العرب والغرب .. بين نظريتي «المؤامرة» و«صدام الحضارات»!

العرب والغرب .. بين نظريتي «المؤامرة» و«صدام الحضارات»!

صلاح سالم(*

ربما كان جوهر التقدم الأخلاقي في التاريخ هو رفض التعصب والعنصرية والإيمان بالحرية والتعددية ولكن الإشكالية الكبرى تثور بإدراكنا لحقيقة أن الأخلاق لا تحقق الأهداف التاريخية وحدها، وإنما تحتاج إلي من يؤمن بها أو حتى يتعصب لها، وهي إشكالية لم ينج منها الغرب وكذلك العرب في العصر الحديث ذلك أنها كانت الدافع الرئيسي إلي ما سيطر علي الطرفين من هواجس متبادلة حول العداء أو الصدام يكشف عنها العقل الغربي منذ عقد ونصف العقد في نظرية (صدام الحضارات) بعد أن كان العقل العربي قد كشف عنها منذ نصف القرن في نظرية (المؤامرة) إذ النظريتين -على الأرجح- ليستا إلا عقدتين حضاريتين تعبران عن نوع من التعصب للذات/الهوية وإن اختلفت ركائزه ومنطلقاته على الجانبين.

فالتعصب الغربي للهوية يأتي عبورا على ركيزة (الحرية) التي أعلنها العقل الغربي وفهمها ومارسها على أنها (حريته) هو التي لا تتوقف عند حرية الآخر خارجة ولا تكترث غالبا بإلهاماته ورموزه، ومن ثم فقد وقع في مأزق التناقض بين الحرية (حريته) وبين التعصب لها ومحاولة فرضها على الآخر الذي أضطر أحيانا إلى (قمعه) أو حتى (إرهابه) واحتلال أرضه باسم هذه الحرية. وقد يكون مفهوما أن يتغنى العقل الغربي بفضيلة (الديمقراطية الليبرالية) بمضمونها الشامل الذي أثمرته تجربة الحداثة في القرون الثلاث الأخيرة، وأفادت منه في إنجاز الحضور الغربي الطاغ في العالم. ولكن غير المفهوم هو أن ينادى بها كمرجعية تاريخية كاملة بحيث تبدو وحدها هي الفكرة المحركة للتاريخ أو المعيار الوحيد الذي يقاس إليه، فهنا يبدأ التعصب وتنفجر نزعة (التمركز حول الذات) التي دفعت به إلى التعامل مع التاريخ بآلية اختزالية إذ أصبح الحاضر بصورته الأخيرة (الزاهية) لدى الغرب هو نقطة انطلاق تاريخه نحو الماضي ليبنى تاريخا غربيا متجانسا ومتواصلا منذ ما يعتبره (المعجزة اليونانية) وحتى الآن، ونحو المستقبل حيث تمثل نظرية (صدام الحضارات) وما يشبهها أو يقاربها من أفكار محض قراءة مشوهة وغائية تهدف إلى الحفاظ على وحدة الغرب وتجانسه في المستقبل وفى ظل لحظة تاريخية اتسمت بالميوعة الاستراتيجية أعقاب تداعى منظومة تحالفات الحرب الباردة.

وفى المقابل يتبدى التعصب العربي على نحو مباشر للهوية باعتبارها (أصالة السلف) حيث تعيش الحضارة العربية إشكالية الخوف من العالم الحديث منذ تفتق وعيها به وما أدى إليه ذلك الخوف من طرح متوتر دائما لطبيعة العلاقة مع منتجيها، أي الغرب، وهو التوتر الذي قاد إلى رفضها صراحة وبشدة من قبل التيار السلفي خشية تأثيرها على الأصالة العربية الإسلامية التي نظر إليها هذا التيار وكأنها (فوق تاريخية). وقد أدى هذا النمط من التعصب للهوية إلى الآلية الاختزالية نفسها في التعامل مع التاريخ عندما قام بتثبيته عند لحظة بناء هذه الهوية في الماضي لينطلق منها إلى رفض كل ما بعدها. وبرغم التشابه القائم بين العقدتين في الركائز والمنطلقات، فإن ثمة اختلافا جوهريا بينهما تصنعه أبعاد ثلاث أساسية تمنح المؤامرة قدرا أكبر من المشروعية، كما تجعل لصدام الحضارات درجة أكبر من الخطورة:

البعد الأول: يتعلق بجوهر (العقدة) التي تصدر عنها كلا منهما حيث تصدر عقدة المؤامرة عن عقده الخوف على (الوجود) لدى الجماعة العربية التي وجدت نفسها في إسار عالم حديث لا تستطيع أن تفرض نفسها عليه، ولا تستطيع في الوقت نفسه الإفلات منه لأنها محاطة به ومن ثم صارت تحركها مجرد دوافع الاستمرار فيه وليس التفوق عليه والحصول على الأمن في جنباته ولو بالتخفي عن الآخر القوى أو حتى القطيعة معه ظنا منها، أو على الأقل، تيار فيها بأن هذا الآخر يتآمر عليها.

وقد نتجت عقدة الخوف هذه بدورها من الطبيعة السلبية لجدلية التطور في السياق التاريخي العربي الإسلامي، فمرحلة الصعود الكبير والممتد لنحو سبعة قرون مرتبطة بنمو الإسلام ارتباطا كاملا وشاملا على النحو الذي يذكى القول بأن الإسلام كان المصدر الأساسي لإلهام الحضارة العربية وسرها الكبير. وعلى العكس تماما كانت جدلية التطور في السياق الغربي حيث نمت الحضارة مع التباعد التاريخي عن مصدر إلهامها الديني، فالمرحلة الحضارية التالية على نمو المسيحية في أوربا كانت أقرب إلى الأفول في نهاية الحقبة الكلاسيكية وخاصة مع سقوط روما. ثم أقرب إلى الانهيار/التخلف طيلة العصور الوسطى وحتى ميلاد العصور الحديثة التي شهدت عودة المنحنى الحضاري إلى الصعود من عصر النهضة وصولا إلى الحداثة ولكن مع استبدال مصادر الإلهام من الدين المسيحي التقليدي (الكاثوليكي/الأرثوزكسى في الأغلب) إلى العلم الحديث المكرس للعقلانية الموصولة بالتقاليد الكلاسيكية اليونانية واللاتينية، والمدعوم بالإصلاح الديني وخصوصا الروح الكالفينية الجديدة في الأساس.

وهنا يمكن القول بعلاقة طردية إيجابية في السياق العربي الإسلامي، وأخرى سلبية في السياق الغربي المسيحي بين الدين والحضارة، والعكس تماما على صعيد العلاقة بين التاريخ والحضارة التي تصير سلبية في السياق العربي، وإيجابية في السياق الغربي فيما يمكن تسميته بـقانون أو مفهوم (التزامن التاريخي/الحضاري) الإيجابي في السياق الغربي والسلبي في السياق العربي حيث شهدت الحضارة العربية تراجعات تاريخية مهمة بعد لحظتي انبثاقها، وإيناعها بقوة الروحانية التي أتى بها الإسلام واستمرت حتى القرن الحادي عشر الميلادي على الأقل، قادرة على إفراز مجتمع عربي متمدين قادر بدوره على إنتاج ثقافة إسلامية متسامحة بلغت ذروتها في عهد المأمون حيث الانفتاح الثقافي والتسامح السياسي والعقلنة الفلسفية التي تجسدت في تبنيه إبان حكمه الذي امتد عشرين عاماً بين 198، 218هـ، لمذهب المعتزلة وإنشاءه لدار الحكمة أو (جامعة المأمون) التي كانت أول مؤسسة علمية للترجمة في الدولة الإسلامية الكبرى عملت أول ما عملت على ترجمة التراث الفلسفي اليوناني وخاصة الأرسطي الذي مثل مصدرا لإلهام الكثير من الفلاسفة المسلمين وخاصة ابن رشد والفارابي وذلك ضمن حركة واسعة للترجمة امتدت من القرن الثاني وحتى الرابع الهجري، قبل أن تأخذ الحضارة العربية منحى الهبوط فآلت إلى الركود لنحو القرنين، ثم أخذت في التراجع بعد ذلك مع تباعدها الزمني عن لحظة الانبثاق/الصعود هذه ربما طيلة القرون السبع التالية.

وقد امتدت مرحلة (الركود الحضاري) بين القرنين الرابع والسادس الهجريين وشهدت تنازع تيارين متناقضين على الثقافة العربية أولهما التيار العقلاني الإنساني المنفتح والذي مثل امتدادا طبيعيا لمرحلة الازدهار في عصر التدوين والترجمة مستلهما لمقوماتها الفكرية والنفسية الإيجابية. وثانيهما التيار السلفي المتعصب والمنغلق الذي تنامي في مواجهة النزعات العقلية تجاوبا مع هواجس متنامية إزاء اختلاطها بالعقيدة الصافية، وظنا بأنها قد تقلل من نقائها، وربما مع الميول السياسية الأكثر رجعية التي تبدت إرهاصاتها منذ عصر المعتصم العباسي، وتنامت بمرور الزمن؛ حيث ساد فقه رجعى متحالف مع نخبة الحكم القبلية ثم الرعوية المنتمية إلى غير جذور عربية والتي فرطت في العدل الذي هو أساس الملك وعاشت على الجباية، وقمعت الاجتهاد فذبل نور العلم ثم مشعل الحضارة.

أما مرحلة (التراجع الحضاري) فبدأت على وجه التقريب مع القرن السادس الهجري الثالث عشر الميلادي بعد أن انتصر التيار التقليدي الاتباعى المتعصب على نقيضه العقلاني المتفتح تماما وبات واضحا أنه أخذ برقاب الثقافة العربية وتحكم كلية فيها ليس فقط في قلب الدولة العربية (العباسية) كما كان في المرحلة السابقة، وإنما في أطرافها أيضا وخاصة بعد رحيل ابن رشد آخر الفلاسفة العرب الكبار في هذا العصر وإحراق كتبه وهجرة ما بقى منها إلى أوروبا اللاتينية، وحيث صار (العلم) في الثقافة العربية لفظة لا تنصرف إلا لمعنى واحد هو العلم الموروث عن النبي e أما ما عدا ذلك فهو إما خارج عن مجال العلم إطلاقا، وإما هو معرفة لا تنفع ولا تستحق التحصيل، بل إن مثل هذه المعرفة الدخيلة التي لا تنفع قلما يقف أمرها عند هذا الحد السلبي إذ يغلب أن تجاوزه إلى ضرر فعلى لأنها كثيرا ما تميل بحاملها إلى الاستخفاف بالدين ودراسته.

وبينما مهدت مرحلة الركود الحضاري للهزيمة العربية أمام الهجمة التترية، فإن مرحلة التراجع الحضاري ترسخت بهذه الهزيمة نفسها وما كرسته من اقتصاد الغزو وحكم العسكر، إذ برغم قصرها نسبياً (1219 – 1258) فإن أثارها كانت شديدة سواء على المستوى العلمي حيث أدت لتدمير كل دور العلم والمكتبات في المراكز الحضارية التي كانت قد انتشرت في العصر العباسي في القاهرة وسمرقند، ودمشق وقرطبة فضلاً عن بغداد التي دمرت فيها دور العلم كاملة ما أدخل المجتمعات العربية إلى عصر طويل من التراجع والضعف والتخلف استمر حتى بدايات أو محاولات النهضة العربية الثانية في مطالع القرن التاسع عشر.

وفى المقابل تصدر عقدة صدام الحضارات عن شعور عميق بالخوف على التفوق الغربي الذي راكمته قرون الحداثة ومحطاتها الكبرى: النهضة، حركة الكشوف الجغرافية، والإصلاح الديني البروتستانتي، والتنوير، والثورة الصناعية والتي صاحبها -في السياق الغربي- نمط جديد من الوعي بالعالم جوهره الانشغال الكوني وليس المحلي أو الإقليمي حيث يشهد الوعي بوجود الآخر طفرة تاريخية، ويبرز دوره الطرفي أو الهامشي، أساسيا، في إطار صياغة النظام العالمي الواسع للحداثة.

ويمكن الادعاء هنا بأن عقدة الصدام ليست بعيدة عن صيحات التشاؤم التي أطلقها بعض فلاسفة الغرب ومفكريه المحدثين من أوزوالد أشبنجلر وحتى روبرت كينيدى، من احتمالات الاضمحلال والأفول والسقوط وجميعها تستبطن فكرة (النهاية) أي نهاية التفوق الغربي وليس نهاية الوجود وإن بدت عليها، بقدر غير مسبوق في هذه الأفكار جميعا، ملامح الدعائية والنفعية ربما لأنها ناشدت الوجود الاستراتيجي للغرب الذي بلغ أفق العالمية من منظور الجغرافيا السياسية منذ القرن السادس عشر، ومن منظور الجغرافيا الحضارية منذ القرن الثامن عشر.

فعلى صعيد الجغرافيا السياسية برز الوعي العالمي الذي عبر عنه بإفصاح السير (هالفورد ماكيندر) في مطلع القرن العشرين بقوله: بعد أن ولي عصر كولمبوس، بات علينا أن نتعامل مع نظام سياسي محكم يتسم بنظرة شمولية تغطي الكرة الأرضية كلها، ذلك لأن كل إرهاصة للقوي الاجتماعية في أي ركن من أركان المعمورة لن يقتصر صداها علي مدار محيط نقطة انفجارها وإنما سوف يتجاوزها إلي أقاصي الأرض. وهذا الانشغال الكوني بالعالم لدي ماكيندر هو مبرر وأساس منهج النظم العالمية حيث يفترض هذا المنهج وجود نظام عالمي راهن كوني النطاق بحيث تصبح البلدان المختلفة مجرد أجزاء أو عناصر في بنيته الأكبر والأكثر رحابه بحيث يصبح من الصعب علينا أن نتفهم ما يقع من تحولات في مجتمع ما إلا من خلال الإطار الأوسع أي النظام العالمي الحداثي في كليته.

وعلى صعيد الجغرافيا الحضارية سعت المركزية الغربية دوما إلى تأكيد نفسها والدفاع عن مبرراتها منذ القرن الثامن عشر، ولكن من دون أن تتوقف التحولات العميقة داخل هذه المركزية أي في تجاويف الغرب نفسه كنتيجة لتغيرات مضطردة قادت إلي ما يمكن تسميته (انهيار الهيمنة). وانهيار الهيمنة لا يبدو أمرا استثنائيا حسب منهج النظم العالمية إذ أنه أمر تكرر كثيرا في دورات متعاقبة كنتيجة شبه منطقية لتراكم عوامل للقوة/الصعود، ثم انحدار هذه العوامل سواء لدوافع داخلية تقود إلي الضعف المطلق، أو لدوافع خارجية تقود إلي الضعف النسبي قياسا إلي الصعود الكبير في قوة الآخرين من حول مركز الهيمنة ولذا شهدت الحقبة الحديثة صعود ثم أفول الهيمنة الهولندية بعد الإسبانية/البرتغالية، وقبل الهيمنة البريطانية/الفرنسية، ثم الأمريكية/السوفيتية، وحتى الأمريكية المنفردة في الوقت الراهن.

ولعل هواجس انهيار الهيمنة تلك هي الدافع الأساسي للعقل السياسي الأمريكي في العقدين الماضيين إلى إطلاق هذه النظرية تكتيلاً للغرب ضد باقي العالم، وخلف الولايات المتحدة باعتبارها حيوية الغرب الكبرى، القادرة على الدفاع عنه وحفظ مركزيته في مواجهة الآخرين البرابرة، حيث يقع الآخر العربي في المقدمة لأسباب تاريخية/ثقافية تخص الغرب كله، وأسباب استراتيجية/اقتصادية تخص الولايات المتحدة بالذات.

والبعد الثاني: يتمثل في العمق التاريخي لكلتيهما، أي بطول المدى التاريخي من ناحية وحضور الخبرة التاريخية من ناحية أخرى وهنا تتفوق نظرية المؤامرة على نظرية الصدام حيث تمتد بطول العصر الحديث تقريبا مستبطنة لهواجس الحضارة العربية إزاء تقاليده وأبنيته الجديدة (الحديثة). ورغم أن كثيرا من الكتابات التي تعلى من حضور نظرية المؤامرة وتتخذ منها منظورا تحليليا كثيرا ما ترجع بها أو تبررها بالحملات الصليبية الأوروبية على الشمال العربي الإسلامي فيما بين القرنين الحادي والثالث عشر الميلاديين كخبرة صراعية كاملة ودالة على العداء الديني إذ تنطلق باسم الصليب المسيحي على الهلال الإسلامي، إلا أننا لا نتوقف عند الخبرة الصليبية إذ لا نعتبرها جذرا طبيعيا لعقدة المؤامرة حسب المنهج الذي اتبعناه والذي يربطها بهاجس الخوف على الهوية العربية الإسلامية من تقاليد وأبنية العالم الحديث الذي عصف بها من موضع التفوق عليها، وهو أمر لم يتضح قبل القرن الرابع عشر على الأقل. فحتى هذه الأثناء لم يكن المسلمون يبدون اهتماما يذكر بالمسيحية ومن الأمثلة على ذلك الرحالة العظيم ابن بطوطة (ت 1370) زار كل مكان عدا أوروبا، ما يشير إلى اقتناع المسلمين بتفوقهم وبأن ليس لأوروبا ما تقدمه لهم.

حسب هذا الفهم تبقى الخبرة الصليبية -على أهميتها- واقعة في إطار بنية العصر الوسيط وبالذات في المرحلة الأخيرة منه والتي تكاد تشهد تكافؤا حضاريا بين الجانبين في القرنين الواقعين من ناحية ضمن مرحلة التردد الحضاري العربي الواقعة بدورها بين مرحلة الازدهار في القرون الأربع السابقة عليها، ومرحلة الركود الحضاري الممتدة بعدها لنحو سبعة قرون، ومن ناحية أخرى على مشارف المرحلة المدرسية والتي سبقت مباشرة عصر النهضة الأوربية حينما بدأ المنحنى الحضاري في الانقلاب، أو حسب منهجنا هنا حينما بدأ قانون التزامن التاريخي الحضاري في ممارسة نفوذه السلبي في السياق العربي، والإيجابي في السياق الغربي. وبمعنى أوضح تقع الخبرة الصليبية في المنطقة العمياء أو المساحة الخطية العارضة على المنحنى الحضاري بين الثقافتين الكبيرتين ولذا لم تكن تشكل تهديدا من وجهة نظر العرب المسلمين لوجودهم نفسه أو هويتهم الحضارية كاملة من قبل الغرب الأكثر تحضرا وتفوقا على النحو الذي يشعرون به الآن ويحفز لديهم عقدة المؤامرة، وهو التفوق الذي لم يتضح أمام العرب المسلمين إلا بمجيء نابليون بمطبعته ومدفعه ملهما ومهددا، وإن كان قد تبدى قبل ذلك بقليل للخلافة العثمانية وهى تصارع الأوربيين وخاصة الإمبراطوريتين النمساوية المجرية، والروسية منذ الربع الأخير للقرن السابع عشر. كما أنها لم تنجم عن شعور الغرب بتهديد مركزيته وتفوقه اللذين لم يرسخا إلا مع القرن الثامن عشر وحتى الآن.

وحسب هذا الفهم يمكننا اعتماد مدى تاريخي لنظرية المؤامرة قوامه ثلاثة قرون تقريبا وقعت في إطاره أكثر من خبرة سلبية على رأسها خبرتان أساسيتان تمثلان قمة تناقضات الغرب الواقعية مع تقاليده الحديثة (الكلاسيكية) في لحظتين مهمتين؛

الأولى بدرجة الخطيئة وهى اللحظة التي شهدت واقعة استعماره لشرقنا العربي الإسلامي بحجة التبشير بالمدنية وفى الحقيقة تعصبا منه لهذه المدنية وتكريسا لتفوقها. والثانية منح اليهود وطنا في فلسطين من قبل الغرب.

وفي المقابل يصعب قصر مدى عقدة (صدام الحضارات) على نحو العقد منذ طرحها هانتينجتون في صيغة نظرية صريحة وواضحة ونفعية. كما يصعب في الوقت نفسه إرجاعها إلى الأدبيات المسيحية في العصر الوسيط والتي تحفل بكثير من التصورات السلبية عن الإسلام أو ما كانت تسميه بـ(الديانة المحمدية) وكذلك عن المسلمين أو (المحمديين) وهى تصورات راوحت في الحقيقة بين أمرين:

الأول هو إنكار الديانة الإسلامية من الأصل واعتبار الرسول محمد e مدع للنبوة لا قيمة له إلا إجادة الهرطقة، فالإسلام ليس إلا طبعة محرفة من المسيحية، والقرآن ليس إلا تشويها للأناجيل. وهكذا فإن الإسلام لا يعدو انشقاقا جديدا عن المسيحية وليس دينا قائما بذاته وكان ممن رأوا ذلك يوحنا الدمشقي، الذي كان مسؤولا كبيرا في الجهاز الإداري الأموي، والذي رأى أن الإسلام مستمد من الإنجيل، وان المسلمين، في شكل أو آخر، قد (سرقوا) بعض تعاليم الإنجيل. والثاني هو اتهام المجتمعات الإسلامية بالتخلف والقسوة رغم فترات التعايش الطويلة بين الطرفين حينما عاش النصارى كأهل كتاب متعاهدون أو ذميون داخل الحضارة الإسلامية وخاصة في مصر والشام. ومن وقائع التاريخ التي تبرزها قضية يوحنا الدمشقي مثلا استمرار المسيحيين في أعلى وظائف الدولة الإسلامية الوليدة، التي كانت بحاجة إلى خبراتهم لإدارة البلاد. بل واتخذ هذا التعايش طابعا إيجابيا في غير قليل من المراحل التاريخية وخاصة في مرحلة الانفتاح الثقافي العربي بعد إنشاء دار الحكمة ونمو حركة الترجمة التي أطلقتها وكان للنصارى الدور الكبير فيها لإجادتهم اللغات السريانية واليونانية بجانب العربية التي قاموا بترجمة الكثير من عيون التراث اليوناني إليها. وكذلك في ظل انتعاش حركة الفتوح العسكرية إبان الصعود الحضاري العربي الكبير حيث كانوا يتولون العديد من المناصب السياسية والعسكرية، وطالما أبلوا فيها بلاءً حسنا.

ومع القرن الحادي عشر، وانقسام الإسلام إلى سلالات حاكمة سنية وشيعية ووفود السلجوقيين الأتراك على المنطقة، إضافة إلى بداية الحملات الصليبية دخلت عناصر جديدة على الصورة، وبعد أن كان العرب المسلمون هم سادة الموقف الذين يحددون وتيرة التفاعل بين الطرفين، واتجاهاتها بدأ الميزان في الاعتدال وأخذ يتجه إلى التكافؤ في الفترة الممتدة بين القرنين الحادي والخامس عشر وإن مال أحيانا وبشكل نسبى إلى طرف منهما، وأحيانا أخرى إلى الطرف الآخر. فبين عامي 1050 و1300 نجد مجيء وذهاب السيطرة المسيحية على سورية وفلسطين، واستعادة صقلية وغالبية أسبانيا والبرتغال. وكان التطور الأهم هو الحلول التدريجي للسيطرة التجارية المسيحية في حوض المتوسط محل السيطرة الإسلامية/اليهودية/الإغريقية. وجاء الارتباط بين تجارة المتوسط والتجارة البحرية لشمال أوروبا، وما كان للأخيرة من تقدم مالي وعلى صعيد البنية التحتية، ليؤدى إلى الرأسمالية التجارية الأوروبية التي توصلت لاحقا إلى السيطرة على العالم.

وفى هذا السياق من الصعب إطلاق التعميمات على طبيعة العلاقات بين المسلمين والمسيحيين لأنها حملت تنوعا كبيرا حسب الزمان والمكان فكان هناك بالتأكيد التعايش والعلاقات بين الطرفين، لكن العلاقات لم تتسم دوما بالتناغم. فقد تعايشت الجاليات الدينية جنبا إلى جنب لكن دون اختلاط في أحيان كثيرة. وربما نشأ حيز التعامل التجاري والثقافي بمعناه الأعم بينهما خلال الحروب الصليبية فكان الأكثر إثمارا، لكن ذلك لا ينطبق على الحيز الديني نفسه. فالمسيحيون لم يستطيعوا، في المراحل الأولى، سوى النظر إلى المسلمين باعتبارهم الغزاة المسيطرين، فيما لم يُبد المسلمون اهتماما يذكر بالمسيحية. أما بالنسبة للاهوتيين الأوروبيين فقد تنامى لديهم لاحقا الاهتمام بالإسلام، بسبب الحاجة إلى فهم تلك الديانة الأجنبية قبل التمكن من تطوير الردود عليها.

وبرغم وجود هذه التصورات السلبية الباكرة يصعب الادعاء بأنها تمثل جذرا تاريخيا مستمرا لنظرية صدام الحضارات تلك التي يحفزها كما أسلفنا عقدة الخوف على (التفوق) الغربي خشية زواله، وليس على (الوجود) الغربي نفسه ولا شكَّ أن الأخير هو الذي حفز هذه التصورات السلبية الأولى إبان التفوق الحضاري الإسلامي الكبير وحينما كانت صورة الإسلام في الغرب تشكل تهديدا عسكريا حقيقيا، وكان عالم المسيحية أو عالم المتوسط بأسره وقتها يعتقد بأنه يقع تحت خطرين رئيسيين، جيوش الخلافة من جهة والقرصنة البحرية من الثانية.

وهنا يمكننا الادعاء بأن عقدة صدام الحضارات -على الأرجح- تضرب بجذورها العميقة في (نزعة التمركز الغربي حول الذات) والتي سايرت الغرب وألهمته كثيرا من رؤاه، ومواقفه منذ بدأ رحلة صعوده الحضاري الكبير في العصر الحديث الذي قام علي ظاهرة المركزية الأوربية كأساس وليس كاستثناء، حيث بلغ الوجود الاستراتيجي للغرب أفق العالمية وظل متناميا بعد ذلك وصانعا للنظام العالمي الواسع للحداثة. ومنذ هذا التاريخ لم يعد ثمة اختلاف لدى الوعي المتمركز على التمييز الوجودي بين الغرب وبقية العالم، فالحدود الجغرافية والثقافية الفاصلة بين الغرب وهوامشه غير الغربية تبلغ من حدة الإحساس بها وتصورها في ثقافة الغرب درجة أننا يمكن أن نعتبر هذه الحدود مطلقة. ويرافق سيادة هذا التمييز ما يسميه يوهانسن فابيان (نكران التعاصر) في الزمن وانقطاع جذري على صعيد الفضاء الإنساني. إذ من ناحية تنامى تدريجيا حدة النرجسية الأوربية لتشكل إيديولوجيا متكاملة ادعت عبر توليفات نظرية وتحيزات علمية تبلغ حد التزييف بسمو الغرب عرقيا ودينيا وفكريا بل بوحدته واستمراريته منذ بداية تاريخه بالمعجزة الفلسفية اليونانية وحتى الآن متمتعا بالطهر المعرفي والنقاء العرقي‏. ومن ناحية أخرى تنامي حدة الروح الاقصائية للغرب فلم يتوقف عند حدود إنتاج صورة نقية لذاته، بل تجاوزها إلى حدود تركيب صورة مشوهة للآخر، إذ نظر إلى العالم خارج نطاق أوربا بوصفه سديماً غامضاً، وبدائياً وخاضعاً لعلاقات اجتماعية تحتاج إلى تهشيم قبل أن يتم نشر الفضيلة والأخلاق والعقل فيه.

ويقوم خطاب (هيجل) كدليل على هذه الرؤية المشوهة للآخر، إذ يرى الأفريقيين والآسيويين أشد التصاقاً بالدونية التي تميزهم في كل شيء عن الغربيين، أما السكان الأمريكيون الجنوبيون فقد اعتبر هشاشة التكوين الطبيعي لبلادهم كافية للترفع عن الحديث عنهم. وعلى هذا النحو جرى تثبيت نظرة دونية للآخر سرعان ما أصبحت فلسفة لها بعد اجتماعي وسلوكي أدت إلى انقسام في الفكر الإنساني، فثمة عرق منح التفوق والرفعة والسمو واحتكر الحقيقة بكل أبعادها وثمة عرق آخر أختزل إلى الحضيض والدونية التي تجعله يعيش دائماً إحساسا بالمديونية الأخلاقية والثقافية والدينية للآخر وهو ما أفضى إلى مزيد من اليأس والخذلان وإفراغ الأنساق الثقافية من مضامينها والإجهاز عليها وغزوها بمضامين أنتجتها ظروف تاريخية مختلفة وهي لذلك لا تحقق نهضة هذا الآخر ولا تقدمه وإن كانت تزيد من تغريبه واغترابه.

وعبر بناء نرجسية الذات، وتشويه كل ذات أخرى في نزعة هجومية واضحة، تمكنت نزعة التمركز الأوربي من التحكم في إيقاع الفكر العالمي كله قبولا أو رفضا، فحتى عندما يجادل مفكرون من خارج الغرب معارضون للمركزية الغربية، فإنهم عادة لا يستطيعون نفي تفوق أو هيمنة أوربا كحقيقة تاريخية في هيكلة النظام العالمي للحداثة، وإن حاولوا تفسيرها بدوافع مختلفة عن تلك التي ترتكز إليها بحيث لا تبدو هذه الدوافع عنصرية مرتبطة بفضائل خاصة أو رقي ذاتي في العقلية الأوربية وحدها أو بتراكم ثقافي حضاري تم داخل تاريخها وحده وعلي نحو مستقل عن الآخرين.

أما البعد الثالث فيتعلق بـ(الحامل الثقافي) للعقدتين الحضارتين، فنظرية المؤامرة تقوم بالأساس على التيار السلفي الأكثر انغلاقا في الثقافة العربية والذي يبدى موقفا مناوئا للحداثة الغربية ويرفض تحويلها إلى مصدر الهام للذات العربية وذلك لوجود تناقض أساسي في رؤية كل منهما للوجود، بقدر ما يرفض أن يكون الغرب رقيباً على ممارساتنا السياسية أو حتى معياراً لها تقاس به صحتها، ولذا فهو يدعو إلى تأسيس نظام حياة شامل بديل لذلك الذي تؤسس الحداثة الغربية.

ويفسر هذا التيار كل أزمات المجتمعات العربية الإسلامية بوجود (آخر) لابد وأن يكون مناوئا لأهداف الجماعة الإنسانية على نحو يبرر تاريخياً وواقعياً اتهامه بالعداء وهو الأمر الذي يجعل إسرائيل ثم الغرب الصورة المثالية لهذا العدو المتآمر (الشيطان) ويفسح المجال إلى نمو نظرية المؤامرة في الثقافة العربية استنادا إلى المشروعية التي توفرها أحياناً وبأقدار مختلفة لهذا التيار تلك التحيزات الغربية ضد القضايا العربية على الساحة الدولية وبالأخص الصراع العربي/الإسرائيلي في القرن العشرين.

غير أن هذا التيار يواجه برفض قاطع من رافد نحيف هو الباقي من تيار المعاصرة الذي كان متدفقا أوائل القرن الماضي، وهو التيار الذي يرى الغرب مثاليا وملهما لدى تيار (المعاصرة) الذي يعلى تماما من منطق العقل ويكاد يتعالى على منطق الروح ومن ثم فهو يقبل بالغرب ملهماً لممارساتنا الكلية ويعطيه حق الرقابة على سلوكياتنا السياسية وينزع إلى تقويم واقعنا السياسي بمعاييره وقيمة حتى لو بدت تعسفية في بعض الأحيان، بل يصبح الغرب لدى هذا التيار آلية تصحيح للأوضاع المختلة حسب هذه المعايير وخاصة الديمقراطية وحقوق الإنسان.

كما يواجه بتحفظ كبير من قبل التيار التوفيقي العريض الذي يرى في الغرب أحد روافد إلهامه الثقافي ولكنه يرفض وضعه كرقيب على ممارساته السياسية أو كحلقه وسطى في تفاعلاته الداخلية، ليس فقط لأنه يحوز هواجس إزاء الغرب كمنافس تاريخي على امتلاك زمام الحضارة الإنسانية تدفعه إلى عدم الثقة الكاملة به، وإنما أيضاً لأنه يدرك طبيعة الاختلاف بين كثير من الهامات الثقافتين العربية والغربية عند الجذور -أي على مستوى الرؤية الوجودية- وإن بقيت إمكانية للتوفيق على الأصعدة العملية كأنماط الإنتاج الاقتصادي والتنظيم الاجتماعي والممارسة السياسية. فهو إذن يصوغ رؤية ثقافية متوازنة للغرب لا تنحرف به إلى الملائكية أو الشيطانية وإنما تحتفظ له بصورته الإنسانية (العادية).

وفي هذا السياق تصبح ذهنية/عقدة المؤامرة في الفضاء العربي أقرب إلى كونها (حالة وجدانية) أو (نفسية) منها إلى موقف استراتيجي واع حيث يعانى التيار السلفي العربي من ضعف الحضور العربي في العالم، وضعف التمثيل في الثقافة العربية (الرسمية) إذ لا يقوم فيها إلا بدور المعارضة نظرا لوقوعه أسفل التيار العريض الواسع فيها وهو التيار التوفيقي الذي تدعيه معظم التجارب والبناءات السياسية العربية في القرن العشرين.

وفي المقابل تتأسس عقدة الصدام على خليط من رؤى لمؤسسات استراتيجية، وادعاءات تروجها ميديا واسعة الانتشار بالغة التأثير تنزع إلى الاختزال والتعميم لتبرير الاتهام واثبات الإدانة، وبعض المفكرين العنصريين الذين يستلهمون أفكار المركزية الغربية أو بالأحرى يمثلون امتدادا لها وتسم أدبياتهم الرائجة ثقافتنا العربية بكل نقيصة على منوال هانتنجتون، وكذلك فوكوياما الذي اتهمنا صراحة بشذوذ المزاج الثقافي والنزوع العدمى نحو الفاشية وذلك في مقاله الشهير (إنهم يستهدفون العالم المعاصر) وبرنارد لويس المستشرق الكلاسيكي الذي طالما وقع في إسار التفكير النمطي المنبثق من قوالب جاهزة أو تقاليد موروثة تستبطن أغلب أعماله والأخيرة منها على وجه الخصوص (ما الخطأ في الحضارة الإسلامية) و(أزمة الإسلام: الحرب المقدسة والإرهاب غير المقدس) إذ يندفع فيها إلى مجاراة المكارثية الجديدة المتنامية ضد المسلمين لدى الرأي العام وفى دائرة القرار الأمريكي معا، وكذلك دانيال بابيس الأكثر تعصبا والأقل علمية من أستاذة لويس والذي تصب أغلب أعماله وخاصة كتابه (الإسلام المسلح ينال من الولايات المتحدة) في مجرى تيار صدام الحضارات، وغيرهم كثيرون أمثال بات روبرتسون، وجيرى فالويل في أمريكا، وأوريانا فالاتشى في ايطاليا، وميشال ويلبيك بفرنسا، ومارتن أيميس في انجلترا.

ولاشك أن هؤلاء لا يمثلون العقل الغربي كله لا في دوائره النزيهة سياسيا أو المنفتحة ثقافيا -حيث يوجد تيار نقدي واسع في الثقافة الغربية يمتد من كنط ودعوته إلى الحكومة العالمية، وحتى نعوم شومسكى أكبر ناقد للادعاءات الأمريكية المثالية في سياستها الخارجية وخاصة الديمقراطية وحقوق الإنسان- ولكنهم في الوقت نفسه يصنعون ما هو أقرب إلى (مزاج استراتيجيي) واع بأهدافه وأقدر على تحقيقها من مثيله الحامل لنظرية المؤامرة مستفيدا أولا من قوة حضور الغرب عموما في عالمنا المعاصر، وثانيا من موقعه المتقدم والمؤثر في تيار التمركز داخل الثقافة الغربية، وهنا مكمن الخطر الحقيقي إذ على العكس من التيار السلفي العربي الذي لا يملك إلا حرية تصور العالم فإن الأول يملك حرية تصوره، وتصنيعه استراتيجيا في الوقت نفسه.

**************

*) باحث من مصر.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=632

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك