بين الصّوفيّة وبوذيّة “زن” خيط الغموض والعذوبة

حربي محسن عبد الله

 

ثمة خيطٌ رفيع بين الصوفية وشطحاتها وأساليبها في التعبير ولغة خاصّتها، وبين المدارس الشرقية وكأنها تنهل من ذات المعين. فعندما تقرأ البوذية بكل تفرعاتها ومدارسها المتنوعة ومنها مدرسة “زن”، تجد أن هذا الخيط الرفيع يحمل ذات الخرزات المتلألئة وذات البريق الذي يبهر الأبصار، ونفس الحيرة التي تدعو القارئ ليتوقف كي يتأمل العبارات ليس لغموضها بل لسحرها أيضاً. ثم تكتشف أن الغموض كان مقصوداً لهدف مطلوب من كلا الجانبين فلدى الأولى، أعني الصوفية، غرض توضّحه بهذا المقطع على لسان أحد مشايخها يقول فيه: “من لم يفهم إشاراتنا لن تنفعه عباراتنا”، ولدى بوذية زن عبارات غامضة هدفها التخلّص من التشبّث العقلي بالفكرة ورغبة العقل بالسيطرة، فيحتار القاريء عندما يقرأ السؤال الملغّز التالي على سبيل المثال: ” لماذا فأر، بينما هي تدور؟!!!” يحتار ولا يلقى إجابة شافية ثم يكتشف أن الأمر هو دعوة مبطنة لتسكين العقل المتشبّث بالرغبة في الاستحواذ، والفهم من خلال السيطرة على الموضوع الذي يفكر فيه، ومغادرة هذه الحالة نحو تلمّس العفوية والتلقائية وقبول الأشياء كما هي. وهنا التشابه بينها وبين الدعوة للجذب وانتظار الإشراق الذي ينقذف في القلب بلا تفكير لدى الصوفية. ولا يخلو الأمران من صعوبة.

زن –   Zenباليابانية هي طائفة من بوذية ماهيانا، تفرّعت عن فرقة “تشان” البوذية الصينية. يتميز أتباع هذا المذهب بممارسة التأمل في وضعية الجلوس (زازن)  كما يشتهرون بكثرة تداولهم للأقوال المأثورة والعِبر (كوان)، ويرجع أصل كلمة “زن” إلى النطق الياباني للحرف الصيني “تشان” chan وهذه الكلمة هي نفسها ترجمة للكلمة السنسكريتية” ذيانا” وتعني استغراق التفكير أو التأمل (التوحّد المطلق مع الكون بالمعنى الحرفي). تهدف تعاليم زن العودة إلى الأصول الأولى للبوذية وخوض التجربة التي عاشها البوذا. ولوضعية الجلوس أو “وضعية زهرة اللوتس” أهمية خاصة لدى أتباع هذا المذهب، فعن طريق اتباع هذه الوضعية توصّل البوذا إلى حالة الاستنارة أو “اليقظة”.

يرفض أتباع “زن” الفكرة القائلة بوجوب أن يسلّم الإنسان نفسه لقوى الآخر. كما يعارضون مفهوم الازدواجية بين الحالة الطبيعية للأشياء، وطبيعة البوذا في ذوات الأشياء. ويقولون إنها تتواجد في كل واحد. على الإنسان أن يكون مدركاً لطبيعة البوذا في نفسه حتى يصل إلى حالة الاستنارة (اليقظة) أثناء دورة حياته الحالية وداخل جسده المادي. ويدعون لقبول الحقيقة كما هي، ورؤية الأشياء كما هي، وبالتالي القبول بها كما هي. هذه الأفكار تمثّل الأساس الذي تقوم عليه الاستنارة البوذية. ذاتنا الجوهرية نقيّة وصافية، بالغة الوضوح. والبحث عن تلك الذات بحث عن الاستنارة أو “الساتوري”. إننا كبشر، نحوز بداخلنا كل ما نحتاجه منذ البداية. والاستنارة لا تتطلب البحث عن أجوبة خارج ذواتنا، وإنما تستدعي منّا النظر إلى داخلنا. عندما نلتقي بذاتنا الصافية، هذه هي الاستنارة. يقول البوذا: “أنت ملاذك، أنت جنتك، وجحيمك”. وعلى الجانب الصوفي يقول الشيخ الأكبر ابن عربي” لكلٍ بَحرهُ فَعُم بَحرك”.

بعض الناس يمتلكون كاريزما تجعل الآخرين ينجذبون إليهم بشكل تلقائي، وكأن ثمة هالة تحيط بهم. كل هذا من العفوية والتلقائية التي يتمتعون بها. والعفوية والتلقائية هي ما تنادي بها مدرسة “زن” البوذية وطريقتها في التأمّل. تجدر الإشارة إلى أن تأكيد مدرسة “زن” على العفوية والتلقائية، نابع من الإرث الطاويّ، أي مذهب اللافعل، ففي حين تؤكد علينا أن نغيّر العالم وأن نتصرف فيه بقوة إرادتنا، فهي تبجّل حكمة القبول والتخليّ، والتدفّق، واللاإرادة. كما جاء في أحد المخطوطات:

  • أيّاً كان الذي يريد أن يستحوذ على العالم ويستخدمه سوف ينتهي إلى الفشل.
  • إن العالم هو آنيةٌ مقدسةٌ لا تتحمل أن نستحوذ عليها ونستخدمها.
  • من سيستخدمها سوف يحطّمها، ومن يستحوذ عليها سوف يخسرها.

ليس المقصود من كل ما تقدّم السلبية، وإنما إرخاء القبضة، إذ لا تدعو هذه التعاليم إلى القدرية والتسليم، وإنما إلى الملاحظة، والصبر، والمرونة في ردود الأفعال كما في الأفعال، حيث لا يجب “إكراه” الأشياء وإنما مرافقتها، مثل السبّاح، فهو لا يتقدّم لأنه يفرض إرادته في وجه قوة الموجة أو التيّار، وإنما بمواءمة حركته معهما، “ينزل مع الدّوامات ويصعد مع العواصف، يستجيب لحركة الماء، وليس لإرادته الذاتية. بهذا ينجح في العوم في الماء براحة كبيرة”.

  • لا شيء في العالم أكثر ليونة وضعفا من الماء
  • لكن لا شيء يخدشه مهما كان قاسياً أو قويّاً
  • لا يمكن لأي شيء أن يأخذ مكانه
  • الضعف يتفوّق على القوّة
  • إنها صلابة الضعف
  • لا أحد تحت السماء يعرفه
  • ولا أحد يستطيع ممارسته
  • والحكيم أيضاً:
  • حين يُكابد قذارات المملكة
  • يكون سيد معبد الأرض
  • وحين يتحمل آلام المملكة
  • يكون ملك الكون
  • فالصحيح هو نغمة الخطأ.

في كلا الأمرين الحياة والثقافة، بالنسبة لمدارس للشرق الأقصى، ليس هناك من تقدير أعلى من تقديرها للعفوية التلقائية أو أن يكون المرء طبيعياً فطريّاً. هذه هي النغمة التي لا تقبل الخطأ للمصداقية التي تشير إلى الفعل الذي لا يُدرّس ولا يُخترع. إنها ترنّ للمرء كالجرس عندما يفكر ويفعل، ويتفاعل مع الآخرين، عندما يسيطر ويتحكم، أو عندما يشجب أمراً، أو يُعجب بشيء ما. لكن لا يمكن للعقل أن ينفصل وكما يقول مقطع من قصيدة من مخطوطات “زن”

إنه كالسيف القاطع، ولكنه لا يستطيع أن يقطع نفسه؛

إنه كالعين التي ترى، لكن لا يمكنها أن ترى نفسها.

وهم الانفصال يأتي من محاولة العقل أن يكون هو كلا الشيئين، هو ذاته والفكرة التي يكونها عن ذاته، ومن التشويش القدري بين الحقيقة والرمز. لوضع نهاية لهذا الوهم، يتوجب على العقل أن يتوقف عن محاولته التشبث بنفسه، والتمسك بتدفق تيار التجارب، ومن موقفه من فكرته عن نفسه التي نسميها الذات “الأنا”. وهذا ما يوضحه مقطع من قصيدة جاء فيها:

الأكثر مشاركة في الفيس بوك