الولع الغربي بالشرق
عبد الله إبراهيم
بقيت الصحراء العربية، ومجتمعاتها في شبه جزيرة العرب، مدة طويلة، سرًّا غامضا بالنسبة إلى الغربيين، وكما سعوا إلى استكشاف العوالم خارج المجال الأوروبي في مطلع العصر الحديث، ونتج عن ذلك سيطرتهم على معظم أرجائها، فقد توجّه إلى صحارى العرب كبار رحّالتهم متوسّلين وصف تضاريسها، ورسم خرائطها، ومعرفة القبائل التي تستوطنها أو تترحّل في ربوعها، بهدف مدّ النفوذ الاستعماري إليها، فكان أن تأدّى عن ذلك ما أمسى يُعرف بـ "الولع الغربي" بالصحراء العربية، إلى درجة لا يكاد يُعترف برحّالة قصد العالم الشرقي، إن لم يكن قد مرّ بأطرافها، أو توغّل فيها، وخالط أهلها، ووصف أحوالهم، وقدّم حكمه عليهم.
يعود أمر "الولع" بالشرق إلى حقيقة مؤدّاها جهل الغربيين به، وكل نقص يروم الاكتمال حتى لو لزم الأمر تزوير الحقائق، وإعادة إنتاجها لإشباع ذلك النقص؛ ففي سياق تشكيل هوية الغرب في الأزمنة الحديثة وجب بسط المعرفة الغربية على العالم، وشموله بها، ثم امتلاكه، وكان الشرق نائيا، وشبه ممتنع، فأصبح موضوع إغراء للبحث، والاكتشاف، والتخيّل، والامتلاك، وطبقا لـ "راشد شاز"، فإن جهل الكتّاب الغربيين، ومنهم الرحّالة، بأرض العرب، وسكّانها، وأخلاقهم، وعاداتهم، دفعهم إلى رسم صورة لشعوب تلك الأرض "من صنع خيالهم"، وهو أمر يتوافق مع أطروحة "إدوارد سعيد" في اختلاق المستشرقين للعالم الشرقي تستجيب لتخيلاتهم، ولا تتوفّر على معايير رسم صورة موضوعية له تطابق حاله، ومع التوسّع الإمبراطوري، ولا سيما في القرنيين الثامن والتاسع عشر، أصبحت معرفة أرض العرب، ولاسيما الصحراء، ومَنْ يعيش عليها "ضرورة ملحّة" كما قال شاز، حيث انطلق الرحّالة في سباق مع الحملات العسكرية لجمع نبذ متناثرة من المعلومات عن مجتمعات الصحراء كثير منها منقطع عن سياقاته التاريخية والثقافية.
صاغت المركزية الغربية التخيّلات الذهنية، والمشاعر النفسية، والمواقف الثقافية، للرحّالة، فدوّنوا انطباعات، وأصدروا أحكاما عن عالم غريب عنهم، وكانت تعوزهم المعرفة التفصيلية بمعتقداته، وعاداته، وأعرافه، وشاعت دعاوى هشّة حوله أبعدت ما ينبغي أن تكون المعرفة المعمّقة به، وما لبث أن "نما اعتقاد يرى أن الغرب يعرف عن الشرق أكثر مما يعرفه أهل الشرق عن أنفسهم"؛ فمعظم الرحّالة كانوا يحيلون على أعمالهم، باعتبارها مستودعا للمعرفة الحقّة بأهل الصحراء، ولم تكن سوى شذرات مجتزأة من انطباعات متعجّلة، واعتُبر الوصف الغربي هو الصائب، وفضلا عن ذلك، فكثير من الرحّالة، مثل "بيرتون" و"لورنس" و"فيلبي" و"مس بيل" انخرطوا في خدمة الإدارة الاستعمارية. وليس من المستغرب أن تكون كشوفاتهم الجغرافية، وأوصافهم المسهبة للمجتمعات الصحراوية، دليل عمل لتلك الإدارة في بسط نفوذها، وقد تبوّأ بعضهم وظائف رفيعة، وأسهموا في تشكيل الممالك الجديدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكان تأثيرهم كبيرا في الحفاظ على المصالح الإمبراطورية، فرؤيتهم للشرق انتظمت في سياق الرؤية الاستعمارية لعالم وجب معرفته، ثم غزوه، وامتلاكه، وإدراجه في سياق التاريخ الغربي.
حاولت الإدارات الاستعمارية الغربية، في أول عهدها، إغراء كثير من المستشرقين والرحّالة والمستكشفين للعمل في خدمة سياساتها الإمبراطورية، إذ كان اكتشاف الشرق شبه متعذّر إلا بمعونة من ذوي الدراية بشؤونه الدينية والعرقية والجغرافية، ولم يخامر تلك الإدارات أي شكّ في أن انخراطهم في مساعدتها إنما هو مساهمة أخلاقية يقدّمها رجال عارفون بشؤونه، فرأت أن تنصبّ جهودهم في خدمتها نظير دعم يقدّم لهم للشروع في جمع المعلومات، وإعداد الخرائط، وكتابة التقارير، ومباشرة الارتحال في تلك الأصقاع النائية، فكان أن ظهرت مدوّنة ضخمة شكّلت لبّ الأرشيف الاستعماري، قدّمت تمثيلا للصحراء وساكنيها، ولطالما نظر لأدب الرحلات الغربية "باعتباره دليلا للجغرافيا الإقليمية وتاريخا للاستكشاف"، وذلك يفسّر جانبا من ارتباط الارتحال بالحركة الاستعمارية في العصر الحديث؛ إذ تشكّلت معرفة الغربيين بالصحراء وأهلها على خلفية من سوء التفاهم، والتحيّزات الثقافية، ونقص المعلومات، وانخرط كثير من الرحّالة في خدمة الإمبراطوريات بنوازع علمية واستخبارية، وندر أن تجرّدوا من الحمولات الاعتقادية لثقافاتهم، والسياسات الاستعمارية لبلادهم، ولم تبْرأ من ذلك إلا قلة قليلة من الرحّالة، كانت الصحراء مهربا لها من ضيق العالم الغربي، وفضاء للتأمّل، والاستغراق في لذة الاكتشاف، والانقطاع عن مجتمعات اندرجت في علاقات مادية مرهقة، وغاب عنها الدفء الإنساني.
حفّز الطلبُ الملحّ بمعرفة الآخر، التي كانت موضوع حاجة ماسّة للإمبراطوريات الغربية، ذهاب كثير من الرحّالة الغربيين إلى الصحارى العربية، فقد أقرّ الإيطالي "فارتيما"، الذي وصل مكّة متنكرا باسم "الشيخ يونس" في حوالي عام 1503م، بأن رحلته إلى شبه جزيرة العرب جاءت استجابة "للرغبة الجامحة في المعرفة"، وهي معرفة عن مجتمعات مجهولة لديه أراد وضعها في خدمة التاج البرتغالي الذي كان مشغولا، في تلك الحقبة، بالسيطرة على الشرق، ومنه حواشي شبه الجزيرة العربية، إذ كان فارتيما "يعمل لحساب ملك البرتغال الذي موّل رحلته، والذي قدّم له نائبه في الهند براءة الامتياز والفروسية، وضمّه إلى جيوشه المحاربة". وفي ضوء هذا، تلقّى تكليفا للكتابة عن "عادات الشعوب، وكتابة تقرير عن جيوشها، وحصر منتجاتها الزراعية والصناعية، ولاسيما ذات القيمة التجارية العالمية".
أما "دومينغو باديا" الإسباني الذي أحاطه الغموض، حيثما ارتحل مذ نزل المغرب في مطلع القرن التاسع عشر، منتحلا نسبا يعود للعباسيين، وحاملا اسم "علي باي العباسي"، فقد كان "عضوا فاعلا في خطّة دولية" للسيطرة على الأجزاء العربية من أفريقيا وآسيا، إذ شرع يكتب تقارير سرية رفعها للمسؤولين الإسبان، ثم الفرنسيين بعد ذلك، يغريهم ببسط نفوذهم في بلاد المغرب والمشرق على حدٍّ سواء. وجاراه في ذلك معاصره الألماني "سيتيزن" الذي أمضى وقتا طويلا في إعداد نفسه لزيارة الشرق، وانتحل اسما هو "الحاج موسى"، وارتدى زيا إسلاميا، وزار مكة، ثم التهمته شعاب اليمن في عام 1811م، فقد كانت مهمته "إرسال التقارير إلى القيصر الروسي عن الوضع العسكري في آسيا الوسطى التي وقفت في وجه التوسع الروسي". وللهدف نفسه ارتحل السويسري "بوركهارت" بداية من عام 1814 باسم "الحاج إبراهيم" إلى شبه الجزيرة العربية لحساب الجمعية الجغرافية الأفريقية المموّلة من "إدارة المستعمرات البريطانية لغرض التعرّف إلى المناطق قبل محاولة احتلالها واستعمارها". أما الانجليزي "بيرتون" الذي خدم ضابطا في استخبارات الإدارة الاستعمارية في الهند، وزار الحجاز متنكرا برحلة حجّ في عام 1855، باسم "الحاج عبدالله"، فلم يخف تطلّعه إلى مدّ النفوذ البريطاني إلى شبه الجزيرة العربية، وعلى هذا "قدّم اقتراحات كثيرة حول اكتساب البدو وحفزهم إلى خدمة الإمبراطورية، حيث يمكن أن يكوّنوا فرقة ممتازة من المشاة". ووصف بأنه كان "إمبرياليا بلا حدود، يسعى إلى خدمة إمبراطوريته ورفعة شأنها وزيادة مستعمراتها". هذا غيض من فيض الرحّالة الذين صاغوا صورة الشرق في المخيال الغربي بخليط من طموحات شخصية وغايات سياسية مدفوعة برغبات الإمبراطوريات الغربية من أجل بسط نفوذها في العالم الشرقي.
توغّل الرحّالة الغربيون في بلاد الشرق بوصفهم غرباء تنكّروا بأسماء وهمية، وفي جوّ مسكون بسوء من تفاهم عقائدي يصبح وجود الغريب خطرا عليه وعلى غيره. ولعل الولع قرين الخطر، ومن ذلك فقد فسّر "فيلبي" حال التوجس من الغرباء وكرههم إلى "الحقيقة البسيطة التي مؤدّاها أن هؤلاء العرب، وهم ينعمون بالاستقلال منذ أيام الإمبراطورية الحميرية القديمة، ليس لديهم رغبة في أن يتسلّط عليهم ويحكمهم أجانب، غرباء عن جنسهم وغرباء عن دينهم. فبالنسبة إليهم الاختراق الأجنبي مرادف للاستغلال...والأجنبي يأتي للتجسّس على أرضهم لصالح مَنْ بالخارج، ولضمان إن كانت جديرة باهتمامه". وعلى هذا خيّم الخوف على معظم الرحّالة الذين طافوا في الصحارى العربية، بما في ذلك أولئك الذين حظوا بدعم الزعماء المحليّين وحمايتهم، ويرجح أن الصور التي ركبوها للشرق، ومنه الصحارى العربية، امتزجت فيها المغامرة بالخوف في بيئة خطرة، ما جعل الولع بمثابة حبكة ناظمة تبعث الإثارة في نفوس القرّاء الغربيين. أصبحت الصحراء وطُرز حياة أهلها نسيا منسيا، وذكرى للمغامرة الاستعمارية أو التجربة الشخصية المتفرّدة، وليس من الصواب جعل مدوّنات الارتحال مصدرا للضغينة والكراهية.