الصراع الحضاري بين ليسينج وفيرتهايمر وموراك

عبدالواحد علواني

على خلفية محاضرة البابا بنديكت وتصريحاته وما تبعها من حراك وجدال، عادت مسألة الصراع الحضاري إلى الواجهة، بعدما تنحت بعض الشيء إثر التركيز على مسألة العالم الجديد الذي تسهم أميركا في صناعة معظمه، وما حف بهذه الهيمنة الأميركية التي مازالت تستثمر أحداث 11 من سبتمبر.

وهذه المسألة (العلاقة بين الحضارات) التي أثيرت في أول الثمانينات في الدائرة المتوسطية، ثم من خلال خطط الولايات المتحدة الأميركية لعالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي إثر تنظيرات القائد الفكري للسياسة الأميركية هنتنغتون في محاضرته الشهيرة صدام الحضارات، وما تبعها من جدال، ثم من خلال أطروحة حوار الحضارات التي تبناها الرئيس الإيراني السابق خاتمي في أواخر التسعينات.

لأكثر من نصف عقد غابت هذه المسألة وضاعت في خضم التحولات الهائلة التي أعقبت أحداث نيويورك وواشنطن، وهاهي اليوم تحضر اليوم بقوة، كأنما لتقول أن هذه المسألة لن يتم حسمها أو تلافيها مهما حاولنا تجاوزها.

والحقيقة أن هذه المسألة مناطة بالغرب إلى حد كبير ذلك أن العلاقة بين الحضارات ترسمه الحضارة الأقوى في راهنها، وهذه العلاقة تنبني على تصورات متشعبة يتداخل فيها الثقافي مع السياسي مع الاجتماعي مع الاقتصادي…الخ. وإن كان منطق المصالح يحكم المنطق السياسي الاقتصادي، فإن الإيديولوجية تفعل فعلها في إطار السياسي الثقافي، وقد يتصادم الاتجاهان فيتحول الصدام إلى داخل الدائرة الحضارية بدلا من أن يكون على حوافها.

والتفكير في مسألة الصراع الثقافي كجانب من جوانب صدام الحضارات يعيدنا إلى أغوار تاريخية ربما كان التصور الأكثر وضوحا يتمثل في جمهورية أفلاطون، حيث أقام رؤية مبتسرة للخارج من حيث كونه مؤثرا في الجمهورية، ولكنه ركز على محيط جغرافي أكثر من التركيز على محيط ثقافي. وتتالت الرؤى عبر أشكال تنظيرية وعملية خلال تقلبات التاريخ حتى راهننا هذا، فكانت هناك رؤى جديرة بالنقاش والاستحضار مثلما كان هناك نماذج جديرة بالافتخار عبر التاريخ ونماذج أخرى تشكل عارا في جبين الأمم التي قامت بها، ومعظمها طوي تحت بند الاعتذار.

في عام 1999 القي البروفسور يورغن فيرتهايمر الأستاذ بجامعة توبنجن بألمانيا محاضرة في قسم التاريخ بجامعة دمشق، تعرض فيها إلى رؤية الفيلسوف الألماني ليسنج لصراع الثقافات، محاولاً تمرير مقولات من خلال مزاعم تنقصها الدقة، وفي عام 2004 القي غونتر مواراك المفوض من قبل الخارجية الألمانية للحوار مع العالم الإسلامي محاضرة في مركز الملك فيصل بالرياض حول العلاقات الحضارية بين الإسلام والغرب، أعقبها نقاش ملتهب. ومع الفارق الكبير بين رؤية الأكاديمي (فيرتهايمر) والدبلوماسي (موراك) إلا أنهما قدما رؤى جديرة بالنقاش، ولعلي أركز على الكثير الذي قدمه فيرتهايمر مع التعرض إلى القليل الذي تضمنه نص موراك.

فيرتهايمر اتخذ منطلقا لبحثه مسرحية مشهورة لليسنج (رائد فلسفة الدين الطبيعي) وهي مسرحية ناثان الحكيم، ولعل من المناسب أن نقرأها بسرعة من خلال شبكة شخوص المسرحية المثيرة للجدل، فصلاح الدين الأيوبي فارس شهم يعاقر الخمر ويعاشر النساء بنهم مما يوقعه في أسر ديون متزايدة يقترضها من مراب يهودي عجوز (ناثان) له مواقف حكيمة كثيرة! وناثان هذا لديه ابنة بالتبني (ريشة)، يقال إنها ابنة أسد الدين شقيق صلاح الدين من علاقة غير شرعية، ذلك أن أسد الدين مفارق لدينه ومتعلق بالصليبيين، وريشة يهيم بها حبا فارس مسيحي يدعى فارس المعبد، من خلال هذه الشخصيات وهذه العلاقات ينسج ليسينج أرضية خصبة ليقول مقولته، ولكنه لا يقولها مباشرة، إنما يضمنها إحدى المفاصل الدرامية بحذاقة من خلال حكاية يوردها على لسان ناثان الحكيم وهي حكاية الخاتم، فالحكاية ترد في سياق العلاقة الملتبسة بين صلاح الدين المهيمن المديون والمفتقر إلى الحكمة، وبين ناثان الخاضع ولكن الدائن والقوي معرفيا وحكمة، إذ يسأله صلاح الدين أثناء منادمة، أي الأديان الثلاثة (اليهودية- المسيحية- الإسلام) هو الحق!

فيرد عليه ناثان بحكايته التي يقتبسها (ليسنج) من الأديب الإيطالي الشهر (بوكاتشيو) والحكاية تتحدث عن( شخص يكتشف قدرة غريبة في خاتم فريد يمنح من يرتديه قدرة فائقة على الفضل والمعروف والطيبة والأخلاق الحميدة والسلوكيات الراقية والفاعلة، فيحرص عليه ويعرف بالفضل بين الناس، وعندما تحين ساعة الأجل يحرص على توريث ابنه الخاتم ليكمل مسيرة أبيه في العطاء والطيبة، وهكذا يتم تناقل الخاتم داخل الأسرة إلى أن يصل إلى أب له ثلاثة أبناء، كل منهم يتحلى بطاعة نموذجية وأخلاق في غاية السمو، وكل منهم يتلقى وعدا على انفراد من أبيهم ليكون وريث الخاتم، عندما تحين ساعة الأب يحتار في أمره، وبعد جهد وتفكير يصل إلى حل يراه معقولا، فيلجأ سراً إلى صائغ معروف بإتقانه لعمله، ليستنسخ من خاتمه اثنين غيرهما، ويعطي كلاً من أولاده الثلاثة خاتماً على انفراد على أنه وريث الخاتم. يموت الأب، ويظهر كل من الأولاد خاتمه ليؤكد لشقيقيه أنه وريث الخاتم، يلتبس الأمر عليهم، فيلجؤون إلى عرافة عريق في بلادهم، فيقول لهم: كان أبوكم حكيماً، وهو يعلم أن الفضيلة ليست فضيلة الخاتم، إنما فضيلة لابسه، أحدكم يرتدي الخاتم الأصل، على كل منكم أن يؤكد أن خاتمه هو الأصل بما يقدر عليه من فضيلة).

بوكاتشيو يورد القصة في كتابه الممتع (الديكاميرون) ويرجعها إلى أصل شرقي، يرى البروفسور فيرتهايمر أنه أصل إسلامي، وحقيقة تصوره هذا يجانب الحقيقة ولا يمكن أن توافق هذه الحكاية التصورات الإسلامية ولا المسيحية، ذلك أن التصور الإسلامي للأديان الثلاثة يتحدث عن أصول ثلاثة، ينسخ الجديد منها الأقدم، بينما المسيحية تتحدث عن أصلين، أصل تلوث وأصل أزال الدنس، لذلك لا يمكن أن يكون الحكاية سوى نتاج تفكير يهودي، وهذا ما أكده ليسينج في سياق أدبيته الرائعة، إذ جاء بالحكاية على لسان اليهودي وإن كان في هوامشه يشير إلى الديكاميرون.

ولكن المهم لدى ليسينج أن يقول أن الدين لا يفاضل الأديان الأخرى إلا بما يقدمه من فضل ومن تصورات إنسانية راقية، وفي هذا الإطار نتفهم النقد الشديد الذي وجهه ليسينج إلى اليهود بوصفهم الشعب المختار إذ يؤكد هذه الفكرة ولكنه يرجعها إلى أن الله أراد أن يضرب مثلاً كيف أن هذا الشعب المختار لانحطاطه يمكن أن ينتج فكرا، فهو مختار لأنه من أحط الشعوب بين البشر.

فيرتهايمر بقي يحاول دأبه أن يجد صلة ما بين الحكاية والمسلمين ليقول للمسلمين عليكم تبني هذه النظرية في حل مشكل الصراع، ولكنه لم يفلح لا كثيرا ولا قليلا، وفي مسودة لمحاضرته التي لا ننكر قيمتها العالية والأكاديمية، بقي هذا الجهد نافرا عن جسد قراءته لليسنج.

وحقيقة ليسنج من أهم رواد الدين الطبيعي في الثقافة الغربية، يحتاج إلى قراءة متأنية وخاصة في سفره المدهش (تربية الجنس البشري) الذي ترجمه وعلق عليه الدكتور حسن حنفي بحذاقة وجهد مميزين.

نظرية ليسينج التي يمكن استجلاء خيوطها في مسرحية ناثان الحكيم على وجه الخصوص تقوم على دعامتين:

الأولى أن الاشتباك قائم، والتداخل قدر البشر الذين يتشاركون هواء هذا الكوكب، والاشتباك حافل بالإشكاليات على صعد مختلفة ثقافية واقتصادية وروحية وعاطفية و…الخ.

الثانية أن التفاضل يكون بالعمل من أجل المجموع، وما يقدمه كل طرف من فضل للبشر عامة ومن أجل واقع إنساني أكثر أمنا وسعادة.

غونتر موراك في محاضرته عام 2004 لم يتمكن أن يرتقي إلى مستوى تصور من تصورات ليسينج، مع انه ينطلق من نفس الدائرة الثقافية والجغرافية، فتصوره كان مبنيا إلى حد كبير على خدعة الشراكة المتوسطية، الشعار الذي تبنته دول أوربية كثيرة من أجل احتكار منطقة البحر الأبيض المتوسط، من خلال ترغيب بوعود لا طائل منها، وترهيب بضغوطات غير معلنة، لتبقى دول الجنوب المتوسطي مجرد حديقة خلفية لدول الشمال المتوسطي، وإن كانت مزينة بشعارات فرنان بروديل.

ولعل عذر غونتر مواراك في ذلك أنه دبلوماسي تربى في دوامة السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي، وإنه يفتقد رؤية استشرافية لا تسلس قيادها إلا لصاحب فكر، لذلك تخبط كثيرا، ولم يتمكن من تقديم شيء مجدٍ أو ذي بال.

يرى معظم الغربيين المعاصرين مشكلة بنيوية في الفكر الإسلامي إزاء التعامل مع الأخر ومشاركته الواقع العالمي، ويتهم معظمهم العالم الإسلامي بأنه يدعو للحوار كونه الطرف الأضعف، وحقيقة أن هذا التصور متوغل في فلسفة الكثير من الاتجاهات الإسلامية والقومية، فهي ترى الحوار تكتيكا مرحليا، لا استراتيجية دائمة، ولكن التصور الغربي لم يكن يوما ما أفضل بالمقابل، فالنزعة الكولونيالية تغلف كل الفضاء الفكري في الغرب، والتصورات الاستشراقية بقيت مدخل كل باحث عن كنه الشرق الإسلامي مما يصبغ بحثه واجتهاده بلوثة إيديولوجية مسبقة، وحالة النفاق سواء في دائرة الثقافة الإسلامية أو الغربية تقيم أواصر وهمية لا تلبث أن تتهاوى عند أول لفحة سوء فهم. وفي تصريحات البابا وما سبقها من اعتداء على رموز إسلامية وما تبعها وتلاها أيضا الكثير من الدلائل على جدية مفقودة في النظر إلى المسألة بعيدا عن تجاذبات إقصاء الآخر واستئصاله.

المصدر: https://meo.news/%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%A2%D8%B1%D8%A7...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك