في التمهيد للسوسيولوجيا البراجماتيّة

قسطاني بن محمد

 

طبعت التقابلات والثنائيات تاريخ سوسيولوجيا القرن الماضي برمّتها، ثنائيات مثل: الفرد والجماعة؛ والبنية والفاعل؛ والماركسية والبنيوية وغيرها. ولعل أهمها تقابل الوضعية الفرنسية مع التأويلية الألمانية، وإن لم يكن الأمر غالبا سوى في الظاهر فحسب، لأنّ الفحص المعمّق يفصح عن عدم إغفال براديكم الجماعة لدى معتنقي براديكم الفرد وعدم إغفال الفرد لدى الشموليين. وكذلك عدم إغفال التاريخ كلّيّة في البنيوية، وأهمية الأنساق في سوسيولوجيا الفاعل والحركات الاجتماعية. كما لا يمكن إغفال تأويلية مّا عند دوركهايم واستقرائية مّا أحيانا قوية عند ماكس فيبر

لقد اعتدنا أن نقرأ التصانيف المعهودة مثل السوسيولوجيا الوضعية والسوسيولوجيا التأويلية، بالنظر إلى دوركهايم (Durkheim) واعتباره الوقائع أشياء؛ واعتماد المنهجية الكمّية؛ وربط الأسباب بالمسببات؛ والموضوعية التي تستوحي الفيزياء أنموذجا على أساس المقاربة الوقائعية، انطلاقا من المقارنة والإحصاء[1].

وبكل ذلك وتحت تأثير دوركهايم تمظهرت السوسيولوجيا الفرنسية برمّتها بالطابع الموضوعي العلمي البعيد عن الأدبية والتأمل، وفق اعتبار السوسيولوجيا علما يقترب من العلوم الحقّة أكثر من الفلسفة والأدب، وذلك تحت تأثير الفلسفة الوضعية.

وعلى الرغم من ذلك، فموضوع الإنسان يفرض حدّا أدنى من التأويل مهما حاولنا الابتعاد عن الطابع الفكري، ولو بالمقارنة واعتماد السياقات، الأمر الذي نلاحظه منذ أطروحة دوركهايم في التضامن الاجتماعي وتقسيم الشغل؛ ذلك أنّ قراءته لسوسيولوجيين آخرين، مثل تونيز (Tonnies) خاصة، كانت جد حاضرة. ورغم الانتقادات التي وجهها دوركهايم لمنهجية تونيز التأملية التصنيفية واقتراح البديل الاستقرائي، فإنّه مارس تأويلا بصدد قراءة القانون، إذ قسّمه إلى الإرجاعي الذي يطبع المجتمعات الحديثة، والردعي الذي يطغى على المجتمعات التقليدية.[2] هو تأويل، لكنّه تأويل استقرائي مبني على الوقائع وليس على التأملات كما هو الأمر عند تونيز وبشكل أقل حدّة عند فيبر (Weber).

ورغم دعوة دوركهايم إلى اعتبار الوقائع الاجتماعية أشياء، ورغم تأكيده المستمر على أهمية الموضوعية والحياد، رغم كل ذلك، فهو جدّ واع بأهمية أخذ الحياة اليومية وتصور الناس لحيواتهم بعين الاعتبار، وإن بدا عكس ذلك في منهاجه المناضل ضد الحسّ المشترك وما قبل الموضوعات. وسيتضح أمر اعتماد الدلالة في إنتاجات التلاميذ، موس (Mauss) خاصة[3].

لقد تطور فكر دوركهايم بشكل ملفت في كتابه الأشكال الأولية للدين[4]، الكتاب الذي قام فيه بمجهود كبير في مناقشة التعاريف السابقة للدين، محاولا دحضها بمقاربة سوسيولوجية عالية وذلك اعتمادا على الوقائع وليس على المناقشات التأملية النظرية. لكن ورغم ذلك، فهو عندما حاول تفسير جذور الدين، فإنّه عزاها بشكل تأملي إلى المجتمع، وقدرته على خلق السلطة الأخلاقية لطبع الجماعة بعقلية مشتركة جماعية. إضافة إلى كل هذا، ربط الدين بحاجات مادية حقيقية يستفيد منها المجتمع الآن، وليس في غد مأمول. بكل ذلك نجده رغم وضعيّته المبالغ فيها أحيانا قد مارس التأويل ولو في حدوده الدنيا.

اتخذ ماكس فيبر وجهة مغايرة للتقليد الدوركهايمي في فهم الوقائع الاجتماعية، وأثر الفلسفة الفينومينولوجية جد واضح في فهمه وتعريفه للمجتمع، حيث اعتبر إمكانية فهم الناس لسلوكهم وقدرتهم على تفسيره أمرا لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة إلى السوسيولوجيا حسب اقتناعه الإبستمولوجي.

لقد أدرك فيبر، مختلفا في ذلك على جل السوسيولوجيين، أهمية نوايا ومقاصد ودلالات الفاعل الاجتماعي، وذلك وعيا منه بالاختلاف الشديد بين موضوع السوسيولوجيا والفيزياء، ولم تغره "موضوعية" الوضعيين، ولا تطورية التطوريين، ولا تاريخانية التاريخانيين، وهذا ما يفسر القيمة الكبرى التي وهبها للمعتقد في صناعة التاريخ.

هذا الموقف الإبستمولوجي هو الذي قاده نحو مفاهيم ونماذج سوسيولوجية عميقة مثل العقلانية والبيروقراطية، وكذلك أهمّية الوجدان والعادة في تشكيل سلوك الأفراد. السوسيولوجيا إذن عند فيبر هي علم تأويل الأنشطة الاجتماعية مع محاولة فهم أسباب اشتغالها ونتائجها[5].

ولا يمكن فهم الأنشطة الاجتماعية حسب فيبر دون استحضار القراءة الخارجية الذاتية من جهة، واعتبار التفاعل بين المشاركين فيها من جهة أخرى. هي بكلمة واحدة السوسيولوجيا الفهميّة.

لقد حاول ماكس فيبر في ألمانيا أن يبني صرحه النظري على أساس كون الفعل الاجتماعي فعلا ذا معنى، وذلك اعتبارا لطبيعة موضوع السوسيولوجيا، والتي ليست سوى الإنسان الذي يتصرف ضمن الدلالة. ومن ثمّة أهمية عدم اعتبار علوم الطبيعة أنموذجا لعلوم الإنسان، مقترحا التفهّم كمنهاج فينومينولوجي يعتمد تأويل الفعل الإنساني من أجل بناء علم يستحق الوضع الإبستمولوجي للعلم، لكنّه علم بطريقته الخاصة، وذلك ببساطة لأنّ الفعل الإنساني فعل ذو معنى تقع وراءه نيّةٌ ويقصد غاية ويسلك مسالك تتحوّل باستمرار.

المعنى ومجالاته المتمدّدة والمطّاطة والنوايا الخفيّة والمسالك المختلفة، أمور كلّها تجعل من العلم الذي يقارب الإنسان علم دلالات ومعاني، ومن ثمة علم تأويل. لكن وبشكل جد ملفت هي دلالات لا ينبغي أن تمتح من النصوص، وإنّما من الوقائع بالاستقراء والتواتر، الأمر الذي مارسه فيبر وبإدهاش كبير في كتابه "البروتستانتية وروح الرأسمالية" خاصة، الكتاب الغنيّ جدّا بجمع الملاحظات والحكايات حول سلوك الرأسماليين وحيواتهم.

أدرك بيير بورديو (Pierre Bourdieu) أهمية مناقشة الثنائيات سابقة الذكر، وحاول تجاوزها بطريقة أصيلة اعتبرت من أهم الاجتهادات الابستمولوجية في السوسيولوجيا.

يمدنا بيير بورديو (1930 - 2002) بتعريفين متتاليين لمذهب الموضوعية objectivisme في كتابه "الحسّ العملي"، نقتصر هنا على الأول منهما.

أ- يعتمد المذهب الموضوعي "مشروع إنشاء انتظامات موضوعية (بنيات، قوانين، أنساق علاقات، إلخ.) مستقلة عن إدراكات وإرادات الأفراد" وبذلك، نجد هنا، من جهة، انتظامات بنيات، ضمنيا جمعية وخارجية، ومن جهة أخرى إدراكات وإرادات أفراد، وبالتالي من الداخل. من هذا المنظور يؤكد المذهب الموضوعي أسبقية الموضوعي في تحليل الظواهر الاجتماعية. أما المذهب الذاتي subjectivisme، فيعطي التفوّق للذاتي."[6]

ولكي يحل بورديو إشكال الثنائيات بطريقته اقترح مجموعة من المفاهيم مثل الفضاء العمومي والحقل والرأسمال والسلطة الرمزية والتأملية والهابيتوس (Habitus)[7].

أين نحن من سوسيولوجيا الألفية الثالثة؟ ذلك هو السؤال المركزي الذي تحاول أن تجيب عنه هذه المساهمة، انطلاقا من تتبع اللحظات المفصلية للحوار الإبستمولوجي الذي طبع السوسيولوجيا منذ تسعينيات القرن الماضي، سواء:

- في العودة إلى المناهج الكيفية والتأويل والإثنوميتودولوجيا، وذلك منذ مساهمة ميشيل كالون (Michel Callon) وبرونو لاتور (Bruno Latour) في محاولة الفهم السوسيولوجي والأنثربولوجي للإنتاج العلمي والتكنولوجي، تجاوزا للمفهوم الماركسي، البنية الفوقية، وحمولته الإيديولوجية[8].

- أو في إعادة الاعتبار للتأمل الذاتي وأهمية استحضار مسار الباحث كفاعل اجتماعي "منذ بؤس العالم"، لبيير بورديو[9].

- أو في الأسلوب الجديد للسوسيولوجيا النفعية لدى بولتونسكي (Boltanski) بتعبير محمّد ناشي[10]؛ ذلك الأسلوب الذي يعيد الاعتبار للفاعل وفق مفاهيم جديدة وعميقة مثل النحو والاختبار والنقد، تجاوزا لبراديكم الهيمنة البنيوي والبوردوزي...

- أو في العودة إلى التساؤل حول موضوع السوسيولوجيا نفسها، ونهاية المجتمع، وذلك صعودا للفرد كتحت المجتمع والعولمة كاختراق[11]؛

- أو في أهمية حقوق الإنسان والتكنولوجيات الجديدة في تثوير المجتمعات[12]؛

- أو في العودة إلى نوع من إعادة الإنتاج والبنيوية بمنطق الورثة حتى لا نلقي بتبعات البؤس على البئيس وحده بتعبير برنار لاهير...[13]

هو ثراء ضخم تعيشه السوسيولوجيا المعاصرة، فما صدى ذلك في السوسيولوجيا المغربية سواء في الدرس السوسيولوجي أم في الإنتاج أم في الخبرة؟

في فرنسا، يحاول اتجاه سوسيولوجي رئيس التواجد بقوة، وهو السوسيولوجيا البرجماتية، إنّه اتجاه ينتصر للتأويل والعودة إلى الفيبرية أكثر من دوركهايم. إنها مرة أخرى الحاجة التاريخية والمعرفية التي أدّت إلى ذلك في شروط العولمة والتطور التكنولوجي الوسائطي المذهل وأهمية الشبكات الاجتماعية والتواصل.

نحن إذن أمام علم فريد من نوعه، علم غير بوبري بتعبير كلود باسرون (Passeron)، علم يمكن فيه للقضية أن تكون صادقة وكاذبة، لأنّها صادقة لجهة دون أخرى، صادقة في زمن دون آخر، تمتزج بأخرى فتصبح شيئا آخر، إنّ الأمر كاللحن في الموسيقى عندما نضيفه إلى لحن لا يساوي لحنين وإنّما لحن ثالث.

سأحاول هنا أن أركّز على أسلوب سوسيولوجي بتعبير الأستاذ محمّد ناشي واصفا ومُعَرِّفا للسوسيولوجيا البرجماتية في كتابه المهم "مدخل إلى السوسيولولوجيا البرجماتية"[14]، مركّزا على إسهام لوك بولتونسكي. وذلك لاعتبار مركزي هو عمل هذه السوسيولوجيا على تجاوز الثنائيات المعهودة من جهة، وإلى "صقل أدوات تحليل تأخذ بعين الاعتبار تعدد صيغ الانخراط في العالم"[15] على حد تعبير فيليب كوركوف. وكذلك لرفضها قطع الصلة مع الحسّ المشترك.

منذ كتاب "حياة في المختبر" للسوسيولوجيين برينو لاتور وستيف بولكار (Steve Woolgar) يمكن أن نتحدث عن المعالم الواضحة للسوسيولوجيا البرجماتية." لا تدرس السوسيولوجيا البرجماتية رجالات العلم لذاتهم وعلى نقيض العلم: بل هي بالأحرى تصف كيف يبقي العلماء على مجموع المؤسسات والمواضيع والأدوات والنظريات المشكّلة للعلوم والتقنيات، وبتعبير آخر، بأي أفعال يتم بناؤها"[16] هو وصف أنثروبولوجي لحياة العلماء في مؤسسة علمية، وفق مسارات بناء الأفعال والعلاقات بالأشياء والمؤسسات والقيم ...

ما هي السوسيولوجيا البرجماتية؟

لا يتعلق الأمر هنا بالعودة إلى وليم جيمس وديوي كتيار فلسفي أمريكي، بقدر ما يتعلق بنوع من الخروج من الهيمنة البوردوزية علما أنّ بولتونسكي كان تلميذه ومساعده، ليخرج عن هيمنة الكشف والبحث في الهيمنة والرهانات والقوة كفكر مازال تحت التأثير الماركسي ... نحو رحابة البحث في حرية الفاعل وفق التواصل والعلاقات والممارسات وإمكانية الحديث عن التوافقات، لأنّ كل فاعل يملك الحرية التي تمكّنه من الاختيار والدفاع عن المواقف والقرارات وذلك وفق قواعد معينة أسماها النحو la grammaire، هو نوع من تجاوز السوسيولوجيا الناقدة كما كانت عند بورديو نحو سوسيولوجيا النقد.

"يحيل لفظ البرجماتية عند البعض -وأنا واحد منهم -إلى البرجماتية اللغوية من حيث إنها تؤكد استعمالات الفاعلين لموارد القواعد النحوية في اختبار الوضعيات الملموسة التي يعيشونها."[17]

يختار بولتونسكي وبذكاء أنموذج اللغة لأنها تعبر وبقوة عن ازدواجية منطقية بين الحرية والاختيار للتعبير والكلمات والأسلوب، لكن وفق نحو وقواعد محددة، ليس كقدر وإنما كموافقات conventions.

هذا هو الفعل الإنساني والاجتماعي، وهذه هي المسلّمة المركزية في السوسيولوجيا البرجماتية، والتي لن تنزع الذكاء عن الفاعل ويحلّ محلّه ذكاء السوسيولوجي ووصايته. ولن تسقط في قدريات البنيات والإسقاطات والتعميمات المجحفة أحيانا، والتي ليست سوى بقايا النسقية الفلسفية. كما لن تبرّر الأفعال لتخفي المسؤوليات والسقوط في المحافظة. أخيرا هي ذات فائدة منهجية كبيرة في فهم الطبيعة النسبية والمؤقّتة للتفسيرات والمفاهيم.

وفق هذه المسلمة تتحدد مبادئ قيمية وإبستمولوجية كبرى هي:

1- التناظر المعمّم، كبحث في تفاصيل تتجاوز التناظرات البسيطة والمبسّطة مثل تقليدي/حداثي نحو دقائق الحياة ...

2- تعددية العوالم بدل أحادية النظرة monisme

3- العامل actant بدل الفاعل، لأنّه أكثر حيادا في الثنائية فردي/شمولي، ولأنّه يوسّع المسألة الاجتماعية، ليشمل جميع الكائنات المتفاعلة في المجتمع "قد يكون شخصا أو آلهة أو حيوانا أو شيئا أو آلة أو نصا أو قاعدة يؤدّي دورا في تفاعل أو مبادلة مّا"[18]...

وهي ثورة هادئة تخبرنا عن إمكانية تجاوز التفيئات segmentations التقليدية، جنس وسنّ والوضع الاجتماعي والثقافي وغيره...

4- الكفايات المعرفية، ويعني "التسليم بوجود قدرات مشتركة عند الفاعلين الاجتماعيين للتصرف في عالم مشترك وتنسيق أفعالهم وتسويغها والعمل على إبرام اتفاقات معيّنة"؛ بمعنى توفّر "مهارات" لغوية وفكرية استقرائية وقياسية، وكذلك عملية وأخلاقية خاصة للقدرة على الحكم والفعل...[19]

منذ هذا التعريف للوك بولتونسكي يبرز مفهومان مركزيان، هما النحو الذي يحيل إلى القواعد والمعايير المتوفرة في المجتمع كما في اللغة، ثم الاختبار وفق استعمالات الفاعلين وفق وضعيات. وهو الحل الأمثل للمفارقة التي سيطرت على السوسيولوجيا برمّتها لعقود، مفارقةً البنية والفاعل.

هذا النقد يجعلنا نعيد النظر في جميع المفاهيم البوردوزية الأساسية من الهابتوس حتى الرأسمال الاجتماعي مرورا على الحقل. وتأسيس مفاهيم جديدة مثل الفاعل actant والشخص والكائن...

تنطلق السوسيولوجيا البرجماتية من مسلّمة مفادها أنّه ليس هناك يقين في الفعل الاجتماعي، وهذا هو الاختبار، لكنه ليس لايقينا عشوائيا ينبع من الحالات الخاصة فحسب، وإنّما هناك ضوابط لهذا اللايقين، وهي النحو.

ما هو النحو؟

هو مجموعة من المعايير العامة المندمجة في الكفاءات المعرفية تملك الصواب، وتستعمل في الحِجَاج تساعد على التفاهم دون الاتفاق ضرورة. إنّه "مجموع القواعد الواجب إتباعها لغرض التصرّف بطريقة مستقيمة بما فيه الكفاية في نظر الشركاء في الفعل"[20]

لممارسة السوسيولوجيا بهذا الأسلوب، لابد من اعتبارها علما من الصف الثاني، بمعنى أنّ الفاعل يملك معرفة ما عن فعله، وهي معرفة لا يجب على السوسيولوجي إغفالها، هذا من جهة، من جهة ثانية عدم نسيان كون السوسيولوجي نفسه فاعلا اجتماعيا، ومن ثمة ضرورة التأمل الذاتي réflexivité في الفعل السوسيولوجي كفعل اجتماعي.

ما هو الاختبار l’épreuve؟

"الاختبار هو تلك اللحظة التي من خلالها ندرك محتوى وسمك الأشياء، قواها وضعفها وهشاشتها، بفضله نميز بين المستدام وسريع الأفول، والحقيقي من عدمه. لنتأمّلْ مثال النجّار عند اختيار الخشب..."[21]. وللاختبار صفة ملازمة هي القوة في حالة صراع مثل صراع الصياد مع السمكة، لكن الاختبار قد يتجاوز القوة إلى المشروعية؛ وذلك "كلما كان محددا مسبقا وعملياته متعرف عليها ورهاناته وترتيباته موصوفة قبليا، أي أنه متطابق مع مبادئ العدالة"[22].

الاختبار هو المفهوم الأساس في السوسيولوجيا البرجماتية، بمثابة الهابتوس في سوسيولوجيا بورديو. إنه الإحالة إلى اللايقين. والحرية هي التي تعطي لهذا المصطلح زخمه وقوته كمفهوم مفتاح، لأن الحياة في آخر المطاف ليست سوى توالي الاختبارات.

هي الإمكانات التي تتيحها الوضعيات المتحدية لقدرات الفاعلين ضمن مفهوم آخر هو اللايقين incertitude الذي يحدد مفهوم الفعل الذي يفهم قصده الفاعلون، ولا يجب أن يحل السوسيولوجي محلهم في وضعيات خاصة مثل النزاع، إلا أنّ الريب هذا ليس فوضى تفرد الوضعيات، بل هناك قواعد تضبطه هي النحو.

وحتى يكون للاختبار معنى لا بد من استحضار مفهوم آخر هو المعاهدة أو الموافقة convention والذي تشتغل وفقه الأفعال القادرة على التطابق مع مختلف الوضعيات في الحياة الاجتماعية، وذلك بإبرام اتفاقات وتسويغ الأفعال...

هذا كله يموضع البرجماتية ضمن سوسيولوجيا الأخلاق، انطلاقا من قيم ومثل تشتغل وفقها الأفعال الاجتماعية.

خلاصة

يفيد الأسلوب البرجماتي في المجتمعات المعقدة، في فحص العدالة والاحتجاج، وكذلك المختبر والمؤسسة، كما يفيد في المجتمعات المتحولة البحث في حرية الفاعل والقيم، وهذا سر نجاحه ومبرر استضافته.

يمكن للسوسيولوجيا المغربية أن تستفيد كثيرا من الأسلوب البرجماتي، وذلك لعوامل عدة منها: حالة التحول والانتقال من الجماعة إلى المجتمع، وصعوبة اعتماد الإحصاء والتفيئ، وكذلك الابتعاد من التفسيرات الإيديولوجية والبنيوية. هذا على مستوى البحث، أما على مستوى الدرس، فيمكن للسوسيولوجيا البرجماتية أن تكون ذات فائدة كبيرة في الحث على التفكير والتأمل والنقد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت

[1] Emile Durkheim, les règles de la méthode sociologique, puf, 2013

[2] Emile Durkheim, de la division du travail.

[3] Ben Mohamed Kostani, «Complications du sens commun, entre Durkheim, Ibn Khaldoun et la sociologie compréhensive», Sociologies [En ligne], Dossiers, Pour un dialogue épistémologique entre sociologues marocains et sociologues français, mis en ligne le 02 novembre 2015

[4] Emile Durkheim, les formes élémentaires de la vie religieuse.

[5] Max Weber. Concepts fondamentaux de sociologie, Gallimard, 2016, p.9

[6] Philippe Corcuff. les nouvelles sociologies, Armand Colin, 2007, pp 9-10

[7] Pierre Bourdieu, Loic Wacquant. Invitation à la sociologie réflexive, Seuil. 2014, p 17

[8] Bruno Latour, Steve Woolgar. life laboratory, Sage Publications 1979

[9] Pierre Bourdieu, Misère du monde, Seuil, 1993

[10] Mohamed Nachi. introduction à la sociologie pragmatique, Armand Colin, 1913

[11] Alain Touraine. Fin des sociétés, Seuil, 2013. Alain Touraine. après la crise, seuil, 2010

[12] Alain Touraine. Nous sujets humains, seuil, 2015 

[13] Bernard Lahire. Pour la sociologie, La découverte, 2016

[14] أعتمد هنا ترجمة الأستاذ، طواهري ميلود: مدخل إلى علم الاجتماع البراغماتي، ابن النديم للنشر والتوزيع، 2014

[15] مدخل إلى علم الاجتماع البرجماتي، ترجمة، ميلود طواهري، ص 9

[16] نفسه، ص 31

[17] نفسه، ص 14

[18] نفسه ص 55

[19] نفسه، ص 46

[20] نفسه ص 51

[21] نفسه، ص 61

[22] نفسه، ص 61

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%...

الحوار الداخلي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك