التّذكر باليد أو اليد ذاكرة
أنس الشعرة
كلما هممت، بسحبِ مبلغٍ من الصرافة (أو أؤدي وظيفة مشابهةً لذلك)، إلاّ وتثيرني مسألة الذاكرة، فافي العادة كنتُ لا أتذكر الرموز السرية لحسابي البنكي (أو رموز سرية أخرى كثيرة)، إلاّ بعدَ أن أبحث عنها في صندوقِ الرسائل، لكن معَ مرور الوقت لجأتُ إلى حيلةٍ آخرى، إذ كلما أقف متسمراً أمامَ الصرافة، أتركُ لأناملي حرية التذكر، فأجد أناملي بكل عفوية مسترسلة، تكتب الرموز السرية لحسابي. في الحقيقة أعفيتُ ذاكرتي من تذكر الكثير منَ الأشياء، وأوكلتُ المهمة إلى يدي وإلى أناملي التي تفعل ذلك باقتدار.
منذ أن تعلمتُ الكتابة على الحاسوب، ازداد تعلقي بلوحةِ المفاتيحKeyboard التي أجدها سهلة الاستعمال وتعبرُ بسرعةٍ عن ما يدور في ذهني أثناء الكتابة، ولربما ميلي الشديد نحو لوحة مفاتيح الحاسوب، يخفي عندي ثغرةَ الكتابة باليد، فمذ كنتُ صغيراً كان خطي رديئاً رغم إصراري التام على تجويدِه، لكني لا أفلح في النّهاية، ولربما هذا جانب نفسي زادني تعلقاً بلوحةِ مفاتيحَ حاسوبي، كلما امتد الزمن بي.
تنهمرُ الأفكار من الذهن نحوَ اليد أثناء الكتابة، فبوساطةِ اليد، أمارسُ عمليتين في آنٍ، أفكر وأكتب، وأكتب وأفكرُ، عملية مزدوجة وجدلية في الآن ذاتهِ، يتبادل الذّهن واليد الأدوار في هذه العملية، إذ تصير اليد آلة مفكرة، تقومُ بكل مهارات الكتابة: من تحليل، ومرجعة، واستنتاج … ويقوم الذهن بلمِ الأفكار والتصورات، فيرسلها نحو اليد لتقومَ بترصيصها وترتيبها وتذكرها.
لا غرابةَ في أن تكونَ الكتابة الرقمية، جزءًا من طبيعةِ تفكيرنا، فالكتابة على الهواتف النقالة، أو الحواسيب وسائر أنواع الرقميات المعاصرة، مكنت أجيالاً من تغيير وظيفة الكتابة وطقوسها، سواء أدركوا ذلك أم لا، فالكتابة بوساطةِ لوحة المفاتيح تمنحُ الفكرة إمكانياتٍ عدة، من خلال الحذف والتشذيبِ وإعادة الصياغة …، فما تفشلُ فيهِ الكتابة بالقلم، تنجح فيهِ الكتابة بلوحة المفاتيح.
بالعودةِ إلى مسألة الذاكرة وعلاقتها باليد، فإنّ المسألة معقدة جداً، ويمكن النظر إليها بإيجاز ومن مستويين:
- المستوى الفيزيولوجي: وذلك من خلال وظيفة الدماغ وطبيعة علاقتهِ بعضو اليد وفي تعالقِ اليد بالأعضاء الآخرى، وكيف تتم هذه العملية على مستوى عالٍ من التنظيم والدقة.
- المستوى الفلسفي: وسيكونُ ذلكَ من خلال هذه الأسئلة التي تستشكل وظيفةَ هذا المستوى، إذ كيف نتذكر باليد عندما نكتب؟ وكيف تعمل اليد على ترجمةِ الأفكار بوساطة الكتابة؟ وكيفَ يمكن أن تصيرَ الذاكرة يداً؟
من خلال هذينِ المستويين، يمكنُ تأطير الصياغة النظرية لليدِ- الذاكرة، أو التذكر بوساطةِ اليد، في المستوى الأول، يتم فهم النشاط الذكراتي واليد في البعد الفيزيولوجي للأعضاء والجسد ككل، إذ يمارسُ الدماغ في هذا المستوى سلطة على اليد. بينما في المستوى الفلسفي، تبدو الصورة معقدةً للغاية، اذ رغم التسليم للعقل بأنّه محل التذكر، إلاّ أن الجسد بأعضائه، يكتسب بوسَاطة التِكرار عادةَ البرمجةprogrammation والتلقي، التي تطورُ أشكال متواترة من عملياتِ التذكر. لذا فاليد عندَ مسألةِ الكتابة أو غيرها تكتسب برمجةَ ذاتية auto-programmation، تجعلها تمارسُ بالبديهةِ عملياتها دونَ أن تحتاجَ إلى الدماغ وحضور عملياته المتمثلة في التذكر وحضور الزمان لتذكر ما تم نسيانه. وبالتالي؛ فإنّ اليد في مثلِ هذه الممارسات تُعفي الذاكرة من وظيفتها الفيزيولوجية الدائمة، لكن ما علاقة كل هذا بالكتابة؟
نمارسُ الكتابة لأغراضَ عدة، من بينها: أنّها حالةٌ نفسية لا يعوضها الكلام والحكي والتعبير الشفهي، فالكتابة هي رغبةٌ في الإفصاح عن شيء قبل أن تكونَ صناعة أو كتابة مهنية-أكاديمية، وما يمارسهُ المرءُ بالكتابة إنما هو ممارسةٌ حرة قبل كل شيء، وكلما تقلصت مساحةُ الكتابة بوصفها ممارسةً حرة، إلاّ وتدخل تحتَ مسمياتٍ معينة، هذا التعويض النفساني بالكتابة، يمارسُ انسجاماً بين ما هو نفساني وعضوي في آن، بوسَاطة اليد التي تكتب وتترجمُ هذه الرغبة النفسانية للكاتب، وإن شئنا توصيفاً لليد من خلال الكتابة سنقول: أنّ اليد تترجم ما في الذهن من أفكار وتصورات، وتعبر عن الرغبات النفسانية الدفينة، التي تخرجُ حيز الوجودِ كتابةً.
إنّ اليد آلةٌ معقدة فيزيولوجياً-فلسفياً، لا يتحدد دورها فقط في الممارسة العضوية الدائمة، بل يكونُ الأمر أعقد كلما نظرنا إليها من جهاتٍ مختلفة، أي من جهات فلسفية، وأدبية، وسوسيولوجية، وسيكولوجية، هذه الأبعاد المتعددة لاستعمالات اليد، تفسر أهميتها، فاليد ذاكرة تختزنُ بعفوية الممارسات التلقائية لصيرورتنا اليومية، وتترجمها إلى نظام علاقاتٍ بينَها وبين الأشياء والآخر والعالم.