الإسلام و العنف: جدلية الفهم و الممارسة

الإسلام و العنف: جدلية الفهم و الممارسة

أبو زيد المقرئ الإدريسي

الحلقة الأولى : الإسلام يقبل الآخر:

(1)

في مواجهة الخطاب المتحيز الذي يرمي الإسلام بالعنف، لابد أن يقوم الفكر الذي يقف إلى جانب السلم، و ينتمي إليه انتماء مبدئيا مهما كانت الأسباب، على تصورات بنيوية معمقة في أصول ديننا التصورية و العقدية، حتى لا يكون فكرا تعميميا سطحيا يتبخر عند أول ردة فعل أو نهزة مكيافيلية.

نجد دائما أن الانزلاق إلى تبني العنف و التنظير له في نظريات القوة و في حضارات العنف و السيطرة، يتأسس في العمق على ثلاثة أسباب: إما عدم قبول الآخر، أي السعي إلى نفيه و بالتالي إباحة استعمال القوة لمحوه من الوجود محوا ماديا و إما عدم قبول الاختلاف معه ، مما يعني صهره و إدماجه و إرهاقه و الضغط عليه و تنميطه كما تفعل العولمة اليوم لمحوه معنويا. و إما الجهل بطبيعة الإنسان من حيث الظن بأن طبيعته تقبل القهر، إكراها له على التخلي عن المبادئ و القيم التي يؤمن بها، أو تغييرها تحت ضغط القهر.

و قد برهن الإسلام بما يكفي عن قبوله بالآخر، و عن قبوله بالاختلاف مع الآخر، و عن إدراك عميق و سليم لطبيعة الإنسان. و النتيجة الطبيعية لأي منظومة فكرية أو عقدية و حضارية تقبل الآخر و تقبل الاختلاف معه و تدرك بعمق طبيعة الإنسان: هي انتفاء العنف منها تلقائيا، بحيث لا يحتاج ذلك إلى تنظير إضافي مستقل، كما لا يحتاج إلى تأسيس قائم الذات في هذه الموضوعة، بل قد لا تطرح الموضوعة أصلا للنقاش.

(2)

إن الإسلام يؤسس لقبول الآخر تأسيسا عمليا و واقعيا عندما يرفض كل أشكال العنصرية تجاهه كما أنه يرفض تصنيف الآخر بسبب اللون أو الجنس أو العرق أو غيرها من المميزات "غير الاختيارية"، و بالتالي لا يمكن أن ينشأ في ظل التصور الإسلامي موقف يرفض الآخر، يؤدي إلى تسويغ العنف ضده لسبب لوني أو لسبب عرقي أو أي سبب آخر بالوراثة !

و هكذا تنتفي ذاتيا كل أسباب ممارسة العنف ضد الآخر لإذلاله أو إقصائه أو محوه محوا ماديا من الوجود، ما دام يتأسس في ضمير الإسلام التلقائي و المنطقي و المؤصل، كل أشكال قبول الآخر، عوض كل أشكال رفضه.

بل لنأخذ حتى المميزات الاختيارية، و على رأسها المميز العقدي. قد يبدو للوهلة الأولى بالنسبة لدين كالإسلام جاء يقول إنه خاتم الديانات و أنه ناسخها و المهيمن عليها، أنه قد يقع في الاقصاء، و ما يجره من عنف،من هذا المنظور. لكننا بالعكس نجد أن القرآن الكريم في عدة مقاطع عندما يحدد علاقته بالديانات السابقة، قبل أن يقول: "و مهيمنا عليه"، يقدم قبلها: "مصدقا لما بين يديه من الكتاب" (المائدة/48) و ليست الهيمنة إقصاء، و إنما هو التصحيح و التنبيه إلى ما وقع من التحريف في هذه الديانات، و رد لها إلى أصلها المشترك مع الديانة الإسلامية، و الذي هو الأصل الإبراهيمي أو الأصل الآدمي. و الدليل على أن "الهيمنة" هنا هي مفهوم تكاملي و ليس مفهوما إقصائيا هو ما نلمسه على مستوى التصور و السلوك النبويين، و كذلك سلوك الصحابة في فقه التعامل مع غير المسلمين:

فعلى مستوى التصور، يقول النبي (ص) في حديث نبوي صحيح بين فيه موضعه بوضوح عبر مثال فقال: "إنما مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كرجل بنى بيتا فأحسنه و أكمله و جمله إلا موضع لبنة في ركن. ثم طفق الناس يطوفون بالبيت و يقولون ما أجمله و أكمله لولا تلك اللبنة... فأنا اللبنة و أنا خاتم النبيئين" (البخاري)، فجعل النبي (ص) لدوره و لرسالته و لموقعه موقع لبنة صغيرة في ركن قصي من بيت كبير. و هذا ليس تكاملا فقط، بل هو تواضع كبير أيضا! و لا يمكن لدين يرى نفسه مجرد لبنة في بناء ضخم أن ينفي هذا البناء أو أن يزيله من الوجود بأي شكل من أشكال العنف ، لكي يجعل اللبنة بديلا للبيت. فاللبنة لن تؤدي وظائف البيت و لن تكون بديلا له أبدا، على مستوى الواقع البشري العام، لا بمنطق الحق المجرد.

(3)

أما على مستوى فقه الصحابة المستمد من الفقه النبوي في التعامل مع الآخر، فعندما فتح عمر بن الخطاب بلاد فارس عرض له إشكال فقهي جديد في إطار المستجدات التي تحوج إلى اجتهاد، و هي أنه يتعامل مع نمط جديد من الاعتقادات الجماعية الذي هو المجوسية. استشار عمر الصحابة بعد أن احتار في الأمر، ذلك أن القرآن و السنة النبوية يؤسسان للعلاقة مع اليهود و النصارى ضمن مفهوم "أهل الذمة"، بحيث تقوم العلاقة معهم على عقد تشارطي يسمح لهم بالعيش مع المسلمين، و التمتع بالحرية في العبادة و العلاقات الاجتماعية، على أن يترك لهم كل ما يتعلق بالأمور الداخلية. لكن المجوسية ديانة أرضية غير سماوية و غير مذكورة في القرآن الكريم، و لا يوجد موقف صريح من أهلها فيه، و انطلاقا من مبدأ التوحيد الإسلامي الصارم، يفترض أن يكون هناك موقف جذري منها و هو الرفض. فإذا بعبد الرحمن بن عوف يقول: "أشهد على رسول الله أنه قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب" (أبو يوسف، كتاب الخراج) . و بذلك تم توسيع مفهوم الذمية من حيث هي تأسيس لعلاقة إنسانية راقية تقبل الآخر، و تضمن له حقوق حرية العبادة و حرية الاعتقاد و حرية المؤسسات التعبدية، و الفقه الخاص الذي تنبني عليه العلاقات الاجتماعية و الأحوال الشخصية. كما تم توسيع هذا المجال لكي يشمل كل الديانات المرفوضة مبدئيا بما فيها ديانات أرضية وثنية، و ديانات ليس فيها موقع لله أصلا.

* * * * * * *

الحلقة الثانية : الإسلام يقبل *الاختلاف:

(1)

أشرنا في الحلقة الأولى إلى أن موقف الإسلام من العنف، لا تنفيه الخطابات العاطفية و لا تثبته التحليلات المتحيزة، و إنما يرتكز على تدقيق عميق للأسس العامة التي تحدد علميا هذا الموقف، بعيدا عن الانتقائية أو التحايل على النصوص الجزئية.

وبينا أن هذه الأسس هي ثلاثة : مدى قبول الآخر ( وهو ما أثبتناه في تلك الحلقة ) ، ومدى قبول الاختلاف( وهو موضوع هذه الحلقة و التي بعدها)، و مدى إدراك طبيعة الإنسان المتأبية على القهر فيما يتعلق بالاعتقاد ( وسيكون بإذن الله موضوع الحلقة الرابعة ) .

(2)

ينظر الإسلام إلى الاختلاف كطبيعة، أي أنه جبلة بشرية متأصلة، فلا يعتبره انحرافا و لا منكرا، و لا استثناء، بل ينظر إليه على أنه الأصل. يقول تعالى: "و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، و لذلك خلقهم" (هود/18)، يبين بذلك أنه خلقهم من أجل الاختلاف، و أن الاختلاف جزء من طبيعة وجودهم، لا ينتفي إلا بانتفائهم. و الاختلاف في التصور الإسلامي رحمة، يكفي ما يقال عن خلاف الفقهاء: "خلاف العلماء رحمة"، لأن الاختلاف يؤسس للاجتهاد في الرأي. و لأن الاختلاف في زوايا النظرة الشرعية أو الفقهية أو السياسية هو الذي يؤسس للاجتهاد، و لأن الاختلاف جزء من الحرية، فإن الإسلام يجعل من حق الإنسان أن يختلف، و يبني هذا الاختلاف كسلوك فطري على أرضية هي في عمق هذه الفطرة، هي التوق إلى الحرية، و الرغبة في الحياة بحرية. كما ينظر الإسلام إلى الاختلاف على أنه خصب، و أن التعدد في زوايا النظر يؤدي إلى إخصاب الفكر و الواقع الإنساني بل و المشهد البشري على الأرض.

و لم يكتف الإسلام بهذا النظر المجرد إلى الاختلاف بكونه طبيعة و رحمة و اجتهادا و حرية و خصبا، و إنما قام يؤصله بالدليل. فالعلماء ينظرون جميعا، في أصول الفقه، إلى الاختلاف في الأحكام الشرعية بوصفه اختلافا طبيعيا و قدريا و لازما، و الفقه في طبيعته يتشكل من آراء مختلفة، حتى في الأمر المقدس الذي تعبدنا الله به، أي أننا نختلف حتى في فهمنا لأمر الله، حيث نمارس عبادة الله عن طريق فهمنا لهذه العبادة، و نختلف في ترجمتها إلى سلوك دون أن يكون في ذلك تناقض، لأن الحق و لو أنه واحد إلا أنه ليس هو الصواب: الحق واحد و الصواب متعدد، و يمكن أن يكون للحق أشكال متعددة من الصواب.

(3)

في هذا الإطار تأتي أول بادرة اختلاف طبقها النبي (ص) بالإقرار و أصلها المسلمون. و ذلك أن النبي (ص) أمر الصحابة أن يسارعوا إلى بني قريظة فقال: "من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة"، لكن لما دخل وقت العصر و هم في الطريق انقسموا إلى قسمين: قسم فهم الأمر النبوي حرفيا و أكمل الطريق إلى أن دخل الليل، فصلى العصر مع العشاء الآخرة، رغم أنه يعتبر من التفريط الكبير أن يصلي المسلم العصر بعد الغروب، و قسم آخر اجتهدوا في فهم النص النبوي فانطلقوا إلى روح النص، و لم يقفوا عند ظاهره و قالوا إنما هو من أساليب الحث و التوكيد، فتوقفوا و صلوا العصر، ثم وصلوا متأخرين قليلا فصلوا المغرب و العشاء. فلما التحق النبي (ص) بهم بعد ذلك في اليوم الموالي و حدثوه بالأمر أقر هؤلاء على اجتهادهم، و أقر هؤلاء على اجتهادهم (المباركفوري، الرحيق المختوم.ص369 ). فأصل بذلك لدور الإنسان في فهم النص و تأويله و قراءته و تنزيله على الواقع، مما يدل على استيعاب الإسلام لكون التعاطي الفعلي مع النصوص خلافيا و ترجيحيا و نسبيا يحتمل الخطأ.

و الإسلام هو الذي أصّل للثواب على الخطأ، و ليس فقط لإعفاء الناس من جريرة الخطأ، عندما اعتبر المجتهد المخطئ مأجورا، و لم يكتف بالقول: من اجتهد فأصاب فله أجر، و من اجتهد فأخطأ فلا شيء عليه. فهذا ليس محفزا. و إنما قال "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ، فله أجر و إذا اجتهد فأصاب فله أجران« (البخاري و مسلم). و حتى هذا التمييز البسيط، ليس لتفضيل المصيب على المخطئ، فكلاهما مجتهد. و لكن لحفز الناس على إتقان الاجتهاد، حتى لا يكون مجرد اجتهاد لأجل الاجتهاد، و إنما الاجتهاد من أجل الوصول إلى الصواب، و لولا هذا الأمر لسوى الإسلام بين المجتهد المصيب و المجتهد المخطئ. و هكذا يحارب الإسلام التنميط و الحرفية في فهم النصوص، و يحارب الارتباط الشكلاني الذي يقوم على الانصهار في بوتقة واحدة، مما يؤدي إلى إلغاء البعد الفردي و الاختلاف و إلغاء الجانب الذاتي و الخاص في أسلوب الإنسان و عقليته و نفسيته. و بالتالي لا يمثل الإسلام حالة نفاق عامة للناس يرتبطون فيها بالدين بارتباط منمط عبر سلطة فكرية ظاهرة تطبعهم بطابع واحد و تجعلهم في قالب واحد، و إنما يغذي التدين و الإيمان و يعطي للتعاطي مع النص حيوية و يدفعه إلى أن يتحلى بالزخم الواقعي للطبيعة البشرية القائمة على الاختلاف.

و هكذا يتأصل في الإسلام قبول الاختلاف مع الآخر باعتباره أحد موانع و نوافي استعمال العنف الذي قد يلجأ إليه من أجل إلغاء الاختلاف أو إلغاء الرأي الآخر.

إن الإسلام يقبل الآخر ذاتا و فكرا، و هذا ما يدفعه إلى أن يضع نظرية في تدبير التعايش، بناء على أن الآخر أمر واقع، و أن الاختلاف مع الآخر أمر واقع أيضا، و يبني الإسلام تصوره لتدبير التعايش على جملة عناصر، نكتفي بذكر ثلاثة منها فقط، أولها تصوري و ثانيها أخلاقي و ثالثها عملي. نعرضها في الحلقة المقبلة بإذن الله.

* * * * * * *

الحلقة الثالثة : الإسلام يفعل « الاختلاف »

(1)

بينا في الحلقة الماضية معنى الأساس الثاني من الأسس الثلاثة التي ينبني عليها موقف الإسلام الرافض للعنف لانتفاء الحاجة إليه، ألا وهو قبول الإسلام للاختلاف. ونواصل في هذه الحلقة بيان كيف أن الإسلام لا يكتفي بقبول الاختلاف، وإنما يجاوز ذلك إلى تفعيل هذا الاختلاف، عن طريق بسط ثلاث عناصر متكاملة- ضمن أخرى – أشرنا إلى أن أولها تصوري و ثانيها أخلاقي و ثالثها عملي، و إليك أخي القارئ بيانها بإذن الله.

(2)

أولا: العنصر التصوري، وهو: التفاهم. فالإسلام يبحث دوما عن أرضية مشتركة، و يدعو إلى توفيرها كي تجعل الخلاف قابلا لأن يتعايش به في إطار مشترك يمكن أن يتحول إلى فعل مشترك، و مستقر و منسجم. هكذا نقرأ قول الله عز و جل في حوار مع اليهود و النصارى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا، و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" (آل عمران/63)، و القرآن يتنازل بموجب ذلك منهجيا عن الشق الثاني من الشهادة "محمد رسول الله"، لأن هذا الأمر مرفوض من الآخرين، ليكتفي بالمشترك الذي هو الإيمان بالله، و ليؤسس به أرضية إنسانية منسجمة تقوم على التعاون و التعايش بين الديانات الثلاث، هي ما يطلق عليها القرآن الكريم "الكلمة السواء".

ثانيا: العنصر الأخلاقي، وهو: التحاور. لقد رفض الإسلام كل الأشكال العنيفة للتدافع، و طالب بشكل وحيد، حضاري سلمي معنوي للتدافع، هو التدافع بالفكرة و الكلمة، و بكل ما يمكن أن يحقق التواصل و ليس التنافر. و الحوار هنا يأخذ مجالات أرقى، كما يوصف بصفات و يقيد بقيود منها قوله تعالى: "و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" (العنكبوت/46)، هكذا نؤمر بأن نجادل ب"التي هي أحسن"، و قد أمرنا بذلك أيضا بقوله تعالى للنبي (ص): "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة، و جادلهم بالتي هي أحسن" (النحل/125). و هنا التفاتة لطيفة عندما نلاحظ أن الموعظة تكون حسنة، أما الجدال فيكون أحسن، لأن الموعظة تكون للموافق، في حين أن الجدال يكون مع المخالف. و إذا أمر المسلمون بأن يحسنوا خطابهم مع الموافق، فقد أمروا بدرجة أعلى من التحسين مع المخالف، حيث يكون المحاور عرضة للانفلات و الانزلاق إلى العنف المادي أو الرمزي، فيحتاج إلى الاحتياط و ضبط النفس، و إلى مستوى عال من التحكم في الاندفاعات "الغضبية" عند الإنسان لمواجهة المحاور بغير خشونة، حتى يواجه الاختلاف متحليا "بالأحسن" ليكون حواره مقبولا و سليما.

ثالثا: العنصر العملي، وهو: التعاون. و ذلك ببسط المجال العملي لتدبير التعايش حتى لا يبقى مجرد محسنات و تحليات و عواطف و مجاملات، و إنما يتحول إلى إنجاز إنساني مشترك بين جميع الأطراف، يحقق التعاون فيما هو متفق عليه، فيما هو مشترك، أو في المجالات الحيوية و الضرورية. و الإسلام يحض على هذا التعاون بدءا بتناول الأطعمة بشكل يؤصل لبعد اجتماعي أخلاقي: و "طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم" (المائدة/5)، إلى المصاهرة و تبادل العلاقات بالرحم والقربى، فالقتال المشترك في وجه المعتدين، بحيث أمرنا أن ننصر المظلوم و لو كان كافرا. ناهيك عن التعاون في تدبير الشأن العام و الشأن الخاص و المحلي و الشأن الدولي، سواء أتعلق الأمر بالحفاظ على المجال البيئي الحيوي أم الحفاظ على المجال الحضاري الإنساني.

(3)

و يمكن أن نلخص الأساس التصوري العميق لهذه العناصر الثلاثة في قوله تعالى: "ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به و لا يجد له من دون الله وليا و لا نصيرا" (النساء/123). هذا المعنى الرائع ينفي عن المسلمين كبشر مبدأ التميز عن الآخرين، و يجعل الناس جميعا سواء أمام القانون الإلهي، سواء أكانوا يهودا أم نصارى أم مجوسا أم غيرهم، و يتعمق هذا المعنى أكثر إذا أنرناه بذكر سبب النزول:

يذكر أن المسلمين اختلفوا مع اليهود و النصارى في عهد رسول الله (ص)، و ادعى كل واحد منهم أن له الحق و الجنة احتكارا، و أن نبيهم هو النبي الحق. ففزع المسلمون إلى النبي (ص)، يذكرون له ذلك و هم يتوقعون أن جوابه سيكون الجواب الطبيعي و المنطقي عند كل مسلم: إنكم أهل الحق و أهل الجنة احتكارا. لكن الوحي نزل يخيب أحلام الجميع، و يسويهم أمام قاعدة كونية، مفادها أن ليس بأمانيكم و لا بأماني أهل الكتاب. فبين أن هذا النقاش كله هو نقاش أهواء بعيدا عن الواقع و عن السنة الكونية و عن الأخذ بالأسباب في الدنيا و الآخرة. فالمسلمون سواء أمام الله مع بقية الناس، إذا أخطأوا المنهج و عملوا السوء فإنهم يعاقبون في الدنيا و في الآخرة ( انظر : النيسابوري، أسباب النزول. ص 103-104 )

هكذا يؤصل الإسلام لأرضية مشتركة بين كل خلق الله، قائمة على العدالة الإلهية الحقيقية التي تجعل الناس سواء أمام القانون الإلهي، و الذي يقوم على أن "من أحسن فله الحسنى و من أساء فله السوء" في الدنيا و في الآخرة. و في هذا الإطار يتضح معنى قوله تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره" (الزلزلة/8)، و "مَنْ" هنا للعاقل المجرد و ليست موسومة بصفة دينية و لا صفة عرقية و لا جنسية و لا لونية، و هذا واضح في القرآن في تصحيح الانحرافات الدينية، فعندما قالت اليهود: "نحن أبناء الله و أحباؤه"، أجابهم القرآن بقانون: "قل فلم يعذبكم بذنوبكم"، و يضيف: "بل أنتم بشر ممن خلق" (المائدة/20)، فأنزلهم إلى مستوى الآدمية المشتركة، و نفى أي صفة أو تأسيس لعقيدة عنصرية: عقيدة شعب الله المختار، أو عقيدة "نحن الأحق" أو "نحن الأولى" التي تبيح للإنسان اللجوء إلى العنف.

* * * * * * *

الحلقة الرابعة : الإسلام يحترم الإنسان

(1)

نعرض في هذه الحلقة للركن الثالث من الأركان التصورية المؤسسة لانتفاء العنف في المنظور الإسلامي، بعد أن فصلنا في الحلقات الثلاث في العنصرين . الأول : قبول الآخر، و الثاني : قبول الاختلاف بل و تفعيله.

وهذا الركن الثالث هو المتعلق بالإدراك السليم لطبيعة الإنسان المتأبية على القهر فيما يتعلق بالمعتقدات و المبادئ و النوايا. و الجهل بهذه الطبيعة هو المنزلق الخطير لكل المنظومات السياسية الذي يغريها باستعمال العنف، اعتقادا منها أنه سبيل لتغيير المعتقدات لما يريح السلطة الحاكمة . ألم يكن لينين »العظيم« يرفع شعار : »العنف أداة إقناع« منهجا توجيهيا يزود به ستالين في تعامله مع » شؤون القوميات « و هو الملف الذي كلفه به شخصيا ، و المقصود به إكراه الشعوب الإسلامية في آسيا على الدخول قهرا في الشيوعية ما بين 1918 و 1922، و بموجبه نظمت مذابح استمرت بعد وصول ستالين إلى هرم السلطة،مازال جزء منها مستمرا إلى الآن في بلاد القوقاز، دون أن يغير ذلك من عقائد المسلمين شيئا.

(2)

يعتبر الإسلام أن الإنسان قائم على مكون روحي ، هو نفخة الله في طينة آدم، و أن هذا الجسد المادي الذي يمكن أن يطوع أو يكسر بكل أشكال الإكراه، ليس سوى بنية خارجية للجوهر الحقيقي للإنسان الذي هو المكون الروحي. هذا الأخير يستعصي على القوة المادية، كما يستعصي على القهر، لأنه خارج مجال هذه القوة. و هكذا يتأسس جوهر الإنسان الفطري على اللاإجبار، بحيث إن العنصر العميق فيه و الحقيقي لا يدخل أبدا في مناط، الإجبار أو الإكراه، و لذا يلغي الإسلام آليا من الناحية المنهجية كما من الناحية التصورية أي وسيلة لإكراه الآخر، لأن مجال المعالجة غير قابل للإكراه إلا لمن يريد حالة نفاق: مجتمعا يظهر غير ما يبطن، أو حضارة لها خطاب يناقض السلوك.

إن العنف المادي لا تقع طائلته إلا على جسد الإنسان. و النظريات المادية الحسية، و التي ترى الإنسان جسدا أو ترى الجسد هو العنصر الأساس، تراهن على منهج المعاملة المادية التي قد تنزلق إلى القوة أو العنف لأنها تعتبر الجسد مكونا رئيسيا. أما الإسلام فيعتبر الإنسان في الحقيقة هو الموقف و الاختيار و العقيدة و الأخلاق و الفهم، و هي مجالات ليس فيها إلا الإقناع الفكري أو التربية الروحية، أو استثمار الأساس الفطري الذي خلق الله عز و جل الإنسان عليه. لهذا نراه يجعل النية هي مناط المحاسبة. و بعض كتب الحديث تصدر بقول الرسول (ص): "إنما الأعمال بالنيات، و إنما لكل امرئ ما نوى" (مسلم). حتى اشتهر عن بعض السلف أنه و صنف كتابا في الحديث لجعل حديث "النيات" في صدر كل باب من أبوابه قاطبة. و عد عند البعض واحدا من أربعة أحاديث أمهات، هن عماد الإسلام كله. إن النية هي المنطقة المحررة من الإكراه، التي لا يمكن أن نستدعي إليها العنف المادي، فهي محرمة عليه، لأنها منطقة حرة حقا. و بما أنها كذلك فإنها لا تمارس اقتناعا أو اعتقادا إلا بإرادتها، و لهذا يراها الإسلام مجال المحاسبة الحقيقي، "و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله" (النحل/106).

أما على مستوى السلوكات الأخرى المرتبطة بالقول (جارحة اللسان)، أو بالفعل (جارحة اليد و الرجل)، أو أي سلوك مادي يمكن أن يستخلص بالقهر و التجويع و الإكراه و التعذيب و الإغراء و المساومة، فإن درجات المسؤولية فيه تخف إلى أن تنعدم عند الإكراه، "رفع عن أمتي ثلاث: الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه". حتى العقيدة التي هي أقدس ما عند المسلم، إذا أكره على النطق بما يخالفها، فلا مجال للمحاسبة كما قال الله عز و جل في واقعة تعذيب عمار بن ياسر، لما أكره على شتم عقيدته و على ذكر آلهة قريش بخير، و جاء يعتذر إلى الرسول (ص)، فنزل قوله تعالى: "إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان"(النحل/106). فالإسلام عندما يتجه إلى هذا المفتاح، مفتاح النية و الاعتقاد و المكون الروحي و الفكري، فإنه يجعل مناط المحاسبة ما يعتقده عمق الإنسان، و ما يعتقده خارج طائلة الإكراه. هكذا يتأسس موقف الإسلام من إعمال القوة سلبا، بحيث يرفض ذلك انطلاقا من إدراكه للأسس الفطرية للإنسان.

(3)

بل إن الإسلام لا يؤمن بأي شكل من أشكال التدليس أو التمويه أو إعطاء معلومات محورة أو ناقصة، مما يمكن أن يؤدي إلى فعل قمعي رمزي يحاول أن يصل بالإنسان بطريقة ماكرة إلى تغيير اقتناعه بأسلوب مغشوش، بحيث يصبح مناط الاستقلال، الذي هو الروح و الفكر، واقعا تحت التأثير الرمزي للعنف. و يتبين هذا في موقف الإسلام من "الظن"، و "الوهم"، و "السحر" و "الشعوذة"، و "الكذب" و "الأماني". و يطالب الإسلام بالمقابل بالحجة و الإقناع و البيان، كي يتحرر الإنسان تحررا فكريا كاملا، و حتى لا يكون اقتناعه مبنيا على الاستضعاف الرمزي المتمثل في المشعوذين، و الدجالين و المُحَرِّفين ( انظر مثلا : عماد الدين خليل، مدخل إلى موقف القرآن الكريم من العلم . ص 109 – 115) .

نخلص من هذه الثلاثية: قبول الآخر، قبول الاختلاف مع الآخر، الإدراك السليم لطبيعة الإنسان، إلى النتيجة المنطقية التي أثبتها التاريخ و هي أن الإسلام يقبل الآخر من موقع القوة، وليس فقط - ككثير من الاختيارات الأخرى التي تقبل الآخر- من موقع الضعف، و تطالب بحقها في الوجود بالتعددية و الحرية، فإذا وصلت إلى القوة شرعنت و بررت و فلسفت إلغاء الآخر بمسميات متعددة، من محاكم التفتيش إلى العولمة الأمريكية. فالإسلام يكاد يكون الاستثناء الوحيد الذي يقبل الآخر من موقع القوة. ذلك أنه لما تكونت حضارة الإسلام و انتصرت عسكريا و انتصرت حضاريا و روحيا، وصلت ذاتيا للاعتراف بالآخر بدون ضغط أو مدافعة منه. فأهل الذمة مثلا لم يظهروا كحركة اجتماعية احتجاجية، تحتج على تفاقم أوضاعها، و لم يدخلوا في نضالات دامية واجهها الإسلام بالعنف أولا، ثم لما فشل، لكثرتهم العددية، قبل بالأمر الواقع و تم استيعابهم داخل الإسلام، أو تمت مراجعة المنظومة الإسلامية ليكون لهم موقع فيها، كما يحصل بعد نضالات النقابيين ضد رجال الأعمال مثلا.

لقد نظر الإسلام بدءا، و حتى قبل أن يصبح قوة، لوجود الآخر داخله بل و شرعن هذا الوجود، فسوغ فكرة وجود الكنيسة أو المعبد اليهودي و حتى المجوسي داخل أرضه، و بنى على ذلك قبول الذين يدخلون إلى هذه المعابد، و قبول علاقاتهم الاجتماعية و أحوالهم الشخصية و تشريعاتهم الخاصة و ذبائحهم و بيوعهم و أنكحتهم، و وجد الإسلام نفسه من أول يوم لا يحتاج إلى مدافعة مادية من الآخر الذي زالت دولته بمجيء دولة الإسلام. لم يكن هذا الآخر محتاجا إلى أي فعل نضالي مطلبي يجعله بفعل التدافع المضاد يصل عن طريق التعاقد و التشارط و المواجهة المستمرة إلى حل وسط يعترف فيه جزئيا بحقه أو ببعض حقوقه. و إنما جاء الإسلام، و منذ البداية و هو ما زال عقيدة و رسالة تربوية مجردة أي ما زال في مرحلة الدعوة، يؤصل لحق الآخر في الوجود، و يؤصل للتعاطي معه و التعامل معه.

* * * * * * *

الحلقة الخامسة: سحرة فرعون يقدمون الدليل

(1)

فرغنا في الحلقة الماضية من تفصيل الأسس الثلاثة المؤسسة لموقف الإسلام الرافض للعنف تصوريا، المستغني عنه عمليا، مما يفضي لنتيجة منطقية هي أن الإسلام يضع عبادة الله ( التوحيد ) في مواجهة عبادة القوة ( الشرك)، كي يدعو لتأسيس منطق الفكر عوض منطق العضلات الذي ساد للأسف الشديد أغلب مراحل التاريخ البشري.فلقد أحصى المؤرخ و الفيلسوف ول ديورنت صاحب »قصة الحضارة « الحروب التي اشتعلت في ربوع الأرض منذ أربعة آلاف سنة و إلى الحرب العالمية الثانية، فوجد أن كل أربعة عشر سنة خلت من تاريخ البشرية تغطي الحروب منها ثلاثة عشر سنة ، وتبقى سنة واحدة للسلم !

ونقدم في هذه الحلقة مشهدا حيا خلده القرآن للحظات نادرة في تاريخ البشرية انتصر فيها منطق الحق على منطق القوة، لتقهر الإرادة العزلاء العنف، في فعل تحرري فريد، يعلمنا الإسلام من خلاله إلى أي المعسكرين ننحاز وكيف.

(2)

إن خصائص الإسلام العامة و هي: الوسطية و الاعتدال و اليسر و السماحة و الدعوة إلى السلوك الحميد و نبذ التعصب و الدعوة إلى التعارف: "و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا" (الحجرات/13)، تؤكد أن الإسلام تلقائيا و مبدئيا، و حتى دونما إثارة لموضوعة العنف، ينسجم مع ذاته عندما لا يدخل العنف آلية معتمدة لا في البناء و لا في تأسيس العلاقات و لا في التحكم و لا في مشروع الدولة.

لنعد الآن إلى هذه المبادئ العامة لكي نراها منهجيا في ظل منطق التشريع القرآني. نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" (البقرة/256)، "و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" (هود/119)، "فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر" (الكهف/29)، "لست عليهم بمسيطر" (الغاشية/22)، "إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء" (القصص/56)، و هي كلها آيات قرآنية إذا تتبعنا شروحها في كتب التفسير، و إذا تتبعناها في منطق التنزيل المكي و المدني و أسباب النزول، فإننا نجدها تفسر منهجية الإسلام في التعامل مع موقف الآخر منه أو في التعاطي مع الآخر سواء أكان جماعة داخلية أم خارجية أم كيانا ماديا أم معنويا. و قوام هذه المنهجية أن النية و الرغبة و الفكرة و الاعتقاد و الاقتناع شيء خارج السلطان، و خارج القوة المادية سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية. و يتبين لنا ذلك بوضوح في مقطع فريد من القرآن الكريم يتحدث عن سحرة فرعون، و هم يمثلون القوة الرمزية لدولة فرعون، كان يعزز بها قوته المادية التي لا تعرف إلا لغة القهر و التسلط و التجبر "ما أريكم إلا ما أرى، و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد" (غافر/29)، أي إلغاء الاختلاف و نفي الحق في أن يكون لسواه نظرة مختلفة، و استبعاد أي إمكانية لأن يكون عند غيره صواب أو عنده خطأ، فليس عنده إلا الصواب و ليس عند غيره إلا الخطأ. إنها التبعية المطلقة و الاستضعاف الذي عبر عنه القرآن بقوله: "فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين" (الزخرف/54). والفسوق هنا ليس بالمعنى الأخلاقي، و لكن بالمعنى التصوري و الروحي و الفكري عندما يقبل شعب أن ينمطه حاكم و يستلحقه به، و أن يلغيه و يجعله مجرد رقم و تابع.

لقد انضم السحرة إلى جانب فرعون لكي يكونوا جيشا معنويا إلى جانب الجيش المادي، و لكي يمارسوا "العنف الرمزي" على العقول، و هو العنف الذي بين القرآن أنه مجرد حيل و تلاعب: "يخيل إليهم من سحرهم أنها تسعى" (طه/22)، و ذلك في فرصة استثنائية أتيحت لموسى عليه السلام، خُُُدِع فيها فرعون، حين قال: "موعدكم يوم الزينة و أن يحشر الناس ضحى" (طه/59)، »فأخطأ«مرة واحدة في حياته بأن سمح للناس بأن يقارنوا الرأيين، و القوتين، و الفكرتين و يحكموا، فاستطاع موسى عليه السلام أن يذهب كل ألاعيب السحرة، و آمن الناس و كان السحرة أول من آمن، حين أحسوا بفعل الانعتاق من الداخل، و خرجوا من سطوة فرعون المادية التي كانت سطوة الذل مع: "أ إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين" (الأعراف/113)، و سطوة الاسترزاق بالمعرفة المعكوسة (السحر) و الموظفة بطريقة انتهازية( الخداع ) . لقد أحسوا بأن الذي كان ينقصهم هو أن يتحرروا من ذاتهم أولا، و من خضوعهم المعنوي و المادي له. فلما هددهم بعد ذلك فرعون بالقتل: "فلأقطعن أيديكم و أرجلكم من خلاف و لأصلبنكم في جذوع النخل و لتعلمن أينا أشد عذابا و أبقى" (طه/71)، مستعملا منطق القوة و مؤسسا لعبادة القوة ، أجابوه: "فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا" (طه/72)، هذه الحياة الدنيا أي أجسادنا، التي يمكن أن تتحكم فيها تحكما ماديا في الدنيا، أما عندما تتحرر الأرواح فلا سلطان لك علينا. يمكنك أن تقضي على هذا القفص الطيني لكنك لن تصل إليها، لأنها » قدس الأقداس و حرم الحرمات «بتعبير مصطفى محمود .

إنها إذن لحظة تحرر حقيقية من هذا المنهج الخاطئ الذي هو منهج عبادة القوة لأنه لا يعبد إلا الله. لحظة واحدة كانت كافية لتحرير، ليس فقط من كانوا مشروعا للقهر، و إنما أيضا من كانوا أداة من أدواته، و جزءا من سلطان القهر. لذلك يتبين لماذا اختار الإسلام مبدأ "لا إكراه في الدين" (البقرة/256). رغم أنه جاء دعوة إلى أن يكون الدين كله لله!

و لم يكتف الإسلام بوضع هذه الأسس النظرية و التصورية العامة ثم يترك المجال للوسائل المناقضة لهذه الأسس التصورية، و إنما جاء بوسائل من جنس هذه الرؤية، لتحققها بانسجام كامل، وهو ما سنراه في الحلقة المقبلة بإذن الله .

* * * * * * *

الحلقة السادسة: مدرسة الأنبياء

(1)

بعد أن بينا مقام الأسس الثلاثة النافية للعنف من النسق التصوري القرآني ووقفنا مع القرآن الكريم وقفة متميزة تؤرخ لفعل انعتاق تحرري نادر من عبادة القوة، جسده سحرة فرعون مواجهين العنف بالإيمان، ننطلق في هذه الحلقة مع محاولة فهم لماذا اختير الرسل صلوات الله و سلامه عليهم، مجردين من كل وسائل القوة، لنتبين أن هذا الاختيار القاصد يهدف إلى ترسيخ منهج الللاعنف منهج الحوار و الإقناع التحريري لعقل و ضمير الإنسانية، طريقا وحيدا ترسم به اختياراتها في هذه الحياة إن حقا أو باطلا، اقتناعا بالأنبياء أو ريبة بهم. في حين علمنا القرآن أن خصوم الدعوة هم وحدهم الذين يلجأون للقوة » قالوا حرقوه و انصروا آلهتكم « بما هي فعل عنف مقترن بالباطل متجاف عن الحق.

(2)

إن أكبر أداة استراتيجية لتنزيل الدين اقتناعا و منهجا تربويا و مشروعا ماديا متجسدا في دولة، هم الأنبياء، و قد اختار الله تعالى هذا الاختيار، و بينه بشكل قاصد عندما قال: "قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين، لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا" (الإسراء/95)، و ذلك عندما تعجب المشركون لسذاجتهم و غلظهم المادي: كيف يبعث لنا نبي منا، رجل عادي يأكل و يشرب و ينام و يقضي حاجته مثلنا و يمشي في الأسواق؟ "و قالوا ما ل هذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق، لولا أنزل إليه ملك" (الفرقان/7).

لقد بين الله عز و جل أنه اختار لنا رجالا من جنسنا، لكي يقنعونا بلغتنا و يتخاطبوا معنا بالمشترك في الجبلة و الخلقة و الطبيعة. هؤلاء الأنبياء و الرسل الذين هم الأداة الأساسية لتنزيل الدين، لم يختاروا ملوكا في دول و لا قادة في جيوش، بل لم يختاروا أغنياء أقوياء لكي لا يستعملوا، و لو بطريقة تلقائية، قوتهم المادية الاقتصادية أو العسكرية أو السياسية في تنزيل هذا الدين. لقد اختار الله سبحانه جميع الأنبياء و الرسل مجردين من كل وسائل القوة، و هو تجريد قصدي، حيث كان أغلبهم فقراء، رعاة غنم أو حرفين، كي يتم استنبات الدين من أسفل كما تنبت النبتة اللينة الضعيفة، و لكنها تقوى و تمتد و تشتد و تأخذ بأسباب الحياة من داخل الصخر الجلمود تفتقه و تخرج منه في الاتجاه المضاد للجاذبية، رغم ثقل التربة بالأطنان، ثم تتشرب الهواء و النور و الشمس لكي تصبح بعد ذلك نباتا قويا صلبا، و ليس مثل المستنبتات التي يؤتى بها في المناسبات الرسمية، في البلدان المختلفة، إذا اتكأ عليها شخص هوت به إلى الأرض!

لم يكن نبيّ ملكٌ إلا سليمان، و كان الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. و كان صعبا على الأنبياء أن يأتوا مجردين من وسائل القوة، لأن ذلك جعلهم يعانون معاناة حقيقية من أجل تأسيس منهج جديد و اعتقاد جديد و قيم جديدة. لقد جردوا من وسائل القوة لكي لا يلجؤوا و لو اضطرارا إلا إلى أسلوب الإقناع، و هكذا اختار الدين وسائله المنسجمة معه، من سنخ رؤيته و منهجه.

لم يستطع الأنبياء أن يستعملوا أية وسيلة من وسائل القوة لإكراه الناس و "إقناعهم" أو إغرائهم. و لو كان الوحي يفكر بطريقتنا القاصرة لاختار الأنبياء ملوكا، خصوصا في زمن كانت العقيدة التلقائية المقبولة عند الناس، أن "الناس على دين ملوكهم".

كان يمكن للوحي أن يستفيد بطريقة نفعية من هذا المعطى، و لو أنه معطى سلبي، و يستثمره بطريقة هادئة و سليمة، فينزل على نبي مَلِك فيتبعه قومه بدون معاناة. لكن عندما رفض الوحي ذلك، و اختار أنبياء فقراء مستضعفين مجردين من كل وسائل القوة، بين أنه انحاز استراتيجيا و مبدئيا لعدم استعمال القوة، أي إلى لغة الإقناع. فجاء بقوم لا يملكون إلا ألسنتهم.

نزل القرآن الكريم، و نَزّل مشروعه الكبير الذي هو هداية الناس برسول مجرد من أسباب القوة، مبينا بذلك أنها لا تنفع في هذا المجال بل و قد تفسده، لأن الاعتقاد بالقوة، يتحول إلى حالة نفاق، و النفاق مدان في القرآن باعتباره انحرافا و مسخا للروح ينبغي أن يقاوم. و هو لا يقاوم إلا بالحرية و تجنب العنف. و من هنا أمرنا "بالتي هي أحسن" للمخالف، لأن المخالف يحس بأنه مشروع إقناع أو توجيه، مما يلزم محاوره بأن يرقى بأسلوبه في الإقناع لكي لا يحس المخاطب أنه مشروع ضغط، لأن الضغط المعنوي يمكن أن يدخل أيضا في العنف الرمزي.

(3)

بالمقابل لم يأذن القرآن الكريم للمؤمنين باستعمال القوة إلا إذا ظلموا و احتاجوا إلى أن ينتصفوا من القوة بالقوة، حين يكون الآخرون على غير المنهج نفسه، بحيث إذا استسلم لهم المسلمون بمنطق من صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، فإنهم يتمادون لقطع الرأس آنذاك. و لأن الإسلام يأتي بالاختيار الأخير بعد أن يقهر الإنسان عليه، فإنه يحجمه و يضبطه في مستوى المعاملة المثلية، أي باستعمال القوة لإلغاء حالة القوة حتى نرجع إلى حالة التوازن: "و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، و لئن صبرتم لهو خير للصابرين" (النحل/126). و سياق الآية يوضح ذلك أكثر لأن أسباب النزول من فقه التفسير عند المسلمين:

غضب رسول الله (ص) لمقتل عمه حمزة، فقد قتل بطريقة غادرة. فبكى و حزن عليه الرسول (ص) و قال في غضب: لأقتلن به ثلاثين. كانت فلتة مخالفة لمنهج الرسول (ص) و لروح الإسلام، و إن كانت تؤكد بشريته. و لم يطبق النبي (ص) ما أوعد به، و لم يتركه القرآن يفعل، و لم يسكت عليه، بل جاء يؤصل في القتال منهج ضبط القوة: "و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، و لئن صبرتم لهو خير للصابرين". فبين القرآن أن هناك خيارين فقط: المعاملة بالمثل أو الصبر. و لم يبق الوحي الرسول (ص) على الحياد أمام هذين الخيارين، و لم يتركه حائرا أو نهبا للغضب، و إنما انحاز القرآن بكل قوة إلى اختيار الصبر عن طريق تفضيله على الانتقام: "و لئن صبرتم لهو خير للصابرين"، ثم عن طريق الحسم بإصدار الأمر الإلهي الملزم لرسول الله (ص) و للناس جميعا: "و اصبر و ما صبرك إلا بالله". و مبينا بأن السند الإلهي و الدعم المعنوي للإنسان، يأتي للارتقاء به إلى مقام اللاعنف. فبدعم الله و مساندته الروحية لعباده يرتقون إلى مقام اللاعنف الذي وسيلته الوحيدة، و إن كانت مرة، هو أن يصبر و ليس أن يعاقب. ثم نبه القرآن الكريم إلى أن العنصر النفسي هو الذي يخل بالعنصر الفكري و الروحي و يجذبه إلى مهاوي الغريزة، و التدافع الحيواني للانتقام فعالجه بقوله: "و لا تحزن عليهم و لا تك في ضيق مما يمكرون" (النحل/127).

و جاء التطبيق النبوي منضبطا، فقد عفا الرسول (ص) عن وحشي قاتل حمزة و قبل إسلامه، و أدخله في عهد الإسلام و أمانه، و لم يعد هناك سبيل إلى أن ينتصف منه فأحرى أن ينتقم منه. بل كابد الرسول (ص) ضعفه بأن أمر وحشيا بأن يرحل عن المدينة لكي لا يراه فيهيج حزنه! و هذا مقام التجرد، و مجابهة الدوافع الغريزية و النفسية و العاطفية التي تدفع بالإنسان إلى أن يخرج عن خطى روحه إلى ما هو أقرب إلى التدافع الحيواني فيه باستعمال القوة في مواجهة القوة.

و القرآن الكريم يبين هذه المداخل النفسية عندما يقول: "و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس" (أل عمران/134). فالعفو كسلوك راق مفتاحه أن يضبط المرء انفعاله و يتحكم فيه، و هو كظم الغيظ. و الإسلام يعلمنا ذلك ليرقى بنا أعلى مراتب اللاعنف، عن طريق كشف نقط الضعف النفسية التي يمكن أن تنزلق بنا خارج اقتناعاتنا الفكرية فتجرنا لممارسة العنف.

* * * * * * *

الحلقة السابعة: الاستعلاء على العنف داخل العنف

(1)

لنختر - من أجل الاختبار العملي - نقطة تبدو لدى البعض، مناقضة لهذا الخط الذي بسطناه في الحلقات الست الماضية، ولو ظاهريا على الأقل و هي قضية الجهاد.

يوصف الإسلام غالبا من قبل خصومه من صليبيين ومستشرقين و صهاينة و متعصبي العلمانيين، بأنه أكره الناس بالسيف و مارس عليهم القتل، و وضعهم تحت طائلة الإعدام من أجل أن يدخلوا فيه و يعتنقوه. لقد جيش الإسلام ، حسب هذه الدعوى، جيوشا و فتح بها العالم، و بالتالي فالإسلام مثل باقي الإمبراطوريات الكبرى قد لجأ للقوة، و استعمل أقساها و هي القوة العسكرية لاحتلال الشعوب و إكراهها على التحول إلى الإسلام، أو كما كان يقول المستشرقون التقليديون دائما: إن الإسلام انتشر بالسيف.

سوف أكتفي هنا أيضا ببعض المحددات و المبادئ و السلوكات:

(2)

أولا: السياق التصوري: نستشف من قوله تعالى في إعلان واضح و صريح و مبدئي: "كتب عليكم القتال و هو كره لكم" (البقرة/216)، أن القرآن يبين كون الفطرة الإنسانية و الرؤية الإسلامية تنبذ العنف و تكره استعمال القوة أو الإفراط في هذا الاستعمال. إنها فطرة مسالمة سلمية. و معلوم القاعدة الكلية في الإسلام، و هي أن التشريعات تتأسس على أساس الفطرة، فالأمر بالتوحيد ينبني على فطرة عبادة الله عز و جل و توحيده و تعظيمه، أمر الزوج بالنفقة على عياله يرتكز إلى فطرة الكرم التي ركزت في الإنسان، النهي عن الظلم و الإيذاء و الاعتداء يستند كتشريعات إلى أن الإنسان مفطور على كراهية الظلم و على استنكار الاعتداء، و النهي عن الكبر مبني على أن الإنسان قد ركزت فيه فطرة التواضع و كراهية المتكبر، فلا يكره الإنسان شخصا لم يؤذه كما يكره المتكبر لمجرد مشيته المتبخترة. كل هذا يدل على أن ما أسميه "بالتأسيس الفطري للأحكام الشرعية" مطرد في كل أحكام الإسلام، و معنى هذا أن التأسيس لحكم شرعي بالمسالمة و تجنب العنف يستند على فطرة كراهية القتال، مما يقوم دليلا واضحا على أن القتال حالة استثنائية في الإسلام.

ثانيا: يبين "السياق السياسي و التاريخي" لتشريع القتال في القرآن الكريم "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، و أن الله على نصرهم لقدير" (الحج/39)، أن الإذن بالقتال نزل في سياق الدفاع و الاقتصاص، و هذا هو الشرط الوحيد و الظرف الوحيد و الاستثناء الوحيد الذي يجيز فيه الإسلام استعمال القوة، أي يجيزه لمواجهة القوة، استعمال الردع لمواجهة الاعتداء، استعمال الخشونة لمواجهة الخشونة المضادة.

إن هاتين الآيتين و غيرهما لا تكتفيان بالتشريع أو البيان، و إنما تخلقان جوا عاما، ينبذ عبادة القوة و الاحتكام إليها، و هو جو مناقض للجو السياسي العام الذي نزل فيه القرآن، و الذي ظهرت فيه دولة الإسلام، بحيث كانت جميع الدول و الأمم المحيطة به تعبد القوة، من الرومان إلى الفرس إلى الحبشة و غيرهم. إن الحديث عن الجهاد في القرآن هو تدبير حل لمشكل لا سعي لخلقه، و إن تشريع الجهاد ليس للمبادرة بغرس هذا السلوك كاختيار عند المسلمين، و إنما هو سعي لمواجهة حالة موجودة و قائمة و ما زالت عند البشرية إلى اليوم، للأسف الشديد.

إن سياق الحديث عن القتال و اعتماد القوة واضح في عموم تشريع الإسلام (مثل سياقات الحديث عن مشكل الرق أو مشكل الفقر أو مشكل العنف في العلاقات الاجتماعية) هي سياقات لتدبير هاته المشاكل لا لتبنيها.

(3)

و يتبين ذلك أكثر عندما ندخل في تفاصيل فقه الجهاد، فمن جهة يعتبر الإسلام استعمال القوة في الجهاد حالة اضطرارية تتوقف فور توقف دواعيها: "و إن جنحوا للسلم فاجنح لها، و توكل على الله" (الأنفال/58)، و جواب الشرط هنا بالفاء الملزمة بالفور و العجلة و السرعة، بمجرد ما يكف العدو عن الاعتداء، على المسلم أن يتوقف فورا عن عملية رد هذا الاعتداء. فهذا عهد سلم لكف الأذى المتبادل، يأمر القرآن بتبنيه. و عندما يتكلم القرآن الكريم عن "المعاهدين" ينهى عن كل أشكال إيذائهم أو نقض العهد معهم، و يعتبر ذلك غدرا و كفرا يخرج من الملة: "إلا الذين عاهدتم من المشركين" (التوبة/4)، و عندما يتكلم القرآن الكريم عن ضبط العلاقات مع الآخر، يحددها تحديدا عمليا قائما على محدد واحد و هو درجة استعماله للعنف: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم" (الممتحنة/9)، فالقرآن يبين بوضوح أن الموقف من الآخر ليس موقفا من دينه و لا من عقيدته و لا من حضارته و لا من حقه في الوجود، و لا من هيمنته على جزء من هذه الأرض أو من مساهمته في بناء الحضارة أو منافسته للمسلمين في مجالات اقتصادية و سياسية أو ثقافية، و إنما هو موقف من اعتدائه على المسلمين، فمن اعتدى على المسلمين حرمت معاشرته و مبايعته و مناكحته و التعاون معه، و إذا توقف عن إيذائهم فإن كل ذلك يعود إلى دائرة الجواز، بل و يصبح هو الأصل! و عندما يقول عز و جل: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين"، يبين أن الأصل هو البر و هو القسط و هو الإحسان، فلسنا مأمورين فقط بمهادنتهم أو مسالمتهم و عدم الاعتداء عليهم، بل نحن مأمورون بالإحسان إليهم و البر بهم و الإقساط إليهم، و هذا مستوى عال في العلاقات الإنسانية. لكن ذلك يتوقف استثناء إذا كان هناك داع واحد، و هو أن يقاتلونا في الدين لإكراهنا على الرجوع إلى الكفر و نزع صفة الإسلام عنا أو إخراجنا من ديارنا أو المظاهرة على إخراجنا. و حتى عندما يحتاج المسلمون لذلك، فإن على المسلم ألا يغدر و ألا يبيت و ألا يباغت، و عليه أن يعذر و أن ينذر و يوضح: "و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء" (الأنفال/58)، فلا بد أن ينبذ المسلم إلى العدو، و يعلمه و يهيئه نفسيا و ينذره بالحرب، فإن أصر على الخيانة، يقاتله، و إذا لم يصر فإنه يرجع عن الأمر.

* * * * * * *

الحلقة الثامنة: الدخول في السلم

(1)

نواصل في هذه الحلقة تفصيل الفكرة التي بسطناها في الحلقة السابقة، و التي تركزت على ضوابط استعمال القوة، ومحدودية السياق الذي يجيز اضطرارا و في أضيق الحدود استعمال القوة لمجابهة القوة، ردا للاعتداء فقط.

و في هذه الحلقة نتنسم أجواء القرآن الكريم العابقة بالسلم و الدعوة إلى السلام، حتى ليغدو فضاء مهيمنا ندعى إلى الدخول فيه !

(2)

نجد القرآن يدعو إلى السلام كحالة شاملة: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" (البقرة/208) و ليس أقوى من هذه الآية و ليس أشد منها بيانا في أن السلم حالة عامة و شاملة و أصلية، و أن المسلم لا يؤمر بالتحلي بالسلم فقط بل يؤمر بالدخول فيه كأنه فضاء يلفه من كل جانب. و "السلام" اسم من أسماء الله الحسنى، و هو يدعو إليه: "و الله يدعو إلى دار السلام" (يونس/25). كما أننا أمرنا بإفشاء السلام، و تحيتنا هي السلام، و تحية أهل الجنة السلام: "تحيتهم فيها سلام" (إبراهيم/23)، و ليلة القدر المقدسة: "سلام هي حتى مطلع الفجر" (القدر/5)، و المبدأ أن المسلم يختم صلاته بالسلام. فهل يمكن أن يكون هذا مجرد حالة فصام تقتصر على مستوى الخطاب و تتعايش مع واقع حب القتال و الركون إلى العنف؟؟ يقول الرسول (ص): "و الذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، و لا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام" (مسلم).

هذه الروح العامة تجلت في سلوك المسلمين، فكل الحروب التي خاضها النبي (ص) كانت حروبا دفاعية، "بدر" مثلا، كانت من أجل أن المشركين جاؤوا يعتدون على حقه في استرجاع بعض ما نُهب من المسلمين في الهجرة، و "أحد" كانت مبتدرة من المشركين من أجل الانتقام، و "فتح مكة" كانت لرد غزو المشركين على حلفاء المسلمين، و ختمت بموقف: "أنتم الطلقاء". و لو كانت رغبة النبي (ص) في القتال لمارس القتال بعقلية المقاتل، و لما أنهاه بالعفو عمن آذوه و أخرجوه و طردوه، و هددوا وجود الإسلام طيلة فترة الدعوة و طيلة فترة الدولة. لكن بعض المسلمين اليوم، و لظروف نفسية و فكرية و سياسية، ينظرون إلى الفتوحات و المعارك الكبرى في تاريخ الإسلام الأول، بطريقة لا تؤسس لعقلية سلمية، و يبالغون في وضعها خارج سياقها الطبيعي كحالة اضطرار، أو كحالة طوارئ كما يسميها منَظِّر السلمية الإسلامية المعاصر جودت السعيد، حفظه الله .

و قد تمثل الخلفاء الراشدون - رغم خوضهم لمعارك شديدة طيلة فترة حكمهم - هذه الروح فاجتهدوا لتحرير الشعوب المجاورة من طغيان الفرس و الروم، مع تقليل الخسائر الروحية و المادية جهد الإمكان. فعمر بن الخطاب مثلا، يرسل عددا من الرسائل إلى جنده المنتصرين يردعهم فيها عن الاعتداء: "... و لا يرزأ أحدا من أهلها شيئا، فإن لهم حرمة و ذمة ابتليتم بالوفاء بها... و لا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح" و يهدد من يخدع بالأمان محاربا ليقتله بأنه " و الذي نفسي بيده، لا أعلم مكان واحد فعل هذا إلا ضربت عنقه" ( علي الخطيب ، عمر بن الخطاب . ص 348، 310 )

بل إن الجهاد، حتى عندما توسع كان يستهدف ضرب القوة السياسية و العسكرية للدول الديكتاتورية التي تقوم على حرمان الناس من حق الاختيار و حرية اتباع الدين الذي يريدونه. فإذا رفعت هذه الوصاية عن الناس بفضل الجهاد، خير المسلمون الناس بين أن يسلموا أو يبقوا على ما هم عليه. فقد فتحت فارس و بقي أهلها مجوسا دون أن يمسهم أحد، و ألحق المجوس بأهل الذمة. كما أن المسلمين لما وصلوا إلى الصين و أذن لهم ملكها بحرية الدعوة و بناء المساجد، توقف القتال و انتشرت الدعوة سلميا عن طريق التجار.

لقد شرع الجهاد من أجل أن يتحرر الإنسان، و من أجل أن يتمتع بحرية الاختيار العقدي لإعطاء الناس فرصة الاختيار بعيدا عن نظام مستبد يحرمهم من ذلك، و يلزمهم بقانون: "الناس على دين ملوكهم".

(3)

يضاف إلى هذا، الأخلاق المصاحبة للقتال كحالة طوارئ اضطرارية، و التي يزيد الإسلام من التشديد عليها، مثل النهي عن قتل النساء أو الأطفال، أو الشيوخ أو الأسرى، أو الجرحى، و مراعاة البيئة، و عدم التنكيل بجثث القتلى. و معروفة هي الواقعة المشهورة التي اضطر المسلمون خلالها إلى أن يقطعوا بعض نخيل خيبر لتخويف اليهود المحاصرين حتى يقنعوهم بالاستسلام، لقد أذن لهم بذلك استثناء، و في إطار ضيق جدا، و جاء في السيرة أنهم قطعوا ثمان نخلات، و مع ذلك فقد حصل عند المسلمين بحكم التربية التي أنشئوا عليها، أزمة ضمير تجاه هذا الفعل، فنزل قوله تعالى: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها، فبإذن الله" (الحشر/5) يعزي المسلمين و يسوغ لهم أمر قطع النخل استثناء و بعدد محدود جدا. لقد أمر المسلمون بكل أشكال الرفق المصاحبة للقتال رفقا بالإنسان و البيئة، رغم أن القتال بطبيعته ليس من قبيل الرفق، فالمسلمون مأمورون بالإحسان حتى في حالة "الاضطرار إلى الإساءة"، و مأمورون بالرفق حتى في حالة استعمال القوة. و لا أدل على أن عقلية الإسلام لا تنسجم مع اختيار العنف، و أن مشروع الإسلام مشروع مدني سلمي، و ليس مشروعا حربيا عسكريا، ما فعله النبي (ص) حين كاتب شطرا من أسرى بدر على أن يعلم كل واحد منهم عشرة من صبيان المسلمين القراءة و الكتابة مقابل أن يطلق سراحهم. فهل يمكن للذي يريد أن يستعمل الحرب نفسها للبناء، للعلم، للحضارة و لتركيز الاختيارات المدنية السلمية، أن يكون طالبا للحرب و راغبا فيها، و متقصدا لإشعالها، حيثما أتيح له ذلك؟!

هكذا نرى أن الإسلام يتحدث عن القوة، و الحرب و الجهاد، باعتبارها كرها لنا، و باعتبارها حالة استثنائية، حالة دفاعية يقيدها بكل الاحتياطات و بكل ما يخفف من وطأتها، و يدعو إلى إنهائها بأسرع ما يمكن من الوقت عندما يتوقف الداعي الخارجي، و يسعى فقط إلى أن يبحث عن أي مجال لحرية الدعوة تغنيه عن استعمال القوة ضد الديكتاتوريات الوصية، و ينتهي بمجموعة من الإجراءات الإصلاحية المصاحبة التي تجعل هذا السلوك على طبيعته الخشنة حضاريا و مخفف الأثر إلى حد بعيد.

* * * * * * *

الحلقة التاسعة: سر النكوص

(1)

لِمَ، رغم كل ما عرضناه في الحلقات الماضية من توجه سلمي قوي وواضح في الإسلام، يتبنى كثير من المسلمين اليوم، فهما مخالفا بالكلية لهذا التوجه، فتراهم بالعكس يتقصدون استعراض القوة، و يفتخرون بالعنف، و يظنون الحرب مطلوبة في الإسلام، قيتقصدونها، و يوسعون لها في الأحكام الشرعية؟

أظن أن هناك أسبابا رئيسية – من ضمن أسباب أخرى – وراء ذلك، نبسط في هذه الحلقة منها سببين:

(2)

هناك قانون "سيكولوجية المقهور" الذي يعيش رد فعل عنيف على خصمه، و ذلك بتبني منهجه، فعادة ما ينتهي القوي القاهر إلى أن يغلب المقهور مرتين: مرة بأن يجرده من أسباب القوة، و مرة بأن يجعله يتشرب و يتبنى مبادئه. و لهذا فما تفعله الصهيونية في فلسطين هو تبَنّ للنازية، تبن لسلوك من كان اليهود ضحاياهم، و الصهيونية هي النازية الجديدة، و هذه ظاهرة ليس محصنا منها إلا من كان في مستوى عقدي و تربوي رفيع. و المسلمون منذ مؤامرة التتار و المغول و الصليبيين ثم الاستعمار القديم ثم الاستعمار الحديث، و هم يعيشون تحت ضغط القهر، و بالتالي يفرزون أخلاقيات و عقليات سيكولوجية القهر.

و يستطيع الإنسان أحيانا أن يجد بعض الاستثناءات المتعالية عن رد الفعل هذا، و التي نجحت في أن لا تخضع لهذا المنطق و هذا القانون. لنتذكر "عمر المختار"، فقد كان يمتنع عن قتل أسرى الطليان الذين كانوا يقتلون الأسرى و الأطفال و النساء، و في مرة من المرات عندما أمسك بضابط كبير في الجيش الإيطالي، حاول البعض أن يقتله انتقاما لكثير من المجاهدين الذين قتلوا أسرى، فأجابه عمر المختار: "ليسوا قدوة لنا"! و لنتذكر أيضا الأمير عبد القادر الجزائري الذي قاتل ستة عشر عاما الوحشية الفرنسية الفظيعة، و لكنه بفضل تربيته الصوفية العالية، بالنفس الإسلامي المتميز، و بالروح الإيمانية، لم يكن ينتقم من الفرنسيين عندما يهزمهم، و لا يستعمل أي طريقة من الطرق الهمجية التي مارستها فرنسا ما بين 1830 و 1846. بل العجيب أنه عندما أسر ثم نفي إلى الشام و استقر بها في أواسط القرن 19، و بدأت بداية الفتن بين المسيحيين و بين الدروز في جبل لبنان، بتدبير من بريطانيا و فرنسا لإضعاف الدولة العثمانية، قام عبد القادر الجزائري بدور كبير في إخماد نار الفتنة و في تجنيب نصارى لبنان ويلات الحرب، و قام برحلات مكوكية ما بين دمشق و الأستانة بإسطنبول، حتى استطاع بعد جهد جهيد و شهور متواصلة من العمل أن يخمد نار الفتنة، عوض أن يكون هو الموقد لها لينتقم في نصارى لبنان مما فعله النصارى ببلده. و يمكن أن نذكر عددا كبيرا من الشواهد على فقهاء و علماء و رجال التصوف و التربية الذين خرجوا من قانون القهر، الذي هو قانون رد الفعل و استطاعوا أن يتعالوا و يسموا بسلوكاتهم عن حالة سكولوجية القهر. و لكن سيكولوجية القهر تولد عموما عند الإنسان الإيمان بالقوة و التنظير للعنف و حتى التحول إلى عشقه، لمواجهة العنف و لمواجهة القوة و القهر.

(3)

وهناك أيضا " الإشكال الثقافي" المستعصي عند كثير من المسلمين المتأخرين منذ عصر الانحطاط و إلى اليوم، و استنادا إلى مجموعة من المعطيات المغلوطة أو الآلية المنهجية غير المضبوطة أو الآلية التنزيلية المنحرفة، نجد أنهم أصبحوا لا يفهمون الموقف الإسلامي الأصيل من العنف و لا هذا المنحى السلمي المتأصل في الإسلام. و يمكن الوقوف عند بعض تلك المعطيات و الآليات:

أ- سوء فهم مناطات استعمال القوة في القرآن الكريم، فهذه السياقات كلها طوارئ و ليست هي الأصل، و لكن بعض الفقهاء المسلمين أخذوا هذه الطوارئ فيما سمي باب الجهاد و أصبحت كأنها الأصل و القاعدة، و بدؤوا - بهذه العقلية التي اكتسبوها بالانتماء إلى موقف القوة - يكيفون قراءتهم للنصوص يتوسعون و يضعون أصولا و فروعا بشكل ينسجم مع هذه العقلية الحاكمة، و التي تريد أن تجعل للقوة موقعا أصيلا في اختيار الإسلام.

ب- نزع النصوص من سياقها، بحيث إن من المسلمين من يعتمد، في نزوعه إلى العنف، على جملة من الأقوال و النصوص التي انبثقت لحظة القتال، و التي تحض على مواجهة العدو و استعمال القوة. غير أن هذه النصوص قد تكون من باب الخطاب الذي يلقيه القائد العسكري لحظة الدعوة إلى المواجهة، و لا يمكن أن نحكم على حضارة أو على عقيدة أو على أمة اعتمادا على خطاب يلقيه أحد قادتها العسكريين لحظة انطلاق المعركة، لنحوله إلى قاعدة كلية للتعامل مع الآخر، لأن ذلك سيكون تجنيا كاملا على موقف هذه الحضارة من الآخر، و لأنه اختزال مبتسر لاختيار حضاري ممتد في تصريح قائد عسكري لحظة انطلاق القتال!

ج- خلط مرحلة الدعوة بمرحلة الدولة، بحيث عندما جاءت الدولة، و هي دولة مدنية و تحكم انطلاقا من شرعية الأغلبية و بالشورى، فإنها اعتمدت السلطة كضرورة. و كل دولة لها سلطة إكراه لوضع أنظمة زجرية لإلزام الأفراد بالانتظام و الخضوع للإجراءات الإدارية و المالية و القانونية. و هي تستمد هذه القوة على الإخضاع و على الإلزام من مصداقية هذه المؤسسة لدى الشعب، و من اختيار الجماهير لهذا الحاكم أو لهذه المؤسسة، و لا علاقة لذلك بالدين كاقتناع، و لا علاقة لذلك بالدين كعقيدة مجردة، و لا يمكن ممارسة القوة أو الضغط و الإكراه على الجانب التعبدي و لا على الجانب الفكري أو العقدي أو التربوي و الروحي. و هنا اختلط على بعضهم صلاحيات الدولة كدولة، بعموم ما يكلف به الداعية و المسلم من نشر الرسالة، و تحول الأصل إلى فرع، و النتيجة إلى سبب، و المرحلة اللاحقة إلى مرحلة أصلية سابقة.

د- الخلط بين الوعيد الإلهي و المعاملة البشرية. فكثير من دعاة العنف عند المسلمين يستدلون بآيات الوعيد في القرآن الكريم، غافلين عن أن الله عز وجل عندما يتكلم عن العذاب الأليم و عن مآل الكفار و المنافقين، و عندما يوعد و ينذر، فإن هذه السلطة خاصة به، و هي مؤجلة إلى يوم القيامة، و قد أمسك يده عن الناس في الدنيا، و استخلفهم و أعطاهم الحرية و أعطاهم فرصة للعمل، و هو بذاته لا يتدخل في ذلك.

و رغم أنهم قرأوا في القرآن الكريم: "و لولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم" (فصلت/45)، "و لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة" (النحل/61)، فقد اختلط عليهم الوعيد الإلهي المؤجل إلى الآخرة، و الذي هو أمر خاص بالله تعالى و يذكر في القرآن في سياق التخويف للتربية، اختلط عليهم بواجب المسلمين في الدنيا، مما أدى إلى نوع من "تأليه الموقف البشري" انطلاقا من الخلط بين الموقع الإلهي و الموقع البشري للتوجيهات القرآنية. و هذا انحراف رهيب لأنه، بالإضافة إلى كونه مسا خطيرا بالعقيدة، ينفر الناس من الإسلام جراء تشويه الداعية له من خلال ما يمارسه في خطابه من آيات الوعيد، فإنه يجعل العقل يتجه لممارسة القمع و الاستبداد باسم الأمن الشرعي. و نظيره هو ما أودى بالكنيسة و بسلطانها لدى الأوروبيين.

هـ- خلط الحق بالصواب، الأمر الذي يؤدي إلى رفض سنة الاختلاف، و النزوع إلى الإقصاء و العنف، مما أظهر الإسلام عنيفا في أعين من يخالفونه خارج الدائرة. في حين أن الحق واحد، و هو مطلق إلهي. و الصواب متعدد، و هو نسبي بشري.

* * * * * * *

الحلقة الأخيرة: الوعي المفارق ..

(1)

عرضنا في الحلقة السابقة لسببين خطيرين من أسباب انقلاب الوعي العقدي و الأخلاقي عند المسلمين، إلى نقيض الموقف القرآني من العنف. أول هذين السببين نفسي و الأخر ثقافي فصلناه بدوره إلى خمس مستويات منهجية تتصل باختلال ثقافة التأصيل و التأويل عند المسلمين المعاصرين.و نواصل في هذه الحلقة العاشرة و الأخيرة بيان بقية الأسباب، سعيا إلى تحصين المسلمين من ثقافة العنف التي أضحوا يسوقونها و يمارسونها فيما بينهم اجتماعيا و سياسيا، ويشرعنونها استنادا إلى فهم خاطئ لدينهم . و الحاصل أنهم أكبر ضحايا ثقافة العنف الموجهة ضدهم مدججة بأحدث وسائل القوة من خصومهم الحضاريين.

(2)

هناك "الحالة الإعلامية" التي يقودها الغرب، فالغرب يكثر من الحديث عن "الإرهاب في الإسلام" و يضخمه، من حالة أبي سياف إلى حالة أسامة بن لادن، و أي تحرك فيه أخذ بالعنف أو ممارسة له أو تنظير له و لو بالخطاب يوضع تحت المجهر الإعلامي الغربي. و يبرز طولا و عرضا و يعمم على كل المسلمين بهتانا و افتراء. في حين أن حالة العنف التي قد تمارس لدى المسيحيين، كما بالنسبة للإيتا، أو للمنظمات المسلحة الإرلندية، أو كثير من الحركات التي تعتمد العنف و أحيانا الإرهاب في بلاد الغرب، فإن سلوكها لا يوصف بأنه "إرهاب مسيحي"، و كذلك عدوان الصهاينة على المسلمين في فلسطين و غيرها، لا يسمى "إرهابا يهوديا". و لا يذكر الإرهاب مقرونا بدين إلا الدين الإسلامي، في حين لا ينسب للجنسيات و إلى القوميات و المنظمات و المسميات الأخرى فيما عدا المسلمين. و الملاحظ أن الغرب منذ ثلاثين سنة و هو يقود هذه الحملة ضد الإسلام، مستفيدا من سيطرته الإعلامية العالمية حتى خلق هذه النفسية عند المسلمين، و كرد فعل، كجزء من ضريبة ترويج هذا الخطاب، تأثر بعض المسلمين، فيما تأثروا به من الضغط الإعلامي الغربي، بذلك، و صاروا يتبنون هذه المفاهيم و يفتخرون و يعتزون بها.

وهناك أيضا "العقلية العسكرتارية"، الناتجة عن قراءة مجحفة للسيرة النبوية و تاريخ السلف الصالح. لقد نظر المسلمون المتأخرون إلى السيرة النبوية نظرة قائمة على القفز إلى محطات بعينها هي محطات المعارك، لدرجة أن العقل الإسلامي نمط لا شعوريا على أن فترة المدينة هي فترة معارك بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم فتح مكة. و تم اختزال بقية الأبعاد الأخرى الحضارية و الإنسانية و العمرانية و الهندسية و الطبية و التشريعية و السلوكية و البيئية، في الفعل العسكري الخالص. ثم تم اختصار الخلافة في الفتوحات، و المرحلة الأموية و العباسية في الحروب و الصراعات.

و هكذا تشكلت لا شعوريا عقلية "العسكرتارية". و تم اختزال الأداء الحضاري الإسلامي كلية في الأداء العسكري، و إنجازات النبوة و الخلافة الراشدة و الدول بعد ذلك في الإنجاز العسكري.

(3)

بالمقابل نجد أن من الإشارات النادرة و المنسية في تاريخ المسلمين، إشارة هامة وردت عن عمر بن الخطاب لما تجول في الشام جولته التفقدية الشهيرة، و رأى " الأعمال التي عملها خالد بن الوليد"، بكى و استعبر و قال: "رحم الله أبا بكر كان أعلم مني بالرجال". و المقصود بهذا أن خالد بن الوليد لم يقم فقط بفتح بلاد الشام، و لم يقم ببطولاته المشهورة في اليرموك فقط، و إنما حقق منجزات حضارية، من بنيات تحتية كالمساجد و الطرقات و البريد و مياه الشرب( الأعمال ! ). لكن خالد بن الوليد الحاضر في لا شعورنا، هو خالد بن الوليد العسكري. كما أن علي بن أبي طالب الحاضر في الروايات الشعبية هو علي المقاتل، الذي حارب حتى الجن بسيف ذي الفقار! أما علي التربية و علي العلم و علي الإيمان و علي مؤسس علم النحو و علي الشاعر و الخطيب و علي الحاكم العدل، فيكاد تقريبا يتوارى وراء علي البطل الشجاع المغوار المقاتل. و حتى عمر تزول كل أبعاده و يبقى بعد الشدة فقط، و كذلك الشأن بالنسبة لصلاح الدين الأيوبي، و لكل المجاهدين الشجعان ذوي الأبعاد الحضارية المغفلة في عقليتنا.

هذه "العقلية العسكرتارية" هي التي جعلت بعض المسلمين يؤمنون بأن القوة العسكرية قرينة بالدولة الاسلامية، و أنها هي المُعَبِّر الأساس عنها، و أنها تكاد تكون الصورة الوحيدة المتجلية، و أنها مطلوبة من جديد كشرط لقيام هذه الدولة، و كوسيلة وحيدة لإحياء أمجادها.

(4)

هناك أيضا الحالة السياسية للمسلمين اليوم، فهم يعيشون في بلادهم حالة من التخلف السياسي يفصح عنها واقع الاستبداد و الديكتاتورية، و يرى المسلمون بأم أعينهم واقعا ماديا قوامه الانقلابات العسكرية، و المصنوعة من لدن المخابرات الغربية، من أجل أن تستمر أنظمة منصبة لخدمة مصالح الغرب في بلاد المسلمين. و كل من يحاول أن يتصدى للإصلاح يصطدم بهذا الواقع المادي الغليظ، و هو أن لغة الانقلابات العسكرية و التحكم المادي يتسبب في إجهاض كل مشاريع النهوض الحضاري، و يودي برؤوس رواد هذه المشاريع إلى السحق، فنشأ كرد فعل لا شعوري عند المسلمين إيمان بأن القوة هي الحل، و أن الذي لا يملك القوة لا يمكنه أن يصل إلى شيء، و تحولت الوسيلة إلى غاية.

في حين أن الدولة في الإسلام مجرد وسيلة إلى عبادة الله عز و جل و نشر الدين حتى يكون الدين كله لله بالمعنى الحضاري الواسع للكلمة. و هي أيضا مجرد وسيلة لإقامة الحضارة الإسلامية الإنسانية العالمية. لكن، للأسف الشديد فإن المسلمين يعيشون الآن تحت ضغط التحكم المادي، فمن كثرة ما عانوا من إجهاض مشاريعهم التنموية أو الإصلاحية من أجل النهوض، آمنوا بأن القوة المعادية المستخدمة من الطرف الآخر هي العائق، و آمنوا، بموجب ذلك، بأن عليهم أن يأخذوا بقوة مضادة تزيل هذه القوة. فحصل الانزلاق إلى عبادة القوة ليس كحالة بشرية متفهمة في كل الحضارات الأخرى، فهذا أمر يشترك فيه المسلمون مع غيرهم من الناس، و لكن - و هذا هو الخطير- كسعي إلى إعادة تأصيل هذه الحالة من داخل الإسلام الذي يتناقض مبدئيا مع هذا الاختيار، و لا يمكن أن يؤشر عليها و لا أن يؤصل لها و لا أن يدعمها، لأنه مشروع للسلام و دعوة للسلام، و لأنه جاء أساسا من أجل أن يعبد الله، عوض أن تعبد القوة.

* أبو زيد المقرئ الإدريسي : كاتب مغربي.

المصدر: موقع (أبو زيد المقرئ الإدريسي)
المصدر: http://www.alwihdah.com/issues/islamic-life/2010-04-26-1834.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك