الحوار في سورة ( طه )

الحوار في سورة ( طه )
· بقلم : محمد الحسناوي
بســم اللــــه الرحمــن الرحيـــم
: طه (1).ما أنزلنا عليكَ القرآنَ لتشقى(2)إلا تذكرةً لمن يخشى (3) تنزيلاً ممنْ خلقَ الأرضَ
والسماواتِ العُلى (4) الرحمنُ على العرشِ استوى (5) لهُ ما في السماواتِ وما فـي الأرضِ
وما بينهما وما تحتَ الثرى(6) وإن تجهرْ بالقولِ فإنه يعلمُ السرَّ وأخفى (7) اللهُ لا إلهَ إلا هو
لهُ الأسماءُ الحُسنى (8) وهل أتاكَ حديثُ موسى (9) . إذ رأى ناراً
فقال لأهلِهِ : امكثوا . إني آنستُ ناراً . لعلي آتيكم منها بقبسٍ أو أجد على النـــــارِ هُدى(10)
فلما أتاها نوديَ : يا موسى . (11) إني أنا ربُكَ فاخلعْ نعلَيْكَ . إنك بالوادي المُقـــــدَّسِ
طُوى (12) وأنا اخترتُكَ فاستمعْ لما يوحى(13) إنني أنا اللهُ لا إلهَ إلا أنا فاعبدني ، وأَقــمِ
الصـلاةَ لذِكري (14) إنَّ السـاعةَ آتيةٌ ، أكادُ أُخفيها ، لِتُجزى كلُّ نفسٍ بما تسعى (15)
فلا يَصُدنَّكَ عنها منْ لا يؤمنُ بها واتَّبعَ هواهُ فتَردى (16) وما تلكَ بيمينِكَ ، يا موسى (1)
قـال : هيَ عصايَ أَتوكَّأُ عليها ، وأهشُّ بها على غنمي ، وليَ فيها مآربُ أُخرى (18)
قـال: أَلقِها ، يا موسى
( فألقاها ، فإذا هيَ حيَةٌ تَسعى ) (20)
قـال : خذها ، ولا تخفْ . سنعيدها سيرتَها الأولى (21) واضممْ يدَكَ إلى جناحِكَ تخرجْ بيضاءَ من
غيرِ سوءٍ ، آيةً أخرى (22) لِنُريَكَ من آياتِنا الكبرى (23) اذهبْ إلى فرعونَ إنه طغــى
(24)
قـال: ربِّ اشرحْ لي صدري (25) ويسِّرْ لي أمري (26) واحلُلْ عقدةً من لساني يَفقهوا قولي (28)
واجعلْ لي وزيراً من أهلي ( 29) هارونَ أخي (30) اشدُدْ بهِ أَزري ( 31) وأَشرِكهُ فــي
أمري (32) كي نُسبِّحَكَ كثيراً (33) ونذكرَكَ كثيراً (34) إنكَ كنتَ بنا بصيراً (35)
قـال: قد أُوتيتَ سؤْلَكَ ، يا موسى (36) ولقد مننّا عليكَ مرةً أخرى ( 37) إذ أوحينا إلى أمِّكَ ما
يُوحى (38) أنِ اقِذفيهِ في التابوتِ ، فاقذفيهِ في اليمِّ ، فليلقِهَ اليمُّ في الساحلِ ، يأخذْهُ عدوٌّ لي
وعدوٌّ له ، وألقيتُ عليكَ محبةً مني ، ولِتُصنعَ على عيني ( 39) إذ تمشي أختُكَ ،
فتقـول : هل أدلُّكم على من يكفلُهُ
: فَرَجَعناكَ إلى أمكَ كي تَقرَّ عينُها ، ولا تحزن . وقتلتَ نفساً فنجيناكَ من الغمِّ ، وفتنّاكَ فتوناً
فلبثتَ سنينَ في أهلِ مدينَ ، ثم جئتَ على قَدَرٍ ، يا موسى (40) واصطَنعتُكَ لِنفســي (41)
اذهبْ أنتَ وأخوكَ بِآياتي ، ولا تنيا في ذِكري (42) اذهبا إلى فرعونَ إنه طغى (43) فقولا له
قولاً ليّناً ، لعله يتذكّرُ أو يخشى (44)
قـالا : ربَّنا ، إننا نخاف أن يفرُطَ علينا أو أن يطغى (45)
قـال : لا تخافا . إنني معكما أسمعُ وأرى (46) فأتياهُ
فقـولا : إنّا رسولا ربِّكَ ، فأرسلْ معنا بني إسرائيلَ ولا تعذبْهم . قد جئناكَ بِآيةٍ من ربِّكَ والسلامُ
على من اتّبعَ الهدى (47) إنّا قد أُوحيَ إلينا أن العذابَ على منْ كذّبَ وتولّى (48)
قـال : فمنْ ربُّكما يا موسى ( 49)
قـال : ربُّنا الذي أعطى كلَّ شيءٍ خلقَهُ ثم هدى ( 50)
قـال : فما بالُ القرونِ الأولى (51)
قـال : علمُها عندَ ربي في كتابٍ لا يَضلُّ ربي ولا ينسى (52) الذي جعلَ لكم الأرضَ مهداً وسلَكَ
لكم فيها سُبُلاً ، وأنزلَ من السماءِ ماءً
: فأخرجنا بهِ أزواجاً من نباتٍ شتّى (53) كلوا وارعَوا أنعامَكم . إن في ذلك لآياتٍ لأُولــي
النُّهى(54) منها خلقناكم ، وفيها نُعيدكم ، ومنها نُخرِجُكم تارةً أخرى ( 55)
( ولقد أريناهُ آياتِنا كلَّها ، فكذّب وأبى (56))
قـال : أجئتَنا لتُخرجَنا من أرضِنا بِسحرِكَ يا موسى (57) فلنَأْتينَّكَ بسحرٍ مثلِهِ ، فاجعلْ بيننا وبينكَ
موعِداً ، لا نُخلفُهُ نحنُ ولا أنتَ مكاناً سُوى ( 58)
قـال : موعدُكم يومُ الزينة ِ وأن يُحشر الناسُ ضُحى ( 59)
( فتولّى فرعونُ فجمعَ كيدَهُ ثم أتى (60))
قـال لهم موسى : ويلَكم لا تَفتروا على اللهِ كذِبًا ، فيُسحِتَكم بعذابٍ ، وقد خابَ من افترى (61)
( فتنازعوا أمرَهم بينهم ، وأسرّوا النجوى (62))
قـالوا : إنْ هذانِ لَساحرانِ ، يُريدانِ أن يُخرجاكم من أرضِكم بسحرِهما، ويذهبا بِطريقتِكمُ المُثلى
(63) فأجمِعوا كيدَكم ، ثم ائتوا صفاً ، وقد أفلحَ اليومَ منِ استعلى (64)
قـالوا : يا موسى . إمّا أن تُلقيَ ، وإمّا أن نكونَ أولَ من ألقى (65)
قـال : بل ألقُوا
( فإذا حِبالُهم وعصيّهم ، يخيلُ إليهِ من سحرِهم أنها تسعى (66) فأوجسَ في نفسهِ خيفةً
موسى (67))
قلنـا : لا تخفْ ، إنك أنتَ الأعلى (67) وألقِ ما في يمينِكَ تلقفْ ما صنعوا .إنما صنعوا كيدُ ساحرٍ
ولا يُفلحُ الساحرُ حيثُ أتى (69)
( فأَلقيَ السحرةُ سُجَّداً )
قـالوا : آمنّا بربِّ هارونَ وموسى (70)
قـال : آمنتم لهُ قبلَ أن آذَنَ لكم . إنه لكبيرُكمُ الذي علّمَكُمُ السحرَ . فلأُقطِّعنَّ أيديَكم وأرجُلَكم من
خِلافٍ ، ولأُصَلِبَنَّكم في جذوع النخل وَلَتَعلمُنَّ أَيُّنا أشدُّ عذاباً وأبقى (71)
قـالوا : لن نُؤثرَكَ على ما جاءنا من البيّنات، والذي فَطَرَنا ، فاقضِ ما أنتَ قاضٍ ، إنما تقضي هذه
الحياةَ الدنيا (72) إنّا آمنا بربِّنا ليغفِرَ لنا خطايانا وما أكرهتَتنا عليهِ من السحرِ . والله خيرٌ
وأبقى (73) إنه من يأتِ ربَّهُ مُجرمـاً ، فإنَّ له جهنَّمَ ، لا يمـوتُ فيها ولا يَحيــا (74)
ومن يأتهِ مؤمناً ، قد عمل الصالحاتِ ، فأولئكَ لهمُ الدرجاتُ العُلى (75) جنّاتُ عدنٍ ، تجري
من تحتِها الأنهارُ ، خالدينَ فيها ، وذلك جزاءُ منْ تزكّى (76)
: ولقد أوحينا إلى موسى :أنْ أسرِ بِعبادي. فاضربْ لهم طريقاً في البحرِ يَبَساً . لا تخــافُ
دَرَكاً ، ولا تخشى (77)
( فأتبعهم فرعونُ بجنودِهِ . فغشيَهم من اليمِّ ما غشيَهم (78) وأضلَّ فرعونُ قومَهُ ، وما هدى
( 79))
: يا بني إسرائيلَ . قد أنجيناكم من عدوِّكم ، وواعدناكم جانبَ الطورِ الأيمنَ ،ونزّلنا عليكمُ المنَّ
والسلوى(80) كلوا من طيباتِ ما رزقناكم ولا تَطغَوا فيه ، فيحِلَّ عليكم غضبي ، ومن يحلِلْ
عليهِ غضبي ، فقد هوى ( 81) وإني لغفّارٌ لمنْ تابَ ، وآمنَ وعملَ صالحاً ، ثم اهتدى (82)
: وما أَعجَلَكَ عن قومِكَ يا موسى ( 83)
قـال : هم أٌولاءِ على أثري . وعَجِلتُ إليكَ ربِّ لِِترضى (84)
قـال : فإنّا قد فتنّنا قومَكَ من بعدِكَ ، وأضلَّهُمُ السامريّ(85)
( فرجعَ موسى إلى قومِهِ غضبانَ أَسِفاً )
قـال : يا قومِ . ألم يعدْكم ربُّكم وعداً حسناً . أَفَطالَ عليكُمُ العهدُ ، أم أردتم أن يَحِلَّ عليكم غضبٌ
من ربِّكم ، فأخلفتم موعدي ( 86)
قـالوا : ما أخلفنا موعدَكَ بِمَلكِنا ، ولكنّا حُمِّلنا أوزاراً من زينة القومٍ ، فقذفناها ، فكذلك ألقـــى
السامريُّ (87)
( فأخرجَ لهم عِجلاً جسداً ، لهُ خوارٌ )
فقـالوا : هذا إلهكم وإلهُ موسى فنسيَ (88)
( أفلا يرونَ أَلاّّ يَرجِعُ إليهم قولاً ، ولا يَملِكُ لهم ضرّاً ولا نفعاً (89)
ولقد قال لهم هارونُ من قبلُ : يا قومِ. إنما فُتِنتم بهِ . وإنّ ربّكمُ الرحمنُ ، فاتِّبعوني ، وأطيعوا أمري
(90)
قـالوا : لن نبرحَ عليهِ عاكفينَ حتى يرجِعَ إلينا موسى ( 91)
قـال : يا هارونُ ، ما منعَكَ ، إذ رايتَهم ضلّوا (92) ألاّ تتبعَني ، أفعصيتَ أمري (93)
قـال : يا ابنَ أمَّ . لا تأخذْ بلحيتي ، ولا برأسي. إني خشيتُ أن تقولَ فرَقتَ بين بني إسرائيلَ ولم
تَرقُبْ قولي (94)
قـال : فما خَطْبُكَ ، يا سامِريُّ (95)
قـال : بصُرتُ بما لم يبصُروا بهِ . فقبضتُ قبضةً من أثرِ الرسولِ ، فنبذتُها ، وكذلك سوَلتْ لي
نفسي (96)
قـال : فاذهبْ . فإن لكَ في الحياةِ أن تقولَ : لا مِساسَ . وإن لك موعداً لن تُخلَفَهُ . وانظرْ إلــى
إلهِكَ الذي ظَلتَ عليهِ عاكفاً ، لَنُحَرِّقَنَّهُ ، ثم لننسِفَنَّهُ في اليمِّ نسفاً (97) إنما إلهكمُ اللهُ الذي لا إلهَ
إلا هو ، وسعَ كلَّ شيءٍ عِلماً ( 98)
: كذلك نقصُّ عليكَ من أنباءِ ما قد سبقَ ، وقد آتيناك َ من لدُنّا ذِكراً (99) من أعرضَ عنه ، فإنــه
يحملُ يومَ القيامةِ وِزراً (100) خالدينَ فيهِ ، وساءَ لهم يوم القيامةِ حِملاً (101) يومَ يُنفخُ فــي
الصورِ ، ونحشرُ المجرمين يومئذٍ زُرقاً (102) يتخافتونَ بينهم إن لبثتم إلا عشراً (103) نحنُ أعلمُ
بما يقولون ، إذ يقولُ أمثلُهم طريقةً : إن لبثتم إلا يوماً (104)
ويسألونكَ عن الجبالِ ، فقلْ : ينسِفُها ربي نسفاً (105) فيذرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا ترى فيهــا
عِوَجاً ولا أمْتاً (107) يومئذٍ يتِّبعون الداعيَ ، لاعِوَجَ له ، وخشعتِ الأصواتُ للرحمنِ ، فلا تسمعُ إلا
همساً (108) يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعةُ إلا من أذِنَ له الرحمنُ ، ورضيَ لهُ قولاً (109) يعلمُ ما بيــن
أيديهم ، وما خلفهم ، ولا يُحيطون َ بهِ عِلماً (110) وعَنَتِ الوجوهُ للحيِ القيومِ ، وقد خابَ من حمـلَ
ظُلماً ( 111) ومنْ يعملْ من الصالحاتِ ، وهو مؤمنٌ ، فلا يَخافُ ظُلماً ولا هَضماً (112)
وكذلكَ أنزلناهُ قرآناً عربياً ، وصرَّفنا فيهِ من الوعيدِ ، لعلهم يتّقون ، أو يُحدِثُ لهم ذِكــراً (113)
فتعالى اللهُ الملكُ الحقُّ ، ولا تَعجَلْ بِالقرانِ من قبلِ أن يُقضى إليكَ وحيُهُ . وقلْ: ربِّ زدني علمــاً
(114)
ولقد عهِدنا إلى آدمَ من قبلُُ ، فنسيَ ، ولم نجدْ لهُ عزماً (115) وإذ قلنا للملائكةِ : اسجدوا لِآدمَ
فسجدوا إلا إبليسَ أبى (116) فقلنا : يا آدمُ ،إن هذا عدوٌّ لكَ ولِزوجِكَ ، فلا يُخرجَنَّكما من الجنةِ
فتَشقى (117) إنّ لكَ ألاّ تَجوعَ فيها ولا تَعرى (118) وأنكَ لا تظمأُ فيها ولا تَضحى (119)
فوسوسَ لهُ الشيطانُ ، قالَ : يا آدمُ ، هل أَدلُّكَ على شجرةِ الخُلدِ ومُلكٍ لا يَبلى ( 120)
( فأكلا منها ، فبدتْ لهما سؤاتُهما ، وطَفِقا يَخصِفانِ عليهما من ورقِ الجنةِ ، وعصى آدمُ ربَّــهُ
ُ فغوى (121) ثم اجتباه ربُّهُ فتابَ عليهِ وهدى (122))
قـال : اهبِطا منها جميعاً ، بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ ، فإمّا يأتينَّكم مني هدى ، فمنِ اتَّبعَ هُدايَ ، فــلا يَضِـلُّ
ولا يشقى(123) ومن أعرضَ عن ذِكري فإنّ له معيشةً ضَنكاً ، ونحشُرُهُ يومَ القيامةِ أعمى (124)
قـال :ربِّ لِمَ حشرتَني أعمى وقد كنتُ بصيراً (145)
قـال : كذلكَ أتتْكَ آياتُنا ، فنسيتَها ، وكذلكَ اليومَ تُنسى (126)
: كذلكَ نَجزي منْ أَسرفَ ، ولم يؤمنْ بِآياتِ ربِّهِ ، ولَعذابُ الآخرةِ أشدُّ وأبقى (127)
أفلم يَهدِ لهم كم أهلكنا قبلَهم من القرونِ ، يَمشون في مساكِنِهم . إنّ في ذلكَ لآياتٍ لأُولي النُّهى(128)
ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربِّكَ ، لكانَ لِزاماً ، وأَجَلٌ مُسمّى (129)
فاصبِرْ على ما يقولونَ ، وسبِّحْ بحمدِ ربِّكَ قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبِها ، ومن آناء الليلِ فسبِّحْ ،
وأطرافَ النَّهارِ لعلَّكَ ترضى ( 130) ولا تَمُدنَّ عينيكَ إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرةَ الحيـاةِ
الدنيا لِنَفتِنَهم فيه . ورِزقُ ربِّكَ خيرٌ وأبقى ( 131) وأَمُرْ أهلَكَ بالصلاةِ ، واصطبِرْ عليها . لا نسألُكَ
رِزقاً . نحنُ نرزُقُكَ . والعاقبةُ للتقوى (132)
وقـالوا: لولا يَأتينا بآية من ربِّهِ
: أفلم تأتِهم بيّنةُ ما في الصُحُفِ الأولى (133)
ولو أنّا أهلكناهم بعذابٍ من قبلِهِ ،
لقـالوا : ربّنا ، لولا أرسلتَ إلينا رسولاً ، فنتَّبِعَ آياتِكَ من قبلِ أن نذِلَّ ونَخزى(134)
قـلْ : كلٌّ مُتَربِّصٌ ، فتربَّصوا ، فستعلمونً من أصحابُ الصِراطِ السويِّ ومنِ اهتدى (135)
** ** ** **

كان الحوار في سورة ( الكهف) وافرًا ، لأنها تتضمن أربع قصص في آن واحد ،أما سورة(طه) التي لا تتضمن إلا قصتين اثنتين ، فتكاد تكون كلها حوارية ، وما تخللها من آيات إخبارية ، لا تعدو(14) أربع عشرة آية – أربع منها أبعاض آية – تقوم بدور المكمل المساعد للحوار أيضاً . والسبب الفني البلاغي أن خط السورة الأول هو خطاب من الله تعالى لنبيه محمد عليه السلام من أولها إلى آخرها ، ولأن الخط الثاني فيها مكمل للأول بمثابة البرهان أو المثل .
وهنا نحتاج إلى التفريق بين مستويين من الخطاب ، الأول هو ما خوطب به الرسول محمد مباشرة ، مقترناً غالباً بضمير الكاف إشارة للمخاطب ( عليكَ – أتاك ) ، وهو ما شغل ربع السورة تقريباً أي (33) ثلاثاً وثلاثين آية ، والمستوى الثاني : ما خوطب به النبي بشكل غير مباشر ، أي بشكل قصصي ، ويشغل بقية الآيات ( 102) اثنتين ومئة آية ، والتفاوت في المساحة له أهميته ومدلوله أيضاً .
وفي الخط الثاني ( القصصي) سوف نصادف ألواناً وأنواعاً من الخطاب أو الحوار : مثل خطاب الله تعالى لموسى ، لموسى وهارون ، لبني إسرائيل ، لآدم ، للملائكة ، وللعصاة من البشر، وحوارات موسى مع ربه ومع فرعون ومع السحرة ومع بني إسرائيل والسامري .
خطاب الله لنبيه محمد :
نعني به هنا (المستوى الأول ) أي ما افتتحت وختمت به السورة ، وما ورد تعليقاً بين قصتي موسى وآدم عليهم السلام . وعلى الرغم من أنه الخط الأول للسورة ، المتضمن غرضها الرئيس ، فإنه لم يشغل أكثر من ثلث المساحة من المجموع الكلي لآيات السورة ، مما يعكس أيضاً أهمية الخط الثاني (القصص) في بنية السورة ، وفي التأثير على المتلقي .
وسمة أخرى في هذا الخطاب أنه خطاب من طرف واحد هو الله عزّ وجل ، ولا جواب عليه من النبي محمد نسمعه – كما سوف نرى في حوار موسى وربه - إلا ما نتوقعه من الرضى والتسليم في نفس النبي محمد ، بل الاطمئنان العميق .
وجزء آخر من هذا الخطاب مقصود به العصاة المعاندون لمحمد ، وفيه التهديد والوعيد بعد المحاججة والتقريع ، ولا جواب مفصلاً منهم ً إلا ما نتوقعه من أثر الوعيد في نفوسهم (قلْ : كلٌّ مُتربِّصٌ ، فتربصوا ، فستعلمون من أصحابُ الصِراطِ السويِّ ومن ِاهتدى) (طه:135) ، وهكذا يكون الصمت في الجواب ، تعبيراً بليغاً ، صمت النبي إجلالاً وهيبة لله تعالى ، وقلة كلام المشركين انقطاعاً وخوفاً وانتظاراً للعقوبة المخوفة الرهيبة . والكلام الذي ذكره القرآن ً لهم متفرق : فالأول : ( وقالوا : لولا يأتينا بِآية من ربِّهِ ) لا حظ الظل في كلمة (ربِّه) ، ولم يقولوا ( ربنا ) أو ( الرب) عامة حتى لا يعترفوا بربوبية لله عز وجل ، سفهاً وقلةَ أدب . فكان الجواب الحاسم بالإيجاز وبقوة البرهان ( أو لم تأتهم بيِّنةُ ما في الصحفِ الأولى )، والثاني – وهو افتراضي – (ولو أنّا أهلكناهم بعذابٍ من قبلِهِ لقالوا : لولا أرسلتَ لنا رسولاَ فنتّبع آياتِكَ من قبلِ أن نذِلَّ ونخزى ) وفي هذين القولين ما فيهما من المعاندة والاحتيال والتذاكي الوقح ، وهي سمات المعاندين في الحياة الدنيا في كل عصر , والثالث والرابع من كلامهم هوفي الدار الآخرة ، وفيهما منتهى الضعف والحيرة (يتخافتون بينهم : إن لبثتم إلا عشراً ....إذ يقول أمثلُهم طريقةً إن لبثتم إلا يوماً ) أو الخزي والخسران( قال: ربِّ لِمَ حشرتَني أعمى وقد كنتُ بصيراً ) ، فكان الجواب أيضًا حازما وقوياً لا مردّ له ( كذلك أتتك آياتُنا فنسيتَها ، وكذلك اليومَ تُنسى )
فالنبي محمد في أيام الدعوة الأولى بحاجة إلى التثبيت من الله تعالى في مواجهة المكذبين والعقبات ، كما هو في حاجة إلى التلقين للحجج والبراهين ، بالإضافة إلى المزيد من تزكية النفس بالطاعة والعبادة تمهيداً لحمل الأمانة الثقيلة . ولهذا حفل الخطاب الموجه إليه بأفعال الأمر ( قلْ – لا تعجل – زدني - اصبرْ- سبِّح –لا تمدنَّ – أأمرْ – تربصوا ) ، وبقدر ما كان خطاب الله للمعاندين مشحوناً بالتهديد والوعيد لفظاً ومعنى في الدنيا والآخرة ، كان خطابه لنبيه الكريم أنيساً ودوداً ( ما أنزلنا عليكَ القرآنَ لتشقى ) ( وهل أتاكَ حديثُ موسى ) ، وما الانتقال إلى قص القصص للنبي إلا من باب المؤانسة والتثبيت أيضاً ، ومن باب التهديد للمعاندين والتبكيت .
خطاب الله لآدم وحواء :
هو أيضا خطاب من طرف واحد . يتكلم الله تعالى ويسمع آدم وحواء ، وينفذان ، إلا وسوسة الشيطان والتعرض للنسيان والأكل من الشجرة المحرمة ، الذي اقتضى الحرمان من نعيم الجنة ، والانتقال إلى شقاء الحياة الدنيا ، ومناصبة إبليس لهما ولذريتهما العداء ، ثم الجزاء على طبيعة العمل .
وهو خطاب فيه الرفق بآدم ( عهدنا لآدم فنسيَ)(ثم اجتباه ربُّهُ فتابَ عليهِ وهدى) والإنعام عليه بالجنة ( إنَ لك فيها ألآّ تجوعَ ولا تَعرى ، وأنك لا تَظمأُ فيها ولا تَضحى) ، والعدل المطلق في المعاملة ( فمن اتبعَ هُدايَ فلا يضلُّ ولا يشقى. ومن أعرض عن ذِكري فإن لهُ معيشة ضنكاً ) ، وفيه إتاحة الوقت والمجال للمراجعة من باب الرحمة (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماُ ، وأجل مسمَى ) ، وفيه الحجج البالغة الدامغة ( أفلم تأتهم بيِّنةُ ما في الصُحُف الأولى ) من جهة ، وإرسال الرسل من جهة ثانية ( ولو أنّا أهلكناهم بعذابٍ من قبلِهِ لقالوا : لولا أرسلتَ إلينا رسولاً ) .
هذا في المستوى الأول من الخطاب ، أما في المستوى الثاني فإنه ينعكس على النبي محمد وعلى قومه الذين يناصبونه العداء عداء إبليس لآدم وحواء . والمعركة واحدة بدايةً ونهايةً واتجاهاً .
خطاب إبليس لآدم :
( هل أدلُكَ على شجرة الخُلدِ ومُلكٍ لا يبلى ) هذا هو كل ما قاله إبليس لآدم ، وفيه على قلته ووجازته الترغيب بالخلود ، وهي نقطة الضعف في الإنسان ، وفيه ربط بجنس الممنوع ( الشجرة ) حتى يتم التوريط ، والعداوة تأخذ مداها . وآدم لم يجب بحرف واحد ، يسمع ويطيع عدوّه بكل رضى ، ومن باب أولى أن حواء عليها السلام لم نسمع لها كلاماً أيضاً .
خطاب الله للملائكة :
(وإذ قلنا للملائكة : اسجدوا ، فسجدوا ) لم يحتج الخطاب لأكثر من لفظ واحد(اسجدوا ) فاستجابوا وسجدوا ، ولم يفوهوا بحرف واحد ، إجلالاً وطاعة ، إلا ما نعلمه من شأنهم التسبيح بحمد ربهم دأباً .
حواريات موسى :
فيما مضى من حديث عن الحوار كان موقوفاً على الحوار القائم على خطاب من طرف واحد غالباً ، أما في بقية الحوار – وهو حوارات النبي موسى – فهو حوار بين طرفين في الغالب ، وهو أكثر من موضوع ومن موقف ، مثل : حواره مع ربه تعالى ، وحواره مع فرعون ، ثم مع السحرة ، ثم مع قومه ، ثم مع أخيه هارون ، وأخيراً مع السامريّ . والسؤال : لماذا كانت الحوارات وافرة مع موسى ؟ هل لطبيعة بني إسرائيل أهل الجدل ؟ أم لطبيعة موسى عليه السلام ؟ أم لطبيعة الموضوعات التي تناولها الحوار ؟ أم لمجموع ذلك كله ؟ ولماذا نسمع كلام الأطراف كلها بلا استثناء ؟ وإلى أي مدى يبلغ أثر هذه الحوارات في نفس النبي محمد الذي تروى له أولاً ؟
حوار المعركة الأولى :
تندرج حواريات النبي موسى ، على وفرتها ، ضمن معركتين : أولاهما معركته مع فرعون ، وهي أقرب للمعركة الخارجية ، أي ضد عدو خارجي ، ثانيتهما معركته مع السامري ، وهو من أتباعه ، وهي أقرب للمعركة الداخلية .
ولما كانت معركته مع فرعون هي أولى معارك الرسالة مع خصومها ، احتاج فيها موسى إلى مرحلة تحضيرية لخوضها ، أي مرحلة التكليف بالرسالة والتعرف على طبيعتها وأهدافها ومهماتها وتكاليفها استعداداً لخوضها ، ومن ثم كان خوض المعركة حجاجياً بالكلام أولاً ، ثم ميدانياً بمواجهة سحر الساحرين ثانياً . وسوف نسمع حواراً متبادلاً يطول في مرحلة التحضير والمواجهة الحجاجية ، ويقل في ميدان مواجهة السحرة حيث يجدي الفعل أكثر من الكلام ، أو بعد أن استنفد الكلام أغراضه .
في الحوار على جبل الطور تم تعريف موسى على أركان الرسالة الربانية :
- وجود الله تعالى : (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طُوى )
- تكليف موسى بالرسالة : ( وأنا اخترتُك ، فاستمع لما يُوحى )
- وحدانية الله ووجوب عبادته وطاعته : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري )
- الإيمان بالساعة والقيامة والحساب على العمل : ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كلُّ نفسٍ بما تسعى )
- التحذير من الكافر المعادي بسبب اتباعه هواه لا شرع الله ، وعقوبة اتباع الهوى : ( فلا يصدنّك عنها من لا يؤمنُ بها واتَّبع هواه فتردى)
- تحديد الهدف :( اذهب إلى فرعون إنه طغى )
ولما كان من المتوقع أن يحتاج النبي إلى براهين حسية ( معجزات) لمصارعة العناد ، واستشعار الاستعلاء الحقيقي على الخصم ، وهبه الله معجزتين منذ هذا اللقاء ، وهما تحويل العصا إلى ( حية ) ثم ردها إلى طبيعتها الأولى ، والثانية (النور) في يده الشريفة ( واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوءٍ آية أخرى ) ، وهي مقدمات لآيات أخرى يأتي ذكرها في سور أخرى مثل إرسال الدم والجراد والقمل بلاء لقوم فرعون .
كان جواب موسى بالسمع والطاعة ، مع بضعة طلبات رفعها إلى الله تعالى بأدب :
- (ربّ اشرح لي صدري )
- (ويسرْ لي أمري )
- (واحللْ عقدة من لساني يفقهوا قولي )
- ( واجعل لي وزيراً من أهلي )
- ( هارون أخي )
- ( اشدُدْ به أزري ، وأَشرِكهُ في أمري )
- ( كي نُسَبِّحَكَ كثيراً )
- ( ونذكرك كثيراً )
- ( إنك كنتَ بنا بصيراً )
أما جواب الله تعالى على حزمة الطلبات هذه ، فكان واحداً موجزاً راضياَ مرضياً : (قد أوتيت سؤلَكَ يا موسى ) ، وهو قول يذكرنا بمشيئته تعالى ( إنما أمرُهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ له كن فيكون ) (يس:82) ، والتذكير هنا ليس لنا وحدنا بل للنبي موسى أولاً وللنبي محمد ثانياً ، ولكل الناس ثالثا وفي كل زمان ..وليس خافياً التعبير بالفعل الماضي عن الاستجابة ، زيادة في البلاغة والتوكيد في الاستجابة والتنفيذ ، أي لم يقل ( سوف تؤتى سؤلك بالمستقبل يا موسى ) بل ( أوتيتَ سؤلك) بمعنى ( صدر القرار وتم التنفيذ بسرعة فائقة ) .
وزيادة في المن على النبي موسى والإيناس له أولاً و للنبي محمد ثانياً ..أخذ القرآن بتعداد النعم التي أنعم الله بها على موسى قبل الرسالة منذ ولادته إلى ذلك اليوم على جبل الطور .. وهي كلها آيات معجزات ، لا تقل أهمية عن إحياء العصا ، أو ظهور النور في يد موسى ، مثل إنقاذ موسى الطفل من الذبح أولاً ، ومن الغرق في نهر النيل ثانياً ، وعيشه السليم الرغيد في كنف عدوه فرعون ثالثًا ، وقتله نفساً ونجاته من العقوبة رابعاً ، وقضائه سنين في أهل مدين قبل لقائه ربه في موعد محدد مقدر في الغيب خامساً ، مما يزيد في إحساس النبي بقوة الله إلى جواره ومعه دائماً وأبداً ، كما قيل للنبي محمد ( إن تجهر بالقول ، فإنه يعلم السر وأخفى) .
على الرغم من كل هذا التحضير مازال موسى وأخوه هارون يستشعران الخوف في مواجهة فرعون ،مع العلم أن الله تعالى أوصاهما بالترفق في دعوته ، تسهيلاً لاستجابته ، أو قطعاً لاحتجاجه بالتطاول عليه ( فقولا له قولاً ليناً ، لعله يتذكّر أو يخشى ) ، فما كانا إلا أن قالا بصراحة : ( إننا نخافُ أن يَفرُطَ علينا أو أن يطغى) ، فاحتاج الأمر تذكيرهما بحضور الله تعالى معهما ( قال : لا تخافا إنني معكما ، أسمع وأرى ) وليس بعد معية الله من معية ، وهما يحملان طلباً صريحاً ( فأتياهُ فقولا: إناّ رسولا ربك ، فأرسل معنا بني إسرائيل ، ولا تعذبهم ، قد جئناكَ بآيةٍ . والسلامُ على من اتَّبَعَ الهدى ) ومع الإشارة إلى معاقبة المكذب العاصي ( إنّا قد أوحيَ إلينا أنَ العذاب على من كذّب وتولى ) من باب الإعذار والبيان .
هنا تبدأ المعركة من نقطة الصفر (قال فمن ربكما) لأن المعتاد أن فرعون هو الذي فرض نفسه رباً ، وظنه أنه يحرجهما بهذا السؤال . ( قال : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ، ثم هدى ) أي ليس أنت يا فرعون ، بل هو إله قادر هاد لمخلوقاته ( من حجر وشجر وحيوان وبشر وكائنات...) ، أي وضع لمخلوقاته السنن والقوانين السوية المنتظمة التي تسير على هديها .
ينتقل فرعون درجة أخرى في الامتحان ( قال: فما بال القرون الأولى ) أي إذا كنت رسولاً إلي وإلى أهل هذا الزمان ، فما حساب الأقوام في الأزمان السابقة ، وهي أمم كثيرة ، لا تعد ولا تُحصى ( قال: علمها عند ربي في كتاب ، لا يضل ربي ولا ينسى ) إذاً كل شيء في علم الله مذخور محفوظ ، لا يضيع منه شيء ، ولا حجة لك في ذلك ، والدليل على قدرته تعالى وحكمته ( الذي جعل لكم الأرض مهداً ، وسَلَكَ لكم فيها سُبُلاً ، وأنزل من السماء ماءً ...)ثلاث آيات ، كل واحدة منها معجزة بذاتها لمن تفكر ( تمهيد الأرض كي تصلح للعيش أو السير ) ( شق الطرق في الأرض للانتقال من مكان إلى مكان ، أو للخلاص من الصحراء أو الجبال وعمارة الأرض ) ( وإنزال المطر من السماء للشرب والرعي والزراعة ) .
من غير انتقال إلى آية أخرى يلتفت السياق من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ( فأخرجنا بِه أزواجاً من نباتٍ شتى ) ، ويستمر في الخطاب المباشر ( كلوا وارعوا أنعامكم . إن في ذلك لآياتٍ لأُولي النُّهى . منها خلقناكم ، وفيها نُعيدكم ، ومنها نُخرجكم تارةً أخرى ) .
الالتفات في الخطاب هنا مقصود لتوظيف استعداد النفس الإنسانية بعد تعداد الآيات لتقبل الوعظ ، ولا سيما نعم الأرض والطرق والماء ، فيخاطبها الله تعالى مباشرة . وهذا الانتقال المفاجيء في الخطاب ، له صور أخرى في هذه السورة ، ويؤدي الغرض نفسه في التأثير على المتلقي ، ألا وهو حذف أفعال القول في بعض المواضع التالية :
( يا بني إسرائيل ، قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ...) ( طه:80)
( وما أعجلكَ عن قومكَ يا موسى ) ( 83)
(أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولاً ، ولا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً ) (طه : 89) التفات آخر .
(إنما إلهكم اللهُ الذي لا إله إلا هو ، وسعَ كلَّ شيءٍ عِلماً ) (طه :098)
( كذلك نقص عليك من أنباءِ ما قد سبق ، وقد آتيناك من لدنّا ذِكراً )(طه :99)
( وكذلك نجزي من أسرف ، ولم يؤمن ْ بآيات ربه ، ولعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى ) (طه: 127) التفات .
(أو لم تأتِهم بيِّنةُ ما في الصُحُفِ الأولى ( (طه : 133)
ولدى مراجعة هذه الآيات في مواضعها ، ندرك مدى تأثيرها النفسي على المتلقي ، فمثلاً بعد ما كان السياق يتحدث بضمير الغائب عن قصة إغراق الله تعالى لفرعون وقومه ، وإنجاء بني إسرائيل من جنوده يبدأ السياق بمخاطبة بني إسرائيل ( يا بني إسرائيل قد أنجيناكم ...) . وبعد تعداد هذه المنن ومخاطبة بني إسرائيل يلتفت السياق إلى مخاطبة موسى وحده : ( وإني لغفار لمن تابَ وأمنَ وعملَ صالحاً ، ثم أهتدى . وما أعجلك عن قومكَ ، يا موسى ) ( 82و83) .
بعد الحوار وطلب البراهين والآيات يستمر فرعون بعناده ( ولقد أريناه آياِِتنا كلها، فكذب ، وأبى) (ط:56 ) ، وهذه الآية الموجزة تنطوي على عدد من الدلالات ، فهي أولاً تختم سلسلة المطالب التعسفية الفرعونية استنفاداً لاستحقاقه العقاب ، وثانياً في لفظ (أبى) صلة قربى وشيجة مع لفظ ( أبى ) الذي سوف يرد أو قد ورد على لسان إبليس من قبل ، لما طلب منه ربه السجود لآدم : ( وإذ قلنا اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس أبى ) (116) ، ومثل ذلك في القرابة لفظ السجود الذي ورد في هذه الآية (لآدم) وفي إيمان السحرة بعد رؤية معجزة موسى في العصا ( فألقيَ السحرةُ سجداً ، قالوا : آمنا برب هارون وموسى )( 70)
وهذه التقابلات اللفظية إحكام وانسجام للتقابل في الموقف والمعركة الواحدة بين الحق والباطل منذ الأزل . وهو سبب من أسباب إيراد قصتي موسى وآدم أيضاً في هذه السورة معاً .
ولما خسر فرعون معركة الحجاج الكلامي أو العقلي انتقل إلى تصعيد آخر ، بزعم أن المعركة على السحر وليس الأيمان والكفر ، فطلب مبارزة موسى ( فلنأتينك بسحر مثله ، فاجعل بيننا وبينك موعداً ) ، فرد عيه موسى بِتحدِّ مختاراً يوم الزينة ، أي يوم يحتشد فيه الناس أكبر حشد (قال : موعدكم يوم الزينة ، وأن يحشر الناس ضحى ) . ومع ذلك يحاول موسى تحريك ضمير السحرة بتخويفهم من مصير الدعاوى الكاذبة ، أي السحر لصالح فرعون ، ومعاندة رسول الله: (ويلكم لا تفتروا على الله كذباً ، فيسحتكم بعذاب ، وقد خاب من افترى ) ، ولا نسمع جواب السحرة لموسى بل كلامهم فيما بينهم أولاً ، ثم إعادتهم اللفظية لدعاوى فرعون ضد موسى ، واستمساكهم بمصالحهم الشخصية المهددة ، وتوحيد صفهم ، وكل ما لديهم من مكر وقوة . ولما خيروا موسى بالبداية تعالياً ردّ أيضاً بتحدّ : ( قال : بل ألقوا )
برغم كل التحضيرات لهذه المواجهة يخاف موسى (فإذا حبالهم وعصيهم ، يُخيل إليه من سحرهم أنها تسعى , فأوجسَ في نفسه خيفة موسى ) لكن الله تعالى معه ( قلنا : لا تخف . إنك أنت الأعلى . وألقِ ما في يمينك تلقف ما صنعوا ) لأن ما صنعوه خداعه سحري يبطله الله ، ولا يجدي صاحبه شيئاً ( ولا يفلح الساحر حيث أتى ) .
ماذا دار في نفوس السحرة من صراع نفسي لا نعلمه حين التقفت عصا موسى كل ما صنعته حبالهم وعصيهم الأفعوانية ، بل نفاجأ بالنتيجة الباهرة على محياهم : ( فأُلقي السحرة سجداً . قالوا آمنا بربِّ هارون وموسى ) .
سُقِطَ بيد فرعون ( قال : آمنتم له ٌقبل أن آذن لكم ) تعبير متجبر يستغرب أن يكون للبشر الآخرين دونه رأي خاص أو قناعة خاصة ، فيتصرف بلا إذن مثل الإيمان بالله تعالى الذي هو أخص خصائص المخلوق الإنساني . وهو تعبير يحمل سخرية رفيعة في دلالتها البعيدة . من مثل القول : ( لماذا احتكمت إليهم إن كانوا بلا رأي يعتدّ به ؟)
على الرغم من الهزيمة التي لحقت بفرعون لم يعترف ، بل عمد إلى اتهام أعوانه السحرة المنقلبين عليه بالتآمر خفية مع موسى لتضليل الناس ، فيستمر في محاولة استجرارهم ضد الدعوة الجديدة ، ويلجأ إلى تهديدهم بتقطيع أعضائهم وصلبهم ، فلا يتزحزحون ( قالوا : فاقض ما أنت قاض .إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) ، وفوق ذلك يبشرون بالدعوة الجديدة ( إنه من يأتِ ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا . ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات . فأولئك لهم الدرجات العلى) .
حوار المعركة الثانية :
في قمة انتصار موسى على فرعون يفاجأ النبي موسى بمعركة جديدة من نوع جديد ومكان آخر : ( وما أعجلك عن قومك يا موسى . قال: هم أولاء على أثري ، وعجلت إليك ، ربي ، لترضى ، قال : فإَنّا قد فتنا قومك وأضلهم السامري , فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ، فقالوا : هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) معركة يقودها أحد أتباعه ( السامري ) للشرك بالله ، عبادة العجل الذهبي المستخلص مما قذفوه من ودائع الذهب عند بني إسرائيل ، ليتخلصوا منها بعد خروجهم من مصر .
حيلة ماكرة تزين الباطل ببريق الذهب ، كما زين إبليس لآدم وحواء الأكل من الشجرة بالخلد والملك الذي لا يبلى . ومثلهما في المكر والاحتيال تهرب بني إسرائيل من براهين هارون لما نهاهم عن هذا الشرك ( قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ) .
وهكذا بدأ النبي موسى من جديد يفك المشكلة بدءاً بقومه : ( قال : يا قوم . ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً . أفطال عليكم العهد ، أم أردتم أن يحلّ عليكم غضبٌ من ربِّكم ، فأخلفتم موعدي) (طه :86)
يبدو أن الأمر استفحل لدرجة لم يسيطر عليها هارون ، فاتهمه أخوه بالعصيان والمخالفة : ( يا هارون ، ما منعك ،إذ رأيتهم ضلُّوا ، ألاَ تتبعني ، أفعصيتَ أمري ) فشاجره ، (قال: يا ابنَ أمَّ . لا تأخذْ بلحيتي ، ولا برأسي ) .مرة أخرى زُيِّن لهم ذلك تحت شعار وحدة الصف ( إني خشيت أن تقول : فرقت بين بني إسرائيل ، ولم ترقب قولي ) ، وهي حجة ذرائعية ، تذكرنا بحجة فرعون : ( أجئتنا لتخرجنا من أرضنا ) (إنْ هذان لساحران يريدان أن يُخرجاكم من أرضكم بسحرِهما ، ويذهبا بطريقتكم المثلى ) .
لم يبقَ أمام موسى إلا السامريّ < رأس الفتنة > ):قال : فما خطبك، يا سامريّ ُ) (طه :95)
السامري ، وقد أُحيط به ، بمجيء موسى ، ومعرفته حقيقة جريمته ، اعترف بما فعل معتذراً بذريعة <النفس المسوّلة > ، وهي ذريعة أو صنيعة الشيطان عادةً : ( قال: بصرت بما لم يبصروا به ، فقبضت قبضة من أثر الرسول ، فنبذتها ، وكذلك سوّلتْ لي نفسي ) ( طه : 96) .
بعد أن يقضي موسى بحق السامري ما يقضي ( تقول في الحياة : لا مساس )(إن لك موعداً لن تُخلفَهُ) ، وبعد أن يحطم العجل الذهبي بالحرق والإغراق بالماء أمام أعين قومه والسامري بالذات ..يعيد تقرير الحقيقة الإيمانية : ( إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ، وسعَ كلَّ شيءٍ عِلماً ) ( 98) ، وهي الحقيقة نفسها التي كلّف النبي محمد بتقريرها أيضاً .
وفي تحطيم العجل الذهبي بالحرق انسجام مع الطريقة التي تمَّ صنعه بها ، ثم نسفه بالماء أيضاً تذكير آخر بعقوبة فرعون والمعركة معه في البحر .
مقارنة بين حوار المعركتين :
إن مضمون الحوار في المعركتين واحد ، يدور حول الإيمان بالله تعالى وتوحيده وتنزيهه عن الشرك من جهة ، وعن الجزاء على العمل جزاءً عادلاً من جهة ثانية ، وعن انتصار الحق وهزيمة الباطل من جهة ثالثة ، وهو المضمون نفسه الذي نُدب له النبي محمد وكلّف به .
أما العناية الربانية بموسى ، والإنعام عليه طفلاً وفتى وشاباً ونبياً ، ومنحه المعجزات ، ونصره المبين على الخصوم ، فكلها تنعكس رضى واطمئناناً على النبي محمد ، والصحب الكرام معه ، في مواجهة مشركي مكة أو الشيطان أو الضعف البشري .
أما مشاعر موسى في المعركة الأولى فكانت الحب والأنس بالله تعالى ، والتوجه إليه بالأدعية الرقيقة التي يغار من جمالها الشعر ، صوراً محلقة، وألفاظاً معبرة ، وفاصلة أو تقفية رخية طرية ، ووزن (فعلن ) يغلب عليها : (رب اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ....إنك كنت بنا بصيراً ) ، وكانت مشاعره في مواجهة فرعون التلطف في البداية ، والصبر على مقارعة الحجج العقلية فيما بعد ، ثم اللجوء إلى التحدي السافر بعد استنفاد الوسائل الأخرى .
لكن مشاعر موسى في فتنة السامري غلب عليها اللوم والتقريع والعتاب لقومه ، ذلك العتاب الذي بلغ حد الغضب والأسف والتشاجر مع أخيه هارون ، وشده من رأسه ولحيته .
أما مشاعر هارون فقد وصلت إلينا بتعبير موجز متألق : ( يا ابنً أمَّ. لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي . إني خشيت أن تقول : فرقت َ بين بني إسرائيل ، ولم ترقب قولي )( طه: 94) ، ففي هذه الكلمات القليلة التي قالها هارون فهمنا أنه :
- يستصرخ فيه صلة الرحم ( يا ابن أمّ َ) تودداً ، وبرهنةً على استمرار الوفاء .
- يتألم من جرجرة موسى له ( لا تأخذ بلحيتي ، ولا برأسي) فضلاً عن شماتة الخصوم .
- يحرص على وحدة بني إسرائيل ( إني خشيت أن تقول : فرقت بين بني إسرائيل )
- يعلق البت بالموقف نهائياً حتى مجيء موسى تقديراً له ( ولم ترقب قولي ) (94) .
أما مشاعر بني إسرائيل ، فلم يظهر منها صوت في المعركة الأولى ، لأن النبي موسى وهارون كانا على رأس المواجهة الكلامية والميدانية ، ولأنهم مقموعون مكبوتون في حكم فرعون ، لكن لما عبروا البحر ناجين ، بدأ لسانهم يطول ، وانحرافهم وعنادهم يظهران ، فأغضبوا الله تعالى وأغضبوا موسى وفرقوا الكلمة ، وساروا في فتنة السامري ، لدرجة السخرية من نبيهم ، واتهامه بنسيان ربه الذي عبدوه على شكل عجل ذهبي ، لا يردُّ لهم قولاًُ ، ولا يملك لهم ضرَّاً ولا نفعاً ، متذرعين بحجج واهية مخاتلة .
أما مشاعر السحرة فبقعة مضيئة مشرقة بذاتها وبطرق التعبير عنها .
أولاً : حجم المفارقة بالتحول من الكفر إلى الإيمان ( قالوا :آمنَّا برب هارون وموسى )
ثانياً : تصوير نجاواهم ( فتنازعوا أمرهم بينهم ، وأسروا النجوى . قالوا : إن هذان لساحران ..) .
ثالثاً : تحريض بعضهم بعضاً بالحرص على المصالح الشخصية ، أو إنفاذ مشيئة فرعون ( ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ، ويذهبا بِطريقتِكم المُثلى ) .
رابعاً : استنفاد الجهد والطاقة في الجمع والكيد والمكر والسحر ( فأجمِعوا كيدكم ثم أئتوا صفَّاً ، وقد أفلح اليوم من استعلى ) .
خامساً : تخيير موسى في بداية المنازلة ( يا موسى . إما أن تلقي وإمَّا أن نكون أول من ألقى ) ، وهو كلام ملتبس في التعبير عن المشاعر ، فقد يقوم على التعالي وعدم المبالاة بمن يبدأ ثقةً بالنفس ، ولعلها مشاعر بعضهم ، أو تلطفاً مع موسى الذي يعلمون كذبهم وصدقه ، ولعلها أيضاً كانت مشاعر فريق منهم كذلك .
سادساً : التسليم بالمعجزة والاعتراف بالحق صراحة ( فألقي السحرة سجداً )
سابعاً : تعرضهم للاضطهاد( لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمنَّ أيُّنا أشدّ عذاباً وأبقى ) .
ثامناً : التخلي عن فرعون وحظوته ، ووعوده بالمكافأة ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، والذي فطرنا ) .
تاسعاً : تحدي فرعون ( فاقض ما أنت قاضٍ )
عاشراً : عمق الإيمان الذي بلغوه : ( إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) .
حادي عشر : تحولهم إلى دعاة مع موسى بالدعوة الجديدة ( إنه من يأت ربه مجرماً ...)
والتفصيل في موقف السحرة يوظف في التأثير على المتلقين من مشركي مكة أو أهل الكتاب في بداية الدعوة الإسلامية ، سواء في كونها واقعة تاريخية مؤثرة ، أو نموذجاً إنسانياً إيمانيأً مشرقاً.
دور القصص والحوار :
وهكذا يتضح أن المساحة الممنوحة للقصص في هذه السورة ثلاثة الأرباع ذات أهمية للوفاء بالأغراض الدينية والفنية التي سرد من أجلها ، كما ندرك سبب اختيار الحوار سمة عامة في أسلوبها ومثل ذلك تكرار أفعال القول خمساً وخمسين مرة وحذفها مرات .
فمن الناحية النفسية انعكست العناية الربانية بالنبي موسى طفلاً وفتى وشاباً ونبيًّا على النبي محمد ، مثلما انعكست لمسات الأنس والدعم والنصرة .
ومن الناحية الدينية تضمن القصص الحجج والبراهين والمعجزات الدامغة ، كما تضمن الأساليب والإجراءات المطلوبة للمواجهة : من مخاطبة لينة في البداية ، إلى حجاج كلامي عقلي ، ثم التصعيد للمواجهة إن استنفدت الوسائل الأخرى أغراضها . والنبي محمد في أول عهده بالدعوة الإسلامية في مكة المكرمة أحوج ما يكون إلى مثل هذه الخبرات والدروس والتجارب .
أما قصة آدم فلون آخر من الخبرة مع الشيطان الذي احترف عداوة الإنسان بدءاً من عهد آدم ، وعداوته للأنبياء معروفة . ورسالة محمد تقتضيه فهم هذه العداوة وطبيعتها وطريقة التعامل معها أيضاً ، كالمعركة مع طواغيت البشر سواء بسواء أو أشد . وما فتنة السامري مع موسى ، وهي صلة الوصل بين قصة آدم وموسى فنياً ، إلا مثل صارخ على ذلك . فهي إذاً رصيد آخر من الخبرة للنبي محمد في معاركه ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)
أما اختيار الحوار أسلوباً وحيداً أو غالباً ، فظاهرة تلفت النظر ، وتستدعي التفسير ، ونقدر أن تعدد الشخصيات في القصص ، وتحول المواقف إلى مواجهة صراع كلامي عقلي ونفسي وسياسي واجتماعي من جهة ، وقدرة الحوار على رسم الشخصيات وتجسيد المواقف ، وتصوير أعماق النفوس والعقول من جهة ثانية ، والاقتراب من الواقع والبداهة البشرية لمزيد من الإقناع والتأثير من جهة ثالثة .. كل ذلك كان من أسباب اختيار هذا الأسلوب .
لكن الأهم في ذلك هو انطلاق السورة من بدايتها بحوار خطابي ( طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) ، واستمرار خطها الأول على ذلك ، وهو خطاب مباشر للنبي محمد من الله تعالى لمؤانسته وتثبيته وتلقينه ، استتبع فيما استتبع قص القصص عليه للأغراض نفسها ، فطبيعة الموضوع اقتضت هذا الشكل الفني .
المصدر: http://hasnawi.net/index.php?option=com_content&task=view&id=177&Itemid=33

الأكثر مشاركة في الفيس بوك