نحن والآخر‏..‏ ملاحظة أولية في أدبيات الحوار

نحن والآخر‏..‏ ملاحظة أولية في أدبيات الحوار
بقلم : د‏.‏ سعيد اللاوندي‏

‏ في دفاعه عن المجرم قاتل مروة الشربيني في قاعة محكمة دريسدن في ألمانيا‏,‏ قال أحد المحامين إن المجرم الحقيقي هو وسائل الإعلام‏!‏ وفي هذا القول ظل من حقيقة لان الإعلام الأوروبي والأمريكي دأب منذ وقوع أحداث‏11‏ سبتمبر عام‏2001‏ علي ربط الإرهاب بالإسلام‏,‏ وتكريس فكرة أن العرب والمسلمين أناس يتغذون بالدم ويكرهون الآخر‏,‏ لا لشيء إلا لأنه يختلف عنهم‏!‏
وكان طبيعيا أن يتأثر قاتل مروة الشربيني بكل ما يكتب أو يذاع أو ينشر عن المسلمين‏,‏ فارتبط في ذهنه‏,‏ نتيجة لذلك‏,‏ أن أي سيدة ترتدي حجابا فهي بالضروري إرهابية وكذلك أي رجل يطلق لحيته ويكون اسمه محمد أو محمود أو مصطفي أو الأسماء الأخري ذات الدلالات الإسلامية فهو بالضرورة إرهابي‏..‏
ومعلوم أنني لست في معرض الدفاع عن المجرم الألماني الذي استحق عقابه وهو السجن مدي الحياة ـ وهي أقصي عقوبة في القانون الألماني الذي ألغيت فيه عقوبة الإعدام مثل باقي القوانين في أوروبا ـ وقد يكون‏(‏ العكس تماما‏)‏ هو ما أريد قوله‏..‏ بمعني أن الإعلام الألماني‏(‏ والأوروبي‏)‏ قد وفر المناخ الملائم لظهور عشرات بل مئات من المجرمين‏(‏ القتلة‏)‏ الذين يكرهون العرب والمسلمين لمجرد أنهم يدينون بالدين الإسلامي‏,‏ ومن ثم علي‏(‏ القتلة‏)‏ أن ينالوا عقابهم‏,‏ كحال قاتل مروة الشربيني‏,‏ لكن علينا ألا نغفل المجرم الحقيقي ـ أقصد وسائل الإعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة ـ باعتبارها والحالة هذه ـ مدرسة لتفريخ المجرمين من كل لون وجنس‏!‏
والحق ان استئساد وسائل الإعلام الغربية علينا يرجع الي عدة أسباب‏,‏ منها العنصرية والتحيز ضدنا‏,‏ وسيطرة اللوبي اليهودي علي معظمها‏..‏ لكن الأهم ـ في اعتقادي ـ هو ضعفنا وعجزنا عن مواجهة المزاعم والأكاذيب التي تملأ السماوات الإعلامية في بلاد الغرب حول حول الاسلام والمسلمين بشكل عام‏..‏ وحتي في حال حدوث اشتباك مع الآخر حول قضية من القضايا التي تحتاج الي رد أو توضيح نجد أنفسنا الخاسرين‏!‏ والمثال الصارخ علي ذلك هو أزمة الرسوم الدانمركية التي اشتعلت نيرانها لبعض الوقت وهاج المسلمون وماجوا في أقاصي الدنيا وأدناها ثم أصبحت النيران رمادا‏,‏ ولم يحدث شيء اللهم إلا تكريس لسوء الفهم القائم بيننا وبين الغرب‏,‏ ومما يؤسف له أن هذا المنهج في التعامل مع الأحداث والوقائع أصبح‏(‏ لصيقا‏)‏ بنا برغم أنه يوردنا موارد التهلكة‏..‏
..‏ وأقصد بالمنهج هنا‏,‏ ذلك الأسلوب الذي اعتدنا عليه وهو الصراخ والضجيج وإشعال الحرائق داخل وسائل اعلامنا‏..‏ وغاب عن بالنا أن أحدا‏(‏ سوانا‏)‏ لم يسمع هذا الضجيج‏,‏ أي أننا قمنا بعمل‏(‏ مونولوج‏)‏ أقصد حوار ذاتي مع أنفسنا لم يشعر به أحد من هؤلاء الذين أساءوا الظن فينا وأغضبونا‏!‏ وهذا ـ في اعتقادي ـ هو سر الخسران المبين الذي يلازم معاركنا سواء تلك التي تفرض علينا أو التي ندخلها بإرادتنا‏..‏
ففي أزمة الرسوم الدانمركية ملأنا صحفنا مقالات واتهامات وربما رد بعضنا موضحين أن الإسلام بريء من كل هذه الترهات التي تقال عنه‏..‏ واسرفنا في قول نعرفه نحن جميعا ـ لكن لا يعرفه الآخرون ـ وهو أن الإسلام دين ينبذ العنف ويحث علي قبول الآخر أيا كان لونه أو جنسه أو دينه‏,‏ ويدعو للتعايش بين الشعوب في محبة ووئام‏..‏ لكن لان ما كتبناه كان باللغة العربية فلم يشعر به أحد‏,‏ وكذلك كان الحال في فضائياتنا واذاعاتنا التي ظلت‏(‏ تصلصل‏)‏ أسابيع وشهورا وتعزف نفس النغمة بلغة الضاد التي لا يعرفها سوي العرب‏..‏ وهذا هو ما قصدته علي وجه التحديد من كلمة‏(‏ مونولوج‏)..‏ إذ لا يكف لساني عن الكلام لكن لم يسمعني‏(‏ الآخر‏)‏ المستهدف أولا وأخيرا بهذا الحديث‏..‏
وكان الصواب هو أن نعتمد منهجا مغايرا هو‏(‏ الديالوج‏)‏ أي الحوار مع هذا الآخر‏,‏ سواء كان شخصا أو دولة أو مجموعة من الدول‏..‏ وفي حالتنا التي نشير إليها كان ضروريا أن نرد ونوضح وندخل في سجال لكن عبر الحوار‏(‏ الديالوج‏)‏ وليس عبر الحوار الذاتي‏(‏ أي المونولوج‏)..‏ ولا ننسي أن الحوار ـ والحالة هذه ـ يستند الي قاعدتين‏:‏ الأولي أن أتحاور مع الآخر بلغته هو وليس بلغتي‏..‏ وأن أكتب في صحفه هو‏,‏ إذ لا معني للكتابة في صحفي التي لا يقرؤها سوي قومي‏..‏
بهذا المعني أكون قد استوفيت الجانب الأول من الديالوج‏..‏ أما الجانب الثاني فهو التخلي من المشاعر والوجدانيات وبدء الحوار عبر الاقتناع والمنطق العقلي‏..‏ فهذا الآخر يعيش حضارة تقف في شموخ علي العقل والعقلانية‏,‏ ومن ثم لا مجال للخوض في أمور عاطفية أو روحانية‏..‏ وهو أسلوب لو تذكرنا قليلا لعرفنا أن أربابه كانوا من المسلمين الأوائل‏,‏ ويبرز هنا اسم فيلسوف العقلانية الشهير ابن رشد الذي لم يتأفف الغرب من التعلم علي يديه‏..‏
أريد أن أقول إن الخطاب العقلاني هو الركن الأصيل في هذا الحوار‏(‏ الديالوج‏)‏ الذي نبتغيه جسرا للتواصل مع الآخر‏.‏
وإنصافا يجب أن نعترف بأننا لا نجيد‏(‏ ثقافة الديالوج‏)‏ كما يسمونها في الغرب‏,‏ لأننا ـ من وجهة نظرهم ـ قد اعتدنا علي قبول ما يقال دون مناقشة‏..‏ واذا كان لابد من نقاش فعلي قاعدة الحوار مع الذات همسا‏!‏ وبقناعة مسبقة مؤداها‏:‏ ليس بالإمكان أبدع مما كان‏,‏ ويربط نفر من المستشرقين المتعمقين في حضارة وتاريخ الشرق‏(‏ هذا الحال‏)‏ بالواقع السياسي الذي يتسم في أحايين كثيرة بالاستبداد وغياب المشاركة والشفافية بين الحاكم والمحكوم‏..‏ وأيا كان نصيب هذه الرؤية من الصواب‏,‏ إلا أن ثقافة الديالوج غائبة فعلا لا قولا حتي بين بعضنا البعض‏..‏ فكيف بنا نطلبها لتكون فلسفة تعامل بيننا وبين الغرب‏,‏ وأحسب أن مساحات سوء الفهم ستظل قائمة وستتسع دوائرها يوما بعد يوم بسبب حالة المونولوج التي تتقمصنا وكأنها الشيطان المريد‏..‏ وبات علينا أن نبادر بتحطيم هذا الواقع والولوج فيه الي فضاء الحوار دون أن ننسي أنها مهمة صعبة‏,‏
لأن عتبتها الأولي هو بناء الثقة بين طرفي الحوار والأهم تكريس فكرة‏(‏ الندية‏)..‏ فلا حوار إلا بين‏(‏ أنداد‏)..‏ وها هو التاريخ لم يحدثنا قط عن حوار بين‏(‏ سيد‏)‏ و‏(‏عبد‏)..‏ فالأول يأمر‏,‏ والثاني يطيع دون مناقشة‏..‏ وسوف يساعدنا في ذلك أن للإسلام في أوروبا ـ مثلا ـ صورتين‏:‏ صورة أكاديمية وهي قريبة من واقع الدين الإسلامي‏..‏ والصورة الثانية هي إعلامية بامتياز مليئة بالمغالطات‏.‏
وأحسب أن الحوار الصحيح مع الآخر يبدأ بإبراز الصورة الأولي‏,‏ وتعتمد علي المنهج العلمي في البحث‏,‏ ومناقشة الصورة الأخري المغلوطة أو المدسوسة‏(‏ لا فرق‏)‏ خصوصا أنها الأكثر شيوعا لأنها لقمة سائغة لوسائل الإعلام تلوكها في الفم ليل نهار‏..‏ لكن بشرط أن تكون المناقشة عقلانية وبعيدة عن الوجدانيات‏,‏ واختصارا لابد من الاهتمام بالخطاب الإعلامي وطريقة معالجته لقضايانا دون أن ننسي أن الأفكار لا تحارب بالرصاص وإنما بأفكار أخري شرط أن تحدث نوعا من الديالكتيك علي طريقة الفيلسوف الألماني هيجل‏..‏ يبقي أخيرا أن نعترف بخطأ التناول الإعلامي الذي ينطلق من مبدأ الحوار مع الأنا أو الحوار الذاتي‏(‏ المونولوج‏)..‏ ومادام ليس بوسعنا أن نمنع الآخر من الحديث عن قضايانا وعقائدنا وحضارتنا‏,‏ فالأصوب أن نقيم معه حوارا إيجابيا من قاعدة الديالوج التي يؤمن بها‏..‏ وبدون ذلك سنظل أسري العزلة والانكفاء علي الذات والاحساس بالدونية واجترار الأحزان‏..‏

المصدر: جريدة الأهرام   
  44906 ‏السنة 133-العدد 2009 نوفمبر 17 ‏29 من ذى القعدة 1430 هـ الثلاثاء
 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك