التعايش السلمي

محمد عبد الجبار الشبوط

 

قد يرتبط مصطلح “التعايش السلمي” في الاذهان بالزعيم السوفياتي السابق خروشوف الذي استخدم هذا المصطلح في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الذي انعقد في عام ١٩٥٦، والذي مثلا تحولا كبيرا في تاريخ العلاقات بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي انذاك. ويعني المصطلح من هذه الزاوية “انتهاج سياسة تقوم على مبدأ قبول فكرة تعدد المذاهب الإيديولوجية والتفاهم بين المعسكرين في القضايا الدولية”، وتشجيع لغة الحوار والتفاهم والتعاون بين الأمم المختلفة.

وعرفه الباحث الاسلامي المغربي رشيد كهوس في بحث قيم له نشره عام ٢٠١٦ بانه “العيش المشترك بين الشعوب والحضارات في جو من التفاهم والتعاون والتضامن والتسامح وتبادل المنافع والمصالح بعيدا عن الصراعات والنزاعات والعنف والاضطهاد، حتى يسود الأمن والسلام“.

ويمثل التعايش السلمي احدى القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري الذي توصلت اليه البشرية بعد الاف من السنين التي شهدت حروبا بين البشر يقال انها حصدت من النفوس اكثر مافعلت الكوارث الطبيعية والاوبئة.

والتعايش السلمي من شروط التقدم في الصيرورة الحضارية للمجتمعات البشرية، لان نقيضه، وهو الاحتراب والتقاتل يؤدي الى اعاقة الحراك الحضاري وهدر مصادره المتمثلة بالانسان والطبيعة والزمن، وصرف العمل البشري في الهدم وليس البناء واستخدام العلم في القتل كما حصل في هيروشيما وناكازاكي، وكل هذه اوجه ومظاهر لخلل حاد في المركب الحضاري ومنظومة القيم الحافة به.

وما دمت اكتب في مجتمع اسلامي مخضرم يتلو القران فقد يكون من المفيد ان اذكر ان بامكاننا ان نجد جذور فكرة التعايش السلمي في الكثير من ايات القران الكريم، كما في الايات التالية:

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ”.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم”.

لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.”

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ”.

ويفترض ان هذه الآيات القرانية تؤسس لعلاقات تعايش بين المسلمين انفسهم، خاصة بعد انقسامهم الى طوائف ومذاهب، وبين المسلمين وغيرهم.

لكن التاريخ الاسلامي، منذ حرب الجمل الى ظهور داعش، يقدم لنا صورا متناقضة من تطبيقات هذه الايات. فقد تقاتل المسلمون، جماعات ودولا، فيما بينهم على امتداد تاريخهم الطويل، وشهدت بغداد على سبيل المثال في الفترة بين عام ٣٢٩ هجرية الى العام ٦٥٦ هجرية الكثير من حالات التصادم المسلح بين الشيعة والسنة، وقدمت داعش احلك قراءة واشدها قسوة وتوحشا للنصوص الدينية حين اقامت خلافتها على اساس قتل الاخر، الذي يعني كل من خالف خطها الفقهي.

ولم يدخل مصطلح “التعايش السلمي” الى لغة الدراسات الدينية في الحوزات والجامعات الاسلامية في النجف وقم والقاهرة ودمشق وغيرها من الحواضر الاسلامية الا على يد الامام علي السيستاني في عام ١٩٨٧ ميلادية (١٤٠٧ هجرية)، في سياق محاضراته حول “قاعدة الالزام” التي نشرها في كتاب يحمل نفس الاسم السيد محمد علي الرباني بعد ثلاثين سنة (١٤٣٦ هجرية). وقد اوضح السيستاني في هذه المحاضرات القيمة رؤيته لكيفية ممارسة الحياة في مجتمع تعددي، مقترحا “قانون الاحترام المتبادل”. وبين انه يتعين الالتزام بهذا القانون “اذا كان بناء المجتمع المتشكل من الاديان والمذاهب المختلفة على اساس التعايش السلمي، فان ذلك يستدعي احترام كل من الاطراف قانون الاخر” مؤكدا ان “عدم الاحترام ينافي التعايش السلمي المشترك الذي هو اساس الذمة والهدنة والتعاون”، مفصلا القول بان “التعايش السلمي لا يمكن الا مع احترام كل قوم الروابط المالية المحترمة عند قوم اخرين”، ثم حسم الامر قائلا بضرس قاطع: “ان التعايش السلمي يقتضي احترام قانون الاخرين” مفسرا احدى الروايات الواردة بانها “ناظرة الى احترام كل فرد مذهب غيره والتعايش السلمي” بينهم. وتشكل هذه الرؤية السيستانية لبناء المجتمع اساسا متينا لاقامة الدولة الحضارية الحديثة في مجتمعات المسلمين، وبالدرجة الاولى منها العراق.

المصدر: https://hdf-iq.org/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d8%b4-%d8%a7%d9%...

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك