الخيبة الجذريّة فرصة للعيش
سعيد ناشيد
يحقّ لي أن أحاول بدوري وباعتماد أسلوبي في صوغ الملاحظات وصياغة العبارات، التّعبير عن روح العصر الحاليّ، الّذي أحسب أنّ التّوصيف الأكثر دلالة عليه هو عصر الخيبة الجذريّة، على أنّي سأبيّن دواعي الإصرار على هذا التّوصيف الّذي لا أعتبره سلبياً كما قد يبدو للبعض في الوهلة الأولى؟
أتحدّث تحديداً عن خيبة ما بعد الانهيارات، ما بعد النّهايات، ما بعد البعديات نفسها. فماذا أقصد؟
أقصد جملة من الوقائع الّتي رأيناها ولا نزال نراها، ولا ينقصنا إزاءها سوى استخلاص الخلاصات الّتي تبنى عليها الرّؤى. من يحقّ له إعداد الخلاصات للنّاس؟ إنّه الفيلسوف تحديداً، والّذي ضمن وظائفه أن يقوم بين الفينة والأخرى بتحويل الأحداث والمعطيات إلى خلاصات تبنى عليها المواقف والتّحليلات في مختلف المجالات، وذلك مقابل تفرّغ لأجل المتابعة والتّأمّل. على أنّ هناك مهارة قد لا تتوفّر في غير الفيلسوف، أو هكذا يفترض: واجب الفيلسوف أن يقدّم خلاصات تحمي النّاس من الانفعالات التّعيسة، ومن غرائز الانحطاط، ومن دوافع الموت، وبالجملة عليه أن يجتنب إثارة المنكرات السّبعة: الخوف، والأمل، والحنين، والغضب، والكراهيّة، والذّنب، والانتقام.
طالما الأحداث علامات وإشارات، ينبغي قراءة ما تحيل إليه الأحداث من انعطافات في مسار الحياة، وما تحدثه من انكسارات في خطّ الزّمن الّذي يسري بنا ويسري علينا، وذلك عوض الاكتفاء بقراءة الأحداث كما لو كنّا نقرأ أحداث رواية أو شريط سينمائي مثلما يفعل من يُصطلح عليهم باسم الخبراء والمراقبين.
بهذا النّحو، بوسعنا استعراض أهمّ الأحداث الّتي شكّلت منعطفات حادّة نحو عصر الخيبة الجذريّة:
ـ انهيار اليوتوبيات الثّوريّة للحركات اليساريّة والشّيوعيّة في العالم، بدءاً من سقوط جدار برلين، ووصولاً إلى الانهيار السّريع لحركة العولمة البديلة الّتي رفعت شعار “عالم آخر ممكن”.
ـ انهيار الماورائيات الخلاصيّة للحركات الذّينيّة كافّة، والّتي ترمز إليه سلسلة الانتحارات الجماعيّة لعديد من الطّوائف المسيحيّة عند نهاية الألفيّة الثّانية، وسلسلة الانتحارات الجماعيّة لجماعات الإسلام السّياسيّ مع مطلع الألفيّة الثّالثة.
ـ تعثّر سيرورة بناء الاتّحاد الأوروبيّ، منذ التّصويت ضدّ مشروع الدّستور الأوروبيّ عام 2005، وهو الحلم الّذي يجسّده النّشيد الوطني الأوروبي الّذي تعود كلماته إلى الفيلسوف شيلر، وتعود ألحانه إلى الموسيقار بيتهوفن، وبلا شكّ فمن أمثال هؤلاء تُنسج الأحلام الجليلة.
ـ فشل ما كان يسمّى بثورات “الرّبيع العربيّ”، والّتي يعود تاريخ اندلاعها إلى سنة 2011، وذلك بعد أن أثارت إعجاب العالم في بدايتها، وألهمت في أسابيعها الأولى عديداً من الحركات الاحتجاجيّة في العالم، مثل حراك “احتلّوا وول ستريت”، غير أنّ الأمر في النّهاية كان فشلاً ذريعاً وسريعاً.
لقد كان رأي هيجل على النّحو التّالي:
الّذي يصنع التّاريخ هو استعداد النّاس للتّضحيّة والموت دفاعاً عن مبادئهم ومُثلهم العليا، من قبيل الحريّة، العدالة، الوطن، المعابد، ونحو ذلك. وهو الرّأي الّذي سيتبنّاه كوجيف فيما بعد. غير أنّ الملاحظ أنّ “الموت السّياسي”، الّذي لا يزال شائعاً في عالم اليوم، انفصل كلّياً عن كلّ أشكال المبادئ والمُثُل العليا، فأمسى مجرّد تفجيرات مجّانيّة، وانتحارات جماعيّة من أجل لا شيء، ضمن ما يصطلح عليه بالإرهاب العالميّ، وأمّا المبادئ والمُثُل السّياسيّة فلا أحد مستعدّ للتّضحيّة أو الموت من أجلها. لقد أدرك الجميع حكمة راسل، لستُ مستعداً للموت من أجل أفكاري لأنّها قد تكون خاطئة.
هل يمكن أن تشكّل هذه الحكمة مدخلاً إلى السّلام الأبديّ الّذي حلم به كانط، أم أنّها ستحرم التّاريخ من الشّرط الدراماتيكيّ الّذي يحتاجه لكي يتقدّم وفق رؤية هيجل؟
لوك فيري الّذي يبحث كعادته عن الرّبع الممتلئ من الكأس، يرى أنّ هناك مبدأ باقياً يصلح لأجل التّضحية، على أن ما يقصده دون أن يقوله هو أنّ التّضحية تبقى فعلاً دراماتيكياً يلبّي نهم التّاريخ إلى القسوة والدّماء. ذلك المبدأ الباقي حسب لوك فيري هو محبّة الآباء للأبناء إلى درجة استعدادهم الدّائم للتّضحية من أجلهم. يبدو الأمر أشبه ما يكون بخطّ الرّجعة الأخير الّذي يدعو لوك فيري إلى التّمسك به والبناء عليه، غير أنّه لربّما لم يعرضه للاختبار كما ينبغي. ذلك أنّ السّؤال المطروح سيكون على النّحو التّالي، هل ترقى محبّة الأبناء إلى مستوى المبادئ والمثل العليا، أم يتعلّق الأمر بمعطى غريزي يشترك فيه البشر كافّة مع سائر الثّدييات الأخرى؟ والسّؤال الأهمّ، كيف يمكننا أن نؤسّس على محبّة الأبناء مبادئ ومُثلا مشتركة علماً أنّ الأبناء غير مشتركين في الواقع، كما أنّ طموحاتهم ونوازعهم غير متشابهة بالضّرورة؟ إنّنا حين نحبّ أبناءنا فنحن لا نتعلّق بنفس الموضوع، وحين نضحّي من أجل أبنائنا فنحن لا نضحّي من أجل الهدف نفسه. رغم ذلك هناك ملاحظة باقية، التّفكير الفلسفي تفكير في المجرّد الكونيّ، أمّا التّفكير في الأبناء فهو تفكير في الحسّي المحليّ.
لربّما هنا تنكشف حدود الرّهان.
غير أنّ الجامع المشترك بين تلك الأطروحات كلّها أنّها لم تخرج عن النّسق الهيجليّ إجمالاً، حيث تبدو التّضحية ضروريّة، ويقود غيابها إلى تفشّي العدميّة حسب كوجيف، وإلى انحطاط الحضارة حسب أونفراي، وهذا بالذّات ما يتطلّب البحث عن موضوع بديل للتّضحية، كما يظنّ البعض، كأن يكون الأبناء مثلاً وفق تصوّر لوك فيري.
لكنّ السّؤال الأكبر هو التّالي: هل نحتاج فعلاً إلى شيء نضحّي من أجله؟ هل يحتاج التّاريخ بالضّرورة إلى دماء ترويه حتّى يستجيب لنا ويتقدّم بنا نحو النّعيم المفقود أو الموعود، تماماً كما تفعل آلهة كثير من الدّيانات؟
إعلان “موت الله” يعني انتفاء السّبب الأوّل لتضحية البشر بدمائهم، والّذي تختزله عبارة “في سبيل الله”، لكن ألسنا نحتاج إلى إعلان موت التّاريخ أيضاً قصد التّخلص من سائر الأسباب الباقية والّتي تدفع البشر إلى التّضحية بدمائهم، وتختزلها عبارات من قبيل، “في سبيل الوطن”، “في سبيل الثّورة”، “في سبيل الأمّة”، وربّما في سبيل الأبناء أيضاً، على منوال فرضيّة لوك فيري؟
لا يستهويني أن أبشّر أو أنذر بموت أي مفهوم أو تصوّر أو فكرة، لكن بوسعي أن أفترض ما يلي: إنّ ما يسمّى بالتّقدم التّاريخي ليس سوى خطأ لغوي في التّعبير عن ظاهرة نمو النّوع البشريّ.
يوحي مصطلح التّقدم التّاريخيّ بأنّ التّاريخ أشبه ما يكون بكائن جبّار يتّجه نحو هدفه العظيم وليس مطلوباً منه أن يراعي آلام كائنات صغيرة وزائلة في الأساس، غير أنّ مصطلح النّمو يحيل إلى دوافع العيش والإبداع والاكتمال. ذلك أنّ النّمو كما يعلّمنا سبينوزا ونيتشه يتحقّق عبر إرادة الحياة، وانفعالات الفرح، وغرائز السّمو. لذلك يمثّل الاستعداد الدّائم للتّضحية نوعاً من الشّقاء الّذي لا يخدم مطلب النّمو.
طبيعي أنّ الانسان مثل سائر الثّدييات مستعدّ للقتال من أجل أبنائه حين يستدعي الأمر ذلك، مستعد للقتال من أجل أرض يمتلكها مادياً أو روحياً عند الاقتضاء، وليس مطلوباً أن يتخلّى الإنسان عن واجباته في ذلك، غير أنّ ما نحاول تفنيده هو أن تكون التّضحية شرطاً لتقدّم التّاريخ؛ ذلك أنّ الّذي يحدث في واقع الحال هو نمو النّوع البشريّ، والّذي يحتاج إلى كثير من الحكمة والرّحمة والمحبّة.
هذا ما لا يجب أن ننساه:
إنّ ما يسمّى بالمعجزة اليابانيّة اليوم لم يصنعها كبرياء السّاموراي ولا تضحيات الكاميكاز، بل صنعتها حكمة الإمبراطور هيروهيتو الّذي وقّع على الاستسلام في اللّحظة الحاسمة وبالأسلوب المناسب، ثمّ ماذا فعل بعد ذلك؟ تنازل عن “ألوهيته الدّستوريّة” ومن ثمّ عمل على تحويل الطّاقة الغضبيّة للشّعب نحو العمل والبناء.
من يدري؟
لعلّنا نعيش الحلقة الأخيرة من مسلسل “أفول الأوثان” الّذي سبق أن أطلقه نيتشه، والّذي ينذر بمرحلة انتقاليّة عصيبة في تاريخ العقل البشريّ، سبق أن تنبّأ بها بدورها، بحيث إمّا أن يخرج منها الإنسان أكثر قدرة على العيش والنّمو كما يتوقّع لوك فيري الّذي يفضّل أن يرى الجزء المملوء، أو قد يسقط في عدميّة تهدّد الحضارة المعاصرة بالانحطاط كما يتوقّع مشيل أونفراي الّذي يفضّل أن يرى الجزء الفارغ.
غير أنّ الحياة بطبعها مُرَكّبة، وبالتّالي يجب أن يكون الوعي مُرَكّباً بدوره، لذلك يجب أن نستحضر كون التّفاؤل مثل الدّواء الّذي يجب أن نتفادى فيه الجرعة الزّائدة، وأنّ التّشاؤم ليس سوى تعبير عن الحالة النّفسيّة الّتي تعقب التّفاؤل المفرط. على الأرجح، نحتاج إلى طريق ثالث.
لكن هل يمكن للإنسان أن يكون قادراً على الحياة وسط عالم خال من الأوثان، خال من الأحلام، خال من الآمال، إلخ؟
في المقابل، ألا يحسن بنا بالأحرى أن نتعلّم كيف ندير ظهورنا للأحلام قبل أن ننام، لأجل أن ننام جيّداً؟ أليس هذا درساً منسياًّ من دروس الحياة؟
هناك توضيح آخر:
ليس مقصوداً بالخيبة الجذريّة مجرّد حالة ردّ فعل نفسي انفعالي، وموقف سلبي إزاء فشل الإنسان المعاصر في انتظاراته في المجال العامّ والخاصّ على حدّ سواء، وبحيث ينجم عن ذلك الفشل نوع من اليأس والإحباط والتّذمّر، وبحيث يجدر بنا أن نتفادى تلك الحالة حتّى لا تأتي، أو ندفعها حين تأتي، لاسيّما وأنّ معضلة الممارسة السّياسيّة المعاصرة أنّها تنمّي غريزة الانتظار بنحو يفيض عن الحاجة، غير أنّ الانتظار لا يخدم النّمو بل يقود إلى التّدهور والانحدار والعدميّة سواء في المستوى الفرديّ أو الجماعيّ، وليس هذا هو المقصود بالخيبة الجذريّة على أي حال، بل المقصود هو كيفيّة أصيلة من كيفيات الوجود، يكفّ فيها الإنسان عن رهن حياته بأيّ توقّعات في الأفق، وبالتّالي يسترد حياته من حيث هي حياة، بل هي الحياة بألف ولام التّعريف.
رغم ما قد تثيره الخيبة الجذريّة من توجّس طالما عقولنا مجبولة على ملء الوقت بالانتظار، إلى درجة أنّنا يصعب علينا أن نتصوّر بأنّ الوقت قد يُملأ بشيء آخر غير الانتظار، إلّا أنّ الخيبة الجذريّة تمثّل في المقابل فرصةً سانحةً لكي نتحرّر من زمن الانتظار، ونستعيد الزّمن الطّبيعي الّذي ليس لنا سواه، زمن الكينونة، زمن “أنا هنا الآن”، وبحيث لا يعود المرء بعدها ينتظر أي شيء، ولا يتوقّع أي شيء، ولا يعلّق روحه بأي أفق للانتظار كيفما كان نوعه، سواء في الإطار الخاصّ أو ضمن الإطار العامّ.
لا أنكر أنّ العلم يقوم على التّوقعات، غير أنّ التّوقعات تبقى منهجاً في العلم لا أسلوباً في الحياة.
ليست الخيبة الجذريّة إنكاراً ولا تنكراً لحقّ الإنسان في أن يعمل جاهداً في سبيل تحسين ظروف الحياة، وأن يكافح من أجل غد أفضل، سواء لأجل نفسه وبالتّالي أبنائه، أو من أجل أبنائه وبالتّالي أبناء مجتمعه، أو من أجل الأجيال القادمة للنّوع البشريّ كافّة إن صارت الأمور نحو تجريد أكثر نبلا وسموا، بل إنّ الخيبة الجذريّة لهي فرصة لأجل نضال لا ينكر الواقع، ولا يغفل الحياة، ولا يستصغر حاجة الإنسان إلى تحقيق نموه، وتحسين قدرته على العيش، وهي حاجيات لا يليق بنا التّضحية بها لقاء وعد مستقبلي قد يأتي وقد لا يأتي، وحتّى حين يأتي فإنّه لا يأتي وفق التّوقعات بالتّمام، فيصبح الإنسان معرّضا للسّخط والتّذمّر.
لقد آن الأوان لكي ندرك بأنّ في كلّ انتظار يتمّ هناك قدر من الخذلان، في كلّ مشروع يكتمل هناك قدر من الفشل، في كلّ انتصار يتحقّق هناك قدر من الخسارة، في كلّ خطاب ثوري هناك بذور للطّغيان، في كلّ حضارة تزدهر هناك مخالب توحّش كامنة لا تظهر، في كلّ إعلان حبّ هناك قدر كبير من النّفور غير المعلن، وهكذا هي الحياة كما فطن بها حكماء العيش:
هناك قدر من المرارة في كلّ عسل شديد الحلاوة، هناك قدر من المرارة في كلّ خمرة شديدة التّعتيق، هناك قدر من المرارة في كلّ جبن شديد الطّراوة، هناك دائماً قدر من المرارة الّذي لا تكتمل الحلاوة من دونه.
تلك ليست مجرّد دروس في فنون الطّعام، بل لعلّها دروس في فنون العيش أيضاً.
لذلك، عادة ما يدفعنا توقّع الحلاوة الدّائمة والنّهاية السّعيدة على طريقة “ختامه مسك”، إلى الفشل الذّريع في الحياة.
تمثّل الخيبة الجذريّة روح عصرنا الرّاهن، عصر ما بعد انهيار الآمال الكبيرة، غير أنّها تمثّل أيضاً ثمن الحريّة والكرامة، أو بوسعنا أن نتعامل معها على هذا الأساس. لأجل ذلك نحتاج إلى الانتقال من وعي الانتظار إلى وعي الخيبة.
معضلة وعي الانتظار أنّه يجعل المرء لا يذهب إلى النّوم إلّا في انتظار أن يستيقظ صباحاً، ولا يفطر صباحاً إلّا في انتظار أن يذهب إلى العمل بعد الإفطار، ولا يشتغل في مقرّ العمل إلاّ في انتظار أن يحين موعد الخروج، ثمّ موعد الغذاء، وبعد ذلك يوم الأحد، ثمّ أيّام العطل، وكذلك في انتظار الرّاتب الشّهريّ، والتّرقية، والانتقال، والتّقاعد، وبالجملة في انتظار غودو بلغة عنوان مسرحيّة صمويل بيكيت الشّهيرة.
وعي الانتظار يجعل المرء لا يعيش الوقت إلاّ في انتظار أن يمرّ الوقت. بهذا النّحو لا يكون لطول العمر أي معنى على الإطلاق، طالما لا تعاش الحياة بالطّول بل بالعرض والارتفاع أيضا. لا ننس أنّ موتسارت عاش 35 عاماً شكّل خلالها منعطفاً في تاريخ الموسيقى العالميّة، ولا ننس كذلك أنّ سبينوزا عاش 45 عاماً فقط غير أنّه أكثر الفلاسفة تأثيراً على مصير الفلسفة المعاصرة، وأنّه أعظم الفلاسفة السّابقين بالنّسبة لكلّ من نيتشه، وبرغسون، ودولوز، ولونوار، وآخرين كثيرين. ما يعني أنّ نجاح الإنسان المعاصر في زيادة معدّل عمره بما يزيد عن ربع قرن تقريباً قد لا يعني الشّيء الكثير إذا كان سيمضي عمره في انتظار أن يمضي الوقت.
يرجو الإنسان من الحياة أن تمنحه وقتاً أطول، ثمّ سرعان ما يصبح مبلغ همّه هو كيف يمضي الوقت، ليس لأجل أي شيء آخر سوى أن يتفادى الملل بقدر الإمكان، والملل آفة الوجود كما يؤكّد شوبنهاور. هكذا نلاحظ كيف يختلق الإنسان لنفسه لعبة الانتظار أملاً في التّقليص من الملل، لكن بلا جدوى.
معضلة وعي الانتظار أنّه حين يتيح للمرء أن يعيش تجربة الحبّ على سبيل المثال، فإنّه لا يعيشها من حيث هي تجربة قائمة بذاتها، بل لا يعيش الحبّ إلّا من حيث هو متتالية من إنتظارات قد تكون لامتناهية في الصّغر: انتظار رنين الهاتف، انتظار رسالة صوتيّة، انتظار موعد اللّقاء، إلخ، ومن ثمّ يطغى على التّجربة العاطفيّة إنتظار المواعيد، ثمّ إنتظار عقد الزّواج، وانتظار إنجاب الأطفال، وانتظار أن يكبر الأبناء، وبهذا النّحو تصبح الحياة مجرّد محطّات انتظار حيث الأنظار معلّقة إلى السّاعات، في انتظار أن يمرّ الوقت في آخر الحساب، وفي انتظار (غودو) وفق المسرحيّة الشّهيرة لصويل بيكيت.
أحياناً، بعد فوات الأوان، قد يدرك المرء بأنّ لحظات الانتظار لم تكن سوى الحياة الّتي لم يعشها لأنّه ظلّ في انتظار أن يعيشها.
آفة الحياة الانتظار.
ذلك أن ّالانتظار ورطة تجعل الإنسان لا يرى من نهر الحياة إلاّ امتداده الطّولي، فتحرمه من فرصة أن يسبح بالعرض والعمق والكثافة أيضاً، وقد لا ينتبه إلى الفرص الضّائعة ـ إن هو انتبه ـ إلّا في النّهاية.
عادة ما يتمّ تشبيه الحياة بالنّهر، غير أنّ التّشبيه الأكثر دقّة وتعبيراً أن نعتبر الحياة تشبه متتالية الأعداد الصّحيحة الطّبيعيّة، بدءاً من الصّفر الّذي يرمز إلى لحظة الولادة، ووصولاً إلى المئة الّتي ترمز إلى الرّقم المثاليّ لسنوات الحياة. غير أنّنا أثناء العدّ الطّوليّ قد ننسى أنّ بين كلّ عدد صحيح طبيعي والعدد الّذي يليه هناك كثافة لامتناهية من الأعداد الحقيقيّة، الّتي وإن لم يكن بإمكان العقل أن يستحضرها كلّها، فمن واجبه أن يتمرّن على استحضار أقصى ما يمكن منها، أو لعلّها مهمّة الحدس الرّياضيّ تحديدًا.
تكمن آفة الانتظار في أنّه يختزل الزّمن في بعد واحد، ألا وهو الامتداد، وبذلك النّحو فإنّه يحرم الإنسان من العيش بالعرض والعمق والارتفاع، بمعنى يحرمه من كثافة اللّحظات اللاّمتناهيّة في الصّغر والّتي تؤلّف متتالية الزّمن، وتمثّل الحياة الفعليّة.
إذا كان المجاز أصدق تعبير عن أحوال الإنسان، فليس مصادفة أن يقال، “جحيم الانتظار”. معضلتنا أنّنا نكون في معظم أحوالنا مجتثّين من الرّاهن: “يشقى” الأبوان على أمل أن يكبر العيال “ويعوضون لهما ما ضاع”، “يشقى” المناضل الكادح على أمل “أن تتحسّن الوضعيّة” أو “يتغيّر الوضع”، “يشقى” الموظّف أملاً في ترقية محتملة أو زيادة في الرّاتب متوقّع أو تقاعد مريح في النّهاية. بهذا النّحو تصبح الحياة مجرّد قاعة انتظار كبرى، ينسى فيها الإنسان حاضره وكينونته.
لأجل ذلك تمّثل الخيبة الجذريّة إجمالاً فرصةً للإنسان المعاصر لكي يتحرّر من ورطة الانتظارات الفرديّة والجماعيّة، ويتمتّع بالتّالي بحياة أكثر حريّة، أكثر كرامة، أكثر بهجة، وأكثر أصالة بالمعنى الوجوديّ للعبارة.
لأجل ذلك أمكن لألبير كامو أن يتصوّر سيزيف مبتهجاً بالفعل (أسطورة سيزيف). مثل هذه البهجة النّاجمة عن الخيبة الجذريّة ليست وعداً مستقبلياً وفق نمط الإيديولوجيات الخلاصيّة والّتي جرفتها رياح الأفول بدورها؛ إنّها لا تضيف أي شيء، لا تنشئ أي شيء، بل كلّ ما تفعله أنّها تذلّل العقبات الّتي تقف عائقاً أمام طريق الإنسان نحو النّمو والاكتمال، إذا استعملنا مفاهيم سبينوزا، وبحيث لا يسقط في الأخير إلاّ عندما يكتمل نضجه، تماماً كما تسقط ثمرات الأشجار حين يكتمل نضجها، إذا استعننا ببلاغة شيشرون.
بوسعنا أن نتذكّر الحكمة البليغة الّتي تقدّمها لنا ملحمة جلجامش، حكاية ذلك الملك البابليّ الّذي عندما تصالح مع مبدأ فناء الكينونة، فقد تحوّل في الحال من حاكم عدواني لا يستطيع أن يحكم نفسه مع أنّه يريد أن يحكم الآخرين، إلى حاكم حكيم بالفعل، يستطيع أن يحكم نفسه وبالتّالي يستطيع أن يحكم الآخرين.