وظيفة الثقافة في عالم متغير: عناصر للتفكير والتأمل
نجاة الوافدي
تقديم
الثقافة هي الذاكرة الجمعية لأي مجتمع، هي أساس هويته وانتمائه وتميزه، مثلما هي قاطرة نحو التنمية المستدامة للمجتمع في شتى المجالات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية.تنبع أهميتها من الجدارة التي أثبتتها في حفظ الذاكرة والتاريخ، واستنهاض مختلف التعبيرات والخصوصيات الثقافية، وفي إغناء وإفادة المجتمع، وإعطائه حضارة متألقة. والثقافة بهذا المعنى، هي سجل مفتوح يواكب تطور المجتمع وسيرورته، ويخضع عبر مجريات التاريخ لتفاعلات عدة تؤثر عليها من حيث الوظيفة التي تؤديها تجاه الأفراد والجماعات البشرية.
لكن مع العولمة التي هلت معززة بتكنولوجيات الإعلام والاتصال المتقدمة، وبنظام جديد في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، وما رافق كل ذلك من تكريس هيمنة الرأسمالية المتوحشة تحت أولوية الليبرالية الجديدة، بتحويل العالم إلى سوق تجارية كبرى تحكمها الحاجيات الاستهلاكية المنمطة والموحدة، أصبح كل ما يبدعه الإنسان سلعا معلبة بما في ذلك منتجات الثقافة والفنون والإبداعات الأدبية.
أمام هذا النظام العولمي أمست الوظيفة الثقافية تواجه تحدّيا كبيرا، فرض عليها إعادة النظر في ميكانيزماتها وامتداداتها ومجالات اشتغالها، والتكيف مع معطى ظهور الأنترنيت كاختراع ساهم في الانتقال من اعتماد الحوامل التقليدية في نشر وترويج الثقافة والفكر، إلى توظيف وسائل وتقنيات رقمية جديدة أكثر سرعة وأكثر قدرة على تخزين المعارف وتداولها في زمن قياسي، تحول معها الإنسان من كائن واقعي إلى كائن افتراضي غير مرتهن لحدود الزمان والمكان.
الثقافة هي تعبير عن الحياة الاجتماعية الكلية للإنسان، بما تنطوي عليه من قدرات ومهارات وعادات وتقاليد تكتسب في الجماعة البشرية ذاتها
ولا نحتاج للتذكير بأن الفضاء الإلكتروني الحالي يتسم بعدة سمات، ليس أقلها أن الحدود بين الدول والشعوب لم تعد لها قيمة تذكر؛ فالعالم أضحى قرية صغيرة، تنتشر فيه المعرفة بسرعة قياسية، وصارت فيه الممارسات الثقافية المرتبطة بالفضاء الرقمي كونية، مخلخلة مجموعة من القواعد، وهو ما حدا بالمتتبعين والدارسين للشأن الثقافي، إلى اعتبار الأمر انقلابا في المنظومة الرمزية والفكرية لمختلف شعوب العالم، وأن التحولات الشاملة للثقافة في هذا العصر الرقمي، ليست فقط تحولات ثقافية، ولكنها تحولات حضارية أيضا.
إن مقاربة مسألة التحديات الجديدة المطروحة على أنظار الثقافة الرقمية منها بالأساس في العالم ، في المغرب الأقصى تحديدا، تطرح بداية، ضرورة أولى تتمثل في تحديد مفاهيمي لموضوعة الثقافة ومكوناتها، قبل الانتقال إلى الحديث عن السؤال الثقافي وموقعه في عصر يتميز بتطور تكنولوجي رقمي متسارع، لم يستثن أي مجال بما فيه المسألة الثقافية، التي وجدت نفسها أمام تحدي مواجهة تداعيات "الرقمنة" وانعكاساتها على مجمل الحقل الثقافي الوطني في العالم العربيّ، إما بالسلب أو بالإيجاب، قبل أن نختتم بخلاصة لمجمل ما تناولناه من قضايا وأفكار.
أولا: محاولة للتعريف بالثقافة
1. ما هي الثقافة؟
تعرف الثقافة، بأنها مجموعة متكاملة من القيم والمعايير، والتصورات والمعتقدات والرموز، والأعراف والتقاليد، يتداولها الناس جماعيا وتتوارثها الأجيال بصفة منتظمة داخل مجموعة بشرية معينة، بالنظر لكونها تشكل رأسمالا رمزيا ثمينا يتعين الحفاظ عليه، ونقله عبر الأجيال.
إنّ الطابع المميز لهذا التعريف، أنه يتميز عن التعريفات العامة المتداولة في هذا المجال، والتي تستعمل الثقافة فقط للإشارة إلى ما يسمى بالفنون والآداب والفكر والنظريات؛ أي بعبارة أخرى لا تشير هذه التعريفات العامة إلا إلى ما يمكن تسميته بالثقافة العالمة أو العليا[1]؛ أي إلى العناصر الأكثر تقنينا وانسجاما وشمولية، وهي في كل الأحول لا تشكل سوى جزء محدود مما يسمى عادة بالثقافة في الدراسات الأنثربولوجية.
وهكذا، فعلى المستوى الأنثربولوجي، تعدّ الثقافة أسلوب الحياة أو طريقتها التي يعيشها أي مجتمع بما تعنيه من تقاليد وعادات وأعراف وتاريخ وعقائد وقيم واهتمامات واتجاهات عقلية وعاطفية ومواقف من الماضي والحاضر ورؤى للمستقبل. إنها طريقة تفكير وأنماط سلوك ونظم ومؤسسات اجتماعية وسياسية وما يعيشه المجتمع من انفتاح أو انغلاق[2]. الثقافة أيضا هي تعبير عن الحياة الاجتماعية الكلية للإنسان، بما تنطوي عليه من قدرات ومهارات وعادات وتقاليد تكتسب في الجماعة البشرية ذاتها، وهي بمفهوم أوسع وأشمل "كل مركب يضم المعرفة والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والقانون، والأعراف، وكل المهارات الأخرى أو العادات المكتسبة من طرف الإنسان، باعتباره عضوا في المجتمع"[3]3. وعليه، فالثقافة هي نتاج النشاط الإنساني وليست فعلا من أفعال الطبيعة، لذلك فهي معرضة دوما للتغيير، إذا ما تغيرت ظروف وحياة المجموعة البشرية التي تنتج الفعل الثقافي[4].
لكن هل يمكن الحديث عن معنى واحد ومشترك لهذا المفهوم؟ أكيد لا. إن الثقافة كانت ولازالت بين المفاهيم الأكثر إثارة للجدل، بالنظر لالتباسه وتعدد دلالاته.ولهذا نصادف كثرة التعاريف إلى درجة لا يمكن حصرها. في هذا السياق، أشار أحد الأنثربولوجيين الأمريكيين إلى وجود مائة وستين تعريفا مختلفا لهذا المصطلح[5] قائلا: "وكل من سعى إلى القول بوجود تعريف للثقافة صالح لكل الأزمنة أو كل أصناف المجتمعات الإنسانية والفئات الاجتماعية، فإنه من دون شك سيسقط في خطأ نقل أو فرض بعض النماذج الثقافية المهيمنة على ثقافات مختلفة تماما"[6]. كما حاول عدة باحثين تقديم تعاريف أخرى، إلا أن أغلبها مستلهم من تعريف تايلور، أو مقتبس منه، أو معدل. وحتى تعريف منظمة اليونسكو حول السياسات الثقافية في ثمانينيات القرن الماضي[7] لم يخرج عن نطاق ما وضعه الأنثروبولوجي البريطاني من تعريف، أضحى مع مرور الوقت النص المرجعي الأكثر اقتباسا وتداولا داخل مختلف أدبيات العلوم الاجتماعية والإنسانية.
قصارى القول، إن الثقافة علاوة على كونها واحدة من الكلمات التي تصف الكثير من جوانب الحياة الإنسانية، فهي في ذات الوقت واحدة من الكلمات التي يصعب علينا تحديدها بتعريف واحد، والشيء المؤكد أنها تشكلت خلال سيرورة تاريخية طويلة، فأنتجت عدة مكونات وتمظهرت من خلال عدة ملامح.
2. الثقافة المغربية،مكوناتها وملامحها:
يفيد الاطلاع على كتب تاريخ المغرب في تسجيل أن الثقافة عند المغاربة وما تولد عنها من تعبيرات، استندت في تشكلها على عدة ركائز نذكر من بينها خاصّة: اللغة، والدين.
فبالنسبة إلى الركيزة الأولى توجد اللغة العربية واللغة الأمازيغية والدارجة كلغات محلية. وهاته العناصر شكلت خزانا للتعددية الثقافية، ومظهرا من مظاهر الانفتاح على الآخر، وأداة تواصل بين الناس وبوتقة فكرهم ورمز وجودهم.
أما بالنسبة إلى الركيزة الثانية المتصلة بالدين[8]، فشكلت أساس وجود المغاربة، وعنصر إخصاب لمختلف الأجناس البشرية التي تمازجت في ما بينها، وأنتجت تركيبة اجتماعية متعددة وغنية ومنفتحة في آن واحد.
وقد سجل لنا التاريخ، أن هاته الركائز التي انبنت عليها الثقافة المغربية، ساهمت بشكل واسع في تكوين الشخصية الثقافية المغربية عبر التاريخ، وتنميتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة. وعلاوة على هذا، كانت هناك الحضارة العربية الإسلامية بكافة مقوماتها المشرقية والأندلسية، استمد منها المغاربة ثقافتهم وقيمهم، وكان الموروث الأمازيغي الذي تدوول لقرون طويلة، وما زال ينبض في ذاكرة ووجدان المغاربة، والعادات والتقاليد والأعراف الجماعية والقبلية الخاصة بالبلاد، التي تم الحفاظ عليها، والإبداع الشعبي الذي شكل أحسن تعبير عن نفسية الشعب ومفتاح شخصيته، بما هو ثمرة إنتاج أفراده وجماعاته[9]9. كل هاته الروافد أغنت الثقافة ومنحتها الملمح الذي اكتسبته طوال تاريخ المغرب.
وهكذا وبارتباط مع المعطيات السابقة، يمكن القول إنّ التنوع الثقافي شكل بالمغرب موردا وثروة وسم كياننا المجتمعي، وشكل قيمة مضافة وامتيازا ثقافيا غنيا.
ولئن كان الموقع الجغرافي للمغرب عامل إخصاب للبنية الثقافية المغربية، فقد كان أيضا عامل جذب لمختلف القوى الاستعمارية التي حاولت فرض هيمنتها الكلية على مقدرات البلاد. وهكذا تعرض المغرب لموجة استعمارية، لم يقتصر اهتمامها فقط على السيطرة الاقتصادية والإدارية والسياسية، بل امتد ذلك إلى مستوى الرموز والمرجعيات التي كانت تمتح منها الثقافة بالمغرب مكوناتها ومجالاتها.
ولعل ما يدفعنا إلى اعتبار الاستعمار الأجنبي على رأس الأخطار المهددة للثقافة في وجودها هو سياساته التمييزية إزاء مختلف الرساميل الرمزية والفكرية والابداعية ببلادنا؛ وتعدد الإجراءات التي انتهجها المستعمر، التي رامت في عمقها تهميش وإقبار بنية الثقافة ببلادنا. وبسبب هذه السياسات التي انتهجها المستعمر، فإن الخزان التقليدي للثقافة بالمغرب أصيب في مقتل، من جراء تشجيع مختلف الممارسات الثقافية الأجنبية، التي وجدت بالدرجة الأولى لخدمة أجندة المستعمر ومخططاته، عكس ما كانت تدعيه الإدارة الاستعمارية من كونها تسعى جاهدة للحفاظ على تراث المغاربة وأنماط عيشهم؛ ذلك أن المتصفح للدراسات والأبحاث التي أنجزت عن تلك الفترة سيقف بكل تأكيد على النتائج الكارثية التي كانت للاستعمار الفرنسي بالخصوص، على مختلف البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إزاء هذا الوضع، لم يقف الشعب المغربي مكتوف الأيدي، بل تبلورت معارضته على شكل مقاومة وطنية، اتخذت من مسألة الحفاظ على المكونات المشتركة في الثقافة المغربية، كرمز من رموز الهوية الثقافية المغربية، عنوانا رئيسا لنضالها ضد المحتل الأجنبي، مستفيدة في ذلك من صعوبة اقتلاع هذا النظام الثقافي، الذي ترسخ عبر الزمن، وتغذى باستمرار من الداخل والخارج، ومن التفاعلات التي أقامها المجتمع المغربي مع محيطه، بحكم الموقع الجغرافي الذي احتله، وهو حلقة وصل بين الشرق والغرب وشمال إفريقيا وجنوب الصحراء، وهو موقع أهل البلاد ليكون موطنا التقت فيه تيارات حضارية متنوعة تركت بصماتها على الأعراف والتقاليد التي حافظ عليها المغاربة.
لكن ومع العولمة وتطور وسائل الإعلام والتكنولوجيات الحديثة، فرضت على الشعوب خلال العقد الأخير نظم ثقافية ومرجعيات ثقافية جديدة، أكثر كونية. مست في العمق البنيات الثقافية السائدة ومكوناتها، وهو ما سنتطرق إليه لاحقا، لكن قبل ذلك ولاستكمال صورة المشهد الثقافي سنتطرق، ولو باقتضاب شديد، إلى بعض الملامح التي تمظهرت من خلالها الثقافة المغربية، ومنها:
-اعتمادها على العلوم الدينية، من فقه وتصوف، مستندة إلى اللغة وعلومها من نحو وصرف، مما جعل الثقافة بمفهومها العام ترتبط بالعلوم الشرعية على الخصوص.
- اعتمادها على "المسيد" والمسجد والزاوية كمؤسسات لتمرير الفعل الثقافي وكبنيات للثقافة؛ أي لممارسة أنشطة هذه الثقافة، ولا سيما في المواسم والمناسبات. ومثلها بنيات أخرى، يمكن أن نذكر من بينها خزائن الجوامع ومجالس الملوك والأمراء وأندية العلماء والأدباء، حيث تلتقي فئة معينة من المثقفين، إضافة إلى الساحات العمومية وما كان يقام فيها من حلقات شعبية يتردد عليها عموم المواطنين.
- لم تكن الثقافة ممركزة؛ أي حضرية بطبعها، لكنها كانت معممة في القرى والبوادي. وربما كانت الثقافة المنتشرة خارج الحواضر أقرب إلى التوسع والتفتح، لبعدها قليلا عن الطابع الأكاديمي الذي كان يميز نظيرتها بالحواضر.
- إنها في تلقيها وتوصيلها كانت تتوسل بالدرس والخطابة والوعظ، في اعتماد على مقررات ومناهج ترتكز على الحفظ والترديد، ولا سيما الكتب قليلة وغير ميسرة التداول، إلا ما كان من بعض المتون والشروح التي كان يختطها الطلاب والمدرسون.
- إنها كانت تتسم بشيء من الحرية والتلقائية جعلها لا تخضع لمشروع ثقافي صارم، على غرار ما كان استثناء في العهد الموحدي، وحتى المرابطي قبله مع تباين في الاتجاه. ومن ثم عاشت استقلالية كانت تبلغ في معظم الأحيان حد الشعور بالتهميش الذى كان يفضي إلى ضعف إمكانات صنع الثقافة، إذ غالبا ما يبقى هذا الصنع رهين جهود فردية محدودة.
ومع كل ما كانت تتسم به هذه الثقافة من سلبيات، وفق منظورنا المعاصر ـ فإنها كانت تلبي حاجة المواطنين، وتشبع رغباتهم، وتستجيب لتطلعاتهم، إلى حد يمكن القول بأنهم كانوا ولو في حدود، يتملكونها ويتجاوبون معها ويهضمونها ويتذوقونها، وبالتالي كانوا يستفيدون منها ويمدونها بالعطاء. وخلف هذه الحقائق كانت تكمن حصانة المواطنين؛ أي حصانة فكرهم مما قد يزعجه أو يشوش عليه[10].
وخلاصة القول، شكل تراث البلاد وديناميته الثقافية إمكانا مهما، وإسهاما أصيلا في الثقافة العالمية، رغم ما يحيط بها من خطر داهم، ولاسيما أن العولمة الثقافية وتوحيد الأنماط الذي يواكبها، تحمل في طياتها تهديدات حقيقية للثقافات الوطنية والمحلية.
وإذا كانت هذه هي ملامح الثقافة في الأزمنة السابقة، فما وضعيتها الحالية على ضوء الديناميات الجديدة التي أصبحت تخترق ميدان الإبداع الفني والثقافي، ضمن سياق مطبوع بـ "الرقمنة" والفورة الإعلامية، اللذين جعلا من الثقافة مجالا للمنافسة ومصدر إثراء بالنسبة إلى كل من يتحكم في آلياتها.
ثانيا: الثقافة في زمن "الرقمنة"
بداية، لابد من التذكير أن اختراع المطبعة الصناعية كانت له عدة إيجابيات، أولا أنها أحدثت ثورة جذرية في عالم الكتاب والفكر والقراءة، عندما أراحت الإنسان من عناء النسخ والكتابة، ويسرت تداول الكتاب بين عموم الناس لأول مرة في تاريخ البشرية، بعدما كان الولوج إلى المعلومة يتم حصرا عن طريق النخب، وثانيا ساهمت في الرفع من منسوب القراءة الفردية المباشرة، بعدما ظلت القراءة الشفهية الجهرية مهيمنة لزمن طويل. وثالثا زرع أولى بذور الديموقراطية في عالمي الكتاب والقراءة. وكنتيجة لذلك أضحى الكتاب كوسيط ورقي يضطلع بمهمة تحرير الإنسان وإثراء ذهنه وفتح مداركه وتنمية ملكة النقد لديه.
وقد شكلت التقنية تاريخيا تراكما تطوريا. وصل إلى مرحلة التكنولوجية المتقدمة "تكنولوجية الإعلام والاتصال بصفة خاصة، حيث ظهر مفهوم الحقبة ما بعد الصناعية"[11]. وقد يشهد تحولات في المسار الصناعي ومازال التطور جاريا لا يتوقف أبدا لكن ومع الفورة الإعلامية المتطورة وظهور وسيط رقمي جديد، تحولت الحوامل المتعارف عليها في عالم الكتاب إلى أسانيد رقمية ساهمت بقدر كبير في الدفع بفعل القراءة إلى أرقى صوره وأشكاله، ووضعت أمام القارئ إمكانيات جمة، جعلته حرّا في اختياراته كالقراءة والتعليق وكتابة المدونات والحوار وتخزين المعلومة وإرسالها واستقبالها.. وكل ذلك في حيز زمني وجيز، ودون رهبة من سلطة الرقابة بشتى صنوفها السياسية والدينية والاجتماعية.
ولئن كانت هذه الإيجابيات التي وفرها الوسيط الإلكتروني أمرا واقعا ويقر به العديد من الدارسين، فإن البعض الآخر يؤكد عكس ذلك، بأنه بتوظيف الوسائل الجديدة في التدوين والنشر كالحاسوب ومكوناته الإلكترونية واللوحات، افتقد هذا الفعل الحضاري الإنساني بعضا من خصوصياته، ليس أقلها متعة التصفح المادي للكتاب، ويستند هذا الرأي على القول بوجود بون شاسع بين الكتابة على أسانيد مادية ملموسة، وبين الكتابة الرقمية على حوامل افتراضية.
في ذات السياق دائما، حملت هذه التحولات كثيرا من المتتبعين لقضايا النشر والكتاب إلى الاعتقاد بأن الكتابة الرقمية في طريقها إلى إحداث قطيعة مع أشكال الإنتاج غير الرقمي، التي بات ينظر إليها باعتبارها أشكالا تقليدية، بل إن البعض اعتبر هذا التطور مؤشرا على نهاية "حقبة الدفتر" التي امتدت لفترات زمنية طويلة [12].
إن من بين أبرز تجليات الرقمنة في بداية القرن الأول من الألفية الثالثة، الذي يعرف فيه العالم قفزات تجاوزت المتوقع فيما يتعلق بوسائط نقل المعلومة بصفة عامة، هو المحاولة الضخمة التي تم القيام بها لرقمنة الرصيد الوثائقي في بعض كبريات المكتبات العالمية، التي اعتمدت على إمكانيات إلكترونية متطورة ذات قدرات تخزينية كبيرة للحروف والكلمات والمعطيات.
ومن هذه المحاولات، نجد مكتبة "الكونجرس الأمريكي"، و"الخزانة الوطنية الفرنسية"، و"مشروع غوغل" الذي يرمي إلى وضع 16 مليون كتاب رهن إشارة الباحثين رقميا وبشكل مجاني، و"الموسوعة الشاملة العربية"[13] وغيرها.
اعتمادا على هذه الأمثلة وغيرها، والتي تبين كلها ارتقاء الاهتمام بالكتاب الرقمي في عصرنا الحالي إلى مستوى الأسبقية في تسويق المعرفة، كان لابد وأن تطغى الرقمنة المعرفية على بقية الوسائل المعتمدة في ترويج الكتاب، وأن تتربع التكنولوجيا الحديثة على قمة نشر الثقافة وتدويلها، بل إن المنتجات الثقافية لم تعد حكرا على فئة دون أخرى، بل توسع مداها ليصل إلى كافة فئات المجتمع.
إن تأثير هذا التطور على الحياة الثقافية أصبح من الأمور التي لا يرقى إليها الشك، وبغض النظر عما خلفه ذلك من انعكاسات ينظر إليها البعض على أنها سلبية، وتغيرت معها الكثير من الأشياء في حياة الأفراد والجماعات، وخاصة ما يتعلق منها بتحول البشر إلى كائنات رقمية افتراضية، وامحاء بعض الخصوصيات المرتبطة بالتصفح المادي للكتاب بدل النظر إليه عبر شاشة الحاسوب، فقد أصبح بإمكان القارئ الحصول على ما يريد من معرفة أينما حل وارتحل، وبدون قيود زمنية أو مكانية، يكفي فقط أن يتوفر على حاسوب وملحقاته الإلكترونية، مع بعض الأوليات في هذا المجال.
والأمر نفسه ينطبق على المثقف/ الإنسان/ الفرد الذي وجد نفسه أمام واقع ثقافي جديد لم يعهده من قبل في مجال الكتابة والنشر. وليس غريبا أن اتجه إلى مراجعة تصوراته ونظرته إلى العالم ومكوناته، ذلك أن هذا التطور الرقمي الجديد أمسى سمة بارزة من سمات العصر الحالي.
ولكن بالرغم من شيوع الكتاب الرقمي كظاهرة ثقافية سائدة في عصرنا، فهي لازالت طارئة على المناخ الثقافي العام ببلادنا، وتكاد تقتصر على بعض المعارف دون الأخرى، فضلا عن أننا نحتاج إلى مسافة زمنية كافية، حتى نتملكها ونستوعب أدواتها أيما استيعاب. ولو أن البعض يؤكد أن الرقمنة أصبحت "واحدة من صيرورات التاريخ وحتميته"[14]، بالإمكانيات الكبيرة التي تتيحها في نقل المعلومات وتوسيع انتشارها بأسرع طريقة ممكنة.
وقد تبدو العلاقة بديهية بين المثقف والثقافة، إلا أن البداهة أحيانا تثير الغموض أكثر من الوضوح الذي يعلنه تعريفها "كل شيء واضح بذاته لا يحتاج إلى دليل أو برهان"، إن البداهة ليست دائما معطاة، ويمكن رصدها بدون التباس أو تعقد إذن[15] ....
وينبغي الاعتراف بأن معطيات العصر الرقمي الحالي والمستجدات التقنية المنبثقة عنه، كان لها نصيب وافر في إحداث تحول جذري في مفاهيم وأشكال الثقافة ووسائل نقل ما يكتب إلى القارئ بشكل عام. والمتتبع لهذا المشهد الطارئ، يستطيع الوقوف على بعض آثار هذا التحول؛ ذلك أن المجال الرقمي بات يقدم نفسه كسوق تتأطر ضمنه مجموعة من الممارسات الثقافية الجديدة على واقعنا الثقافي. وبقليل من الإرادة وتوفير بعض الإمكانيات، يمكن لنا مجاراة ذلك التحول، في أفق استنهاض فعلنا الثقافي والرقي به إلى مصاف الدول الرائدة والمؤثرة ثقافيا.
ثالثا: الحقل الثقافي المغربي والتحدي الرقمي
يطالبنا اليوم التطور التكنولوجي بمراجعة مفهوم الثقافة المغربية؛ ذلك أن هذا التطور الكاسح أفضى في المغرب إلى بروز ظواهر ومنتجات ثقافية ذات طبيعة مختلفة عما كان عليه الأمر في السابق، وهي منتجات تكاد لا تنضبط لمختلف المقومات السوسيولوجية والأنثربولوجية التي كان على ضوئها يتم تصور الممارسة الثقافية من حيث هي تجسيد لذهنية جماعية داخل فضاء مكاني محدد، وكذا من حيث إنها ترمز للتضامن الاجتماعي بين الأفراد والجماعات.
وبالمثل، فإن هذه الظاهرة باتت تزحف على المجال الثقافي، حيث أصبح معها جزء كبير من الإبداع الثقافي يمر عبر بوابة المجال الرقمي؛ فهل يشكل ذلك فرصة مواتية للإبداع، أم تهديدا له؟ وهل سيساهم في القضاء على الأشكال الحالية للممارسة الثقافية؟ أم سيساهم في خلق مناخ واسع من الحرية والتعبير والبروز؟
بيد أن السؤال الجوهري، والذي ينبغي على أي فاعل في الحقل الثقافي، أو أي مسؤول عن تدبير الشأن الثقافي ببلادنا طرحه، هو كيفية توظيف الزخم الرمزي الكوني المتدفق بدون استئذان مخترقا كافة الحدود القومية للدول. كما يطرح سؤال آخر لا يقل أهمية عن سابقه، مفاده كيفية تكييف رياح العولمة والتطور الرقمي مع حاجياتنا الثقافية الوطنية بدون خسائر أو على الأقل التقليل من تداعياتها، بدلا من الاكتفاء فقط باستهلاك الإنتاج الثقافي المعولم[16]. لكن ذلك لن يحجب عنا حقيقة ساطعة للعيان، مفادها أن الرساميل الرمزية الكونية، صارت تتدفق علينا كالنهر الجارف، ولها ارتباط بسياق ثقافي رمزي سماه أحد الباحثين بـ "الثقافة الرحالة" التي لا وطن لها ولا حدود لها[17].
على أن الجانب الأكثر تعبيرا ودلالة في سياق ثورة المعلومات، وتأثيراتها على ممارستنا الثقافية[18]، أن صار مقياس الحكم على قيمة أي منتوج ثقافي، هو القدرة على حيازة أكبر نسبة من المشاهدات، وكما قال أحد الباحثين: "كلما ارتفعت نسبة مشاهدة/ متابعة أعمالك، إلا وزاد رأسمالك الثقافي"[19]، بمعنى آخر أن درجة الإبداع وجودة إتقان أي منتوج ثقافي لم تعد أساسية في تحديد شهرة المبدع أو الفنان أو الكاتب أو الشاعر ...، كل ذلك يتم في سياق سيرورة تهدف إلى إنتاج ثقافة عالمية لها قيمها ومعاييرها، الغرض منها ضبط سلوك الدول والشعوب[20] ، عبر توظيف التكنولوجيات الحديثة ووسائل الإعلام الجديدة ذات الطابع الرقمي.
وبالتوازي مع وعي الجميع بأهمية اللحظة التاريخية التي تعيشها الثقافة، وإصرارهم على تجاوز مختلف تجليات العالم الرقمي الحديث التي أصبحت تفرض نفسها على واقع ثقافتنا. يطرح سؤال توظيف هذه التكنولوجيات الحديثة في اتجاه يحفظ هويتنا الثقافية من الامحاء والاندثار.
وبحسب تعريف بيترسون، فإن منهج إنتاج الثقافة يهتم بـ "طريقة تأثر مضمون الثقافة بالوسط الذي تنشأ وتوزع وتقيم وتدرس وتحفط فيه"[21]. ولذلك، فإن التركيز الرئيس لهذا المنهج ينصب على "تأثيرات السياقات...التي تبتكر فيها المنتجات الثقافية وتنشر[22]. يمكن تحقيق هذا المطلب عبر استخدام كافة التقنيات المتطورة في حفظ الوثائق والمخطوطات والأرشفة بمواصفات تقنية عالمية وتكثيف الاهتمام بالحياة الثقافية والتراث الوطني[23]. كما يمكن نشر مختلف الرموز التاريخية، وانفتاح مختلف الشرائح الاجتماعية على بعضها البعض، والاطلاع على رموزها وسماتها التاريخية، وتسويق المـنـتـوج الثقافي بصورة أسرع من الآليات التي كانت معتمدة سابقا. ولا شك في أن من بين أهم العوامل الثاوية خلف هذا الميل نحو إدماج تقنيات المعلوميات في الحفاظ على بعض أوجه رصيدنا التراثي والثقافي، أن الثقافة في عالم اليوم، لم تعد فقط فضاء للابتكار والإبداع، بل تحولت إلى وعي نقدي، تسنده قيم الحرية والمساواة في المجتمع، والعقلانية، والاهتمام المتزايد بالآخر، كما انتقلت إلى مستوى فعل يومي لإنتاج المعرفة، طالما هي أحد المكتسبات الأساسية للبشرية جمعاء، وبها يتم بناء القدرات وتنمية الملكات النقدية. وبالفعل فالثقافة، وإن كانت بنية متحولة باستمرار، فهي مرتبطة بالإنسان وبجوهر كينونته.
وعلى رأس قائمة الشروط الواجب توفرها في الارتقاء بالحياة الثقافية، بلورة سياسة ثقافية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار كافة المتغيرات التي حملتها رياح الألفية الثالثة في شقها الثقافي، مع محاولة تعزيز التنوع الثقافي واحترام العقل البشري وقبول مبدأ الاختلاف كقانون طبيعي منظم للكون برمته، والانفتاح على ثقافات الآخرين كيفما كانت منطلقاتها وأصولها، لكن من دون المساس بالثقافة في جوهرها.
بناء على ما سبق ذكره وتبيانه، وعلى ما فصلنا أو أوجزنا فيه القول، يبدو أن الحقل الثقافي المغربي أمام رهان كبير لا مندوحة من خوض غماره إذا ما أردنا صيانة تعددنا الثقافي، وإنتاج عرض ثقافي غني ومتنوع منفتح على كل التعبيرات والإبداعات، على الأقل في حدود دنيا، بالنظر لتزايد وثيرة أحادية الهيمنة الثقافية والتأثير الكبير للمؤسسات الكبرى المتحكمة في وسائل الإعلام ذات الانتشار الجماهيري الواسع.
وبناء على ما تقدم، أيّ دور للمثقف في خضم هذا المشهد الكوكبي؟
من المعلوم أن أهم الأدوار التي اضطلع بها المثقف، تمثلت في إخصاب الحقل الثقافي، والإصغاء لنبضات المجتمع، والتأثير فيه. لكن المشهد الرقمي الجديد فرض على الدارسين والمتتبعين للشأن الثقافي مساءلة تلك الأدوار، في ظل عصر رقمي مفتوح، وشبكة عنكبوتية متسعة الأطراف.
وبدلا من تركه وفهم ما يجري، وإحداث التغيير المنشود في حماية التنوع الثقافي القائم بالمجتمعات البشرية، تعمل تلك التحولات المشار إليها في فقرات سابقة، على إلغاء دور المثقف ومحو أثره من خارطة المشهد الثقافي العالمي ، وجعله مجرد آلة، يراد لها إنتاج خطاب تبريري لما يقع من تحولات في عصرنا هذا.
بفعل إكراهات عالم اليوم، برزت إلى الوجود نظرة جديدة إلى المثقف، الذي لم يعد ينظر إليه كونه صاحب الفضل الأساس في صناعة المنتوج الثقافي فكريا ومعرفيا وأدبيا، بل تحول الاهتمام إلى ما يعرض من إبداع أكثر من النظر لأصحابه أو المساهمين في إنتاجه، علما أن هؤلاء يشكلون عنصر ارتكاز حقيقي في تسويق المنتجات الثقافية ومختلف الفنون والإبداعات، منذ أن وجد هذا العنصر في المشهد المجتمعي.
انطلاقا من هذا الأمر، يجتهد الفضاء الرقمي الحديث أكثر في جعل المبدعين والفنانين والشعراء، وبنيات الإنتاج الثقافي، ومحتوياتها، وقيمتها المضافة في التراكم المعرفي الإنساني غير ذي موضوع، وأكثر من ذلك–وهذا هو الخطير -ترسيخ هذا المعطى في وجدان المتلقي والمستهلك للثقافة وإبداعاتها[24].
فهل سنسلم لهذا الأمر؟ أكيد لا، المثقف له أدوار طلائعية والتزام وجودي وفكري بمصالح الشعوب وحقها في الكرامة والمواطنة والعيش الكريم، له دور في إنتاج ثقافة تنويرية وتوعوية. المثقف سيظل مرجعا فكريا وجد للاقتداء به في المجتمع[25]. سيظل كما كان وفي مختلف لحظات التحول التاريخي داخل المجتمع المغربي، مهووسا بالأسئلة الاجتماعية الكبرى.
أقول سيظل، لأني اعتقد بحتمية وضرورة وجود هذا المثقف في القيام بدوره في النقد والتحريض لتذليل الصعاب التي تقف في وجه الانخراط الايجابي في عصر التواصل والمعرفة، حتى وإن صارت الثقافة، كما يصورها البعض، عبارة عن سفينة تمخر عباب بحر بلا مثقفين. والذي يتجلى من مجريات الأحداث أن الذي سيكون بيده مفتاح تجاوز أزمة العولمة والتطور التكنولوجي الذي رافقها، ليس المجتمع السياسي، بل نخبة مدنية ستعيد الاعتبار للثقافة والمثقف كفاعلين أساسيين في تصحيح مسار المجتمع، وذلك بتكوين مواطنة ديمقراطية، وكما يقال لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين.
لذا أعتقد بحتمية، أن النخبة المثقفة كانت ولازالت، رافعة للتغيير والانتقال إلى مرحلة أفضل. ومكرسة لقيم العقلانية والإبداع وروح النقد والتجديد، ومؤمنة بما تفرضه وتحتمه مقتضيات العولمة والتنمية.
والمؤكد أن أدوار هذه النخبة ترتبط في الغالب الأعم بالتصدي لمعوقات النمو والتنمية الثقافية داخل النسيج المجتمعي، بما يعنيه ذلك من محاولة زيادة وعي الأفراد الثقافي والنقدي والحرص على نبذ القيم والتقاليد المناهضة والمعيقة لحركية التنمية والعقلانية، حتى يتسنى إشراك كافة فئات المجتمع في صيرورة النهوض بالمجتمع ثقافيا. النخبة بهذا المعنى، مؤهلة لأن تكون مصدرا أو عنصرا مساعدا على تشكيل الأنساق الثقافية والقيم المجتمعية وتوليد الثقافة ونشرها وتغييرها، كما بإمكانها التأثير على القيم والبنى الذهنية التي تناهض عملية النهوض بالفعل الثقافي المساير للتطور التكنولوجي الجاري[26].
إن هذه جملة من الأسباب التي ترجح فرضية صعوبة الاستغناء عن دور المثقف وإزاحته من المشهد، واعتباره فقط شاهدا على ما يقع من تطور رقمي وتكنولوجي.
ومع انتصارنا للأدوار المتقدمة للمثقف والثقافة، فالضرورة المستعجلة تفرض إعادة التفكير الجماعي في الأوليات التي تمكن من مسايرة المستجدات الحديثة على المستوى الرقمي والتكنولوجي. وهناك مؤشرات يمكن أن نستخلص منها انطباعا بأن المثقفين المغاربة خاصة والعرب على وجه أعم، يمتلكون حوامل ووسائط تكنولوجية ستسهل عليهم مختلف المهام التغييرية (حماية التنوع الثقافي وما يرتبط به من قيم الاعتراف بالآخر والتعايش والتسامح والحوار- الانفتاح على مختلف الهويات) بكل الفعالية المطلوبة. والأكيد أن تنزيل هذه المهام لا يمكن أن يفرض من الخارج بإملاء شروطه ونموذجه، بل هو نتيجة سيرورة تاريخية تنبثق من الداخل، وتستند على متطلبات عدة يمكن تحديد البعض منها في العناصر الآتية:
● وضع الأسس لسياسة عمومية ثقافية متلائمة مع التحديات الرقمية الجديدة، والتي من شأنها الإسهام في إغناء التنوع الثقافي وترسيخ قيم المواطنة المشتركة، ومواجهة الفجوة الرقمية، وتغيير النظر إلى الثقافة نظرة قدحية دونية، ويستدعي ذلك الرفع من الاعتمادات والميزانيات المرصودة للحقل الثقافي، إذا ما أريد لهاته السياسات العمومية أن تبلغ مداها، وأن تحقق أهدافها والنتائج المرجوة منها.
● بلورة خطة عمل واضحة المعالم من أجل تحقيق تدبير خلاق لمختلف التعابير الثقافية والفنية عالمة كانت أم شعبية[27]، والتعريف بها كموروث ثقافي وطنيا ودوليا.
● تعبئة الفاعلين والباحثين في المجال الثقافي لوضع أسس تدبيج سياسة عمومية في مجال تدبير الشأن الثقافي، التي من شأنها ترسيخ الوعي بالطابع الثقافي المركب للمجتمع المغربي، وبناء ثقافة وطنية مشتركة ومتنوعة في الآن ذاته.
● تحفيز المجتمع بكافة فئاته على الإيمان بجدوى الثقافة، رغم التغيرات الحثيثة التي حدثت على صعيد منظومة القيم الثقافية في عصرنا الراهن.
● الإفادة من القطاعات الإنتاجية الأخرى في اتجاه جعل الارتقاء بالثقافة مسؤولية جماعية تهم كل المؤسسات والقطاعات، وخاصة المؤسسات التربوية، التي بإمكانها الإسهام في بلورة ثقافة مغربية متعددة ومتنوعة، وكما قال أحد الدارسين[28] ، مدرسة مدركة لمحيطها وذاتها، تسعى إلى التطور والتجديد، في وقت يشهد فيه المجال الثقافي تنافسا ثقافيا شديدا.
إن الثقافة عند المغاربة وما تولد عنها من تعبيرات، استندت في تشكلها على عدة ركائز نذكر من بينها خاصّة اللغة، والدين
● تعبئة وسائل الإعلام المكتوبة والمقروءة والمرئية والسمعية لتلعب دورها في نشر الثقافة والمعرفة والإبداع، وبلورة نسق إيجابي لقيم المجتمع، وصيانة مقومات هويته وتعدده الثقافي، وتفعيل مختلف الديناميات والتعابير الثقافية داخل المجتمع[29].
● إعادة النظر في منظومة الثقافة ككل، بغاية التلاؤم مع التحديات المستجدة، إن على مستوى ثورة المعلومات والاتصالات، أو على مستوى انبثاق أجيال جديدة بخطابات جديدة ووعي قيمي جديد قوامه المواطنة والديموقراطية وغيرها من القيم[30].
● الدعوة إلى تأسيس وعي جديد يعتبر الممارسة الثقافية أس الارتكاز في إنجاز التغيير المنشود على كافة الأصعدة والمستويات.
● أخيرا وليس بآخر، الارتقاء ببلدنا إلى مصاف الدول المؤثرة ثقافيا، يستوجب من بين ما يستوجبه، إرساء سياسة ثقافية شاملة تكون داعمة لمختلف ورشات الإصلاح الجارية ذات الصلة بباقي القطاعات.
خلاصة
بما أن هذه الورقة لا تعدو أن تكون عناصر أولية للتفكير والتأمل في الوظيفة الثقافية على ضوء المستجدات التقنية الحديثة ببلادنا؛ فمن البداهة أن تكون خلاصاتها أولية بالقدر ذاته. وهنا أود التأكيد على ثلاثة معطيات هي كالآتي:
المعطى الأول يتمثل في كون الثقافة تحولت إلى منتوج ثقافي كوني، يعتمد في تسويقه على الصورة والإشارات والنصوص المرئية، وأن الوسائل التكنولوجية الرقمية ساهمت بقدر كبير في توسيع الفعل الثقافي.
المعطى الثاني الذي نود التأكيد عليه، أن مجاراة ثقافتنا لهذا السياق، تستدعي من الفاعلين الذاتيين والمؤسساتيين في الحقل الثقافي، العمل بجد على تطوير هذا المجال وتحريره من أسار الثقافات المنغلقة والمناهضة للتغيير، ومن مختلف الرواسب الثقافية السلبية على صعيد بنية مجتمعنا (التفكير الخرافي، تقديس الغيبيات، دونية المرأة..) ، كعوامل أعتقد جازما أنها تفرمل اللحاق بالتطور الرقمي في عصر الألفية الثالثة.
والمعطى الثالث أن بين مقتضيات التطوير بديهية ناصعة تقوم على تملك رؤية واضحة بشأن ما يعتمل في المجتمع من تحولات ثقافية واجتماعية، أفرزها العصر الذي نتواجد بين ظهرانيه، فضلا عن اعتبار أن التنوع والحوار والتواصل، سواء داخل الدولة الواحدة، أو بين أطر ثقافية تتجاوز الدولة الواحدة ليسا هدفين في حد ذاتهما، بل أداتان لغاية فضلى هي "إرساء أمن ثقافي كوني يتأسس على الاعتراف المتبادل والتفاعل الإيجابي بين الحضارات .... وتعزيز كرامة الشخص كيفما كان لونه أو عرقه أو دينه أو ثقافته.."[31]
لقد كان مجال الصراع في المجال الثقافي فيما سبق، يدور بين قوى اجتماعية في إطار وطني صرف، وكان يتكئ على خيارات وتوجهات وقيم هذه القوى، في إطار صراعها الموجه سواء ضد الاستعمار أو ضد السلطة وبرامجها في فترة لاحقة، والآن أصبحنا نعيش زمنا يتعرض فيه المجال الوطني الثقافي لهجوم من طرف قوى عالمية تسعى جاهدة لاختراق موروثنا الثقافي وتهميشه وتغييبه وإقباره، موظفة في ذلك كل الإمكانات التكنولوجية الحديثة ذات الصلة بالمجال الإعلامي، ومنتجة لتوازنات ثقافية جديدة على حساب الهوية الثقافية للشعوب ومن ضمنها الشعب المغربي.
يقينا أن السؤال المؤرق الذي لازال ماثلا أمامنا، ويستفزنا لتقديم إجابات بشأنه، ولو بشكل جزئي يتمحور حول قدرة برامجنا وسياساتنا العمومية في المجال الثقافي على مواكبة مختلف التطورات التقنية الحديثة المتسارعة، للحفاظ أولا على الرأسمال الثقافي والرأسمال الطبيعي، وثانيا على منظومة قيمنا ورموزنا الثقافية ، حتى لا تتحول الثقافة – كما يراد لها- إلى سلعة تباع وتشترى.
والأمل معقود على أن تنخرط المؤسسات التربوية بالجدية اللازمة والفعالية المطلوبة في تكوين المواطن وتأصيل هويته بما يجعله مقتنعا بروافده الثقافية المختلفة، وفي ذات الوقت تقوي مناعته مما يجعله أكثر انفتاحا على الآخر بدون أدنى مركب نقص.
يقينا أيضا، وحتما أنه فجر عالم جديد يبزغ أمام ناظرينا ويوجد في متناول أيدينا، يحبل بثورات لا شك أنها أقوى من تلك التي ولدها اختراع المطبعة على يد يوتنبورغ في القرن الخامس عشر الميلادي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] على حد تعبير الراحل محمد جسوس. طروحات حول الثقافة واللغة والتعليم، منشورات الأحداث المغربية، الطبعة الأولى 2004، ص 4
[2] السلطة والمجتمع في مواحهة إرهاصات العولمة. https://anwalpress.com. تاريخ الرفع يناير 2019
[3] إدوارد برنيت تايلور Taylor، في كتابه: الثقافة البدائية، ص 44 نقلا عن دراسة الباحث عبد الرحمان المالكي: الثقافة والمجال، الطبعة الأولى 2015، ص 42، منشورات مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز-فاس. وكذلك:
عبد الجليل حليم: "الثقافة والتنمية"، اعمال ندوة: "الثقافة والتحولات الاجتماعية"، كلية الآداب بالدار البيضاء، منشورات عكاظ، الرباط، 1990. وكما قال عبد الرحمان المالكي، الثقافة هي كل ينتجه الإنسان من أشياء مادية وفكرية، الدراسة المشار إليها سابقا، ص 49
[4] ديفيد إنغليز وجون هيوسون: مدخل إلى سوسيولوجية الثقافة، ترجمة لما نصير، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت، 2013، صص 17-18
[5] العربي بوعمامة وبلقاسم أمين: "وسائط الإعلام كفواعل استراتيجية ضامنة لكسب رهانات التنمية الثقافية" أعمال المؤتمر الدولي لمختبر التواصل وتقنيات التعبير، الإعلام ورهان التنمية، منشورات مؤسسة مقاربات، فاس، الطبعة الأولى، 2016، ص: 343
[6] عبد الرحمان المالكي، م س، ص 42
[7]http://www.Unesco.org/culture/développement/html-fr تاريخ الرفع فبراير 2019
[8] عرف المغرب قبل مجيء الإسلام امتزاجا بين المسيحية واليهودية والوثنية، وقد ترسخ ذلك بوصول طلائع الفاتحين العرب إلى الغرب الإسلامي عموما والمغرب خصوصا، وهو ما ولد تفاعلا وتواصلا وتسامحا وتعايشا بين المغاربة بمختلف معتقداتهم ونحلهم.
[9] عباس الجراري، الثقافة المغربية أصولها وخصوصيتها. https://groups.google.com/forum/#!topic/fayad61/7P8WRlaSRlQ تاريخ الرفع ماي 2019
[10] عباس الجراري: الثقافة المغربية أصولها وخصوصيتها، مرجع سبق ذكره.
[11] أحمد الشراك "سوسيولوجية الربيع العربي"، دار النشر مقاربات ص 232 الطبعة الأولى 2017
[12] بوجمعة العوفي: "الرقمنة والمكان الرقمي-الكوني"، مجلة باحثون، المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، المغرب، العدد 01، يناير-مارس 2017، ص 105
[13] نفس المرجع السابق، نفس الصفحة
[14] نفسه، ص 11
[15] أحمد الشراك "سوسيولوجية الربيع العربي" مرجع سبق ذكره ص 230
[16] بلقاسم الجطاري، العولمة والحقل الثقافي المغربي. http://www.oujdacity.net/regional-article-50337
[17] نفسه
[18] الأمر يتعلق هنا بأشكال ثقافية متعددة كالسينما والتصوير والكتاب والموسيقى والفنون ...
[19] نقلا عن: RémyRieffel, Révolution Numérique, Révolution Culturelle, Edition Folio, 2014، محمد مرشد: "قراءة في كتاب ثورة رقمية ثورة ثقافية"، مجلة باحثون، العدد01، 2017، ص 192
[20] سهيلة زوار: "إشكالية الهوية الثقافية في ظل الاعلام الجديد"، مجلة مقاربات، العدد 27، المجلد 14، 2017، ص 61
[21] Richard peterson, culture studies through the production prespective: progress and prospects (Oxford Blackwell, 1994) p165
[22] Diana Crane, The Production of Culture, Media and the Urban Arts
[23] سهيلة زوار، مرجع سبق ذكره، ص 68
[24] عبده حقي: "هل نسير نحو ثقافة افتراضية بلا مثقفين"، مجلة باحثون، المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، المغرب، العدد 01، يناير-مارس 2017، ص 119
[25] عبده حقي: "هل نسير نحو ثقافة افتراضية بلا مثقفين"، دراسة سابقة، ص 117
[26] العربي بوعمامة وبلقاسم أمين، مرجع سبق ذكره، ص 353
[27] بوعزة بنعاشر وعبدالله البلغيتي العلوي: "من أجل سياسة ثقافية عمومية ديمقراطية"، مجلة الأزمنة الحديثة، العدد الأول، أبريل، 2008، للإشارة استفذنا كثيرا من هذه المقالة في تسطير بعض المتطلبات الآنفة ذكرها، والتي وإن كتبت في سنوات سابقة، إلا أنها لازالت تحتفظ براهنيتها، وفق ما اعتقد، لكون ملامسة قضايا الشأن الثقافي عامة غير مرتبطة البتة بزمن دون الآخر.
[28] محمد الفران، مجلة الأزمنة الحديثة، عدد1، 2008، ص 30
[29] العربي بوعمامة وبلقاسم أمين، م س ذ، ص 355
[30] محمد أديب السلاوي: المغرب أمام سؤال الثقافة. أي ثقافة نريد؟
[31] محمد مصطفى القباج، "المثقف العربي والتنوع الثقافي رؤية مستقبلية"، آفاق، دجنبر، 2007
المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D9%88%D8%B8%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D8%A7%...