التعايش الديني: انتقال مجتمعي وعبور نحو المدنية
محمد قنفودي
برز مفهوم التعايش الديني في الآونة الأخيرة، كأحد العناصر الممكنة في إيجاد مساحة من التّسامح مع الآخر المختلف من الناحية العقدية، ونبذ التعصب والتطرف المنبني على المرجعيات الدينية/التدينية والفهم المتشدد للدين ورفض الآخر، وكمحاولة لتحقيق السلم الاجتماعي ومجتمعات اللاعنف، طلباً للمشترك الإنساني وكتضاد مع الفهوم النصية، السّاعية إلى الفرقة والخلاف على أساس ديني. ويعد التّعايش الديني جزءًا من التحولات القيمية التي تعيشها المجتمعات العربية، حيث ينخرط ضمن دينامية اجتماعية تسائل الأفراد عن مدى رفضهم/قبولهم بالتعدّدية الدينية، وكيفية بنائهم لمواقفهم تجاه الآخر المختلف عنهم من الناحية العقدية.
قيمة التعايش الديني في العالم العربي، تتحرّك ضمن بيئة شهدت ولازالت صراعات طائفية ومذهبية، كان للاختيارات التدينية والأزمات السياسية دور في تعزيزها
وترتبط قيمة التعايش الديني، ببعدين أساسيين؛ الأول سيكولوجي مرتبط بالفرد واستعداداته النفسية، من خلال إبداء التسامح تجاه الآخر، وهنا يمكن اعتبارها فضيلة، لأنها من فرد إلى فرد، والبعد الثاني اجتماعي، من خلال مأسستها اجتماعيا عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية (المدرسة، الأسرة والإعلام...)، وتتحوّل من فضيلة فردية إلى قيمة اجتماعية، تنشأ في سلوكيات الأفراد، كطلب لمجتمعات التعدد والتعايش السلمي بين الأقليات، والجماعات المتضادّة دينيا وفكريا وسياسيا.
وعلى الرغم من أن الدراسات العلمية في هذا الموضوع تعدّ ضعيفة في المنطقة العربية، خاصة مع وجود حساسية اجتماعية وسياسية ودينية مفرطة، تسهم في تغليف هذه الظاهرة بطابوهات ترتكز على العادة والعرف والمقدس بدرجة أولى، الأمر الذي أسهم في بروز مخرجات حدت من أي تفحص علمي/منهجي يمكن أن يسهم في فهم وتفسير طبيعة الاتجاهات والمواقف، وعلى ماذا تنبني في خلفياتها المرجعية، وإن كان الدين يشكل أساسها الصلب في تحديدها كمرجعية ذهنية توجه سلوك الأفراد تجاه الآخر المختلف من الناحية العقدية، وإن كان هذا السلوك يتجه أيضا نحو تعزيز قيم التعايش والتسامح، أو نحو تمكين النزعة الطائفية والتدينية وإيجاد مساحات من التنافر المتبادل.
وعلى العموم، فإن قيمة التعايش الديني في العالم العربي، تتحرّك ضمن بيئة شهدت ولازالت صراعات طائفية ومذهبية، كان للاختيارات التدينية والأسباب التاريخية والأزمات السياسية دور في تعزيزها وتمكينها، ولعل الفترة التي أعقبت احتلال العراق من طرف الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 2003، قد كانت أكثر المراحل صعودًا من الناحية الزمنية، لتوسع دائرة الصراع على أساس ديني، انعكس أيضا وبشكل ملحوظ ومتسارع على الجارة سوريا ابتداء من سنة 2011، لتشهد الدول العربية ساعتها فترات دموية متقطعة في ما سمي بالربيع العربي، والذي تحوّل إلى خريف ذبلت وروده وأحرقت بساتينه.
وعلى الرغم من ذلك، فإننا نشهد اليوم طفرة على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، المشكلة لبنيات المجتمعات العربية، والتي انخرطت فيها دول وحكومات من أجل المساهمة في تعزيز دور التعايش الديني في الدول العربية بين مختلف الديانات والمذاهب المنتشرة، إلا أن ما يمكن ملاحظته ومقارنته مع تجارب أخرى، هو أن هذه القيم أساسها المجتمع، ونحن بذلك نتساءل إن كان من الأجدى أن يتم فرضها بشكل أفقي، وهل يمكن لذلك أن يسهم في ثورة قيمية داخلية، أم إن تعزيزها رهين بالمجتمع كنتيجة للتحولات الاجتماعية والدينية التي تتم بشكل تدريجي من خلال توالي الأجيال؟ كما نتساءل عن طبيعة المدخلات التي يمكن أن تكون ضرورية من أجل تعزيز هذه القيم؟
أولا: التحولات الدينية في المجتمع العربي والطلب حول المدنية
شكلت الحرب الأمريكية على العراق في سنة 2003، انبلاج الأقليات الدينية العراقية، والتي لم تكن ذات شأن سياسي أو ديني على الساحة العربية قبل الاحتلال، الأمر الذي دعا إلى إعادة تقييم التركيبة العقدية في العالم العربي، وفهم تنوعه التديني والمذهبي، وإعادة صياغة خطة استيعاب، تمكن من الاعتراف بالأقليات وأحقيتها في الممارسة التدينية والاجتماعية والسياسية. هذا الواقع لم يكن ليشمل كل الدول العربية، حيث إن دولا مثل لبنان وسوريا والأردن، كانت تنعم فيها الأقليات الدينية بمساحات أوسع من الحرية الدينية، وسهرت الدولة أيضا على تأكيد قيم التعايش والتسامح داخليا، سواء عبر مدارسها التعليمية أو مؤسساتها الإعلامية.
وإن كانت حرب الخليج الثالثة قد ساهمت في بزوغ هذه الأقليات، وانجلى النقاش حولها عربيا، فإنها أيضا كانت بذرة بداية صراع ديني داخلي، خلفياته عقدية ومذهبية، أججت النزاع في المنطقة، وأمست مساهمة في تهديد معيشة واستقرار مئات الآلاف من الأقليات المتنوعة والمنتمية لمذاهب من داخل وخارج الدين الإسلامي، وهو ما زاد من حدة النقاش بين النخب الفكرية والسياسية، وأيضا تدخلات الأمم المتحدة، في ضرورة التأسيس لوضع جديد يحمي هذه الأقليات ويمنع عنها الضرر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهو الأمر الذي تم الاشتغال عليه لمدة سنوات، حتى ظهور التنظيمات المتطرفة، والتي زادت الطين بلة، من خلال صراعها المشحون ضد الأقليات، ومع انكسار شوكة تلك التنظيمات وأفول فجرها، انتقلنا حاليا من مفهوم الحماية الدينية للأقليات إلى مفهوم التعايش الديني.
هذا الانتقال لا يمكن اعتباره فوقيا بقدر ما هو تحوّل مجتمعي، في بناء المواقف والتمثلات، حيث إن مواقف المجتمعات العربية، عرفت نكوصا في تشجيع أنشطة التنظيمات المتطرفة، وتحفظا في اعتبار أنشطتها "جهادا"، وقبولا أكثر للتعايش الديني والاجتماعي والسياسي، مقارنة مع السنوات السابقة، وإن كانت المعطيات حوله ليست بالقدر الذي نأمل إليه، إلا أنها قد حققت قفزة نوعية بالمقارنة، حيث أصبحت أكثر قبولا للآخر المختلف، وأكثر رفضا للتنظيمات المتطرفة الرافضة لقيم التعايش والتسامح الديني، وإن أمعنّا النظر في هذه المعطيات، سنجد تباينا على مستوى الأجيال، حيث إن فئة الشّباب أكثر قبولاً للانفتاح الديمقراطي والديني والاجتماعي من فئة كبار السن، وهو ما تؤكد عليه دراسة البارومتر العربي، والتي أنجزت في هذه السنة (2019)، وأيضا تقرير المؤشر العربي المنجز من طرف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن سنتي 2017/2018.
ومع استعراض نتائج هذين التقريرين، يجب التأكيد أولا، أن الدين لا يمكن أن يشكل تضادًّا مع قيم المدنية، اللهم إذا تحكمت فيه نماذج تديّنية، ترفض المدنية بما تحمله من قيم التعايش والتسامح، وهو الحاصل الذي تم تسجيله خلال السنوات القليلة الماضية، حيث إن تراجع التدين خاصة وسط الشباب العربي، تحليله هو تراجع التدينات وأفولها، سواء ما تمثل في نموذج تنظيم الدولة الإسلامية والهزيمة التي نالها في كل من العراق وسوريا، أو تنظيمات الإسلام السياسي، وبرهنتها على ضعفها الشديد في المعترك السياسي، وتدبير الملفات الاقتصادية والاجتماعية؛ هذا الحاصل كان من مخرجاته تراجع التدين.
وقد استخلصت الدراسة الميدانية الذي أجرتها شبكة الباروميتر العربي البحثية تراجع نسبة المتدينين في العالم العربي، الاستطلاع الذي شارك فيه أزيد من 25 ألفا من سكان عشر دول عربية، بالإضافة إلى الأراضي الفلسطينية في أواخر عام 2018 وربيع عام 2019، حيث خلص إلى وجود طيف واسع من الآراء حول قضايا شتى من الدين إلى حقوق المرأة ومن الهجرة إلى تقبل المختلفين جنسيا ودينيا، وكشف الاستطلاع أن عددا متزايدا من الأفراد في المجتمعات العربية يعبرون عن كونهم غير متدينين، فمنذ عام 2013، ارتفعت نسبة الذين يصفون أنفسهم بأنهم "غير متدينين" من 8 في المئة إلى 13 في المئة. ويصف ثلث التونسيين وربع الليبيين أنفسهم هكذا. أما في مصر، فقد تضاعف حجم هذه المجموعة، بينما تضاعف حجمها أربع مرات في المغرب، وكانت نسبة الزيادة الكبرى بين من هم دون سن الثلاثين من أعمارهم، إذ تبلغ نسبة "غير المتدينين" في هذه المجموعة 18 في المئة.[2]
وفي تقرير المؤشر العربي، الذي شمل أغلب الدول العربية، طرحت مقولة على المبحوثين كالتالي: "ليس من حق أية جهة تكفير الذين ينتمون إلى أديان أخرى"، وتشير البيانات إلى أن أكثرية الرأي العام 68 في المئة عبرت عن موافقتها على هذه العبارة مقابل معارضة 25 في المئة من الرأي العام، في حين كانت نسبة الذين لم يبدوا رأيا 7 في المئة من المبحوثين. وقد مثل الذين وافقوا بشدة على العبارة 25 في المئة، نحو أربعة أضعاف عارضوها بشدة 7 في المئة، ويدل هذا على وجود تيار يمثل أكثر من ربع الرأي العام في المنطقة العربية يعبر بقوة ومن دون أي التباس عن هذه العبارة، يوازيه في القوة، ولكن في الاتجاه المضاد، تيار يمثل 7 في المئة فقط من المبحوثين[3]. وقد احتلت تونس المرتبة الأولى من حيث الدول الأكثر تسامحا مع الآخر المختلف عقديا، تليها مصر ثم لبنان، ولعل النظر في هذه الدول، يبين بأن التنوع المذهبي من جهة، ثم أفول تجارب الإسلام السياسي من جهة أخرى، بالإضافة إلى فتح المجال أمام الخطاب الديني المعتدل، قد ساهم في هذه النتائج التي أظهرها التقرير.
الدين لا يمكن أن يشكل تضادًّا مع قيم المدنية، اللهم إذا تحكمت فيه نماذج تديّنية، ترفض المدنية بما تحمله من قيم التعايش والتسامح
إن هذه الأرقام في نظرنا، لا يمكن قراءتها بمعزل عن موضوع التعايش الديني، خاصة وأن التدين سواء في صعوده أو نزوله، أو حتى بناء المواقف والتصورات حوله، رهين بالمتغيرات الدينية المحيطة بالأفراد، والمساهم فيها هو طبيعة الخطاب الديني الذي يتم الترويج له، حيث يكتسب الخطاب سلطة غير محدودة على ضمائر الأتباع، بما يروج له من سرديات، تشكل مرجعا أساسيا للأفراد في النظر للموجودات وبناء المواقف والتصورات، وأيضا في تشكيل نموذج تديني، يعدونه من قبيل ما يستحق أن تتم التضحية من أجله، سواء من خلال اللجوء إلى العنف المباشر، أو الإلغاء السيكولوجي/الاجتماعي للآخر المختلف، دون أي تردد أو تعقل[4]، وهو ما يسهم في إشباع المجتمع بالنقائض التدينية وإدخال الصراعات المذهبية، وتنافي القدرة على العيش المشترك بين مختلف المعتقدات الدينية.
الدراسة في مخرجاتها أظهرت وعبر المعطيات الميدانية، أن ما تم التراجع عنه هو التدين وليس الدين؛ أي تراجع نماذج تدينية مرتبطة بمشاريع أظهرت فشلها، وبذلك فتحت المجال واسعا أمام انفتاح الشباب على البعد الإنساني للقيم، ومنها التعايش والتسامح، والذي يعد اليوم مقوما من مقومات الحداثة السياسية والاجتماعية، لقدرته على حل الإشكالات الناتجة عن التعددية داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات. فهو البديل العادل للتعصب ورفض الآخر في الاختلاف، والسبيل الوحيد إلى تعايش سلمي قائم على الاستواء في الحقوق بين مختلف مكونات المجتمع، وهذا ما يشكل اليوم تضادا واضحا مع بقية المشاريع التدينية الأخرى[5].
ثانيا: الفردانية والعلاقة المتوترة مع المجتمع (من الجماعة إلى الفرد)
لطالما تم اعتبار المجتمعات الغربية خاصة منها الأوروبية، الأكثر تسامحا وتعايشا مع الأقليات الدينية والمذهبية، وإن كانت الإسلاموفوبيا قد زعزعت هذا المعطى قليلا، بسبب التفجيرات الإرهابية التي عرفتها هذه الدول، وأيضا مظاهر الصراع والحروب في المنطقة العربية/الإسلامية، إلا أنها مازالت تحافظ على صدارتها عالميا، وفق مؤشر Legatum Prosperity Index، والذي يصنف البلدان وفقًا لمجموعة من المعايير، تعتمد على ترتيب الحرية الشخصية، الوصول إلى الحقوق القانونية، حرية التعبير والدين، التسامح الاجتماعي، وأيضا الموقف تجاه المهاجرين والأقليات العرقية[6]، حيث حصلت كل من لوكسمبورغ وكندا ونيوزيلاندا الجديدة وإيسلندا وهولاندا وفنلندا على المراتب الأولى عالميا، في حين احتلت أغلب الدول العربية والإسلامية المراتب الأخيرة، باعتبارها دولا غير متسامحة مع التعددية الدينية والمذهبية وغير متسامحة اجتماعيا، حيث احتلت رأس اللائحة كل من أفغانستان السودان واليمن ومصر وإيران، ثم باقي الدول العربية والإسلامية[7].
لعل التمعن في هذه النتائج، يوضح بأن الدول الغربية التي احتلت رأس اللائحة كأكثر الدول تسامحا، قد شملتها دراسات أخرى بينت تمتعها بالقيم الفردية، التي تخلصت من قيم الجماعة وسلطتها في توجيه التصورات وبناء المواقف، حيث أصبح الفرد يتمتع باستقلالية ذاتية، بمعزل عن الدين والعادات الاجتماعية، فأصبح أكثر قبولا للآخر المختلف جنسيا واجتماعيا ودينيا، من باب الحرية الشخصية، وعدم التدخل في مصير الآخرين، حكما بمبدأ ضمير الأفراد، الذي يحدد اختياراته وميولاته وأفكاره، وهو حاصل ناتج لتحولات فكرية وفلسفية، كانت نتاج قرون من التحول من سلطة الجماعة المنبنية على الدين والمجتمع، إلى سلطة الفرد، ثم ما أعقبه ذلك من قيم فردية، والتي تنتج بناء على تجاربه الخاصة ورؤيته لمحيطه وللعالم.
أما ما نشهده في دولنا العربية والإسلامية، هو استمرارية طغيان القيم الجماعية، بما تحمله من حمولات دينية عقدية وفكرية واجتماعية وتاريخانية، سلبت من الفرد سلطته التقديرية، وأصبح الخروج منها، خروجا عن الجماعة أو الانتماء الاجتماعي المشكل لهوية الفرد داخل الجماعة، ولا يمكن تفسير هذا حسب تحليلنا إلا بعاملين:
العامل الأول: هو تراتبية قيم الأجيال، واعتبار الخروج عنها إقصاء لتاريخانية الجماعية/المجتمع، ونتوءا عن المتعارف عليه داخل الجماعة لما تحمله من عادات وأعراف، ويعتبر الخروج عنها، مسلكا نحو الإقصاء الاجتماعي، أو الإقصاء السيكولوجي عن الجماعة عند أقلها تشددا.
العامل الثاني: هو تعبير عن فشل المجتمع في مسايرته للعصر وإشكالاته وتحدياته، فتكون المقاومة من خلال إبراز جوانب الهوية والخصوصية، والثقافة المحلية، هروبا من ضغط وإكراهات الثقافة المهيمنة[8]. هو يدخل ضمن الجماعة التي تسعى ضمن نماذج "الكاست"*، من خلال السعي إلى الانغلاق الذاتي، معتبرا أيّ رياح خارجية، هي مسلك لضرب وطمس هويتها.
إن التوصيف الذي تعرضنا له آنفا، لكل من المجتمعات الغربية من جهة، ثم العربية والإسلامية من جهة أخرى، ليس مدلوله أن التعايش الديني قيمة فضلى تخص الفرد وحده تجاه فرد آخر أو جماعة، وإنما تمت البرهنة على أن هذه القيمة، لا يمكن أن تنسجم وكل القيم المدنية في المجتمع، بدون تحولات اجتماعية، تمس جميع الأفراد، حيث تنتقل هذه القيمة من التضاد الإنساني، إلى التعايش الإنساني، لتغدو قيمة مؤسساتية، ترتبط بجميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية، سواء الأسرة، المدرسة والإعلام؛ إلا أن الدافع الأساسي نحو هذه القيمة، هو التحول من القيم المفروضة بسلطة الجماعة والمبنية على تاريخانيتها وما تمثله من تعاقب لقيم الأجيال، بحمولاتها التدينية والاجتماعية والعرفية، إلى قيم الفرد، من خلال تحقيق فردانية تتم بروح التعايش والتسامح الاجتماعي والديني، وتقبل الآخر المختلف عقديا ودينيا، كبديل عادل عن التطرف والتعصب ورفض حق الآخر في الاختلاف، باعتباره سبيلا واحدا للتعايش السلمي في مجتمع متعدد.
ويمكن المجازفة هنا لحد القول، وهذا ما استنتجناه من ملاحظتنا لكلا المجتمعين الغربي والعربي، أنه كلما ارتفعت الفردانية داخل المجتمع، كلما كان المجتمع أكثر تسامحا مع الآخر المختلف، وهذا ما نلحظه جليّا في المجتمعات الغربية الأوروبية والأمريكية، حيث ارتفاع الفردانية وقيمها، ومن جهة أخرى كلما انخفضت الفردانية في المجتمع كلّما كان أقل تسامحا، وهذا ما نلحظه في الدول العربية والإسلامية، حيث تطغى قيم الجماعة على الفرد، وترسم له مصيره الدنيوي والأخروي، وفق قواعد ومعايير اجتماعية ودينية، تسهم فيها مؤسسات التنشئة.
العبور نحو التعايش الديني
إن كان العالم العربي قد شهد تحولات تهمّ أفول نماذج تدينية، حاولت تكريس الكاست الاجتماعي عوض التعايش الإنساني والقيم الكونية، وأيضا بروز تحولات قيمية داخل المجتمعات العربية، وإن كانت طفيفة بالمقارنة مع المجتمعات الأكثر تقدما من حيث هذه القيمة، إلا أنه أظهر أيضا بداية قدرة على أن تكون هذه البداية، مسعى نحو تحقيق هذه القيمة مؤسساتيا، من خلال المرور بها إلى المجتمع عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية، من خلال التربية على التعايش الديني من داخل الأسرة والمدرسة من خلال منهج دراسي موائم، يحترم الإنسان ويعترف بأحقيته في الاختلاف، وعبر الإعلام أيضا.
كلما ارتفعت الفردانية داخل المجتمع، كلما كان المجتمع أكثر تسامحا مع الآخر المختلف، وهذا ما نلحظه جليّا في المجتمعات الغربية الأوروبية والأمريكية
ولعل أكثر المؤسسات إمكانية لهذا الدور، هي المدرسة، فالتربية وإن كانت الأسرة شريكا أساسيا ضمنه، تبقى المدرسة أكثر المؤسسات التربوية تنظيما، تشتغل وفق استراتيجيات وأهداف مضبوطة، قد تفوق من حيث عقلانيتها التنظيمية الأسرة، وإن حرصت على ذلك. ولذلك فإن تأكيد هذه القيمة، يحتاج إلى منظومة قيمية تحل محل النسق القديم، وتنتج لنا عقلا متسامحا رافضا للعنف، وقادرا على العيش المشترك مع الآخر دون إقصاء أو تهميش، ويكون من العبث التفكير في بناء هذه المنظومة القيمية دون دور محوري ومركزي للمؤسسة التربوية[9]، على الرغم من التحديات التي يعرفها نظام التعليم عموما في الدول العربية.
فهذا العبور إذن، محوره هو التربية على التعايش، من أجل جيل أكثر تسامحًا وتقبّلا للآخر المختلف، ولعل التجارب الدولية تأكيد حاصل على ذلك؛ فالأولى أن تراجع المناهج التربوية، خاصة منها الدينية، وأن تستبدل آيات وأحاديث الجهاد والتكفير والإقصاء، بأخرى داعية إلى السلام والتعايش وتقبل الآخر، علها تسهم في صناعة جيل مسالم رافض للعنف والتعصب، بدل أن تدفع مجتمعاتنا ثمن الكراهية والإرهاب والقتل، عبر زرع ثقافة اللاتسامح الموروثة من ثقافة الماضي، الذي مازالت تتمسك به مجتمعاتنا حفاظا على تاريخانيتها المتلاشية.
[1] نشر هذا المجال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 58
[2]الدول العربية في سبعة رسوم بيانية: هل بدأ الشباب العربي يدير ظهره للدين؟ موقع بي بي سي عربي نيوز، يونيو/حزيران 2019، الرابط:
http://www.bbc.com/arabic/magazine-48661721
[3] المؤشر العربي 2017/2018، برنامج قياس الرأي العام العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مايو/ أيار 2018، ص 261
[4] ناجية الوريمي، في تفكيك آليات التعصب الديني، كتاب جماعي (التسامح الديني في الثقافة العربية: دراسة نقدية) الجزء الأول، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2018، ص 352
[5] ناجية الوريمي بوعجيلة، الاختلاف وسياسة التسامح: بحث في الإشكاليات الثقافية والسياسية في سياسات الرشيد والبرامكة والمأمون، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2015، ص 11
[6] See the Website bellow: Legatum Prosperity Index 2018, LEGATUM INSTITUTE, Link: https://www.prosperity.com/
[7] Ipid
[8] التسامح في الثقافة العربية: دراسة نقدية، الجزء الأول، مرجع سابق، ص 430
(*) الكاست (caste) مفهوم يستخدم للدلالة على المجتمعات المنغلقة ذاتيا، والتي ترفض الانفتاح على الآخر، وهو تعبير استخدمه الدكتور عبد الرحيم العطري في مقالته المنشورة بمجلة إضافات (المجلد 2012، العدد 17-18 (31 مارس/آذار 2012)، ص ص. 138-155، 18 صفحة)، تحت عنوان "العلم الاجتماعي ضدا على (الكاست المعرفي)، من التناص الاجتماعي إلى التداخل التخصصي".
[9] التسامح في الثقافة العربية، الجزء الثانية، مرجع سابق، ص 347