فهم الخطاب الشرعي بحسب ما يقتضيه اللسان العربي
إدريس حمادي
1 - يمكن البدء في معالجة هذا الموضوع بطرح مثل هذا السؤال: كيف قرأ الأصوليون الخطاب الشرعي؟وكيف حددوا المعاني من الخطاب؟ أو بتعبير آخر: ما المنهج الذي سلكوه في هذه القراءة لينفذوا بواسطته إلى المعنى المراد؟
جوابا عن هذه التساؤلات يمكن القول: إن المنهج الذي يسلكه الأصولي قائم على أربعة مبادئ رئيسية أو لنقل أربع خطوات تدريجية تحتاج كل واحدة منها إلى ما قبلها.
-أول خطوة يبدأ بها الأصولي هي ما يمكن أن نطلق عليه: ما قبل القراءة، أعني البحث في الوسائـل الممهدة لمعرفة الخطاب وفقه المراد منه باعتباره أن الخطاب بمعزل عن هذه الوسائل لا يمكن أن تعرف صحته ولا وجه دلالاته، وقد استبان لنا أن تلك الوسائل لا تخرج عن المعرفة بأركان التخاطب: المخاطب، والمخاطِب، والخطاب، وما يحيط بالخطاب، باعتبار أن المعرفة بكلام العرب موقوفة على "معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطب، أو المخاطب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك"(1).
-ثم بعد التهيؤ للقراءة ينتقل إلى خطوة أخرى تبدأ فيها القراءة من فهم ظاهر الخطاب "بحسب اللسان العربي وما يقتضيه"(2) أي بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك"
-وبعد فهم الظاهر من الخطاب ينتقل إلى أهم خطوة في هذه القراءة وهي فقه مراد الشارع من الخطاب، باعتبار أن الشارع بالرغم من تعبيره عن مقاصده بواسطة الأساليب الاستعمالية العربية، فإن له أساليب استعمالية شرعية أخرى يعبر بها عن مراده، لا بد من الإلمام بها ليحصل فقه مراد الشارع من خطابه.
-وأخيرا لما كان موضوع الطلب الذي تتعلق به الأحكام الشرعية هو ما يصدر عن الإنسان من اعتقادات وأقوال وأفعال، كان لزاما أن يلتفت الأصولي إلى مبدأ آخر خاص بتطبيق الشريعة وتنزيل أحكامها على الواقع… وبذلك كله تكتمل حلقة القراءة عندهم: خطابا وواقعا.
والذي يهمنا بسطه من هذه الخطوات في هذا البحث، هو الخطوة الثانية، أعني فهم الخطاب بحسب اللسان العربي وما يقتضيه.
2 - عند التأمل في هذا المبدأ نجد أن الذي فرض البحث فيه عندهم هو مجيء الخطاب الحامل للرسالة السماوية بلسان عربي مبين، حيث كانت ألفاظه مستعملة في معانيها اللغوية وجارية على قوانينه الوضعية والاستعمالية والدلالية المعروفة عندهم لدرجة أن الإمام الشاطبي وغيره يذكر "أن الشريعة عربية وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم لأنهما سيان في النمط، فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة…"(3). وأن الإمام الشافعي قبله يذكر كذلك في رسالته بعد أن يسوق هذه الآيات البينات: (وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين)(4) وقوله سبحانه: (وكذلك أنزلناه حكما عربيا)(5) وقوله تعالى: (قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون)(6) - يذكر أن الله سبحانه وتعالى "أقام حجته في كتابه، بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل ثناؤه كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه فقال تبارك وتعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)(7) وقال: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي)(8) ليتبعه بتقرير هذا المبدأ وهو: "أنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتابة أحد جهل معه لسان العرب وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عن الشبه التي دخلت على جهل لسانه"(9).
3 - في تفحص الأصوليين لسان العرب يجدون أن اللغة العربية من حيث هي ألفاظ وعبارات دالة على معان لها جهتان في الدلالة: دلالة أصلية تنتهي إليها مقاصد المتكلم، ودلالة تابعة وخادمة للدلالة الأصلية يقتضيها المقام أو الوقت أو الحال لا بد من مراعاتها في الفهم مثل مراعاة الدلالة الأصلية، إذ مقتضى الحال هو الذي جعل العبارات تختلف… وجعل أقاصيص القرآن مثلا تأتي على أوجه مختلفة والشاطبي يذكر أن "كل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها فهو داخل تحت الظاهر"(10) أي تحت ما يقتضيه اللسان العربي. وإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي فقد حصل ظاهر القرآن"(11).
أو بتعبير آخر إن الأصوليين لكي يصلوا إلى غرضهم الذي هو فهم الخطاب بحسب الظاهر يجدون أنه لا بد من "نظرين: أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق…والثاني بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد إليها وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك"(12).
بالنسبة للنظر الأول يجدون أنه لا بد من مراعاة القصد إلى جانب المواضعة إذ أن المواضعة لو عدمت لم يؤثر القصد بانفراده. كما لو عدم القصد ووجدت المواضعة لم تؤثر بانفرادها أي أن "المتكلم لا يكون مفيدا بكلامه ما وضع له من الفائدة إلا بالقصد"(13) حتى لو أنه قال مثلا: زيد قائم وضارب فإن مثل هذا الكلام "ليس خبرا لذاته، بل يصير خبرا بقصد القاصد إلى التعبير به عما في النفس، ولهذا إذا صدر من نائم أو مغلوب لم يكن خبرا"(14) ثم من جهة أخرى لو "تحقق قصد مطلق اللفظ إلى استعماله في معناه الموضوع له فلا يتصور وراء ذلك انحراف اللفظ وانصرافه عن معناه الذي وضع له"(15).
وبذلك يتبين أنه في حالة إطلاق صيغة العام وغيرها "لا بد من الأمرين، لأن المواضعة لو عدمت لم يؤثر القصد بانفراده ولو وجدت وعدم القصد لم يكن هذا القول عموما من قائله، وإذا حصلا وقعت الفائدة باللفظة"(16).
وبالنسبة للنظر الثاني يذكرون أن المواضعة والقصد إذا كانا كافيين في تحديد ما وضع له اللفظ من حقيقة فإنهما غير كافيين في تحديد المعنى المراد من اللفظ عندما يصبح اللفظ مجازا، إذ هنا "يحتاج مع القصد إلى قرينة أو عهد ليقع به الاضطرار في الشاهد وليصح الاستدلال على المراد في الغائب وليس كذلك في الحقيقة"(17).
والقرائن عندهم تأخذ بعدين: بعدا عاما يهدي إلى المعنى المجازي وهو ما عبروا عنه بالعلاقات، من مشابهة، وسببية، ومضادة، ونسبة الكل إلى الجزء، ونسبة الملزوم إلى اللازم… وبعدا خاصا يمكن إجماله في كل "ما يدل على تعذر حمله -أي اللفظ- على معناه الحقيقي"(18) من حس وعقل وعرف.
لا يتم عبور الذهن من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي إلا عن طريق القرينتين معا. يقول المحقق التفتازاني "لا يخفى أن مجرد ثبوتها (العلاقة) له، لا يوجب الفهم لكونها مشتركة، بل لا بد من قرينة خصوص، مثلا إذا أطلقنا الأسد فينتقل منه إلى الشجاع، لكن لا يفهم منه الإنسان الشجاع إلا بقرينة مثل في الحمام مثلا"(19) ويقول السيد الجرجاني: "فالعقل بواسطة القرينتين يهتدي إلى المعنى المراد المجازي، وهكذا المعنى الحقيقي غير مراد، وكلما كان غير مراد كان المعنى المجازي مرادا، ويحتج على المقدمة الأولى بالقرينة الصارفة، وعلى الثانية بالقرينة الهادية… وأهل البلاغة سموا القرينة الهادية بالعلاقة ولا مشاحة في الاصطلاح"(20).
4 - بعد تشخيصنا لهذا المسلك نظريا نعود لننظر كيف مارس الأصوليون النظر على المستويين: الإطلاق والتقييد في الخطاب الشرعي.
قال الإمام الشافعي: إن الله سبحانه وتعالى "إنما خاطب بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وإن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغني بأول هذا منه عن آخره، وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وعاما ظاهرا يراد به الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره"(21).
ولا يكتفي الإمام الشافعي بهذا الإجمال بل يعمد إلى كل صنف من الأصناف التي أتى على ذكرها في هذا النص، فيذكر لها أمثلة عديدة يبين من خلالها كيف تتم عملية الفهم، أو كيف تتحكم العوائد الاستعمالية في دلالة ألفاظ الخطاب.
يمثل للصنف الأول بقوله تعالى: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل"(22) وبقوله تعالى: "خلق السموات والأرض"(23) وبقوله سبحانه: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها"(24). وبعد سوقه لهذه الأمثلة يعلق عليها بقوله: "فهذا عام لا خاص فيه، فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خلقه، وكل دابة فعلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها"(25).
كما يمثل للصنف الثاني بأمثلة عديدة من بينها قوله تعالى: "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه"(26) وبالتأمل في هذه الآية ندرك أنها تفيد بعمومها: أن على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب جميعا أن ينفروا مع رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وهو عموم له وجاهته وكذلك لم تنف إرادته، لكن الخطاب في الوقت نفسه يفيد أن هناك من هو أولى بالخطاب وهم أهل الطاقة والكفاية، ذلك ما يفيده التعقيب على الآية من طرف الإمام الشافعي: "وهذا في معنى الآية قبلها -أي وما من دابة في الأرض- وإنما أريد به من أطاق الجهاد من الرجال، وليس لأحد منهم أن يرغب بنفسه عن نفس النبي أطاق الجهاد أو لم يطقه، ففي هذه الآية الخصوص والعموم"(27).
ويضرب أمثلة للصنف الثالث من بينها قوله تعالي: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل"(28) حيث يظهر أن اللفظ قد خرج من الدلالة على العموم إلى الدلالة على الخصوص، إذ من المستحيل أن يكون المراد من "الناس" جميع الناس، إذ "العلم يحيط أن لم يجمع لهم الناس كلهم، ولم يخبرهم الناس كلهم، ولم يكونوا هم الناس كلهم… وإنما هم جماعة غير كثير من الناس، الجامعون منهم غير المجموع لهم، والمخبرون للمجموع لهم غير الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غير الجامعين ولا المجموع ولا المخبرين"(29).
كما يمثل للصنف الأخير بأمثلة من بينها قوله تعالى: "وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر، إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون"(30) حيث يذكر أن الله جل ثناؤه "ابتدأ ذكر الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر، فلما قال: "إذ يعدون في السبت" الآية: دل على أنه إنما أراد أهل القرية، لأن القرية الحاضرة لا تكون عادية ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره، وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بلاهم بما كانوا يفسقون"(31).
على أنه يضيف إلى هذه الأصناف التي أجملتها في البداية صنفا آخر يجتمع فيه العام الذي يراد به العام في وجه، والخاص في وجه، ومثل له بأمثلة منها قوله تعالى: "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"(32) حيث دل الشطر الأول من الآية على العموم في قول الله: "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" إذ "كل نفس خوطبت بهذا في زمان رسول الله وقبله وبعده مخلوقة من ذكر وأنثى وكلها شعوب وقبائل". ودل الشطر الأخير منها على الخصوص في قوله تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" "لأن التقوى إنما تكون على من عقلها وكان من أهلها البالغين من بني آدم، دون المخلوقين من الدواب سواهم، ودون المغلوبين على عقولهم منهم، والأطفال الذين لم يبلغوا وعقل التقوى منهم، فلا يجوز أن يوصف بالتقوى وخلافها إلا من عقلها وكان من أهلها، أو خالفها فكان من غير أهلها"(33).
5 - وعلى هذا المنوال يسير الإمام الشاطبي حيث يرى على الجملة: أن القرآن الكريم نزل بلسان العرب وأن لا سبيل إلى فهمه من غير هذه الجهة(34)، ثم بعد سوقه لما أتى به الإمام الشافعي أعني أن من فطرة العرب أن تخاطب بالعام مريدة به العام، وبالعام مريدة به الخاص، وبالعام مريدة به العام في وجه والخاص في وجه…"وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمى الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحدة، وكل ذلك معروف عندها لا يرتاب في شيء منه هي ولا من يتعلق بكلامها"(35)، وتنبيهه إلى أن كثيرا ممن أتى بعد الإمام الشافعي من الأصوليين لم يسلك مسلكه يعود للتفصيل فيذكر: "إن العرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه، مما يدل عليه معنى الكلام خاصة، دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي، كما أنها أيضا تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع، وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال، فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره، وهو لا يريد نفسه، ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم، وكذلك قد يقصد بالعموم مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع، دون غيره من الأصناف، كما أنه قد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم ومراده من ذكر البعض الجميع، كما تقول: فلان يملك المشرق والمغرب، والمراد جميع الأرض، وضرب زيد الظهر والبطن، ومنه "رب المشرقين ورب المغربين" "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" فكذلك إذا قال: من دخل داري أكرمته، فليس المتكلم بمراد، وإذا قال: أكرمت الناس، أو قاتلت الكفار فإنما المقصود من لقي منهم، فاللفظ عام فيهم خاصة، وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال"(36).
ثم يسوق للتدليل على ما ذهب إليه أدلة منها:
إن العالم اللغوي ابن خروف قال: "لو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها فضربهم ولم يضرب نفسه، لبر ولم يلزمه شيء، ولو قال: اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم فلا يدخل الأمير في التهمة والضرب - قال: فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الإخبار في نحو قوله تعالى: " خالق كل شيء" لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه، ومنه "والله بكل شيء عليم" وإن كان عالما بنفسه وصفاته، ولكن الإخبار إنما وقع عن جميع المحدثات، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر، قال: فكل ما وقع الإخبار به من نحو هذا فلا تعرض فيه لدخوله تحت المخبر عنه، فلا تدخل صفاته تعالى تحت الخطاب، وهذا معلوم من وضع اللسان"(37).
ومنها أيضا أنه "لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب اللسان، فلا يقال: من دخل داري أكرمته إلا نفسي، أو أكرمت الناس إلا نفسي، ولا قاتلت الكافر إلا من لم ألق منهم، ولا ما كان من نحو ذلك، وإنما يصح الاستثناء من غير المتكلم ممن دخل الدار أو ممن لقيت من الكفار، وهو الذي يتوهم دخوله لو لم يستثن، هذا كلام العرب في التعميم إذن الجاري في عمومات الشرع"(38).
وبذلك كله يتبين أن "ليس لأحد أن يقول: إن لفظة العموم لا يصح أن تكون مستعملة إلا فيما وضعت له، فلذاتها ولجنسها تتعلق بذلك، ويستغني عن القصد، لأن القصد هو الذي يعلقها بما وضعت له، ولولا ذلك لحلت محل الكلام المبهم المهمل لم يوضع لفائدة"(39).
6 - ولا يقف الأصوليون في بيانهم عند اللفظ العام بل يتجاوزونه إلى الخاص باعتبار أن "الدلالة… تكون مرة خصوصا ومرة عموما بحسب المصلحة"(40) بمعنى أن من الألفاظ ما وضع ليعبر به تعبيرا عاما شاملا، ومنها ما وضع ليعبر به تعبيرا خاصا، وأن تصرف المتكلم في هذه الألفاظ تصرف غير مختلف لأنه كما "قد ثبت أن المتكلم بلفظه العموم قد يريد بعض ما يتناوله دون بعض على جهة الاتساع فيحمل ذلك محل الخاص، فيقال: إنه خاص في المعنى وخاص في المراد" ثبت كذلك "في الخاص أنه لا يمتنع في المتكلم أن يريد به ما تناوله وغيره، فيحل محل اللفظ الموضوع للجميع فيقال هو عام في المراد والفائدة دون حقيقة اللفظ"(41) لأن القصد كما قلنا هو الذي يعلق اللفظة بما وضعت له أو بغير ما وضعت له. فصيغة "ترى" و"رأيت" في قوله تعالى: "ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت"(42) وقوله سبحانه: "وإذا الرؤية لم تختص بمعين فيهما بل هي شاملة لكل من يتأتى منه الرؤية، لظهور المرئي ظهورا بينا يمتنع خفاؤه ولذلك "لم يجعل لـ:"ترى" ولا لـ" "رأيت" مفعولا ظاهرا ولا مقدارا ليشيع ويعم"(44).
وهكذا الأمر في كل خطاب يخرج عن الأصل، إذ القاعدة تقول: إن "الأصل في الخطاب أن يكون لمعين وقد يخرج على غير معين ليفيد العموم"(45).
وصيغة الأمر مثلا التي وضعت للدلالة على الوجوب فقط عند الجمهور لا يستطيع الباحث تحديد المعنى المراد منها بطريق الموضعة والقصد عندما تخرج عما وضعت له، بل لابد بالإضافة إلى ذلك من قرائن وعلاقات على ضوئهما يقع تحديد المعنى المراد الذي قد يكون هو الندب أو الإباحة أو الإرشاد أو الإذن أو التأديب أو التهديد… ولذلك وجدناهم يقولون بالنسبة للقرائن الصارفة عن المعنى الحقيقي في قول شخص لآخر عند العطش: اسقني ماء: إن الأمر إذا كان من السيد إلى العبد فهو للوجوب، وإن كان من مطلق شخص فهو لإرادة الامتثال ليس إلا، ويقولون في قوله تعالى: "ادخلوها بسلام آمنين"(46): إن السلام والأمن قرينة على كون الصيغة للإكرام، ويقولون في قوله تعالى: "ذق إنك أنت العزيز الكريم" (47) وقوله سبحانه: "ألقوا ما أنتم ملقون"(48):إن الأمر في الآية الأولى يدل على الإهانة، وفي الثانية على الاحتقار، بناء على أن الإهانة هي الإنكار، والاحتقار عدم المبالاة، وفي قوله تعالى: "فاصبروا أو لا تصبروا"(49) وقول الشاعر: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي": إنها في الآية دالة على التسوية، وفي البيت الشعري دالة على التمني، والقرينة عادة العرب، إذ "المستعمل في التسوية هو المجموع المركب من صيغة افعل وأو……والمستعمل في التمني صيغة الأمر مع ألا" وهكذا في بقية معاني صيغة الأمر(50).
كما وجدناهم يقولون بالنسبة للعلاقة أو القرينة الهادية إلى المعنى المجازي: إنها عبارة عن اللزوم لأن الذهن في دلالة الأمر مثلا على التهديد أو التعجيز أو الاحتقار أو التمني أو الخبر…. ينتقل عندما يحصل له اقتناع بأن المعنى الحقيقي غير مراد إلى هذه المعاني المجازية عن طريق اللزوم لأن إيجاب الشيء يستلزم التخويف على مخالفته،وإيجاب شيء لا قدرة عليه يستلزم التعجيز، والأمر بفعل ما علم عدم جدواه يستلزم تحقيره، وطلب شيء لا إمكان له يستلزم التمني، وقالوا في دلالة الأمر على الخبر: إن الأمر المطاع يستلزم صحة الخبر عنه… وهكذا(51).
هذا ونظرا لما لقرينة اللزوم من دور في تحديد المعنى المراد من اللفظ حتى إن المحقق التفتازاني قال: إن مبنى المجاز قائم على "صحة إطلاق اللفظ على كل ما يوجد فيه لازم ذلك المعنى"(52). اخترنا أن نفسح لها مكانا في هذا البحث، وأول شيء نبدأ به هو هذا التساؤل الذي يلقيه التفتازاني "فإن قلت" إن مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم، وبعض أنواع العلاقات بل أكثرها لا يفيد اللزوم فكيف ذلك؟ قلت يعتبر في جميعها اللزوم بوجه ما"(53).
ثم يشرح وجه اعتبار اللزوم في كل نوع منها فيذكر:
1 - أن الانتقال بالذهن من الملزوم إلى اللازم يكون في الاستعارة بالمشابهة حيث ينتقل الذهن من المشبه به إلى المشبه لا محالة مثل رأيت أسدا يرمي.
2 - وفي غير الاستعارة أي المجاز المرسل فإن اللفظ إذا أطلق على غير ما وضع له فإن ذلك الغير:
أ - إما أن يكون ما يتصف بالفعل بالمعنى الموضوع له في زمان سابق أو لاحق كتسمية المعتق بالعبد، وتسمية المولود بالكافر والفاجر في قوله تعالى: "ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا"(54) أو مما يتصف بالقوة كالمسكر للخمر التي أريقت.
ب - أو يكون ذلك الغير مما يتصف بالمعنى الحقيقي بالجملة، وحينئذ فإن الذهن ينتقل من المعنى الحقيقي إليه في الجملة وإن لم يتصف به لا بالقوة ولا بالفعل اعتمادا على معنى لازم لمعناه الحقيقي ذهنا.
-واللازم هنا إما ذهني محض كإطلاق البصير على الأعمى
-أو منضم إلى لزوم خارجي بحسب العادة أو بحسب الواقع وحينئذ:
-إما أن يكون أحدهما جزءا للآخر كالقران للبعض، والرقبة للعبد، (يشترك في إطلاق الجزء على كل استلزام الجزء للكل كالرقبة والرأس).
-أو يكون خارجا عنه واللزوم بينهما قد يكون:
-بحصول أحدهما خارجا في الآخر: كالحال على المحل مثل قوله تعالى: "وأما الذين ابيضت وجوههم في رحمة الله"(55) أي في الجنة لأنها محل الرحمة. أو المحل على الحال مثل قولهم: "لا يفض الله فاك" أي أسنانك.
-أو سببية أحدهما للآخر مثل قول أحدهم لشخص: امسك يدك عن لحية رسول الله قبل ألا تصل إليه، أراد قبل أن تقطع، فأطلق اسم المسبب على سببه فإن القطع سبب لعدم الوصول، وقوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها"(56) سمي جزاء السيئة سيئة بتسمية الشيء باسم سببه، فإن السيئة سبب لجزائه.
-أو مجاورتها أي تسمية الشيء باسم يجاوره كإطلاق لفظ الراوية على القربة التي هي ظرف للماء، فإن الراوية في اللغة اسم للجمل أو البغل أو الحمار الذي يستقى عليه(57).
-أو يكون أحدهما شرطا للآخر كاستعمال الإيمان في الصلاة في قوله تعالى: "وما كان الله ليضيع إيمانكم"(58) أي صلواتكم، فالإيمان شرط للصلاة، وهو نظير إطلاق الشرط (الإيمان) على المشروط (الصلاة) وهكذا يتبين أن جميع أنواع العلاقات يفيد اللزوم في نظر العلامة التفتازاني.
7 - هذا وإذا كان أكثر الأصوليين(59) ينظرون إلى القرائن الملابسة للخطاب كأشياء منفكة عنه أي أنهم يجعلون ما تدل عليه الصيغة في أصلها الوضعي على الإطلاق هو الأصل، والقرائن شيء أجنبي يعمل على إخراج "الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص"(60) مثلا أو من الحقيقة إلى المجاز، فإن الإمام الشاطبي على العكس من ذلك ينظر إلى صيغ الخطاب "بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك"(61) بمعنى أن العوائد الاستعمالية ليست فرعا يخرج به اللفظ من وضعه الأصلي إلى ما لم يوضع له، بل هي في ملابستها للصيغ التي لا تنفك عنها، وضع آخر، وضع في لسان العرب ليعبر به العربي عن أغراضه ومقاصده كما عبر عنها بما وضعت له الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق، والوضعان معا لا يختلفان(62) من حيث الأصالة في اللسان العربي فهما معا مثل قولك: "علي عشرة إلا ثلاثة" وقولك:"علي سبعة" أوهما كاللفظ المشترك عندما يلحق به بيان، إذ البيان عندما يقصره على معنى معين من معانيه التي وضع لها يخرجه عما وضع له من حقيقة.
يقول الإمام الشاطبي وهو يرصد الفرق بين ما يذهب إليه هو وبين ما يذهب إليه أكثر الأصوليين: "ما ذكرناه هنا راجع إلى بيان وضع الصيغة العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص، فنحن بينا أنه بيان لوضع اللفظ، وهم قالوا أنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه، وبينهما فرق، فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الذي سيق عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه، والذي للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقب الحقيقة ليبين أن المراد المجاز، كقولك رأيت أسدا يفترس الأبطال، وقولك ما رأيت رجلا شجاعا، وأن الأول مجاز، كقولك رأيت أسدا يفترس الأبطال، وقولك ما رأيت رجلا شجاعا، وأن الأول مجاز والثاني حقيقة، والرجوع في هذا إليهم لا إلى ما يصوره العقل في مناحي الكلام"(63).
وبهذا نستطيع أن نتبين سبب رفض الإمام الشاطبي القول بالتخصيص مطلقا، كان المخصص متصلا أو منفصلا، لأن هذا المخصص المنفصل هو دوما ملابس للصيغة، إما عن طريق عادة العرب في الاستعمال بالنسبة للمخصصات الحالية: الحس -العقل - العادة. أو عن طريق التقابل الحاصل بين الأطراف المتناظرة - العام مع الخاص - بالنسبة للمخصصات المقالية لأن "الدليل العقلي وإن انفصل فهو كالمتصل في أن الخطاب يترتب عليه"(64).
8 - وانطلاقا من هذه الحقيقة، حقيقة أن اللسان العربي يتم فهمه بحسب ما تقضي به العوائد الاستعمالية، وأن "كل خبر يقتضي من هذه الجهة -جهة الخبر- أمورا خادمة لذلك الإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه، والمخبر به، ونفس الإخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك"(65) لأن كل ذلك داخل تحت الظاهر الذي لا ينبني فهم القرآن إلا عليه(66) فهم الأصوليون الخطاب من حيث دلالته على الأحكام الشرعية، فرأوا أن صيغتي الأمر والنهي اللذين هما عمدة الخطاب الشرعي " لا تنفك قط عن قرينة من حال المأمور به والآمر"(67) إذ هما في حالة ما إذا جعل حال الآمر محط الرعاية والاعتبار لا يكون لهما من حيث الاقتضاء إلا وجها واحدا هو اقتضاء الفعل أو اقتضاء الترك "فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم"(68) لأن "المخالفة فيها كلها مخالفة للأمر والناهي وذلك قبيح شرعا، وليس النظر هنا فيما يترتب على المخالفة من ذم أو عقاب، بل النظر إلى مواجهة الآمر بالمخالفة"(69).
ومن هذا المنطلق لم يفرق إمام الحرمين بين الكبائر والصغائر من المخالفات حيث عد "كل ذنب كبيرة، إذ لا تراعى اقدار الذنوب حتى تضاف إلى المعصي بها، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران، ولو صور في حق ملك لكان كبيرة يضرب بها الرقاب، والرب تعالى أعظم من عصي وأحق من قصد بالعبادة، وكل ذنب بالإضافة إلى مخالفة الباري عظيم"(70).
في حين لو أن المجتهد جعل حال المأمور محط الاعتبار فإن صيغة كل من الأمر والنهي في الدلالة لا تأتي على رتبة واحدة بالرغم من أنهما "من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء"(71) لأن "تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك"(72) يجعل الاقتضاء فيهما يتنوع إلى الوجود والندب والإباحة والكراهة والتحريم، ولا يستطيع المخاطب أن يميز بين هذه الوجوه إلا بواسطة القرائن، فمثلا أن الأمر والنهي في قوله عليه الصلاة والسلام: "اكلفوا ما لكم به طاقة"(73) وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا"(74) إنما فهم منهما الندب لأن مغزى الأمر والنهي فيهما "الرفق بالمكلف خوف العنت والانقطاع، لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة أو ترك الدوام على التوجه لله"(75) وإلا ما واصل عليه الصلاة والسلام بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا، لأن ذلك يفضي إلى العناد والعصيان صراحا.
والأمر كذلك لو صرف النظر إلى حال المأمور به إذ فيهما -الأمر والنهي- يجد الباحث أيضا أن "كل خصلة أمر بها أو نهى عنها مطلقا من غير تحديد ولا تقدير فليس الأمر أو النهي فيهما على وزان واحد في كل فرد من أفرادها"(76) لأنها بالرغم من إطلاقها تكون متفاوتة المراتب في قوة الطلب، يوكل أمر تقدير دلالتها "إلى نظر المكلف فيزن بميزان نظره ويتهدى لما هو اللائق والأحرى في كل تصرف"(77) فمثلا أن الأمر بالعدل والإحسان في قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"(78) ليس مأمورا بهما جازما في كل شيء وإنما هو بحسب المناطات من حيث كان إحسان العبادات بتمام أركانها وشروطها ليس كإحسان العبادات بتمام آدابها، وكان الإحسان في الذبح من حيث تتميم الأركان والشروط فيه ليس كالإحسان في غيرهما، وكان العدل في أحكامه الدماء والأموال ليس كالعدل في عدم المشي بنعل واحدة، ولذلك قالوا: إن الإحسان والعدل في الأول من باب الواجب وفي الثاني من باب المندوب، مثل ذلك قالوا في الأمر بالوفاء بالعهد، وأخذ العفو، والصبر… وقالوا في النهي عن الظلم والفحش، وأكل مال اليتيم واتباع السبل المضلة… بل حتى النهي عن الشرك يكون متفاوت الرتب، إذ قد يكون رياء، ولذلك قيل: "إن الأوامر والنواهي المتعلقة بالأمور المطلقة ليست على وزان واحد، بل منها ما يكون من الفرائض أو من النوافل في المأمورات، ومنها ما يكون من المحرمات أو من المكروهات في المنهيات، لكنها وكلت إلى أنظار المكلفين، ليجتهدوا في نحو هذه الأمور"(79).
بل يجد الباحث كذلك أن هذه الخصال المأمور بها حتى لو كانت واقعة في أقصى مراتبها مقيدة إما بعظيم الوعد أو شديد الوعيد "من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك"(80) فإن الأمر والنهي أيضا لا يكون على وزان واحد وإنما يكون دائرا بين طرفين: طرف منصوص عليه، وطرف مقابل له منبه عليه بالفعل، بحكم أن الأوامر من جهة تقتضي النهي عن أضدادها، ومن جهة أخرى فإن الطرف العام الذي يستوجب الرجاء بامتثال الأوامر التي فيها الوعد جملة يقتضي طرفا مقابلا له، وهو الطرف العام الذي يستوجب الخوف من غضب الله جملة(81) "فيكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دله دليل الشرع، فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين كي لا يسكن إلى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم أو مظنة الرجاء لقربها من الطرف المحمود، تربية حكيم خبير"(82).
بقي أن نشير من جهة أخرى إلى أن النظر في المأمور به -الفعل- لا ينتهي عند تحديد مشروعيته بإطلاق أو عدم مشروعيته بإطلاق بل يتجاوزه إلى النظر في الباعث الذي يحرك الشخص للقيام بالفعل من جهة وإلى النظر في مآلات الأفعال وما تفضي إليه في جملتها من مصالح أو مفاسد بقطع النظر عن الباعث وجد أو لم يوجد من جهة أخرى، لأنه ما دام من الجهة الأولى أن للقصد من الشريعة اعتبارا خاصا يجعل من الفعل عبادة إن تعلق به وعادة إن لم يتعلق به إذ "العمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون"(83) ويجعل منه مرة واجبا ومرة غير واجب وما دام من الجهة الأخرى إن "العمل يحسن في الدنيا أو يصبح ويطلب أو يمنع بحسب النتيجة والثمرة لأن الدنيا قامت على مصالح العباد وعلى القسطاس والعدل"(84) فإن النظر في العمل كذلك لا يبقى قاصرا على مشروعيته أو عدم مشروعيته، مثله مثل صيغة الأمر والنهي والعموم، بل لا بد من النظر إليه في علاقته بالفاعلين وما يترتب عنه من نتائج بالنسبة للآخرين.
فالصلاة مثلا التي يظهرها صاحبها لينظر إليه بعين الصلاح، والجهاد الذي يقوم به صاحبه لنيل شرف الذكر في الدنيا يكون فاعلها آثما لا مثيبا، ومثلهما كذلك عقد البيع الذي يقصد به التحايل على الربا، والوصية التي يقصد بها المضارة للورثة ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها، كل ذلك وأمثاله "يكون العاقد فيه آثما ولا يحل له ما عقد عليه بينه وبين الله، وإن قامت الدلائل عند إنشاء العقد على نيته، اعتبرت تلك النية الظاهرة سببا في فساد العقد وبطلانه، لأن اعتبار النية التي قام عليها دليل مادي ظاهر اقترن بإنشاء العقد أولى من اعتبار الألفاظ المجردة، بل إن ذلك تفسير لهذه الألفاظ، لأن قرائن الأحوال تعين المراد، وتكشف المقاصد، وإن الألفاظ مقصودة للدلالة على مقاصد العاقدين، فإذا ألغيت تلك المقاصد واعتبرت العبارات مجردة كان ذلك إلغاء لما يجب اعتباره واعتبارا لما لم يقصد لذاته"(85).
والأمر كذلك عندما يكون الفعل يفضي إلى نتائج ضارة بالغير مثل من يحفر بئرا في طريق المسلمين أو يلقي السم في طعامهم أو شرابهم، ومثل من يبيع العنب للخمار أو يتاجر في السلاح وقت الفتنة فإن مثل هذه الأعمال تكون محرمة ومردودة على صاحبها بقطع النظر عن النية المحتسبة والقصد الحسن.
وهكذا نرى أن القرائن الحالية -وكذا المقالية- المنتزعة من حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع أو بتعبير آخر من حال الآمر والمأمور والمأمور به هي التي تحدد وجه دلالة الخطاب من حيث كانت تلقي أضواء كاشفة عن المراد منه.
9 - يبقى بعد هذا أن نشير إلى أن فعالية هذه القرائن قد لا تبقى قاصرة على تحديد وجوه دلالة ألفاظ الخطاب بل تتجاوز ذلك إلى حد استقلاليتها في الدلالة كاستقلال ألفاظ الخطاب القطعية، يبين هذا أن الإمام الغزالي بعدما حصر مدارك العلم في مقدمة كتابه المستصفى(86) في العقليات المحضة، والمحسوسات، والمشاهدات الباطنة، والتجريبات، والمتواترات، عاد ليضيف في موضع آخر منه مدركا سادسا من مدارك العلم هو مدرك القرائن المقامية، لأنه رأى أن القرائن لا تختلف في شيء عن الخبر من حيث كان "مجرد الإخبار يجوز أن يورث العلم عند كثرة المخبرين وإن لم تكن قرينة، ومجرد القرائن أيضا قد يورث العلم وإن لم يكن فيه إخبار"(87) مثلا إننا "نشهد الصبي يرتضع مرة بعد أخرى، فيحصل لنا علم قطعي بوصول اللبن إلى جوفه، وإن لم نشاهد اللبن في الضرع لأنه مستور، ولا عند خروجه فإنه مستور بالفم، ولكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه تدل عليه دلالة ما، مع أن ذلك قد يحصل من غير وصول اللبن، لكن ينضم إليه أن المرأة الشابة لا يخلو ثديها عن لبن، ولا تخلو حلمته عن ثقب، ولا يخلو الصبي عن طبع باعث على الامتصاص مستخرج للبن، وكل ذلك يحتمل خلافه نادرا، وإن لم يكن غالبا، لكن إذا انضم إليه سكوت الصبي عن بكائه مع أنه لم يتناول طعاما آخر صار قرينة، ويحتمل أن يكون بكاؤه عن وجع وسكوته عن زواله، ويحتمل أن يكون تناوله شيئا آخر لم نشاهده وإن كنا نلازمه في أكثر الأوقات، ومع هذا فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتواترها، وكل دلالة شاهدة يتطرق إليها الاحتمال، كقول كل مخبر على حياله، وينشأ من الاجتماع العلم، وكأن هذا مدرك سادس من مدارك العلم سوى ما ذكرناه في المقدمة فيلحق هذا بها"(88).
وفعلا فقد ألحق الأصوليون هذا المدرك الذي يرتكز فيه النظر على مجرد القرائن الحالية، بمدارك العلم فقالوا بحجية القرائن حتى ولو لم تنضم إلى خبر، حيث رأيناهم يستنبطون الأحكام من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ومن إقراراته مثل ما استنبطوها من الخطاب الشرعي، ورأيناهم يتأسون بأفعاله عليه السلام فيفعلون "صورة ما فعل على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل"(89) ويتركون "ما ترك على الوجه الذي ترك لأجل أنه ترك" كما رأيناهم يستنبطون الأحكام من الإجماع السكوتي ومن عمل أهل المدينة، وكل ذلك يجسد لنا ما القرائن الحالية من بعد في الدلالة يمتاز عن دلالة الخطاب فوق البعد الذي تتحكم فيه في دلالة ألفاظ الخطاب عند ملابستها لها.
والخلاصة التي يمكن الخروج بها هي: أن الخطاب الشرعي لما كان قد جاء بلسان عربي مبين، كان لابد من مدارسة هذا اللسان العربي لمعرفة الرسالة التي يحملها الخطاب أو بتعبير آخر: إن الأصوليين في تفحصهم لهذه الرسالة وجدوا أن لا سبيل للوقوف على مراد الشارع منها إلا بمعرفة هذا اللسان بحسب الظاهر، وإذ يرجعون إلى اللغة التي يتكون منها، والتي هي عبارة عن ألفاظ وجمل يجدونها من حيث الدلالة لها جهتان: دلالة أصلية تتحدد مقوماتها بمراعاة المواضعة والقصد معا، باعتبار أن المواضعة لو عدمت لم يؤثر القصد بمفرده ولو عدم القصد لم تؤثر المواضعة بمفردها، بينما لو حصلا معا وقعت الفائدة باللفظة…… ودلالة تابعة وخادمة للدلالة الأصلية تتحدد مقوماتها إلى جانب المواضعة والقصد بالقرائن الصارفة عن المعنى الحقيقي من جهة والقرائن الهادية إلى المعنى المجازي من جهة أخرى.
انطلاقا من هذه المحددات لدلالة الألفاظ وتقييدا، مارس الأصوليون عملية فهم الخطاب الشرعي بحسب الظاهر، سواء على مستوى دلالته بألفاظه العامة أو الخاصة على معانيه اللغوية باعتبار أن الدلالة مرة تكون عموما ومرة تكون خصوصا… أو على مستوى دلالته بألفاظه على معانيه الشرعية أن صيغتي الأمر والنهي اللذين هما عمدة الخطاب الشرعي تردان تارة مطلقة وأخرى مقيدة بقرائن منتزعة من حال الآمر والمـأمور والمأمور به هي التي تحدد -إلى جانب المواضعة والقصد- وجه دلالة الخطاب فتجعل الاقتضاء فيهما يتنوع إلى الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قائمة مصادر البحث
-القرآن الكريم برواية ورش
1 - الإبهاج في شرح المنهاج ط1 - 1404هـ 1984 - دار الكتب العلمية
2 - الإرشاد لإمام الحرمين تحقيق أسعد تميم ط1 - 1405هـ 1985م مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.
3 - ابن حنبل، حياته وعصره - آراؤه الفقهية، للشيخ محمد أبي زهرة - دار الفكر العربي.
4 - الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة للجرجاني تحقيق د. عبد القادر حسين جامعة الأزهر دار النهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة.
5 - البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين تحقيق د. عبد العظيم الديب، دار الأنصار، القاهرة 1400.
6 - البرهان في علوم القرآن للإمام الزركشي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط2 1391هـ 1972م دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت.
7 - تقرير شيخ الإسلام عبد الرحمن الشربيني هامش جمع الجوامع، دار الفكر 1402هـ 1982م.
8 - حاشية التفتازاني على العضد، ط2 - 1403هـ 1983م مصورة عن الطبعة الأميرية 1316هـ دار الكتب العلمية، بيروت.
9 - حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع، دار الفكر 1402هـ 1982م.
10 - الخطاب الشرعي وطرق استثماره إدريس حمادي المركز الثقافي العربي، بيروت 1994.
11 - الرسالة للإمام الشافعي، تحقيق أحمد شاكر.
12 - متشابه القرآن لقاضي القضاة عبد الجبار، تحقيق عدنان محمد زرزور، دار التراث، القاهرة.
13 - المستصفى للإمام الغزالي ط1- مطبعة محمد الحلبي 1356هـ 1937م.
14 - المطول على التلخيص للمحقق التفتازاني، مطبعة أحمد كامل 1330هـ.
15 - المعتمد في أصول الفقه للإمام أبي الحسين البصري، تحقيق محمد حميد الله… المعهد العالمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق 1384هـ - 1964م.
16 - الموافقات في أصول الشريعة للإمام الشاطبي، تحقيق محمد عبد الله دراز -دار المعرفة للطباعة والنثر، بيروت.
الهوامش
1 - الموافقات، 2/67
2 - الموافقات، 3/269
3 - الموافقات، 4/115
4 - سورة الشعراء، 192-195
5 - سورة الرعد، 37
6 - سورة الزمر، 28
7 - سورة النحل، 103
8 - سورة فصلت 44 - الرسالة 47
9 - الرسالة، 50
10 - الموافقات، 3،386
11 - الموافقات، 3/388
12 - الموافقات، 3/368-369
13 - المغنى للقاضي عبد الجبار، 17/17
14 - المستصفى، 1/85
15 - البرهان في أصول الفقه، 1/329
16 - المغنى للقاضي عبد الجبار، 17/16
17 - المغنى للقاضي عبد الجبار، 17/16
18 - الإشارات والتنبيهات في علم البلاغات للسيد الجرجاني، ص 205.
19 - حاشية التفتازاني على العضد، 1/142.
20 - حاشية التفتازاني على العضد، وانظر تفاصيل هذه القرائن في الخطاب الشرعي للباحث من ص: 103 إلى 113.
21 - الرسالة، 51-52
22 - سورة الزمر، 62
23 - سورة إبراهيم، 23
24 - سورة هود، 6
25 - الرسالة، 54
26 - سورة التوبة، 120
27 - الرسالة، 54
28 - سورة آل عمران، 173
29 - الرسالة، 60
30 - سورة الأعراف، 163
31 - الرسالة، 63
32 - سورة الحجرات، 31
33 - الرسالة، 57
34 - الموافقات، 2/64
35 - الموافقات، 2/66
36 - الموافقات، 3/270
37 - الموافقات، 3/269
38 - الموافقات، 3/271
39 - المغنى للقاضي عبد الجبار، ………..
40 - المغنى، 17/13
41 - المغنى، 17/25
42 - سورة سبا/51
43 - سورة الإنسان، 20
44 - البرهان في علوم القرآن للزركشي، 2/219
45 - البرهان في علوم القرآن للزركشي، 2/219
46 - سورة الحجر، 46
47 - سورة الدخان، 49
48 - سورة الشعراء،43
49 - سورة الطور، 16.
50 - انظر حاشية العلامة البناني على المحلي، 1/372 وما بعدها
51 - انظر تقرير شيخ الإسلام عبد الرحمن الشربيني على حاشية البناني، 1/372.
52 - المطول، 354
53 - المطول، 356
54 - سورة نوح، 27.
55 - سورة آل عمران، 107
56 - سورة الشورى، 40
57 - الإبهاج في شرح المنهاج، 1/304
58 - سورة البقرة، 143
59 - سبق أن نبهنا إلى أن مسلك الإمام الشاطبي موافق لمسلك الإمام الشافعي.
60 - الموافقات، 3/288
61 - الموافقات، 3/269
62 - الموافقات، 3/287
63 - الموافقات، 3/287-288.
64 - متشابه القرآن، 34
65 - الموافقات، 2/67
66 - الموافقات، 3/386
67 - المستصفى، 1/96
68 - الموافقات، 3/179
69 - الموافقات، 3/179
70 - الإرشاد 328.
71 - الموافقات/ 3/153.
72 - نفس المصدر، 3/239.
73 - الموافقات، 3/178
74 - الحديث أخرجه البخاري(43) في الإيمان باب أحب الدين إلى الله أدومه
75 - الموافقات، 3/141
76 - الموافقات، 3/135
77 - الموافقات، 3/138
78 - سورة النحل، 90
79 - الموافقات، 3/142.
80 - الموافقات، 3/140
81 - الموافقات، 3/140
82 - انظر الموافقات مع هامشها، 3/140
83 - الموافقات، 2/328
84 - ابن حنبل للشيخ محمد أبي زهرة، 329.
85 - ابن حنبل للشيخ محمد أبي زهرة، 329
86 - المستصفى، 1/27
87 - المستصفى، 1/87
88 - المستصفى، 1/87
89 - المعتمد في أصول الفقه، 1/343.