لوحدة العلماء والمفكّرين والمثقّفين والجمهور ولتشيّد بالذين ثقّفوا المجتمع - عبر وسائل الإعلام الرسمية والشعبية وخاصّة كتّاب الصحافة المحلّية - بثقافة الأخوّة الإسلامية وحرية المذهب والتقليد واحترام العقيدة ومسلك الاعتدال والتماسك الأهلي؟!
الإشارة 4/ المقاطعة.. سلوك جاهليّ يناقض الحوار.
أجل.. وفي الوقت الذي يحرّم الإسلام على المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ترى يتبجّح أبطال (المقاطعة) ليبنوا عليها بنيان هذا الظلم الداخلي، ويُخشى أن يورّثوها أبناء الجيل الجديد - أبناء الرواية من غير دراية – فتتعمّق ثقافة (المقاطعة) التي هي ليست إلا صورة قبيحة وصارخة عن غياب التلاقي والحوار وتلاقفية الاستئثار والاحتكار وتكريس التخلّف والشِّجار! وليست في واقعها إلا سلوكاً جاهلياً يجهض الأخوّة والتحابب ويمنع الوحدة والتقارب ويؤجّج نار العداوة والتحارب حتى داخل الأسرة الواحدة فضلاً عن الجماعة الواحدة كما هو المشهود، وقد تسلّل هذا الفايروس إلى مجتمعنا من تسويق بعض العلماء والعلمانيين لفكرة (الخلاص الديني أو الدنيوي عن طريقه حصْرياً) فأصبحتْ - هذه الفكرة الحصرية - تعمل في المجتمع كالقنبلة الانشطارية.. تمزّق وتمزّق التمزّقات، حتى غدتْ (المقاطعة) قاعدة مطبَّقة بين كل نفريْن اثنين كانا بالأمس متلاحميْن فاختلفا جزئياً وإذا بهما يستدعيان قاعدة (المقاطعة) التي تربّيا عليها ليقطعا بها أوصال بعضهما البعض ويكونا قصّة أخرى لضحك المجالس.. قصصٌ سبقتْها وقصصٌ تلحقها في سلسلة من التآكل الداخلي وإحلال الهزيمة والفشل وذهاب المهابة والريح، ويحسب الشخص نفسه على حق وإلى حق مادام شخصه الشخيص كعبة الحق دون الغير!! وهذا هو ما عناه الله ربّنا تعالى حينما قال: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾.
لذا نعتقد أنّ مبدأ المقاطعة.. مبدأ جبان، إنما يتمسّك به كل مَن يخاف الحوار والمكاشفة.. ويستبد به كل فاقد للبرهان والبيّنة.. ويتعاطاه كل مزاجيّ الحادّ الذي كان مِن الأوْلى أن يرقد في المصحّة النفسانية بدل التربّع على المنابر والتصدّي لأمور الناس في عصر الشراكة والعولمة والاندماج وفي ظروف عالمية اقليمية محلية معقّدة تتجلّى مع خطورتها يوماً بعد يوم ضروراتُ الوحدة التعاونية لمواجهتها وحلّ آلام شعوبنا.. إنها ظروفٌ وآلامٌ لو جئنا إلى التنقيب فيها لوجدناها مبنيّة على ترسّبات مذهبية تاريخية، ونفسيّات متأزّمة، ونزاعات عائلية، وخلافات باسم المرجعية، واجترار لآراء فرديّة متعفّنة، وسياسات متخلّفة، وأمزجة حِدّية تغلّفتْ بالدّين والدّين منها بريء.. هكذا فأصبح الدّين في خطر!! وتبعاً له أصبحت الأمّة والبلاد والإنسان والإنسانية ومعايير الشرف والمروّة كلّها في خطر..
والآن فهل مِن الحكمة ونحن في زمن التكالب الدولي هذا على الأمّة ونزيف الدماء - في العراق وأفغانستان وباكستان وفلسطين ولبنان والتهديدات الإمريكية لإيران ودول أخرى مرشَّحة في القائمة - أن يتعامل أكثرنا مع الأمور الصعبة والمصيرية بخلفية التراكمات ومبدأ المقاطعة ولغة العنف والتفجير؟! إلى متى هذا الجهل والتخلّف والدوران حول الذّوات البشريّة بدافع الحرص على الدين أو التعصّب لغيره؟! ولماذا لا ينفتح الإنسان على أدلّة الرأي الآخر فلعله يجدها الحق الذي يجب أن يُتّبَع؟!
إنّ الكرة الأرضية اليوم ملتهبة.. والعالَم الإسلامي والعربي أكثر تأزّماً من غيره.. وهذا المحيط - سيّما إذا تمادتْ أمريكا بالهمسة الصهيونية فضربتْ المنشآت النووية السلمية في ايران وردّتْ هذه الأخيرة بكل ما تملك من قوّة وقواعد جماهيرية في العالم وفي المنطقة - فإنه ينذر بكارثة محلّية لا تستأذن وقوعها أحداً في الخليج. فهذه الظروف واحتمالات التصعيد نحو المجهول توجب على شركاء الوطن أنْ تكبُر نفوسهم اليوم قبل غد للمضيّ قُدُماً في حوار الأودّاء ولقاء العقلاء وتفاهم العلماء وصراحة المصلحين وشجاعة المبادرين وعفو المحسنين وسِلْم المتخالفين وسعة صدر الحكّام ومرونة صُنّاع القرار السياسي في البلاد، فهذه قيم الدين الإسلامي الحنيف التي نذكّر بها للخروج بالبحرين إلى ساحل النجاة من هذا المحيط الاقليمي المفخَّخ وألغام سياسة الفوضى الخلاّقة...
وعليه يجب (من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أن يتّجه كلّ مواطن لإصلاح نفسه أوّلاً بالتركيز على مصيره غداً بين يدي الله، ثم المطالبة من العلماء والسلطة والمعارضة فوراً بإجراء إصلاحات داخلية جريئة قبل أن تتعب النفوس وتفوت الأوان وتحلّ النقمة والندامة والخسران (ثم تدعون فلا يُستجاب لكم).
وأخيراً.. حتى لا نقلّل من قيمة المواعظ الدينية في الإنقاذ، فالتخويف من سكرات الموت وآلام خروج الروح ووحشة القبر وعذاب البرزخ وحساب القيامة، والتذكير بالقيم القرآنية المهجورة والتحذير من الانغماس المفرط في الملذّات الجسدية والخطابات السياسية.. أمرٌ في غاية الضرورة...
فيا أيها القارئ المسلم والمواطن العزيز:
1) تدبّرْ في قول ربّك جلّ جلاله: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً﴾[23].
2) "صِلْ مَن قَطَعَك، واعْطِ مَن حَرَمَك، واعْفُ عمّن ظَلَمَك". هكذا قال رسول الله (ص)[24].
3) " نَبِّهْ بالتّفَكُّرِ قلبَك، وجافِ عن اللّيْلِ جَنْبَك، واتّقِ اللهَ ربَّك". وهكذا قال الإمام علي (ع)[25].
4) تقرّبْ إلى الله - ولو من أجل دخول الجنة - بإخلاص النيّة وصدْق الحديث والمداومة على العبادة ثم لا تخش أحداً إلا الله الذي تعود إليه مُرغَماً وتُسئَل عنده حتى عن مثقال ذرّة من خير أو شر قد عملتَه في الدنيا.
5) كيلا تصيب أحداً بجهالة فتصبح من النادمين.. حقّقْ في صحّة أيّ خبر تسمعه، فكم من ثقاة التَهَمَتْهُم نيران الأخبار الكاذبة التي سرعان ما كانت تتعرّى لهم لو كانوا يلتقون مع الآخر لتحرّي الحقيقة. ولو افترضنا أنه ثبتتْ لديك صحة خبر يُشينه قدِّمْ إليه النصيحة بدل أن تلوّث نفسك بالغيبة والتشهير والتشفّي.. فتكون بذلك حينئذ أخبث منه في المعصية! ثم لا تنسى فإنك كما تدين تُدان، وكما تسيء يُساء إليك، وكما تَتّهِم كذلك تُتّهَم يوماً.. فلا تفرح بسقوط أخيك في الدين ولا تشمت بهزيمة نظيرٍ لك في الخَلق وأنت لا تدري الأقدار ماذا تخبئ لك غداً...
6) قُلِ: "اللهُمّ اجْعَلِ النّورَ في بصري والبصيرةَ في ديني واليقينَ في قلبي والإخلاصَ في عملي والسّلامةَ في نفسي والسّعةَ في رزقي والشّكْرَ لك أبداً ما أبقيْتَني.. برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين"[26] فهذا هو خط الحياة الخضراء ودرب السعادة المتصل بنعيم الجنّة وخلودها.
وفي الختام: نقترح لبناء الوطن قرآنياً
ألف - أن نعود إلى ثقافة القرآن الأصيلة والتي ذكرنا منها سبعة آيات وإليكم الثامنة وما أعظمها: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[27]
باء - أن نمضي ميثاق شرف لأجل الحفاظ على الحدود الشرعية والأخلاقية مهما كانت الخلافات، لاسيّما حرمة الدمّ.. ولنحذر من مقدّمات سفكه وما يمهّد له من الغيبة والنميمة.. فإنّ الأولى إدام الكلاب والثانية في النار. وليكن التعايش بمعناه الحقيقي هدفنا السامي.. وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع): "صلاح شأن الجمهور التعايش".
جيم - أن تمهل السلطةُ المعارضةَ والمؤسسةَ العلمائية فرص التجربة لخياراتها السلمية حتى تنضج أحسنها، وكذلك العكس من غير أن تهمل السلطة حلّ الملفات الرئيسية العالقة.
دال - أن نؤسّس (ملتقى الحوار الوطني الحُرّ) يشبه بعض الشيء (هايد بارك) في لندن، يحضره كل الشخصيات الإسلامية والوطنية والعلمانية بكل توجّهاتها السياسية والفكرية (سواءً من المعارضة أو الموالاة أو المستقلّين) ليتحدّثوا ما يشاءون في أي حقل دون خوف ومحاسبة من أية جهة.. وتتكفّل الحكومة ميزانية هذا المشروع ومقرّه الدائم على أن تتواضع ويتواضع الآخرون لكلمة الحق أينما وجدوها مادام المنطلق هو كوننا شركاء في الوطن. فـ (الناسُ إمّا أخٌ لك في الدّين أو نظيرٌ لك في الخَلْق) كما كتبه الإمام علي (ع) في دستوره الحكومي لمالك الأشتر حينما بعثه لحكم مصر.
هاء - أن تعتمد وزارة التربية والتعليم كتاباً دراسياً خاصّاً في تعليم ثقافة الحوار والقبول بالآخر حسب المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية لتنشئة الجيل القادم على مفاهيم إنسانية.. مثل كرامة الإنسان وقيمة المسئولية والأخلاق الأُسَريّة وحقوق الناس ومعنى الحرية والتعاون والوحدة الوطنية وحُبّ الوطن وحفظ الأمن والنظام ومرام التقدّم الحضاري ومواكبة العالَم في إيجابياته. قال ربّنا تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[28]. ويساعد هذا المنهج التربوي على تجفيف منابع الفكر الدموي والارهاب التكفيري وعقلية القتل والتفجير والرجعية الهمجية باسم الدين والمذهب والوطنية الزائفة والمزايدات والتخوينات...
واو - إحترام مبدأ التواصل وقيمة اللقاء والحوار، ذلك لأن الإنسان كائن اجتماعي يؤثر ويتأثر وقابل للتغيير وانتقال القناعات.. ولأن الهداية وإتمام الحجّة على الغير هدف الرسالات السماوية الذي لا يتحقق إلا بتبادل الآراء وآداب الحديث ونبذ الاستهزاء بالغير من غير حق. قال الله عزّوجل: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[29].
زاء - أن تدور المساعي الرسمية والأهلية مدار العدل كأسمى هدف يسعى لتحقيقه كل الأطراف دون الالتفاف عليه بالمحاباة والمناورة. فإنّ الصراعات لا يشعلها إلا الظلم والشعور بالخيبة عند المظلوم. قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾[30].
حاء - أن نحي ثقافة العفو والتعافي ونعمل لتجديد العقد الاجتماعي والتصالح السياسي العام بين فترة وأخرى حيث تتصدّء العلاقات وتحتاج إلى صيانة. وفي السيرة النبوية الوضّاءة قصص تدعم المنظومة الأخلاقية التسامحية التي أرسى بها نبيّنا محمد (ص) دعائم هذه الثقافة الرسالية للعيش المشترك بين كل البشر مسلمين وغير مسلمين.. فماذا لو جرّبناها نصرةً لرسول الله (ص) بدل التشبّث بقشور وشكليات نسبناها للرسول (ص) أكثرها من تناغمات الزمن لا تتقدّم على الواجبات وجواهر السنن!
أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأتوسّل إليه سبحانه أن يجعلنا ممن زهدوا في هذه الدنيا الدّنية، وجعلوا التكليف الشرعي يحدوهم إلى قول الحق وفعل الخير والصبر على البلاء والرضا بما يشاء، وأن يجعلنا ممن لا تأخذهم في الله لومة لائمٍ أبداً ولسانهم يلهج قائلين: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[31]
* باحث وكاتب الإسلامي من البحرين
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - سورة الرعد-11
[2] - سورة التوبة-105
[3] - سورة النساء-1
[4] - سورة الحجرات-13
[5] - سورة الحجر-36-38
[6] - سورة الإسراء-84
[7] - سورة الممتحنة-8
[8] - سورة سبأ-24
[9] - سورة المائدة-8
[10] - سورة فصلت-34
[11] - سورة الصف-2
[12] - سورة الشمس-7-10
[13] - سورة الجمعة-2
[14] - سورة الأنعام-164
[15] - وسائل الشيعة/ ج12/ ص302
[16] - سورة آل عمران-75
[17] - عن نهج البلاغة، بحار الأنوار/ ج1/ص219
[18] - سورة طه-124
[19] - بحار الأنوار/ ج72/ص38
[20] - بحار الأنوار ج75 ص365
[21] - سورة الشورى-38
[22] - سورة المائدة-2
[23] - سورة الأنفال-25
[24] - مستدرك الوسائل/ ج15 /ص252
[25] - أصول الكافي/ ج2 /ص54
[26] - دعاء للإمام الصادق (ع) يرويه الشيخ الكليني في أصول الكافي/ ج2 /ص55
[27] - سورة الزمر-18
[28] - سورة البقرة-83
[29] - سورة الحشر-9
[30] - سورة النحل-90
[31] - سورة البقرة-286
المصدر: شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 10 كانون الاول/2007 - 29/ذوالقعدة/1428