قواعد قرآنية لفهم الدعوة

قواعد قرآنية لفهم الدعوة

د. حمزة بن فايع الفتحي
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد...
فإن من رحمات الباري تعالى وبركاته على أهل الاسلام أن أسبغ عليهم نعمة القرآن، الذي جعله مصدر حياتهم ومنبع سعادتهم ، وسبيلاً إلى علوهم ومجدهم.
قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ). (اشورى : 52)
وكان هذا القرآن هو مداد الشرف، وتاج المجد المرتقب لهذه الأمة (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ). ( الأنبياء : 10)
فمتى يعقل المسلمون أن هذا الكتاب كنز عظيم، ومنهاج كريم، فيه كل أسباب قوتهم ونهوضهم، ومنهل عومهم ومعارفهم؟!
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف :44)
مستودع الفضائل، ومنبع الحكم، وتاج النبلاء، ومكنون المفاخر والنفائس.
قراءته سعادة، وحمله عز، وفقهه رفعة، والاستعصام به منجاة، وفي كل حرف من حروفه مفاتيح النصر والعزة والتمكين. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)" (يونس :57-58)
فيالله، كم حوى من أعاجيب، وكم قص من عبر، وكم روى من تعاليم؟! لا تنقضي حكمه، ولا تتناهى أسراره ولا تفنى عظاته وبيناته. (قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (الزمر:18).
تقرأه النفوس فتمتلئ به حكمة وإيماناً، وتستنير به الأذهان، فتعلو فقهاً ومكانة، وتطالعه القلوب فتحيا يقظةً وسلاماً.
"وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً" (الاسراء : 82).
ينزل على القلوب فيحت أسقامها ويغسل الصدور، فيزيل أدرانها ويلاصق الجلود، فتخشع من أمر ربها.
" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" (الزمر : 23).
هذا الكتاب أعظم موعظة، وأزكى نصيحة في هذا الوجود، فأين من يتطلبه، وأين من يلجأ إليه ويعتصم به (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران :101).
هو حبل الله المتين، وصرطه المستقيم، وتبيانه الحكيم، كنز الأسرار، وياقوت الأخبار والآثار (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود : 49).
ولا يزال العبد المسلم يزداد بتلاوته وتدبره علماً ونوراً وزكاوة، ويحصِّل فقهاً وحكمة وحلاوة، تجعله في غنى عن الناس، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم:
(من لم يتغن بالقرآن فليس منا).
وإننا مع الدعوة إلى تلاوته والترنم به، نشدد على أهمية تدبره وتأمله، والغوص في علومه وحكمه ومعارفه، واستخراج ما يفتح الله منه من عجائب وفوائد وفوائد.
وإنني لأدعو إلى (إحياء مدرسة التدبر القرآني) وتحويلها إلى معاهد وجامعات تفجر علوم هذا الكتاب، وتستنزح مزاهره، وخفاياه ليصبح هذا الكتاب حيا بين الناشئة والأجيال.
ولا يستشعرون صعوبته أو تعسر معانيه، فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
القرآن يسطع بين ظهرانينا، يستنهضنا لقراءته، وتدبره التدبر التام العميق !
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد :24).
فلنكسر تلك الأقفال المؤصدة، والحواجز المغلقة، لنسيح في تلك الروابي الزاهية، وتستنشق عبق الثمار اليانعة، والبساتين الغانية.
ومن خلال تأملي لهذا الكتاب، وعيشي في تدبره ومواعظه، بدا لي أنه جامعة علوم ومعارف، وفضاء واسع لروائع الحكم والفقه والبصائر، ولا نزال في حاجة ماسة لاستخراج علومه ومعادنه الثمينة، ومن ذلك قضايا الدعوة وأصولها، وآدابها التي ترسم الطريقة، وتحدد المنهج، وتكشف العوائق والمخاطر، وهو ضرب من الفقه الدعوي القرآني وتدبره، واستيعاب درسه وجرسه.
وقد يسر الله بفضله ومنته تتبع بعض القواعد القرآنية، التي تعين على فهم الدعوة، ووعي متطلباتها، وإدراك أسرارها وأبعادها، فجاءت ملتصقة بالقرآن الكريم وخيراً من كثير من التنظير والتحليل، الفاقد لوبيص النص، ولمعة البيان والخبر.
وتسطيرها هنا مفيد لجمهرة الدعاة بحيث ترسخ في الأذهان، وتكون حجة على الأجيال، تًلقى عليهم بلا تطويل ولا تمطيط، فتعيها النفوس بلا تكلف، لما وضعه الله من جلالة لهذا الكتاب وانسيابية وتأثير، يخترق القلوب، فيقع منها موقع الإذعان والقبول.
فإلى تلك القواعد القرآنية الدعوية، وشئ من التعليق اليسير عليها، زادنا الله وإياكم فقهاً في كتابه، وعلمنا من حكمه وعجائبه ما يثبت القلوب، ويوصل إلى جنات النعيم، إنه واسع الفضل والمن، ذو الجلال والاكرام، عليه توكلنا وإليه مآب.

والحمد لله أولاً وآخراً...
2/6/1431هـ
15/5/2010م

(1) أحسنهم أقوالاً :

قال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت :33)
هذا نص قرآني جليل، مكتظ بعيون الوضاءة، والشرافة الاجتماعية، فلا يوجد في الإسلام أحسن من الدعاة، قولاً وأروعهم كلمة، وأجملهم حديثاً وموعظة.
فليست الدعوة إلى الله مجرد تأثير مشكور، أو حصاد ثواب مدحوز، أوقلب مشفق مغمور ، كلا !
بل هي أحسن الأقوال على الإطلاق، وأجل الأعمال على الكمال، ووظيفة الرسل والأنبياء الأبطال، فمن يضاهي الدعاة وقد خصهم الله بهذا الشرف، وتلكم المكانة!! إن شأنهم لعظيم، وإن عملهم لمتين كبير،لله درهم من أناس انقطعوا لدين الله تبليغاً وتوجيهاً، وعزفوا عن أمورهم وأشغالهم حباً لما عند الله، واستشعاراً لأهمية النصح والتوجيه والبلاغ (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ) (الشورى :48) وقال صلى الله عليه وسلم: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله). (رواه مسلم)
وهذا هو أول أصل قرآني، نريد من الدعاة فقهه وتعلمه، وأن وظيفتهم خير الوظائف، وعملهم أشرف الأعمال، ومقامهم أجل المقامات، فلا أحسن منهم قولاً، ولا أرفع منهم منزلة إذا صدقوا وأخلصوا لله تعالى.
فإذا وعوا هذا المسألة، ورسخت في قلوبهم، هانت عندهم كل مشاغلهم ومشاكلهم، وباتوا أكثر تضحية ودأباً وصبراً في مشاريع الخير والعمل والتوجيه والإصلاح. لا يكلون ولا يملون، بل تخالطهم السعادة ويحتويهم السرور، ويفيئون إلى ظلال وارفة، وبساتين يانعة غناء. وهذا هو الشرح والسرور الحقيقي الذي يستطعمه بعض الدعاة قال تعالى : (فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) (الانعام:125) وقال عز وجل (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الانعام : 122).
ولذلك نؤكد هنا أن وعي هذه القاعدة القرآنية سيعني :
1- بذل المزيد من الجهد والتحرك، والسعي الدعوي والإصلاحي.
2- إيثار الدعوة على كثير من الملاذ والأشغال.
3- تقديسها واعتقاد شرافة عملها، وعدم الزج بها في مزالق سيئة.
4- مراجعة كل كلمة تقال ، أو لفظ سينشر، بحيث لا يلقى الكلام على عواهنه، بل يراجع، ويتأمل، ثم يوضع الموضع الأحسن، والمكان الأجل والأكرم.

(2) الحكمة الضافية :
قال تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل :125)
لا تصلح الدعوة ، ولا تستقيم بدون حكمة عملية واعية، يسبقها علم، ويؤسسها فقه رصين، يستل من الكتاب والسنة، وطرائق المصلحين، وتجارب المؤثرين المبدعين.
وهي الإصابة في القول والفهم، والتي تضع الأمور في مواضعها، وتنزل الأشياء منازلها اللائقة بها.
ويخطئ من يظن أن الحكمة تعني الليونة والهدوء وقول الجميل مطلقاً، كلا بل هي ضروب من الفقه المتنوع، حسب الحوادث والأحوال، فتارة لين وسماح، وتارة حزم وقوة، وتاره إعراض، وتارة مواجهة وإصرار، بحيث يلبس الداعية النصوح، لكل حالة لبوسها، بما يتناغم مع الوعي الشرعي المستقاد من بينات الوحيين، فحينئذ نصنع الداعية الحكيم، ونرتقى لفقه الدعوة المنشود.
فالحكمة معنى واسع في الشرع واللغة والدعوة، التي يؤسسها العلم الشرعي المتعمق، والبصيرة الواقعية، وحسن التوجيه والتحليل، ويحتاج المرء إلى فترة غير قليلة لحيازة مثل ذلك، إضافة إلى الممارسة الميدانية، والخبرة الواقعية والاطلاع على المستجدات، وحينما تُمارس الدعوة بحكمة راقية تكسوها الجمال وتنتقش عليها نسمات البهاء، وتصير محل تقدير الناظرين، وتعلّم المتوسمين.
وسيرته صلى الله عليه وسلم زاخرة بالحكمة الدعوية، والتماسه لأحسن المواقف تجاه الملمات والتحديات من نحو مكثه في مكه ثلاثة عشرة سنة لتاصيل قضايا التوحيد والعقيدة، ورفضه للمواجهة والقتال، ورده من أسلم ألا يجاهر بإسلامه كعمرو بن عبسة وأيي ذر، وأن يمكثا في ديارهما حتى يسمعا بظهور دينه، واختياره لدار الأرقم بن أبي الأرقم مقراً للدعوة السرية ، وبدئه بدعوة الأقربين، وحرصه على الأكابر وتركه للمسلمين في الحبشة إلى سنه 7هـ رغم ظهوره في المدينة كقاعدة احتياطية للدعوة الإسلامية وغيرها من النماذج الحكيمة الشريفة التي تدل على وعيه التام صلى الله عليه وسلم.
وإدراك أهمية هذه القاعدة في الدعوة سيورت مايلي:-
1- العناية بالعلم الشرعي.
2- خوض التجربة العملية، ومماحكمة الواقع.
3- الاطلاع على مستجدات الحياة، وتجارب السابقين.
4- تعظيم شأن الفقه الدعوي، وأنه حجر أساس في بنيان الدعوة الشامخ.

(3) الأسف النفسي العميق :
قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف:6).
البخع هنا : الموت غماً وحزناً كما أفاده الراغب الأصفهاني في المفردات وغيره ،وهو يكشف مدى ما كان يحمله النبي صلى الله عليه وسلم من إشفاق تام على المعرضين، ورغبة صادقة في هدايتهم، عُرفت من خلاَل عمل دؤوب، وسعي واضح، وتطلب لهم في مجالسهم ونواديهم، وإلحاح تجاوز حد الوصف.
وهذا الأسف علامة صدق الداعية وإخلاصه في نصحه، لأنه لن يكلف نفسه هذا الغم والتعب إلا هو مؤمن حق الإيمان بقضيته ويستشعر مسئوليته، ويبتغي رضى الله وثوابه.
وبمثل هذا الأسف الشديد تتضاعف الهمم، وتتذلل الصعاب، وتخُرق الحدود والمعوقات، ويُحدث الداعية إلى الله تقدمات هائلة، لأنه أعطى وأمضى لله، وآسى في سبيل دعوته، فلابد أن يثمر بعد توفيق الله وعنايته.
واستشعار أهمية تكوين هذا الأسف العميق تجاه المدعوين سيحقق الآتي :
أولاً: سيدفع إلى مزيد من العمل ومضاعفة الجهد، وعدم اليأس والإحباط.
ثانياً: ستكون الدعوة على رأس الاهتمامات الذاتية، وتحظى بتخطيط وإعداد بارزين.
ثالثاً: سيصعد من انتشار الخير، ويربي الناشئة على إكبار الدعوة، وجعلها في المقامات الأولية وليس المتأخرة.
رابعاً: الإشفاق على اتساع دائرة الضلالة والانحراف، مما يدفع بالعمل، ويورث الانكسار والتوبه لله تعالى، ومحاسبة النفس كثيراً كثيراً، والله المستعان.
خامساً: محاولة التثقيب بل البحث مباشرة عن أسباب التقصير والنفور، وأين مكمن الخلل كما يقال : هل هو في الأسلوب أم الخطاب أم ذات الداعية ؟!
لأن الله تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)(الشورى:30).

(4) اللبث الطويل :

قال تعالى:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً)(العنكبوت :14).
هذا أطول مقام ، وأضخم مدة مكثها نبي في قومه، مما حكاه القرآن الكريم.
نوح عليه السلام، أول رسول إلى أهل الأرض، من معالم دعوته أنه مكث ذلك المكث الطويل الذي لم يتلاءم مع الإنجاز المحقق (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)(هود:40).
لكن هذا المعلم يعلمنا قاعدة قرآنيه جليلة، وهي ضرورة اللبث الطويل مع المدعوين، وفي صناعة المشاريع وإحداث التغيير المطلوب.
ونستفيد هنا أن الدعوة إلى الله غير محدودة بزمن معين، بل يبلغ الإنسان ويدعو إلى أن يوافيه الأجل، وقد لايستجيب أحد كما صح في الحديث (أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد).
ونتعلم أن لا يستحسر المرء ويستطيل الطريق، بل يستذكر دائماً لبث نوح عليه السلام وما لاقاه من الملاقي، وقاساه من المآسي.. وكذا هي الدعوة جهد وجهاد وسير ومسار، قد يقصر وقد يطول، والناس يختلفون في ذلك، والله المهيمن والمحيط.
لكن بفقه هذه القاعدة ينتج الآتي :
(1) ظنية المشاريع والبرامج المحدوده بسنة أو سنتين أو خمسية أو عشرية، بحيث أن الإنسان لا يقطع بتحقيق النجاح بعد خمس سنين مثلاً، بل يجد وبصبر، ويعمل ويخطط إلى أن يفتح الله، وييسر الأمور.
(2) طول صبر الأنبياء والفضلاء، وهم معصومون من الله في نياتهم وجهاداتهم، ومع ذلك طال لبثهم وضعف نتاجهم، ولم تبزغ ثمراتهم وليس ذلك لخلل منهم، ولكنها حكمة الله ومشيئته (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ) (الشورى:48) (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99).
(3) مضاعفة الجهد الدعوي، عندما استشعر لبث الفضلاء قبلي، ولا أحدده بمرحلة زمنية معينة بمرحلة الشباب مثلاً، أو من قلة الأعباء بل أدعو وأجاهد وأسارع طيلة أيام حياتي " وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ".
وقد قال صلى الله عليه وسلم وهو في لحظات الموت (الصلاة، وما ملكت أيمانكم). كما عند أحمد والنسائي وأبن ماجه وهو حديث صحيح.
(4) طرح الكسل والاستضعاف وامتطاء صهوة العزائم والمد لهمات بحيث أسير وأنا مستحضر لمقام نوح الطويل، وصبر أيوب العتيد، وجهاد موسى الفريد، وكفاح شعيب الكبير، وإصرار محمد الشديد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

(5) الفطنة النقدية :
قال تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الانعام:108)
سب آلهة المشركين، انتصار للحق وإهانة للوثنية، وقربة يتقرب بها إلى الله لأنه لا توقير لوثن وضلالات ! ولكن إذا كان سبهم سيحمل على سب المولى تعالى، والوقيعة المحرمة التي لا تطيقها القلوب المؤمنة، فيجب الكف حينئذ، بل يحرم سب تلك الأوثان النتنة، تعظيماً لله، وصيانة للجلالة الالهية. (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً)(الكهف :5).
هذه الفطنه النقدية شكل من أشكال الحكمة المطلوبة، لكنها تساق هنا في جانب النقد الذي قد يسبقه حوار يتجول إلى نزاع وخصام.
ومعلوم أن دعوات الأنبياء كانت تحذر من تلك الأوثان المهترئة والهياكل الصماء، وقد يحصل نوع سب ونسقيه غضباً لله، وإظهاراً للحق، فيأخذ الجاهلون الحمية، فيقعون في الكلمة الفظيعة، فيجب على الداعية حينئذ التوقف والامتناع وسلوك أسلوب دعوي آخر، حتى تئوب النفوس إلى رشدها، وتخاطب خطابات أخرى جديدة، وإن كان الأصل أن الإسلام جاء لكسر الأوثان، وإهانة الآلهة المزيفة، لكن الحكمة والفطنة النقدية تستوجب الصبر والانتظار، والمحاورة بسياق آخر، حتى يمرر فساد تلك الآلهة وهوائها في عقولهم، فيقومون هم بسبها، ومن ثم تكسيرها.
كما قال تعالى :
(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت :41) .

(6) السعي الفاعل :-

قال تعالى : (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (ياسين :20).
هذا مؤمن آل ياسين جاء من أباعد المدينة، وكله هم وغيرة على قومه، أن ينزل بهم عذاب الله، فأسرع اليهم ناصحاً ومحذراً ومذكراً بالطريق السوي، والمنهاج الصحيح (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(ياسين :21)
وهنا يجلى لقومه فضل المرسلين، وأنهم أشرف رجال، وأجل ملأ، وخصهم غصلتين:
(1) لا يسألون الناس أجراً ولا مالا.
(2) أنهم مهتدون صالحون من الله.
وهذا الداعية الصالح انصف بصفتين أيضاً:
(1) أنه جاء من أقصى المدينة مهتماً بشأن قومه.
(2) كان ساعياً مجتهداً، مشفقاً على قومه، أن بفوتهم الخير أو يجانبهم الفلاح.
وهكذا هي الدعوة سعي وسراع،ٌ من أقصى البقاع، يتحرك المؤمن فيها لله ويثابر في إيصال الخير للناس، مبشراً ومحذراً.
كما كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يصنع مع قومه، يجالسهم ويغشى منازلهم، ويذهب للحجيج أيام المواسم، ويخرج إلى الطائف وأطراف مكة، لا يكسل ولا يلين! همه الدعوة والنفع، والإصلاح والهداية.
وإنما سعى هذا المؤمن احساساً منه بدوره الاصلاحي، واستلهاماً للثواب الجزيل على البلاغ، وحرصاً على البشارة لقومه بفضائل هؤلاء المرسلين، الذين هم من أصفى الناس وأطهرهم، وسيماهم تشع بالنور والهدى والسناء.
وهذا الوصف الذي ألبسه الله تعالى لمؤمن آل ياسين، ذكره لمؤمن آل فرعون تقريباً، الذي حذر موسى عليه السلام من بطش فرعون وقومه قال تعالى:
(وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ). (القصص: 20)
فوصفه الله بالسعي والتحرك ومجيئه من أقصى المدينة، يحمل رسالة دعوية ناصحة لموسى عليه السلام، ومشفقة على مستقبل الدعوة، لاسيما وقد تم التخطيط لقتل سيد الدعوة، وإمامها ومقدمها، وفي ذلك مأزق خطير للدعوة لو تم! فانطلق ناصحاً ومحذراً، وكاشفاً المخطط السيئ، بكل وضوح وصراحة، ولم يسع موسى إلا الاستجابة والخروج مباشرة إلى (مدين)، فراراً بنفسه ودينه، وباحثاً في مساق جديد للدعوة إلى الله، وهنا لفتة بلاغية نحب أن نشير إليها، حيث تغايرت الآيتان في صفة الرجلين المؤمنين في آية ياسين قال : (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى)(يس :20).وفي آية القصص:(وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى)
ففي آية ياسين قدم الجار والمجرور بياناً بفضل الرجل، وتبكيتاً لأهل المدينة حيث مع بعده عنهم، آمن، فجاء ناصحاً لهم، مشفقاً عليهم من مكان بعيد (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).(يس :20) وأما آية القصص فقدم كلمة(رجل) لفرط شجاعته، وعظم رجولته حيث واجه المجتمع الفرعوني الباطش المتسلط، فناسب تقديم الرجولة على المجئ البعيد، والله تعالى أعلم.

(7) التجميع الأتباعي :-

قال تعالى : (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) (الصف:14) والمعنى من ينصرني حتى أبلِّغ دين الله تعالى.
لأن الداعية يبدأ أول ما يبدأ وحيداً فريداً، ولكنه يأمل أن يصل خيره للآخرين، ويتفاعل معه أقوام، ليسود الانتشار، وتذلل العقبات.
ثم إن ثمة مشاريع وأعمال ضخمة تحتاج للأتباع والأنصار، مهما كان جهد الداعية وصدقه، وعلاء همته، ثم إن في هذا التجميع فوائد منها:-
(1) تكثير الأتباع، وتحويل شئ من المسئولية الشرعية إليهم.
(2) الانتفاع بطاقاتهم وعقولهم وتسديداتهم.
(3) تحقيق لقيم الشورى والمحاورة والاستنارة، التي من شأنها أن تضعف المركزية المطلقة.
(4) تفرغ الداعية الإمام لأشياء أخرى أعظم وأجل.
(5) سرعة انتشار الخير المكنوز، إلى مناطق واسعة من الأرض.
(6) استنابة الأكفاء الأجلة، تحسباً لأي ضرر أو حادث قد يودي بحياة السيد الفاضل.
(7) ضمان حماية للدعوة والداعية، وسلاح رادع لكل محاولات المتربصين والماكرين.
قال تعالى عن قوم شعيب عليه السلام : (وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) أي أنك لست عزيزاً ولا كريماً بيننا، ولكننا نجلك أو نهابك للقوم الذين حولك ينصرونك، وهؤلاء الرهط قد يكونون من قرابته أو من آحاد والناس ولكنهم في النهاية قوة مكنونه للداعية، تحميه وتناصره وتذب عنه.
ولهذا السبب وغيره جعل الله رسوله يبتتدئ بدعوة الأقربين، ليكون له منهم قوة ومنعة.
" وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ " ولما قال لوط عليه السلام لقومه المجرمين " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ " صار الله لا يبعث نبياً إلا كان له منعة في قومه.
وفي القرآن أيضاً يقول تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفتح: 8-9)
فلله تعالى إيمان وتسبيح، ومحمد رسول الله إيمان به وتعزيز وتوقير، وهي مقاصد أساسية للدعوة الإسلامية، وإلا فان الله قادر على نصرة أنبيائه وعباده، ولكنه يبتلي العباد بالعمل وضرورة التعاون والتآزر لينظر أيناأحسن عملاً، وأقوم بذلا وحراكاً كما قال تعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38).

(8) العلاء الإيماني :-
قال تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139) هذه قاعدة عظيمة تسمو وتتصاعد حتى تكون كالحلية لأهل الإيمان إذا ما اتقوا أو صبروا.
إذ إن الحياة ملأى بالابتلاءات المورثة للحزن والكآبة، والتي تأخذ من النفوس مأخذها، ولكن الإيمان يزيلها، ويضّمد جراحها.
وقد نزلت هذه القاعدة العظيمة في الحديث عن (غزوة أحد) سنة 3هـ وقد أصاب المسلمون ما أصابهم من الجراحة والقرح ولكن الله سلاهم بذلك.
وأن الإيمان المترسخ في النفوس لا يمكن أن يُزلزل بشئ من تلك البليات، فالواجب الصبر، وتجديد الإيمان على الدوام، والرضا بقضاء الله وحكمته.
(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) (النساء : 104).
فبرغم ما في الأمة من هوان واستضعاف إلا إنها علية بإيمانها، راسخة بدينها سعيدة بهدايتها، ومثل هذا الإيمان هو الدرع الواقي للانتكاسة، والسائق الحادي إلى مزيد العمل والمقاومة، ورفض الخضوع والاستسلام، وتكمن فائدته في أنه الغذاء الروحي لخوض مجريات الحياة، والصبر على لأوائها، وهو الذي يصنع قيم العمل والصبر والدأب، والتضحية المطلوبة.
وهذه الآن قاعدة شريفة يجب علينا تعلمها، وتأمل أهدافها وأسرارها، وهي تغني عن كثير من الشروحات والتعليقات، إذا شرح الله صدر الداعية لفهمها والعيش في أفيائها..
والمراد أن لا حزن ولا هوان لمن اعتلا بالإيمان، وركن إلى ربه، وليس إلى قوته، وأسلم وجهه إلى الله وليس إلى تجارته، واستعصم بالقرآن وليس بالمنصب والإخوان.
الإيمان المتوهح الصادق، هو الكفيل بالحفظ والصيانة، والرفعة والاعتزاز.
فلم الوهن والخوف بعد ذلك؟!! إننا نحمل كنوزاً ثمينة في هذا الكتاب ولكن أين من يتأمل ويتدبر ؟!
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (ص: 29)

(9) الجهاد التبليغي الكبير :-

قال تعالى : (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) أي بالقرآن العظيم، ويجاهد به الكافرون جهاداً كبيراً لا حدَّ له، ولا ضعف فيه، ولا ارتخاء ينوبه !!
جهاداً كبيراً قائماً على الحجة والبرهان، وحسن العرض والتبيان، لأن هذا الكتاب ما أصغى له عاقل، أو ركن إليه متأمل، إلا خضع أمام حججه وبيناته!!
يحاول بعض الإسلاميين أن يختزل مفهوم جهاد الكافرين والمنافقين بالقراع والسنان، ويهمل الجوانب الفكرية والثقافية، مع أنها من أعظم جوانب الجهاد، ومن أشد ملاحمه وصراعاته.
ولذلك سمى إليه هذه المعركة (جهاداً كبيراً) فالجهاد المسلح في موضعه اللائق به كفلسطين والبلاد الإسلامية الأخرى المحتلة ، ولكن الجهاد الفكري والعقائدي لايزال مفتوحاً قبل الصدام وبعده، والأمة تحتاج إليه حاجة ماسة كحاجتها إلى زلزلة المحتل الصليبي من أراضيها أو أشد، لأن فائدة جهاد الكلمة والحجة والنقد الفكري مايلي :
أولاً : إظهار نصاعة الإسلام، وسلامة أصوله ومبادئه.
ثانياً : تفنيد كل الشبهات المثارة حول قضايا إسلامية مطروحة دائماً، وفي العصر الحالي كثر الكلام حول الإرهاب والتطرف، ومناهج التعليم، وقضايا الحجاب والنقاب، وتعدد الزوجات وأشباهها.
ثالثاً : كشف وهاء حجج المخالفين وزيف عقائدهم، وبطلان ماهم عليه من السخافات التي لا يكشفها إلا النقد الفكري، وجهاد الكلمة، والدليل البين كما قال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:111).
رابعاً : ترسيخ القاعدة الفكرية للدين الإسلامي، بحيث تطمئن إليه النفوس، وتعلم أنه قاتل المحتل وصاوله عن صدق واقتناع ودراية، وليس لمجرد تعشق القتال، والزج بالأرواح، كما يصوره الجاهلون والخراصون !!
والجهاد الكبير موضوعه هذا الكتاب العزيز، الذي يحتاج قارئه إلى تعلمه وتفهمه الفقه العميق وسبر اغوار آياته ودلائله، بحيث تكتمل أهليته، وتعلو درايته، وتصبح مناظراً حاذقاً بهذا الكتاب، يعرضه أجمل عرض، ويفسره أرقَّ تفسير ويعصف به الباطل أشد عصف، فنحتاج إلى العلماء بالقرآن، وبالواقع الدعوي والفكري للدعوة، بحيث ينبري لها متخصصون في هذا المجال، ويصدق عليهم الآن مسمي (المفكر الإسلامي) ويجمع بين العلم الشرعي المنير، وفقه الواقع البصير.

(10) جدية الأخذ :
قال تعالى : (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) (البقرة: 171) في موضعين من القرآن وقال تعالى : (يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) (مريم: 12).
والأخذ بقوة: يعني الجد والحزم والمسئولية، وترك الكسل والتراخي.
وهذه قضية مفروغ منها عند حذاق الدعاة، إذ إن الداعية صاحب مشروع وقضية، وتطمح في هداية الناس واحتواء المنحرفين، ومثل ذلك يتطلب جهداً كبيراً ، وعملاً جاداً، ونفسية باذلة، تعتصم بأمر الله، وتسير على نور من ربها وهداية. وجدية الداعية تكمن فيما يلي :
(1) كونه قدوة للناس، مثالأً يُحتذى به في حُسْن الاتباع، والاستمساك بالشرائع، وأن لا يناقض قوله عمله (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) (البقرة:44).
(2) استغراقه الوقت بالدعوة والذكر والعمل، وأن لا تكون بطالته مؤثرة على عمله وجهاده.
(3) صيانته للأوقات، وتوقيره للزمان.
(4) مسارعته في الاتباع والتطبيق، وجودة العمل والحفاظ على المهام والمواعيد.
كل هذه الأمور وأشباهها تجعل للداعية منزلاً رقيعاً في قلوب الناس.
مما يعني محبته والإصغاء لكلامه، فإذا كان أنبياء الله يطالبون بالجد والحزم، فغيرهم من باب أولى، لأنهم يتوقع منهم التقصير والإهمال.
وكم من محب للدعوة، ممارس لها لكنه قد ينام كثيراً، أو يأكل كثيراً، أو يتوسع في التبسط، ويستغرق في المباحات.
فهذا بلا مبالغة قد خرج من (حدائق الحادين) ويحتاج أن يئوب إليها من جديد. قيل للإمام أحمد رحمه الله : (متى يجد العبد طعم الراحة ؟ فقال : عند أول قدم يضعها في الجنة) (طبقات الحنابلة 1/293).
لا ضير أن يتبسط الداعية، ويأكل اللذيذ، ويروح عن نفسه، ويتلطف مع الناس ولكن لا يعطي صورة سيئة عن أعراض الدعاه وخفاياهم، بل يصون وسام الدعوة، ويترفع عن بعض ما يتساهل فيه الأنام. كما قال الإمام الأوزعي رحمه الله: (لما صار يقتدي بنا لم يسعنا إلا التبسم).

(11) تأسيس اليقين :-

قال تعالى:(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60) وقال: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجن: 22).
كما أن الداعية يتعلم من الدعوة الدأب والصبر، والاحتمال، كذلك يتعلم عنصر اليقين الذي يجعله يكابد المرارات وهو في أتم حال، وأحسن صفاء، وألذ سرور.. لا يكل، ولا يتضجر، ولا يجزع ، ولايتضايق. قد أمتلأ قلبه بحب الله ورسوله، وأدرك أن الدعوة مسار شاق، ورحلة عصيبة، تذللها أنوار اليقين، ونسمات الصفاء والسعادة، ومنهج الدعوه القرآني كاف في تأسيس اليقين لدى الداعية. حيث يأمره بالصدق وحسن الإيمان والتوكل، واحتمال شدائد القوم، وعناد المخالفين، وعدم استبطاء النصر، واستشعار العلو الإيماني، وابتلاع بعض الغم والحزن وانتظار الفرج والفتح ، كما قال هنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم. (فا صبر إن وعد الله حق) أي مهما تطاولوا فالنصر قادم، ومهما سخروا وتحدوا، فنهايتهم واقعة، ومهما أسفوا فالفرح دانٍ، ولكن لا تيأس يامحمد، ولا تحزن عليهم، ولا ينتابك الضيق الذي ربما أفرحهم، وأغراهم بحسن باطلهم.
وهو شكل من أشكال الحرب النفسية التي دائماً ما تروج وتسيطر بين المتنازعين.
ولذلك هنا نستيقن أن اليقين مهم للداعية لأمور :
(1) تثبيت قلبه، وتسكين نفسه أن لا تيأس وتضيق وتستحر (الا إن نصر الله قريب) (والعاقبة للمتقين).
(2) تهاوى كل الشبهات والتحديات، إذا ماواجهت قلباً موقناً فسيحاً.
(3) استكمال الطريق، ورفع درجة الحماس المطلوب، للعمل والكفاح الدعوي المخضوب بالحب والتفاني والتضحية.
(4) السرور الطافح على النفس، الذي يذهب غمومهاً وأنكادها، ويجعلها راضيةَ بقضاء الله وقدره لا يحملها الضيق المتزايد، ولا الكرب المصاحب.
(5) دفع كل أسباب الهزيمة، أو توقعها أو حتى التفكير في مصير واهم، تصنعه النفس وتوهيماتها.
(6) تغذية القاعدة الروحية لدى الدعاة، التي هي زادهم أمام كل البلايا والمشكلات.
(7) عدم استبطاء النصر، أو طروء شك عابر، يشوش الرؤية ويضعف الجهد، فالنهاية الحتمية قادمة بظهور أهل الإيمان وتردى الكافرين والطغاه والمنافقين، لكن كما قال : "اِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ" (يوسف:87).
وقال : " فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً " (مريم:84).
وقال : " وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ " (الحج:40)

(12) الاقتداء الدعوي:-
قال تعالى : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) (الأنعام :90)
وقال : (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:140).
خير سلف، وأجملُّ جيل، يحمل الداعية آثارهم، ويسير على منهاجهم هم أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.
وقد أمر نبينا فاتباعهم وقفو منهاجهم.
وهذا الاقتداء، وإن كان أصله عقدياً، ولكنه يشمل مناحي أخرى، كالدعوة وأساليبها وصفات أهلها.
ولم يزل القرآن يحكي لنا قصصهم وأخبارهم مع أممهم حتى يجسد معنى التجربة في حياة الدعاه ويستلهموا منهم معاني القدوة وصفات العمل و التحرك.
كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ) (الأحقاف : 35).
وقال : (مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ) (فصلت:43)
وقال : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) (الأنعام:34).
وهذا الاقتداء يتعين على الدعاه تعلمه واستلهامه من القرآن والسنن، فيحرصون على بناء العقيدة أولاً ثم حسن الخطاب والمعاشرة ، وإشراك العقل في الإقناع وإقامة الحجج، واستعمال البراهين، واستلطاف المدعوين، وعدم تجريد الناس من حاجاتهم، وابتغاء ماعند الله، وعدم استعجال النتائج، وقطف الثمار، والتوكل على الله، وسؤاله الفتح والتسديد.

(13) الأساس العقدي :-
قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: 36)، وقال : (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (المؤمنون: 23)، وقال:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبيا: 25).
فهذه النصوص ومثيلاتها، تؤكد أن البداية بالعقيدة، والمقدمة الأولى هي التوحيد، فالعقيده أساس البناء، وركيزة الإصلاح، ومنطلق التأثير والمواصلة.
وإنما تم التركيز على العقيده لأنها أصل كل شئ، وبها اندفاع الشبهات، وخلوص العقيدة، واستعداد النفوس للعمل والاستجابة.
وأول أركان البناء الاسلامي (كلمة التوحيد الغراء) التي قال الله فيها (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) (إبراهيم: 24-25)
ومن فوائد صلاح العقيدة في النفس البشرية أمور منها :
(1) إقامة النفس على عماد متين، لا تهزه الشبهات، ولا تبدله الخواطر والخرافات.
(2) أنها مفتاح الجنة، وباب حصول السعادة، والموت عليها مؤذن بالرحمات بإذن الله تعالى.
(3) أن العقيدة الصادقة طريق للجد والسعي في الخيرات، وابتغاء ما عند الله عزوجل.
(4) أنها عملية تنقية وتأهيل لما بعدها، حيث يصلح القلب، وتسمو النفس، وتصبح متهيأة لما يُلقى عليها من الشرائع والتبعات.

(14) القدوة الخالدة :-
قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب :21)
مع ائتساء الداعية إلى الله بالأنبياء الكرام، إلا أنه يخص منهم سيدهم، وواسطة عقدهم وإمامهم يوم القيامه نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه :
" وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ "
ونحن مسلمين مأمورون باتباعه، وانتهاج طريقه وطريقته، فهو بابنا إلى الجنة، ومفتاحنا على الخيرات وهو إمامنا لفهم الشرائع والملمات.
ولهذا أمرنا باتباعه على كل حال كما قال تعالى :
"مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ" (النساء : 80)
فنتعلم أسلوب الدعوة منه، نلتمس آثاره ونقتفي أحواله، لأنه خاض أكثر، وجرب أعمق من تجربتنا فقد علمنا أصول الدعوة، وآدابها، وشرح لنا فقهها ومعالمها، وبين لنا كيف نحتمل مرارتها، ونصبر على لأوائها، فهو بهذا إمامنا وقدوتنا منه نفئ وإليه نعود، ولمعرفة منهاجه الدعوي عليه الصلاة والسلام مصدران:
الأول : ماحكاه القرآن من أخباره وغزواته وتشريعاته، التي نلتمس منها الفهم الدعوي، وحسن التخاطب والتعامل.
الثاني : سيرته الوافية العطرة، التي هي مكناز للداعية، وذخيرة فاعلة لفهم الواقع والتحديات، وقد حكى بعضها القرآن، والجزء الأكبر حوته كتب السيرة والسنة والتواريخ، ومن الضروري الرجوع إليها لتعلم هذا المنهاج، والوقوف عليه خطوةً خطوة، وفوائد دراستها تفوق الحصر، حيث إنها شحنات إيمانية، ووقود حماسي، وفقه دعوي، ومنهاج تربوي، ومدرسة أخلاقية، وجامعة معارف عليا.
وكان السلف يتعلمونها كما يتعلمون السورة من القرآن، ويعتبرونها علم الدنيا والأخرة، كما عرف ذلك عنهم.
ومن أحسن المصادر هنا:
1- سيرة ابن هشام المشهورة.
2- المنهج الحركي للسيرة للشيخ منير الغضبان.
3- السيرة النبوية الصحيحة من مصادرها الأصلية للدكتور مهدي رزق الله.
4- صحيح السيرة النبوية لابراهيم العلي.
وغيرها من المصادر المستحسنة.

(15) البلاء الاختباري :-
قال تعالى:(الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(العنكبوت:1-3)
فالابتلاء ضريبة الإيمان، والامتحان لصيق الاهتداء والبيان، ولا يمكن لإيمان أن يكمل ويتمكن بلا ابتلاء واختبار.
وهو ليس شراً محضاً، بل فيه خيرات حسان، ومفاخر جسام منها.
(1) التمحيص والتطهير، بحيث يصبح العبد مؤهلاً لخوض غمار المسار الدعوي.
(2) زيادة الأجور، ورفعة الدرجات وفي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيراً يُصبْ منه).
(3) تعليق الفؤآد بالباري، بحيث يسكن الداعية لربه تعالى، وتضعف عنده حظوظ النفس.
(4) تعميق الإيمان والتوكل، وتحقيق كثير من أعمال القلوب، التي تحييها الابتلاءات والنوائب.
(5) كشف الموقف الدعوي لجمهرة الدعاه، وأن الطريق شائك، والمسار رهيب، يحتاج إلى وقود، وعلم، وتمكن، واستعداد، كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال:60).
وقال : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة:197)
وقال : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (البقرة:2-3)
(6) التمييز الفاحص للصف الإسلامي، وكشف المدّعين من الصادقين، ووضع الصالحين على المحك، ليبين سيد المرحلة، والقادر على المواصلة.

(16) الاتعاظ القصصي :-
قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ) (يوسف:111)
وقال :(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) (هود:120)
وقال : (فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف:176)
القرآن فيه جانب قصصي بهيج، ملئ بالعبر والعظة والدروس، هي لم نُسَق عبثاً، بل سبقت للدرس والاتعاظ، ومن أولى فوائدها، التثبيت الذي يمنح الداعية السكون والرضا، ويعتقد أن هذا الطريق، مسلول قبله، وقد أمه الفضلاء والنبلاء فليس بجديد عليه، أو أول الخائضين له!!
ثانياً : استكناه الفقه الدعوي منها، وتعلم طرائق الدعاة والهداة إلى الله.
ثالثاً : التعويل على بعض تجاربهم، إذا صح الفهم، وحسُن التطبيق، وكانت تلك حجة ظاهرة على كل معترض أو مخالف.
رابعاً : استلهام صفاتهم من العلم والحكمة، والصبر وقوة الإيمان، والسعي والتضحية، وشدة اللهج والاتباع التام كما قال في نوح " إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً"
وقال في أيوب عليه السلام " نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ " وقال عن إدريس " إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً" وغيرها من الآيات الكاشفة لحسن صفاتهم، وطيب خصالهم عليهم صلوات الله وسلامه.

(17) التنوع الأسلوبي :-
قال تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً) (نوح: 5-9)
فهنا نوح نوع عليه السلام أسلوبه، كان يدعو ليلاً ونهاراً، وجاهر بالدعوة والنصح، وغشي مجالسهم، وكلمهم إسرارا، أي منفردين ولم يبق وسيلة يرى حسنها إلا تناولها معهم.
وكذا هو الداعية الحريص، المتفاعل (الواعي لعصره) ومجتمعه، ينوع الأساليب، ويلون الأحوال، ويطرق كل باب، ولا ييأس من فرج الله وهدايته.
وتنويع الأسلوب ضرورة دعوية وحياتية، لاختلاف الناس وتباين نفسياتهم كما يقول العرب (الناس أخياف).
أي مختلفون متباينون! من لا تجدي معه الدعوه العامة، ينتفع بالحديث الفردي الخاص.
وفي العصر الحديث امتن الله تعالى على الأمة بانفجار تقني وعلمي هائل، من الضروري هنا الاستفادة منه، وتفعيله في الدعوة وتلوينه بخاباتها بحيث تخترق الدعوة الإسلامية كل المجالات والأحياء (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم:34).
ومع الانفجار التقني الحالي، بات الحديث ملحاً عن فنون الدعاية للدعوة، وطرح الأساليب الجذابة والطرق المحببة للجيل الحديث، وهو شكل من أشكال التفنن الحضاري في عرض الإسلام، والإشادة بأفكاره وتعاليمه.

(18) احتمال المرارات :-
قال تعالى: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) (فصلت:43)
وقال تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (المزمل:10)
وقال عن لقمان لابنه : (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)(لقمان:17).
كما آمنا سابقاً بسنة الابتلاء الاختباري، علينا أن نؤمن بواقعية البلاء حين يقع، وألا يدفعنا ذلك إلى الضجر والتكوض، بل نصبر ونحتسب ، ونفوض أمرنا إلى المولى (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) (الذاريات:50).
لأن البلاء حتما سيقع على العاملين في حقل الدعوة، وسيخالط نفوسهم الغم والحزن، فيجب عليهم أن لا يضجوا ويتعبوا بل يصيرو، ويسلموا الأمر لله تعالى
لأن ماحدت لهم قيد حدث لمن هم قبلهم، ومن هم أحسن منهم وأدين، أنبياء الله ورسله والمصلحون عبر التاريخ.
ووعي هذه القاعدة يعلمنا الكثير من الفقه الدعوي، منه :
(1) ضرورة امتطاء صهوة الصبر، وجعله درعاً واقياً لكل البلايا والتحديات (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146)
(2) أن الاحتمال قنطرة إلى الظهور والانتصار والتمكين، كما قال الشافعي لا (يُمكن العبد حتى يُبتلى).
(3) حتمية المواجهة مع صنوف الباطل والهوى، وأنهم ليسوا بمعزل عن تحركات الدعوين والمصلحين في كل الأزمنة والأوقات.
كما قال قوم إبراهيم عليه السلام عنه لما كسر الأصنام (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء:60).
(4) وعي المشهد الواقعي للدعوة، وأنه ليس بالجنان الوارقة، ولا الحدائق الغانية، بل فيه كَيت وكيتَ، من المحن والشدائد !!
ولكن (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) (آل عمران:120)
وقال تعالى: (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً) (مريم:84)
فدع الباري يحاسبهم، وآنت لا تكسل عن عملك ورسالتك (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً) (الأنعام:44)
فكل مجرم عات، له ساعة تفنيه، وقارعة ستحل عليه (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) (إبراهيم:42)

(19) عاقبة الصبر المستميت :-
قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف:137)
يكثرُ الحديث في الدعوة عن الصبر وعواقبه، ولكن صبر الأنبياء والدعاة صبر متيقن، يحفز على العمل، ويطرد اليأس، ويقهر التكاسل، ويقاوم الهوى، ويدفع الشهوة ويرق للقُربة، ويلين في الأسلوب، ويجابه وقت المجابهة، ويسارع إلى الله، ويغتنم الفرص، ويجد ساعة الجد، ويسكن وقت السكون.
وهذا هو المعنى الحقيقي للصبر، فليس الصبر السكون والانغزال، وترك العمل والعزوف !!
بل هو الجد في هدوء، والسعي في حكمة، والعمل في أناة، والمسالمة في تحركٍ واستعداد، إلى أن تتم النعمة، وتحصل المنحة، وما ذلك على الله بعزيز.
صبر أصحاب موسى المؤمنون على بطش فرعون وأذاه، وما لا قوا من الصعاب، فأكرمهم الله، وأحسن جائزتهم وهي :
(1) أورثهم مشارق الارض ومغاربها المباركة.
(2) مكنهم وأظهرهم على عدوهم.
(3) دمر فرعون وقومه وبناياتهم ومعايشهم.

(20) ليونة الخطاب السلطوي:-
قال تعالى : عن موسى وهارون عليهما السلام لما بعثهما إلى فرعون :
(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44)
القول اللين هو القول اللطيف الحسن، وقيل هو لا إله إلا الله، وقيل المعنى : كنّياه وأن كنيته أبو مرة أو ابومصعب وقيل هو قوله (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) (النازعات:18-19) .
والمهم أن الملوك والعظماء يُستمالون بمحاسن الكلام وأطايبه، ليشق نفوسهم الخير، فيعمونه في الناس، وقد قال عثمان رضى الله عنه (إن الله يزَع بالسلطان ما لايزع بالقرآن). وصلاح الحاكم، صلاح لرعيته، والناس على دين مملوكهم كما يقال.
ولهذا من الخطأ بمكان، أن يواجه الحاكم بغليظ الكلام وشديده، بل يُدعي بالكلمة الطيبة، ويوعظ بالموعظة الحسنى، التي تخطف القلوب، وتستدر المشاعر، وتوقظ الإحساس بلا تجريح ولا تعنيف، كما صنع حكماء أهل العلم.
والكلمة الطيبة هي السحر الحلال الذي يشق الوجدان، ويصنع مالا تصنع السنان.
وقد روي أن عالماً دخل على الخليفة هارون الرشيد فأغلظ له فقال له هارون: قد كان موسى بن عمران خيراً منك وفرعون شراً مني وقد قال الله له (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) (طه:44).
والقول اللين يعني :
(1) تخير أحسن الألفاظ، ومناداته بأطيب الألفاظ والكنى.
(2) التماس أنسب الأوقات.
(3) تحري المناسبات الحسنة ،وقرب النفوس وتباعدها.
(4) عدم الإطالة والإيغال في أغلب الأحايين.
وفي هذه القاعدة من الفوائد أنه يجب على الدعاه أن يفرقوا بين مخاطبة صناع القرار، وعوام الناس، وأن ينزلوا الناس منازلهم، وأن يلبسوا لكل حالة لبوسها، وتعلمنا أن الناس متفاوتون ، بل إن نفس صناع القرار منهم المتدين ومن دون ذلك، والمتعاطف وسواه، والكريم المضياف وغيره، والقديم التقليدي، والعصري المتجدد، وهذه سنة الله في خلقه، ولكل هؤلاء ما يناسبهم.
ومواجهة هؤلاء الحكام، تحتاج إلى العلم والتقوى والفقه، وحسن المخاطبة واللباقة.

(21) الطريقُ المُزلَزِل:-
قال تعالى : "وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله الا ان نصر الله قريب"
هذه تجلية، وفصل من فصول البلاء الاختباري ، الذي يعتري المسيرة الدعوية (وزلزلوا) بلاء شديد ، وكرب عنيف ، كأنه الزلزلة التي لايُدرَك وقعها، ولا توعَى بلواها، ولا يستقر للانسان معها قرار ، وتكون مشحونة بكل صور الخوف الرهيب والهلع الشديد ، وربما وصلت إلى الإخراج والنفي، وتجرّع عذابات أخرى متزايدة.
وفي أول الآية ذكر بلويبن (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) (البقرة:214).
الأولى : البأساء وهي الفقر والحاجة.
الثانية : الضراء وهي الأمراض والآلام والمصائب.
ثم عقب بالثالثة : الزلزلة، أي أزعجوا ازعاجاً شديدا،ً بما أصابهم من الشدائد.
وخلاصة فقه الآية، أن تحقيق النجاح، وبلوغ الجنان لا يأتي بسهولة، بل لابد له من ثمن من الإيمان الصابر، الذي يتجاوز كل هذه الأشواك والبلاءات، لينتهي بعدها إلى سعادة غامرة، وعيشة راضية.
وقد قيل إن هذه الآية وفقهها العظيم قد نزلت في (الخندق) لما ابتلوا بالبلاء والشدة والبرد والحصار، وقيل بل نزلت في (أحد) وقيل غير ذلك.
والمقصد أنها قاعدة متينة لفقه المسيرة الدعوية.
فلستم بأحسنَ من الأوائل وقد خالطهم الفقر، وماسهم المرض، واجتاحتهم الزلزلة المخيفة، والشديدة المُريعة حتى استبطأوا النصر وزوال الظالمين، فرد الله عليهم برحمته (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).

(22) التأييد الرباني:-

قال تعالى : (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه:46).
رغم البلاء المتوقع، والشدائد المرصودة، إلا أن عين الله تحرس أولياءه، وتأييده يكلؤهم، ورحمته ترفق بهم.
(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) (غامر:51)
فمهما عظمت البلايا، واشتدت المحن، فإن الله ينصر أولياءه، ويحفظ دينه، ولن يخلص الأعداء إلى ما يريدون، رغم فعالهم المنكرة، ومسالكهم العاتية.
فالله يحفظ المتقين ويمكر بالماكرين كما قال :
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل:128)
وقال (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (آل عمران:54)
وقال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (النمل:50)
ووعى مثل هذا التأييد الرباني يشرحه القرآن، فكم من تآمر على الخير وأهله يُحبطه الرقيب الجبار، ففرعون من أعتى العناصر البشرية قتلاً وإسرافاً، ومع ذلك حمى الله عبديه موسى وهارون عليهما السلام من بطشه اللعين، وحاولت بعض الأمم الكافره الهم بأنبيائها، فعصمهم الله تعالى من مكرهم كصالح عليه السلام، حاولوا قتله، فمكر البارى بهم، وعيسى عليه السلام ، تطلبوه فشبه لهم،ورفعه الله تعالى كما قال : " بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ".
وإبراهيم الُقي في النار فعادت برداً وسلاماً، ونبينا صلى الله عليه وسل تآمروا عليه ليلة الهجرة، وأشار القرآن إلى ذلك فقال :
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) (الأنفال:30).
وإذا وقع شئ من البلاء والأذية بعباد الله الدعاة، فهو نوع رفعة من الله، وشهادة لهم في جناب النعيم، كما حصل لمؤمن آل فرعون عندما قتلوه قال (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ) (يسن:26).

وفائدة هذا التأييد الرباني مايلي :
(1) ملء الفؤاد باليقين والاطمئنان.
(2) استحلاء البلاء، والرضا بالأقدار.
(3) صناعة التفاؤل عند الداعية، بقرب الفرح وحصول الانتصار (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).
(4) تجديد الإيمان، وتحقيق العبودية للأحد الصمد تبارك وتعالى.

(23) العمل المأزوم:-
قال تعالى: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف:39)
هذا مقطع دعوي نبيل، ما صنعه يوسف عليه السلام هو في السجن مبتلى محكوم عليه بالرق، قد تأزم حاله، واشتد كربه، وساءت سمعته، حيث اتهموه بمراودة امرأة العزيز، ولكنه تغلب على ذلك كله، وتجاوز هذه المحنة بقوة إيمانه، وحسن أخلاقه وشيمته كما قال عنه المسجينان (ِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:78).
وحَكَيا عليه الرؤيا التي رأياها فمن فطنته الدعوية، ومسئوليته الأخلاقية، لم يبدأ بالتعبير، بل أرجأه قليلاً ليحكي لهم درساً إيمانياً، ويسجل موعظةً توحيدية، مفادها: أن أصنامكم تلك، لا قيمة لها، بالية، متردية، والمستحق للعبادة، هو الله الواحد القهار ، الذي أبدع الكون، وصنع الخلق، وجاء بعجائب الآيات.. فأين أنتم عن ذلك.
هذه الدعوة الحية، تشعل نسمات في السجن الكئيب، الذي هو غالباً للشواذ والمفسدين، لتحوله إلى مجلس ذكر ورهبانية.
يوسف عليه السلام وسط هذا الركام وتلك الأزمة، وقد دخل السجن حزيناً مغموماً يقهر كل ذلك، ويئوب إلى دوره الإصلاحي، وعمله الدعوي، ولوساء المكان، وتفاقمت المشكلة.
وفي هذا العمل من الفوائد ما لا يخفى منها.
(1) شرف يوسف عليه السلام، وانتصاره على همومه المعيشية والاجتماعية.
(2) استشعاره واجب الدعوة والبلاغ، ولو في أحلك الظروف، وأشد الأزمات.
(3) إخلاصه لربه تعالى ، حيث قام بواجبه، ولم يحزن أو ييئس من فرج الله تعالى.
(4) تحين الفرص المناسبة، كاحتياج الناس للداعية في علم، أو مال، أوجاه، فيحوله إلى درس إيماني.
(5) البعد الإيماني، والروحي الهائل، الذي أعان يوسف على تجاوز محنته وممارسة الدعوة في وقت يستنكره الناس.

(24) الثبات المتوهج :-
قال تعالى: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) (الكهف:14).
صورة ثباتية إيمانية، عظيمة، يحكيها لنا القرآن الكريم عن (أهل الكهف) الفتية المؤمنين، حيث خالطتهم حلاوة الإيمان، وتمكنت من شغافهم، فأحدثت عندهم ثباتاً متيناً، وعزيمة صادقة، وانتماءً شريفاً.
ثبتهم الله وزلزل كل ما يعتريهم من شبهات، فقاموا مبشرين ومنذرين، وناكرين على قومهم الشرك الفظيع، والوثنية الهزيلة.
وظاهر الآية العمل والإصرار، وامتطاء طريق المواجهة، وأننا لن نرضى ببذل العبودية لوثن سقيم، أو هيكل أصم!! تلك طرائق فاسدة، وعادات بالية!! وأين الحجة عليها ؟!
(هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (الكهف:15).
ومع القيام والإعذار، طالبوا بالعلم والسلطان، والحجة والدليل على تلك الأصنام الزائفة !!
ولكن القوم المسرفين، ليس لديهم حجة على الوثنية، ولا سلطان على الخرافة سوى الوراثه والتبعية (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) (الزخرف:22) أي على طريقة؟!.
ولكن لماذا لا نسأل أنفسنا، كيف هذه الطريقة ؟ هل هي صالحة أم فاسدة ؟ هل تقبلها العقول أم ترفضها ؟!
استلهم فقهها، هؤلاء الفتية فآمنوا بالله، ووحدوه، بلا شك ولا بهتان.
ووعى هذه القاعدة يفيدنا أهمية الثبات على الحق، وأنه شرف وبوابة إلى ما بعده من العمل والاصرار والتحرك كما صنع الشببة المؤمنون.
فالثبات يحمد من جهة في ذاته، ويحمد من كونه سائقاً للعمل، ودافعاً إلى الدعوة والتغيير، ورفض الواقع المشين.

(25) الحرص المتعاظم :-

قال تعالى: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ) (:)
وقال : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (:)
والحرصُ هنا، طمع نفسي، يعقب الأسف العميق على ضلالة الناس وانحرافاتهم ويحول الكلمات المفعمة، والأحاسيس المتوهجة إلى خطوات عملية، وتحركات ميدانية، منها :
(1) التفكير في العمل والتخطيط له، بحيث تُدرَس الحالة قبل وطء الميدان.
(2) مباشرة الأحوال، حسب الميل الدعوي من دروس ومشاركات، أو إلقاء كلمات أو مهرجانات، أو رحلات قروية، أو إسهامات فضائية، أو توزيع نشرات ميدانية ونحوها.
(3) التعاون مع كافة العناصر الواعية بالميدان أو لديها لمسات واضحة في هذا الشأن.
(4) جدية التناول للقضايا الدعوية لاسيما العملية، حيث أن الداعية الحريص غالباً ما يبتسم بالحزم والوعي والفاعلية المتجاوزة لكثير من الخطب والصريخ المفرغ من محتواه.
وحرصُ نبينا صلى الله عليه وسلم، جعل منه إنساناً فاعلاً، يعي عظمة دعوته، وموجبات رسالته، ومخاطر مواجهته التي يعايشها بإيمانه العميق، وهمته العالية، وعزيمته الصارمة.
وامتلاك الداعية إلى الله لصفة الحرص المتعاظم يعني :
(1) كبر الدعوة في قلبه، وإحساسه بالمسئولية العظمى.
(2) تقديمها على كثير من المحاب والمسئوليات الأخرى.
(3) تحويل الحرص، إلى تحركات عملية، ومشاركات ميدانية فاعلة.
ولذلك الداعية الحريص يمارس الدعوة بحرفية هائلة، وغير الحريص يؤديها بحرارة ونصب، يريد إزاحة هذا الهم عن عاتقة! وفرق بين الداعيين ولذا لابد لنا من صناعة (الدعاة الحرصاء) ذوي الهم العميق والهمة العالية، التي ستثمر بإذن الله إلى نقاط ملموسة ، وفعائل موضوعية، تتجاوز محبة الخير المجرد، أو طلب الثواب المنقوص، بل لابد من حرص متكامل، وشعور شامل، ولن يخيب الله من أحسنَ عملاً، وضاعف همه وسعيه، والله الموفق.

(26) الخطاب العقلي :-

قال تعالى : عن إبراهيم عليه السلام : (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء:72-74)

قال تعالى :( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)(سبأ:46) وهنا دعوة عقلية نفسية لهؤلاء المكذبين، أن يتفكروا في أمر رسول الله، بكل تجرد وتأمل، وبعيدا عن الجدال والتقليد، لينتهوا بعد ذلك إلى صدقه ونبوته، لا سيما وماضيه شاهد بذلك! فاي معالجة عقلية أبلغ من ذلك؟!!
والخطاب العقلي ضرورى للداعية لإقناع الجامدين أو الملاحدة والعلمانيين، وبعض مرضى النفوس، ومع اتساع الخط الانحرافي، ومعركة الشبهات، يحتاج الداعية إلى الخطاب العقلي، وأدبيات الفكر التي تحسن الوعي، والجدال، وسوق المقدمات، والحجج المجردة من النص، لمزيد الاحتواء والاقناع.
ومن الجهل والتصور الخاطئ أن يعتقد أن القرآن ضد العقل والتنظير المنطقي، وأن الدعوة تنتهي عند سرد النصوص والصدح النقلي! كلا ! هذا سوء فهم للقرآن وللدعوة ! ونعتبر أن هذا التصور تشويه للقرآن وللإسلام، وجعله في قفص الاتهام.
القرآن معجزة نقلية وعقلية في نفس الوقت، تخاطب العقول، وتحرك الأذهان، ويورد الحجج المنطقية لتوهين الباطل، وسحق ادعاءات الوثنية، وما أكثر احتواء الكتاب العزيز لمواد (الألباب) و(الأفئدة) (يعقلون) و(يتفكرون) و(تذكرون) و(المتوسمين) وأشباهها من العبارات الدالة على المخاطبة العقلانية.
ومثل هذا العصر المتفجر بالثقافات والمكتشفات، تحتاج الأمة إلى إعداد المفكرين وخبراء النظار العقلي والفكري، لإظهار فخارالإسلام وعلوه، وترسيخ شعائره وتعاليمه، وأكثر ما يجادل العلمانيون وفلاسفتهم حول القضايا العقلية، ويفرون من النصوص، ولهذا من الضروري صناعة الفلاسفة الإسلاميين، والمناطقة المتمكنين لإفحامهم، وإرجاعهم إلى الصواب إن طلبوه وتلمسوه، وإلا فجلهم مكابرون، وجاحدون كما قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) (النمل:14).
(27) الإعداد الشمولي :-
قال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال:60)
وهذه قاعدة جليلة، يُفزع إليها في كثير من القضايا الأساسية للأمة، والدعوة إلى الله تدخل دخولا أولياً في هذا السياق، لأنها بوابة التغيير، ومفتاح البناء والتمكين، ولم يزال الإعداد والتأهيل رمزاً للأمم المتقدمة والحضارية المسيطرة، لأنه يشعر بالاهتمام والمسئولية، وليس الإهمال وأخذ الأمور بالبركة كما يقال.
والأمة اليوم عليها إعدادات كثيرة، منها الايماني والعسكري والفكري، والعلمي، وكذلك الدعوي الذي يأخذ صوراً شتى منها :
(1) التخطيط الاستراتيجي المرسوم.
(2) البناء المؤسسي الحاوي.
(3) المواد البشرية العاملة.
(4) المسح الواقعي والميداني المفصل.
(5) التثقيف الدعوي الضروري.
فالإعداد الدعوي يُفترض أن يكون شمولياً، يهتم بكل محالات الدعوة وتوابعها، بحيث يتجاوز المسار التقليدي المعروف، لأنه سيريحنا كثيرا من تبعات الإهمال أو الجزئية الدعوية، وسيغذي الجانب البشري لدى الأمة المسلمة لأننا مبتغون لهداية الناس، وليس لقتلهم أو التصادم معهم كما قد قال تعالى :
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
وقال تعالى: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى:52).
وفي الصحيح قال عليه الصلاة والسلام :
(إنما بُعثم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)
والبعث التيسيري يتطلب منا أن نُحسن عرْضَ الإسلام، بصورة حضارية راقية، في ظل عصر العولمة وثورة المعلومات والاكتشافات، وإلا كنا مقصرين في حمل ديننا وتعليمه للناس.

(28) وعي النذارة :-

قال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (الأحقاف:29)
اجتمع رسولنا صلى الله عليه وسلم بالجن، فدعاهم إلى الله، وتلا القرآن، ورغب ورهب، فما كان منهم إلا أن وعَوا الرسالة النبوية، والدعوة الإلهية، التي جعلت منهم نذراً إلى قومهم من ورائهم.
انطلقوا منذرين وناصحين، غير مبالين بأمورهم الخاصة، أو شئونهم الذاتية. وهذا وعي عميق منهم، يُنبئ عن حسٍ إيماني مرهف، تم لهم من حلال مجلس واحد، أصغوا فيه لموعظة رسول الله، وأقبلوا إليه بشغف ورهبانية عالية، صبرتهم دعاة صادقين، ومنذرين فاعلين، وهذا هو الوعي المنشود لكل إسلامي مهتم بالشأن الدعوي والإصلاحي.
وهذا يعطينا فائدة جليلة، وهي أن من أصغى للقرآن بصدق ووعي، شرح الله صدرة للعمل والانتفاع، وهذا ما حصل لإخواننا الجن، تحولوا إلى دعاة ونصحة، يفرقون بين الحق والباطل .
وفي هذه القاعدة القرآنية دروس :
الأول: وجوب الإنذار ولو بأقل المواد والمعارف، وفي صحيح البخاري يقول صلى الله عليه وسلم. (بلغوا عني ولو آية).
الثاني: المسارعة في الخير والبلاغ، حيث الإدراك للمسئولية، وعمق الوعي والانتفاع.
الثالث: أثر القرآن الكريم في تغيير النفوس، وتحويلها إلى عناصر فاعلة، لاسيما إذا ألقي من قلوبٍ خاشعة، وألسنٍ صادقة.

(29) الانكسار المتوقع :-

قال تعالى : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165).
لا تكتمل الدعوة، ولا تنجح بدون انكسارات وإخفاقات، التي هي جزء من البلاء الاختباري، الذي له أسبابه التمحيصية، ودوافعه الكارثية، لكن المهم هنا أن يتوقع الداعية الانكسار، وأن يحسب حسابه مع تفاؤله الدائم ، لأنه سنة الدعوة والدعاة.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142).
ومهم أيضاً أن يدرك أن هذا الانكسار له أسباب قد تكون من باطن الصف الإسلامي، كما قد حصل في غزوة أحد، حصلت المعصيبة من الرماة المرصودين على الجبل، فوقعت البلوى عليهم، حتى قال بن مسعود رضى الله عنه (ماكنت أظن أحداً من أصحاب محمد يريد الدنيا، حتى سمعت الله يقول :
(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ) (آل عمران:152) .
فالمعصية من أسباب الانكسار ، وكذلك التعلق بالدنيا، وحب الشهرة، وتلوث القلوب، وغيرها مما ليس هذا مجاله، ولكن نعي أن أكرم جيل وأحسنه، قد حصلت لهم انكسارات بسبب ما حكاه الله تعالى لنا في غزوة أحد.
وفي هذا درس لعموم الورى، لتحصل العظة، ويتم الاعتبار وهو يؤكد لنا بشرية الدعاة والمصلحين، وأنهم ليسموا مجتمعا ملائكياً، ويعزز فينا معاني الحذر من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأنها عائق للنجاح الدعوي، والتمكين الإسلامي.

(30) المنطلق العلمي :-

قال تعالى : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) (يوسف:108)
هذه قاعدة في صحة الدعوة وضرورية احتوائها على برهان ويقين، وأن المرء لايدعو إلا إلى ما يعتقد صحته، وسلامة محتواه.
وكذا هي دعوة الإسلام، في أساسها قائمة على العلم الصحيح، والبرهان الفصيح، ولكنها أيضاً في جزئياتها وبرامجها، ماينبغي أن تعرض مجردة من الأدلة ووسائل الإقناع وحجج الخطاب، التي تقع موقعها لدى السامع والمشاهد.
ولذلك كلمة (على بصيرة) هنا دالة على شرف العالم بالدعوة، والعلم بواقعها وأهلها.
والبصيرة الدعوية تنشق من وجدان صاحبها، فيؤدي الدعوة، وكله انشراح واطمئنان لصدقية ما يدعو إليه.
والبصيرة هنا، تحمله على فقه أحوال الدعوة والمستقبلين لكلامه، ودلالة البصيرة هنا توحى يشرف العلم الشرعي، الذي يهبه الباري تعالى لبعض عباده، فيصبح كالواعي اللبيب، والفَهِيم المُلهم الذي لا يكاد لا يند له قول، أو ينأى له عمل.
وكذا هي نورانية العلم وسطوع خزائنه، التي تورث العبد المعرفة التامة، والبصيرة الثاقبة، والوعي اللا محدود.
وكلما ازدادت صلة العالم بربه، زيد فتحاً ونوراً واستبصاراً، والله يؤتي فضله من شاء من عباده.
وهذه الآية الشريفة، واقعة في أواخر سورة يوسف المكنوزة بروائع القصص، الكاشف لصدق التقوى، وحسن التدين، ونصاعة العلم، وفهامة التعبير، وجودة السياسة والتدبير، التي ما كانت لتوحد لولا تعليم الله لأنبيائه، ورفعهم على خلقه بالعلم والبصيرة والتفهم.

(31) الاحتساب الخيري :-

قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)
من عوامل نجاح الدعوة في قطر من الأقطار هو تكوين (ثلة دعوية) مخصوصة لهذا الشأن، تُؤهل وتُصَقل، وتُثقف، ثم تمارس واجبها الإيماني، واحتسابها الخيري، وفقاً لرعاية دولة أو مؤسسة خيرية.
بحيث لا يكون لهم شاغل سوى الدعوة وتطويرها، والارتقاء بها، وتقديم الخدمات الخيرية والتوعوية للخلق.
وهي جماعة متخصصة، وأمة محصورة ، هُيأت لهذا الجانب، وفُرِّغت لهذه المسئولية وهي طريق إلى العمل المؤسسي المنظم، الذي يولي الدعوة إلى الله اهتماماً كبيراً.
ويمكن أن نسميهم (دعاة متفرغين) خصوا لهذا الباب، ومنحوا فيه الأهليِِة، واستأمنتهم الأمة على دين الناس وآدابهم وأخلاقهم.
ووعى مثل هذه القاعدة في الأحتساب الخيري يوحي بما يلي :
(1) عظم احتياج الناس للدعاة في كل حين ووقت، لأن الفساد عارم، والشر متفاقم.
(2) ضرورة العناية بالتأهيل الدعوي، الذي هو رافد صريح للعمل المؤسسي الإسلامي.
وأن الدعوة يجب أن تمارس وفق نظام مرسوم، وليس حماساً مدفوعا، أو رغبة جامحة فحسب، بل حماس مخلوط بالوعي والإعداد والتخطيط.
(3) أن العملية الدعوية، تحتاج إلى مزيد من التثقيف العميق، والبناء المحكم لأفرادها المباشرين للواقع، بأن يصبحوا على درجة عالية من الجودة والتمكن...لاسيما ، وقد أصبحنا في زمان مفتوح، وشر مائج ممنوح، يدفعنا لشحذ سنان المواجهة، والتصدي العلمي والفكري.

(32) البدار السريع :-

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ) (المدثر: 1-2)
ليس ثمة وقت للتفكير، وقد حضر الموعد، وصح البلاغ، وبلغت الحجة، وأعرض الناس!
إن الخطب شديد، فقد نظر الله إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وفي هذا دليل على سعة الضلال، وضخامة الكفر المستعلن، فوجب التذكير، وحانت الدعوة الكريمة لتظلل الناس بأفيائها، وتنشر أنداءها.
ولكي ننتفع بهذه القاعدة القرآنية الجليلة علينا أن نضع في الحسبان :
(1) أنه هذه الآية مكية، بل من أوائل ما نزل، ومع ذلك فهي تشع بكل أمر وتوجيه وصرامة.
(2) احتياج الناس الدائم، إلى الكلمة الصادقة، والدعوة المخلصة لانتشالهم من أوبئة الكفر والانحراف.
(3) أن المبادرة السريعة، تعني تحقيق أمر الله تعالى، وابتغاء طريق الأنبياء، وأخذ الأمور بحزم وجدية.
(4) أن المسألة الدعوية قضية جوهرية في العمل الإسلامي، تتصدر أولويات المسلم، وتتقدم أصل مهماته ومهاراته.
(5) أن الداعية يجب أن يكون دائماً، في حالة من التأهب والالتهاب الإصلاحي لفظاعة مايلاقي من صدود ومشادات.
(6) أن الدعوة تحرك قيام، وسعي وعمل، وليست راحة ونوماً واستجماماً وارتخاء!
(7) أن المبادرة بالنذارة السريعة، لا تعني إهمال الفكرة والتخطيط أو الاندفاع الغاشم، كلا بل هي إنذار في ترقب، وسرعة في تخطيط، ومبادرة في تأمل وإعداد.
(8) أن الإنذار لا يكون إلا على شدائد الأمور، ومخاطرها، وأمامنا بلاء شديد، ويوم عبوس قمطرير، من الضرورى وعيه والتأهب له.

(33) الاتقاء المتصابر:-
قال تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) (آل عمران:120)
هذان المعنيان منبع الفتح والتوفيق للمؤمن، لا سيما الداعية إلى الله تعالى.
فبالتقوى يصقل إيمانه ويكتمل، وبالصبر تتجاوز التحديات والرزايا، وبهما جميعاً يصعد سلالم العز والظهور، ويبيت مرشحاً للإمامة والتمكين قال تعالى :
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
التقوى مصباح الطريق وزاده، والصبر وقوده وأدرعه، التي يتجاوز بها الصعاب، ويخترق المضايق والشدائد.
ولا غنى لأي داعية عامل بجد، عن هاتين الخصلتين.
ولأهميتهما البالغة ، قرنهما الله تعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم:
ما تقدم الأول والآخر : (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (آل عمران:125).
وموضع ثالث:(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:90).
ورابع :(وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران:186).
والتقوى في الحقيقة الشرعية أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، بفعل الأوامر واجتناب الزواجر، يعني التدين الصحيح لله، والتطبيق العملي للإسلام، والصبر هو الغطاء الذي يسهم في إمداد التقوى وتقويتها، وتجاوزها للبلايا والعراقيل، بحيث تستشعر رضا الله ومحبته، والذود عن حياض الإسلام، وتحتمل في مرضات الله كل بلاء وشدة، بل إنها تستطعم حلاوة الإيمان في طيات المحن والقضبان.
ويجعل منها الصبر قوة متفاعلة وباذلة لا تخشى المصاعب، وتجاهد في سبيل ربها، وتبتغى نصرة دينه، وتصعد مطايا التضحيات، وتسير بهمة الحازم، وببذل السخي لا تخشى في الله لومة لائم.

(34) القلب الرقيق :-
قال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ) (آل عمران:159)
لا مقام للقلوب الغليظة، والأرواح الفظة، في البستان الدعوي لأن الدعوة تعاطٍ واحتمال، وأخذ ورد، وبذل وتسامح، وإعطاء ورحمة، وجود ووفاء، وإحسان بلا منّ.
ومثل هذه المواصفات لا تحتملها القلوب الغليظة، لأن طبعها الشدة والعنف والتجبر، وفي القرآن يقول المولى تعالى : (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (ق:45).
وفي نصوص كثيرة يحضن المجتبى صلى الله عليه وسلم على الرفق ومزاهره ومحاسنه كقوله (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) (وقوله ويعطي على الرفق مالايعطي على العنف).
وقوله : (إن الرفق ما كان في شئ إلا زانه، ولا نُزع من شئ إلا شانه)
والقلب الرقيق يعني رفق المعاملة، وطيب الأخلاق، ولطف الجواب، وسهولة المعشر وصباحة المحيا، والتسامح الاجتماعي، وتعليم الجاهل، والعفو عن المسيئ ورحمة الناس مطلقاً، لأننا هداة ودعاة وليس قضاة أو جُباة !!
ومن رقة رسولنا صلى الله عليه وسلم ورفق تعامله، ابتهاجه بالجميع وسروره بالضعيفة، ورحمته بالجاهلين، وتسليمه على الأطفال، وترفقه بالأعراب وتجاوبه مع السائلين، وإكرامه للوافدين، في آداب عطرة، وأخلاق نضرة، لا تنفضي ولا تنتهي، والكلام هنا لا حد له والله الموفق.

(35) مصداقية القول : :-
قال تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44)
وقال تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:1-2).
وقول شعيب عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود:88).
الكلام أسهل من العمل، وتدبيج الخطب، أهون من المبادرة الفعلية، وسرد والنصائح لا يضاهي تطبيقاتها الفاحصة!!
نحن بحاجة إلى دعاة عاملين وهداة تطبيقيين، ونصحة ميدانيين، يبادرون الأقوال ويسابقون الكلمات، وهذا أوقع في الناس، وأعظم أثراً.
كم من داعية يحض على حسن الخلق، وهو جلف الطباع، ويوصي بالجود وهو صنو البخلاء، ويتكلم عن التضحيات، وهو حبيس العزلة والمكتبات، وهذا خلل في فهم الدعوة !!!
لا بد أن يكون الداعية (سيد المبادرين) وأول المتنافسين، حتى يدفع عنا تهمة القول الزائف، ونصدق أقوالنا بتوقيعات التنفيذ، ونحدث الأثر العميق في نفوس المستمعين.
وما سميناه هنا (مصداقية القول) سماه السلف والأئمة (اقتضاء العلم العمل) ويمكن نسميه هنا أيضاً (ضريبة القول).
باتت الكلمات كثيرة، والفضائيات نقالة، والخطب رنانة! ولكنها أقوال تعرو عن التطبيقات العملية، والملامسات الميدانية، التي تجسد مصداقية الداعية عند الناس.
ما أحلى أن أصوغ محاضرة جميلة، أنقش فيها أحلى العبارات ! ولكن الأحلى والأصدق أن أتبع ذلك بالشواهد العملية، التي ترفع التهمة والتبعية عن الدعاة والمصلحين لأن الكلام سهل، والعمل صعب، قل من أطاقه، وتحمل غلواءه.
ومع كراهتنا لتعويل الدعاة على الأقوال دون إسهامات عملية، نجرم من يأتي خلاف ما يقول سراً أو علانية، لأنه اللعنة والشنار والمتاجرة بدين الله تعالى وتشمله الآيات الثلاث الزاجرات (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) (البقرة:44).
وقول شعيب صريح جداً (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود:88)
وقوله تعالى:(كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) (الصف:23)
وقد صح حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب الرحي في جهنم الذي يدور بأمعائه كصاحب الرحى، والعياذ بالله وفيه (كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
وهذا من أوقع الأحاديث على مسامع الدعاة المتأملين، نسأل الله المعافاة الدائمة.آمـــين

(36) مهنية الداعية :-

قال تعالى : (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص:26).
وهذه قاعدة في احتراف الدعاة المهن، ليعدوا أنفسهم ، ويحفظوا شرفهم، ويعيشوا من كسب أيديهم، ويبلغوا دين الله بكل ارتياح.
يعتقد بعض الدعاة أن شرف الدعوة ونبلها يعيق عن العمل، أو لا يتناغم مع شدائد المهن كرعي الغنم الذي فعله موسى وسائر أنبياء الله وآخرهم نبينا صلى الله عليهم وسلم أجمعين، كلا ! بل الداعية، داعية وعامل في كل وقت وحين، لأن الترفع عما في أيدي الناس يعلي قدر الداعية، ويصون مروءته وكلمته.
وقد تأتي ظروف معينة، تفرض على الداعية الكسب وطلب القوت، حتى لا يبيع ذمته، فيخسر دينه أو يداهن في دين الله تعالى (فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) (النمل:36) وحينها يضطر للعمل، ليصرف على نفسه ويعول عائلته، ويحفظ كرامته، ولا ضير في ذلك ولا غضاضة. وقد كان نبي الله زكريا عليه السلام تجاراً، وكان داود عليه السلام حداداً، وقد صح الخبر (ماأكل أحد طعاماً قط وخيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده). أخرجه البخاري وبوب له (باب كسب الرجل وعمله بيده).
ومع حرصنا ودعوتنا إلى إيجاد مؤسسات تقوم على الدعاة، وتفرغهم للجوانب الإصلاحية، إلا أننا نؤكد أنه قد تحصل في بعض البيئات، ولبعض الأشخاص ظروف تحملهم على العمل والكسب الحلال، عبر مهن يُتصور أنه قد تحط من مكانتهم ! فهذا موسى عليه السلام كليم الله ، عمل عند والد المرأتين في مدين لما رأتا من خلقه وأمانته ما يدفعهم إلى الإشارة به على والدهم،ا فبان فيه عليه السلام خصلتا العامل الجاد المنتج : (القوة والأمانة).
وإذا كنا في القاعدة السابقة قد قررنا قاعدة (مصداقية الأقوال) وأن من صورها البرهنة العملية، فها هو موسى عليه السلام يجسد ذلك، ويكسب بها محبة الناس وثناءهم من خلال مهنة يتقاصر جل الناس عنها هذه الأيام، وهي رعي الغنم لمدة عشر سنين. والله تعالى أعلم.
ووعي هذه القاعدة يثمر لنا مايلي :
(1) تواضع الدعاة، واستعفافهم عما في أيدى الناس، وقد قال سفيان الثوري رحمه الله( اتجروا حتى لا يتمندل بنا هؤلاء) ونحوها لابن المبارك، وعد ابن القيم في اعلام الموقعين من أدب المفتي الكفاية والاستغناء عما في أيدي الناس.
(2) تغلغلهم في الحياة الاجتماعية مما يوسع مساحة التأثير.
(3) التفكير الضروري في حماية الدعاة، وجعلهم في (إطار مؤسسي) يهتم بهم.
(4) أن الدعاة ليسوا برجوازيين، مترفعين على الناس بل هم بشر يخالطون ويتكسبون.
قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ) (الفرقان:20)

(37) العطاء لا الجَناء :-

قال تعالى : (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (هود:40).
وقال عز وجل : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (البقرة:272)
وقال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (القصص:56).
في نصوص كثيرة تؤكد عمق البذل، والسعي الدعوي، دون تطلع إلى النتائج والثمرات.
كما قد قال : (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ) (الشورى:48).
وقال : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد:7)
إذن فعلى الدعاة أن يتعلموا العطاء الباذخ من العمل والكدح والانطلاق، لا جمع الثمار، وجني النتائج، والفرح بالمخرجات والعائدات، لأن انتظارها بشغف وتعليق القلب بها، قد يضعف الجهد، وبكدر نية المسار الأولية.
لأن الواجب هو الدعوة ابتداءً وانتهاءً، حتى مع الإخفاقات والتعثرات، يبذل الداعية ويضحي، ويكد في سبيل الله، ولا يفكر في ضخامة الشهرة، لأن ذلك موكول إلى الله وتوفيقه.
ونتعلم هنا أن نوحاً عليه السلام لم يستجب له إلا القليل (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (هود:40).
وقد بذل ما بذل، ومكث المكث الطويل، ونوَّع الأساليب وفاوت في الطرائق، ولكنه من أكثر عباد الله أجراً، بل سماه الله العبد الشكور (إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) (الاسراء:3) يفرح الداعية بثمرات أياديه، ولكن لا يتطلبها كجهده الدعوي، ولا يقارن النتائج بالمقدمات المبذولة، بل يتوكل ويجتهد ويحتسب، وهو مأجور على كل حال.
إن للدعوة لذةً أخرى، غير لذات الفوز والتمكين، يستطعمها من أخلص المقصد، ومحض الإرادة، وفقه الحركة الدعوية وسار مع ركب الأنبياء والمرسلين.
وقد قال ابن مسعود رضى الله عنه (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء وقد ضربه قومه حتى أدموه، وهو يمسح الدم من وجهه ويقول: (إللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). أخرجاه...

(38) الإيمان الباسل :-
قال تعالى : (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)
إيمانً باسلً عجيب، صمد لكل الرزايا، ولم تخفه الزلازل، بل ارتقى فيها بنبضه لدرجة التسليم المطلق، والإيمان الخارق.
عجباً لداعية مؤمن، يرى النصر في طيات المحن، ويبصر الفرح إبان الشدة، ويستيقن الفتح، زمن القمع والكبت، تلك قلوب صفّاها الله، ونقاها بذكره، وهو ما حصل لفضلاء الصحابة أيام الخندق والأحزاب، رأوا الخطر فازدادوا إيماناً، وعاينوا العذاب، فما لانوا ولا استسلموا، اطمأنت قلوبهم بالصبر، وشعرت نفوسهم بالفتح البهيج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم بعد منصرف الأحزاب : (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم). كما في صحيح البخاري رحمه الله.
وفهمنا لهذه القاعدة يجعلنا نرتقى بأدائنا وأحوا لنا ارتقاءً عظيماً، لأن الإيمان الباسل يصنع التضحيات، ويفجر الأعاجيب، ونستفيد مايلي :
(1) مطلق التفاؤل، حتى لو في الأزمات.
(2) استيثاق الداعية بنصر ربه، وظهور دينه.
(3) هوان قوة الكافرين، مهما عظمت واشتدت.
(4) قدرة الله الغالبة، والتي تقهر كل قوة ، وتخترق نواميس الحياة.

(39) اللسان المعسول :-
قال تعالى : (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الاسراء:53)
ليس أحد أولى بحسْن الكلام وطبيه ولطيفه، من الدعاة، والناصحين، والمبلغين عن الله تعالى، لأنهم ألسنة الشريعة، وسُرُج الدعوة التي يجب أن تنفع بلا ضرر، وتضئ بلا إحراق، وتجود بلا منّ واستعلاء. (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الاسراء:53)
نريد من دعاة الإسلام، أحسن الكلمات، وأطيب العبارات، وأجمل المحاضرات التي تعرو عن الشدة والصلف، أو السخرية والتندر، أو الفوقية والترفع، نريد كلمة صادقة بريئة، ترتدي جلباب الحسنى، ورداء الفضلى، وتنأى عن القسوة والسوأى.
وأما صفات القول الحسن فما يلي :
(1) انطلاقه بمزاهير القرآن والسنة، وحسن عرضهما.
(2) ايراده في وقته وحاله المناسبة له، من حيث إقبال الناس وإدباهم.
(3) ننمبق العبارات وتجميلها بنقوش الحسن والجاذبية.
(وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:63)
(4) ملء الخطاب بروح الإشفاق والرحمة، والاهتمام بالمخاطبين.
(5) سلامته من أي خلل أوزلل أو أغلاط.
وتفهم ضرورية تحسين الداعية لمنطقه يجعله يراعي مايلي:-
(1) دقة ألفاظه ومراعاته لكل ما يهفو به أو يجادل، بحيث لا يخرج عن دائرة الحسنى.
(2) تحضيره الدائم لمحاسن الكلام، ولطائف العبارات التي تتطلب منه ترسيخ القراءة، وجودة الاستعداد، ودوام المراجعة والاستذكار (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه:114).
(3) توقير الناس وإجلالهم، بحيث لا يكسر جسر المحبة المبذول من قبل الناس للدعاة والمصلحين وإلا سقطت كلمته، وتهكم بحديثه، ونيل من عرضه (والبلاء موكل بالمنطق).
وليتذكر الدعاة إلى الله أن الكلمة مسئولة، واللفظة منهم محسوبة، ولها دلالاتها وإيماءاتها في نفوس المتلقين، فلا ينبسون إلا بطيب الكلم ولطيفه، بحيث لا يسيئون إلى الإسلام وأهله، أو يشوهون الدعوة وهم لا يشعرون !!.
(40) الانفراج الحتمي :-

قال تعالى : (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:61).
هذه قاعدة قرآنية راسخة، لابد لجمهرة الدعاة أن يعوها، وأن يدركوها مهما عظمت المآزق، وقلت المنافذ ستتلوها المخارج بإذن الله تعالى. المهم أن لا يدب اليأس إلى قلوبهم، أو يحسوا بالهلكة، فالدين دين الله، والأمر كله بيديه (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)(الشورى:12).
أحاط بكل شئ علما، وأحصى كل شئ عددا.
ولهذا لابد أن يتعلم الداعية أن النصر آت، والبشرى قريبة، لأن بأيديهم الحق، وفي قلوبهم النور، وغيرهم ظلم وزيف وادعاء، ومصيرهم للهلكة والشقاء.
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) (الأنفال:38).
وتأكد أن الانفراج الحتمي قد يأتي والدعوة مأزومة، والأمة محصورة، كما حصل لموسى عليه السلام حينما حاصره فرعون وقومه، بات البحر أمامهم، سيبتلع كل شئ يقع فيه فقال البسطاء، (إنا لمدركون).
فقال الموقن المنيب : (كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:62) .
يقين تام، ونفس كبيرة، وهمة عالية، وبمثل هذه المشاعر، يحصل الانفراج والفتح للعباد المخلصين.
وهذه قاعدة مجيدة، نافعة لتأسيس اليقين عند الداعية كما تقدم، بحيث لا يعتريه الخوف، أو يطوقه الهوان، فلا يتقدم ولا يذل، بل ربما تقاعس وتقهقر!!
والقرآن بحر لتفجير المعاني والدلالات الكثيرة، من النصوص المعدودة، وبقدر عمق التأمل، وطول الاعتبار يفرز النظر مالا يحصى من الفوائد والأسرار (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24) جعلنا الله واياكم من أهله المتدبرين له، آمين.
ووعي مثل هذه القاعدة الشريفة :
يُحدث للداعية مايلي:
(1) دوام الثقة بالله تعالى، وأنه ناصر دينه، وحافظ دعوته وأولياءه.
(2) عدم الاكتراث والمخافة من الحرب الشعواء على الدعوة ومنابعها ! بل يدفعهم ذلك إلى مزيد العمل، وبذل الجهد بكل سرور وانشراح.
(3) توقع الفتح والانفراج في أي لحظة كانت، وفي لحظات اليأس والشدة أكثر من غيرها. ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرحت وكنت أظنها لاتفرج
وفي الحديث الصحيح (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
وكما قال تعالى وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).
وسيجئ النصر رغم ما يكون من بعض الدعاه من إظهار لليأس والضعف (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف:110)
(41) التأثير القبلي :-
قال تعالى : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214)
وقال تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم:6)
مع عالمية الإسلام وشمو ليته وكسره لكل حواجز اللون والعرق واللغة، إلا أنه لم يُذهب القبيلة أو يفنيها، بل جعلها رمزاً للقوة والعون والمساندة، وعلق عليها بعض الأحكام الشرعية كالديات وغيرها.
والعجيب أن بعض الدعاة يقطع نفسه في دعوة الآخرين، ويُهمل أهل بيته وعشيرته، وهذا شيئ محزن، وغفلة لا يصلح السكوت عليها، وقد يتحجج بعضهم برفض السماع منه، أو ترفعهم عنه، ولكن...
بلادي وإنْ جارت علىَّ عزيزة.. وأهلي وإنْ ضنوا علىَّ كرامُ.
والاهتمام بالقبيلة مهم للداعية، ويفيده في نواح شتى :
(1) أولها: الناحية اللوجستية الاجتماعية، كحمايته والذود عنه، وعدم الرضا بأذيته (وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) (هود:91).
(2) ثانيها : الناحية الدعائية من نحو إبرازه، وتبني آرائه ومواقفه، وتشجيعه.
(3) ثالثها : الناحية التضامنية التي تعزز وجود كلمته، وتصنع التلامذة والمريدين له بعد وفاته، بحيث يستطيع الداعية اللبيب أن يورث علمه وبعض آرائه لبعض قرابته الأنباه، فينمي خيراً، ويصيب خيراً، ويكون داخلاً في دائرة (التوريث الدعوي) المطلوب كما قال تعالى: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف:28).
وقال : (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) (البقرة:132).
(4) الناحية الاختبارية التطبيقية، التي تُري الناس أنه لا يحابي قرابته، بل يعرضهم للمهالك الدعوية، ليجسد صدقه وولاءه الديني، وأن الكل عند سواسية.
كما صنع رسول الله يوم بدر حيث أخرج من قرابته ثلاثة للمبارزة مع المشركين كما في القصة المشهورة.

(42) التعاضد الدعوي :-
قال تعالى : (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ) (غافر:28).
وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبه:71)
وهذه قاعدة نافعة للحفاظ على النسيج الدعوي، أن لا يُخرم، أو يتشقق فيصبح بلا قوة ولا منَعة ولا تآزر، ومفادها، حتمية التعاضد، وتقوية الأواصر بين الدعاة أنفسهم، وأن يكون لديهم من جسور المحبة، وحبال الوصال، ما يجعل منهم (كتلة قوية) لها كلمتها وهيبتها المجتمعية.
وبالتالي لن يتم الوصول إليهم، أو إضعاف شأنهم.
ومؤمن آل فرعون في هذه المقطع القرآني، قد يكون لا يعرف موسى عليه السلام تمام المعرفة، ولكنه وعَى حقيقة دعوته، وأنه لا يحوز مواداً خطرة على المجد الفرعوني، ولا يقول بدين جديد مبتدع !! بل يدعو بدعاية الأنبياء قبله (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (هود:50).
فأعطانا برهاناً صادقاً على نصرته لموسى ومحبنه لدين الإسلام، وأنه لا يُجيز استباحة دم امري مسلم فضلاً عن نبي عالي الشأن، كموسى الكليم عليه الصلاة والسلام (وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) (الأحزاب:69).
وفي هذا التعاضد الدعوي إعلان لما يلي :
(1) تطبيق الوحدة الإيمانية، والمناصرة الدعوية، إلتي تحول دون أذية الداعية أو تنقصه، أو قتله بغير وجه حق.
(2) ترسيخ لنظرية (الجسد الواحد) الذي إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالنصرة والمدافعة.
(3) إعطاء رسالة تحذير للمخالف، باحترام الجناب الدعوي، وأن أي محاولة للنيل من داعية، سيكون لها تبعاتها الخَطِرة، وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا) (الحج:38).
وفي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم : (من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب).
(4) الاستجابة للوصية النبوية (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة). كما عند الترمذي بسند حسن.
ولأبد أن يتعلم الدعاة هنا، من هذه الإشراقة القرآنية أن الدعاة (كيان واحد) وبناء متماسك، لا يمكن فضّه أو نقضه، إلا في حالة التمزق والتشرذم، وأما إذا حققوا هذه المبادئ القرآنية، فلن يُخلص إليهم، وسيبقى لهم وجودهم وبيارقهم المرتفعة لأن عملهم ذلك حفظ للإسلام، وحماية لدعوته (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ) (الحج:40)

(43) التطلع التمكيني:-
قال تعالى : (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) (يوسف:21)
وقال : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)(يوسف:54).
وقال عز وجل: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41).
وقال : (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ)(القصص:6) وقال: (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)(النور:55).
التمكين هو : الظفر بالشئ وامتلاكه، بحيث يصير المرء متمكنا منه، مستخلفاً فيه.
وهو بغية كل مؤمن واعٍ، فكيف بالدعاه المهتمين والإصلاحيين المحترقين ؟!
ولكن من المؤسف هنا، الأخذ الساذج لبرامج الدعوة عبر بعض الدعاة المتتخلفين، الذين لا يعملون وفق خطط مدروسة، ومشاريع مؤسسية متعمقة ! بل ينطلقون بكل عفوية وهدوء، وتنتهي بهم آمالهم إلى مرام محدودة ومقاصد تقليدية معروفة!!
إن زماناً كواقعنا هذا يستلزم مضاعفة الجهود، والارتقاء بالأعمال، وتضخيم المشاريع، وتعميق البنى، وصناعة الأجيال، وإعداد الكفاءات، ورسم المستقبل وحفز الطاقات، وترسيخ الثقافة الفاعلة.
وهذا كله يتأتى عبر (العمل المؤسسي) الضارب في أعماق العلم والفكر وحُسْن الإدارة والتدبير.
إن الداعية لا يؤثر حتى يتمكن في الأرض، وتصبح كلمته هي الدواء للأرواح والنفوس، وفوق تمكين الداعية، تمكين للأمة، وهذا هو المطلوب الذي يستطيع الأمة من خلاله إقامة الشعائر، وتثبيت القواعد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث تصبح العملية الاصلاحية عمليةمجتمعية مشتركة، لا تخص فرداً واحداً يجاهد من أجلها، فينتصر أو يتضرر.
والمقصد أن يعيَ الداعية أنَّ دوره لا ينتهي عند مجرد محاضرة، ذات حضور فسيح، ولا درس ذي عمق أصيل، أو مؤلف متين بهيج، كلا !
بل المطلوب، ما وراء ذلك من النقلة المجتمعية، والإرادة المؤسسية، والتطلع التمكيني، الذي به إعزاز الإسلام، وهزيمة الأعداء الألداء.
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)
(إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)

هذا وأسأل المولى الكريم ، أن يزيدنا فقهاً وتدبراً وحكمة في كتابه الجليل، وأن يجعلنا من خاصته، العاملين به، إلى يوم الدين (اللهم ياولي الإسلام وأهله، مسكنا بالإسلام حتى نلقاك عليه).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، الدعاه الفضلاء والمصلحين البسلاء.

الأكثر مشاركة في الفيس بوك