هل أنّ نقد الثّقافة العربيّة الإسلاميّة هو إهانة لها؟ مقاربة في مواجهة التّخلف

لؤي الرنتيسي

 

إن إحداث نقلة نوعية وحقيقية في المشروع النهضوي العربي الإسلامي ينطوي على العمل في اتجاهين:

الاتجاه الأول: مواجهة التخلف بشكل غير مباشر عن طريق مواجهة وتحدي وتقويض السلطات السياسية الديكتاتورية التي دمرت بلادنا وقضت على الحياة السياسية والحرية الفكرية فيها.

الاتجاه الثاني: العمل على المواجهة المباشرة مع التخلف الاجتماعي والديني والثقافي الموجود في مجتمعاتنا، وهو تخلف موجود قبل أن تظهر هذه الزعامات السياسية أصلاً إلى الوجود. لكن المشكلة أن البعض يعتبر أن نقد التخلف هذا هو هجوم على الهوية العربية الإسلامية واحتقار لها، وهذا خطأ. (هو خطأ في معظم الأحيان على الأقل، وليس دوماً).

لاشك أن نقد التخلف الاجتماعي و الديني و الثقافي في ثقافتنا هو خطوة أساسية ومهمة من بين عدة خطوات مركزية في سياق المشروع النهضوي.

لكن خطوة تقويض السلطات الديكتاتورية في الوطن العربي، وبناء حياة سياسية سليمة هي خطوة أكثر أهمية بكثير، وذات مردود أكبر وأهم وأعمق في سياق تحقيق النهضة المرجوة.

لكن بالمقابل لا نستطيع أن نتجاهل أهمية نقد الفكر السائد ضمن منظومة الثقافة والذهنية العربية الإسلامية. هذا النقد يساهم في أن يوضح للعامة أن هناك مشكلة حقيقية في (ذهنيتنا) وفي (منظومتنا الفكرية)، المنظومة الفكرية الدينية والاجتماعية والفكرية. لكن المشكلة أن هذا النقد للفكر الديني ينطوي أحياناً على غاية هدفها هو تدمير ثقة مجتمعاتنا بنفسها وبحضارتها وبقيمها، وبث روح احتقار النفس، وتعميق عقدة الشعور بالنقص لديها. ونستطيع أن نرصد الكثيرين حولنا ممن لديهم هذا الشعور من العرب والمسلمين، الشعور بالاحتقار الهائل للذات الحضارية. ويحصل أحياناً على العكس عند البعض الآخر، وبسبب شعورهم بهذه الهجمة على الإسلام وبسبب معاناتهم من الديكتاتورية والطغيان السياسي في بلادهم، أن تراهم ينكفؤون على أنفسهم، فيلجؤون إلى التدين من أجل إنقاذ الذات العربية من شعورها بالدونية أمام الغرب، ومن شعورها بالقمع من قبل السلطة، ولهذا تجدهم يرفضون رفضاً باتاً أي نقد للثقافة العربية الإسلامية.

لكن لا مناص من العمل على كلا الاتجاهين لمواجهة التخلف، مواجهة الحكم الديكتاتوري القمعي، ومواجهة الثقافة السائدة المتخلفة. فمثلما ثارت الشعوب العربية على الطغاة والديكتاتوريين في 2011، فإننا يجب أن لا نتوانى عن مواجهة التخلف الفكري والثقافي والديني، وفضحه ومواجهته وكشفه.

إن من يقرأ أمهات الكتب في الموروث الإسلامي (صحيح البخاري، سيرة ابن هشام، الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، مغازي الرسول للواقدي، كتاب المصاحف للسجستاني) لكي يتأكد من صحة دعاوى ناقدي التراث، سيجد أنهم محقين في معظم نقدهم له، لكن مع ملاحظة ما يلي:

أولاً: إن معظم هؤلاء الناقدين، يأتون من خلفيات دينية أو أيديولوجية غير إسلامية. أي أنهم لا ينظرون للتراث بعيون محايدة، بل هم مأدلجون، لذلك تجدهم لا يرون من التراث الإسلامي إلا النقاط السلبية فيه.

ثانياً: بعضهم أيضاً يأتي من خلفيات شيعية، عندما يتعلق الأمر بنقد التراث الإسلامي السني (مثل “زكي ميلاد” من لبنان)، والآخر يأتي من خلفيات سنية عندما يتعلق الأمر بنقد التراث الإسلامي الشيعي. وهذا يجعل نقدهم مشكوك في حياديته وإنصافه.

ثالثاً: بعض هؤلاء الناقدين لم يتجاوز الطروحات التي قدمها المستشرقون، وكانوا مجرد مكررين لها، مع ما لمعظم المستشرقين من خلفيات استعمارية يسيطر عليها شعور التفوق الأوروبي.

رابعاً: يعاني قسم مهم من الناقدين للتراث الفكري العربي الإسلامي، ممن ينتمون إلى الشعوب الإسلامية، يعانون من الرغبة بالارتماء الكامل في أحضان الحضارة الغربية، مع شعورهم (وهم ربما معذورون في ذلك)، شعورهم بأن العرب والمسلمين لا أمل منهم.

خامساً: لا يميل معظم الناقدين لتخلف حال الشعوب الإسلامية، إطلاقاً، إلى البحث في دور الطغيان السياسي والديكتاتورية في وصول الفكر الديني الحالي عندنا إلى هذه الدرجة من التطرف والتخلف، ويصورن تخلفنا كما لو أنه ناتج فقط عن عوار أصيل موجود في الدين الإسلامي كدين، والثقافة العربية الإسلامية كثقافة. لكن بالاستناد إلى قوانين علوم السياسة والاجتماع، نستطيع القول بأن (الاحتواء يولد الاعتدال، والإقصاء يولد التطرف)، أي أن احتواء الإسلاميين يؤدي إلى اعتدالهم، واعتدال فكرهم، أما إقصاؤهم فيولد تطرفهم، و نستطيع أيضاً أن نقول (السياسة مقبرة الأيديولوجيا)، أي أن إيصال الإسلاميين إلى عالم السياسة سيؤدي إلى فتور الإندفاع الأيديولوجي لديهم. إن التطرف والتخلف الإسلامي الحالي إنما هو نتيجة ورد فعل على القمع السياسي الذي تعيشه الشعوب المسلمة، وهو أيضاً رد فعل على السياسات الغربية غير العادلة تجاه تلك الشعوب، وأيضاً بسبب المخاطر التي تتهدد الهوية الإسلامية أما غول العولمة الكاسح.

سادساً: الناقدون للتراث الإسلامي يحاسبون الشخصيات الإسلامية التي عاشت منذ ألف أو أكثر من السنين، يحاسبونها ويُقيِّمون سلوكها وأقوالها وفقاً لقيم القرن الحادي والعشرين؛ فتجدهم يتساءلون عن الديمقراطية في زمن حكم عثمان بن عفان، وعن العقلانية والشك الديكارتي في فكر ابن تيمية. كل هذا من أجل غاية وحيدة وهي إظهار أن التراث الإسلامي تراث متخلف رجعي وغير حداثي. وهناك العديد من الكتاب والمؤرخين العرب والمسلمين الواقعين في هذا الخطأ كل منهم من رأسه حتى أخمص قدميه، في حين أن مؤرخاً يهودياً مثل (برنارد لويس)، والذي يعتبره الكثيرون من العرب صهيونياً، والذي نشر عشرات الكتب عن العرب والمسلمين، تجده أكثر منطقية وأكثر إيجابية تجاه الإسلام، وله الكثير من الشهادات الإيجابية بحقه، وتجده لا يقع في هذا الخطأ، وأسلوبه في البحث التاريخي منهجي، ولا يحاكم الشخصيات التاريخية وفق مفاهيم العصر الحاضر.

عندما نتعمق في دراسة القيمة الحضارية الهائلة للفكر العربي الإسلامي، سنجد أنه يملك مقدرة على إحياء نفسه من جديد، لكن بعد إجراء تغيير كبير في شكله القائم حالياً. الفكر العربي الإسلامي القائم حالياً غير قادر إطلاقاً على صنع حضارة؛ أنا أتحدث هنا عن مساوئ هذا الفكر الناتجة عن طبيعته التي لم ينلها أي تحديث في العصور الراهنة، كونه فكر آتٍ من العصور الوسطى ولم تترك الحضارة الحديثة أثراً عليه إلا في المظهر والشكل فقط، أما في عمقه وأسسه ومضمونه فهو بحاجة لإعادة إصلاح شاملة.

أقول وأكرر (إن نقد التخلف الاجتماعي والديني والثقافي هو خطوة أساسية ضمن خطوات مركزية في سياق المشروع النهضوي) … لا شك أبداً في ذلك. ويجب أن لا نعتبر أن كل مهاجمة للتخلف الفكري في ثقافتنا هو هجوم على الهوية العربية الإسلامية وإهانة لها، لا، فهذا خطأ فادح.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/12/02/%d9%87%d9%84-%d8%a3%d9%86%d9%91-%d9%86...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك