ثقافة السلعة تهزم ثقافة الروح
عبد الكريم بكار
الإنسان روح وجسد، ونصف ثقافته يتصل بالروح والمعنى والأمور الاعتبارية وكلّ الأشياء غير الملموسة، أمّا النصف الآخر فيتصل بالجسد وحاجاته المادية المختلفة. ويمكن القول: إنّ بين ثقافة الروح وثقافة الجسد أو السلعة نوعاً من الصراع على الوجود، لكن يبدو أنّ ثقافة السلعة تدفع بثقافة الروح في اتجاه التآكل على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي. ومن الممكن لثقافة الروح أن تصمد على نحو جزئي أمام ثقافة الجسد أو السلعة حين يقوم الواحد منا بمجاهدة نفسه في ذات الله – تعالى – وحين يبذل جهداً مضاعفاً من أجل مقاومة التيار الجارف. ومن الملاحظ فعلاً المحسوس والملموس يتحدّث بصوت أقوى من المعنوي والاعتباري، ولهذا فإنّ استجابة الناس للمادة وما يتصل بها أقوى بكثير من استجابتهم لصوت الروح والتداعيات الاعتبارية، وهذا شيء يدعو إلى الأسف، لكنّه في الوقت نفسه يشكِّل علامة كبرى على خارطة ابتلاء الله – تعالى – لعباده في هذه الحياة.
تتكوّن ثقافة الروح من جملة من المعاني النبيلة مثل الإخلاص والحب والوفاء والصداقة والحنين إلى الماضي والتعاطف والقدرة على التضحية من أجل الآخرين ومن أجل الكرامة... أما ثقافة السلعة فتتصل بمعاني التملك والاستحواذ والانتفاع والترفه والمتاجرة والصيانة والاستهلاك والنفوذ... ويمكن أن تلاحظ أنّ ثقافة الروح تتصل بالرحمة والعطاء، وثقافة السلعة تتصل بالقوة والاستحواذ. في الأحياء الفقيرة يحتك الناس ببعضهم على نحو أكبر بكثير مما يحدث في الأحياء الغنية بسبب ضيق مساحات البيوت والأزقة والحارات، وبسبب التبادل الخدمي والسلعي الذي يجد الفقراء أنفسهم منهمكين فيه بسبب نقص المال، وهذا الاحتكاك وهذا التبادل النشط يُنعش ثقافة الروح، ويمدها بالحيوية والقدرة على الاستمرار. أما الأحياء التي يسكنها الأغنياء فإنّها تكون فسيحة، وأسوار المنازل فيها عالية، ولدى الناس فيها نوع من الاكتفاء الذاتي، وهذا كلّه يدفع بهم نحو الانكفاء على أنفسهم، ولا سيما في هذه الأيام حيث توفِّر التقنية للناس في البيوت كلّ أشكال المتعة والترفيه، وهذا كلّه يُضعف ثقافة الروح على الصعيد الاجتماعي، ويستدعي ضمورها على الصعيد الفردي. مع التقدم الحضاري تكثر الأشياء، وتكثر السلع، ويصبح الناس مشغولين أكثر فأكثر بتوفير المال الذي يمتلكون عن طريقه الأشياءَ التي يحتاجون إليها، كما ترتقي الخدمات التي يمكن تقديمها، وهذا يزيد من استغناء الناس عن بعضهم بعضاً.
ونحن نعرف كيف كان الناس في القرى والبوادي يفتحون بيوتهم للغريب وابن السبيل ليأكل على موائدهم، وينام عندهم أياماً عديدة، لكن هذا انتهى بوجود المطاعم والفنادق، وانتهى معه سيل من علاقات المودة والوفاء والذكريات الجميلة. تتراجع ثقافة الروح على نحو لم يسبق له مثيل بسبب عمليات العولمة المتصاعدة، وهي لا تروِّج للمعاني والقيم النبيلة، وإنما تروِّج للسلع، وتفتح وعي الناس على معاني القوة والمنافسة والاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأشياء. ثقافة الأشياء تتصل بالعالمية وبالحراك التجاري. أمّا ثقافة الروح فذات طابع محلي، وهي تنزع إلى الخاص والشخصي. لكن هل تستسلم ثقافة الروح، أو هل يصح أن تستسلم أمام ثقافة السلعة؟.
لا شيء يستسلم للفناء بسهولة، فالله – عزّوجلّ – فطر الأشياء على الممانعة من أجل الاستمرار في الوجود، وثقافة الروح تحاول أن تحمي نفسها من الاندثار عن طريق التحول من كونها ثقافة (روح) لتصبح ثقافة (هُويَّة) وبذلك تحرِّص المجتمع على تبنيها والدفاع عنها بوصفها جزءاً من وجوده المعنوي. ولا يخفى أنّ الناس يشعرون أنّهم صاروا أكثر دنيوية، وهم يرون في الزهاد والأوفياء وفاعلي الخير حراساً على الهُويّة ومقاومين للعدوان الواسع الذي تقوم به الثقافة الغربية الطامحة.
- كيف يكون التعامل مع هذه السنة؟
1- إذا كان ما هو فطري وطبيعي شيئاً جيِّداً، فينبغي أن يستمر ولو عن طريق التنظيم المصطَنع، كما يحدث في أحياء الأغنياء اليوم من لقاءات دورية أسبوعية أو شهرية.
2- يمكن لثقافة الروح أن تنتعش كثيراً من خلال تأسيس الجمعيات الخيرية وإطلاق البرامج والمشروعات الإغاثية واللاربحية، إنّها فعلاً تغذي معاني التعاطف الإيجابي والتعاون وكلّ المشاعر المشتركة.
3- علينا أن لا نسرف في تكديس الأشياء في بيوتنا، لأنّها حين تكثر توجد لها مجالاً حيوياً في عقولنا ونفوسنا، وتضغط بالتالي على أرواحنا. وسنكون من أهل الحكمة إذا عملنا بالمقولة الآتية: (استغناؤك عن الشيء خير من استغنائك به). ولنتذكر على سبيل الاتعاظ قول الله – تعالى –: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران/ 14-15).
المصدر: balagh.com/article/ثقافة-السلعة-تهزم-ثقافة-الروح