الإنسان والجمال: علاقة الإنسان بروح الإبداع في الكون والوجود
محمد جكيب
ما دلالة أن يكون الإنسان قادرًا على الابتكار والإبداع؟ وماذا يعني اتصاف تحلي الإنسان بصفة المبدع في حدود كيانه البشري بالطبع؟ وما معنى أن يكون هذا الإنسان صاحب ملكة إبداعية؟ وقبل ذلك ما الإبداع، وما مقوماته، وما شروطه في ظل أفق إيماني يوجب الاعتقاد بأن المبدع الأول هو الله سبحانه وتعالى؟
الجمال خميرة الوجود
إن خالق كل شيء ومبدعه هو الله سبحانه وتعالى، فلقد خلق الله هذا الكون -بجميع تفاصيله- وفق هيأة دقيقة جدًّا لا يرى في خلقه أي تفاوت كما يخبر بذلك القرآن الكريم، ودون التفريط في شيء. وإن المتأمل في هذا الإبداع العجيب مستحضرًا كل ما توصلت إليه الإنسانية من نتائج وخلاصة فهم الطبيعة واكتشاف أسرارها، سيلمس أن الإنسان ما زال يحبو في إدراك كنه هذا الوجود، لأن خارطة الوجود قد جرى ويجري ترتيبها وفق نظام دقيق يعلم حقيقته ومظهره وشكله صانع ومبدع وخلاق مفارق، لأنه هو من وضع خارطة الوجود وأتقنها.
إن معالم نظام رياضي بديع جدُّ متطور قد رتب الوجود كله في ضوئه، وتؤكد أبجدياته الأولى حقيقته وتدعمها، بل إن البداية الفعلية لإدراك نظام الوجود وما وراءه، تستلزم الإمساك -بداية- بالخيوط الأولى لهذا النظام الرياضي البديع، لأن هذا النظام هو الذي يعكس في الواقع جمال الوجود وعظمته.
في ضوء ما تقدم، إن الإبداع الذي يعكسه الوجود بجماله الخارق وإتقانه الدقيق، ليس سوى تجل لصفة المبدع ولصفة الجميل، التي تجلى بها على الوجود فاكتسب خاصية الإبداع منه تعالى، واكتسب خاصية الجمال.. فالإبداع والجمال الذي يُرى في الوجود بمختلف مظاهره -المتحرك منها والجامد- ليس سوى مظهر بسيط جدًّا من قدرة المبدع المطلق والخالق المطلق.
وأما الإبداع في حدوده الإنسانية فمجرد محاكاة لتجلي الإبداع المطلق والجمال المطلق؛ إذ مهما ترقى كفاءة البشر الإبداعية، ومهما يصل مستوى تحريه عن الجمال في حياته في كافة ضروبها، فلن يصل مقدار عشر العشر من حقيقة الإبداع المطلق والجمال المطلق، ولن يكون سوى مخلوق مجهز بنظام هو جزء من تجلي هذا الإبداع المطلق، ومجرد وعاء لبعض ما تجلى من هذا الجمال المطلق.
الإبداع والإيجابية
فما حقيقة أن يكون الإنسان مبدعًا؟ معناه بكل وضوح -ودون لبس- استمداده المكونات الأولى والعناصر الأساسية للإبداع من المبدع المطلق، ومن الجميل المطلق. بعبارة أخرى، إن الإنسان -باعتباره مخلوقًا- هو مجرد مُحاكٍ وناقل ومفسر لإبداع المبدع المطلق، ومجرد مترجِم للجمال الذي تجلى به الجميل المطلق في الوجود وفيما وراءه.
ومعناه أن يكون قادرًا على الإنتاج الإيجابي في دائرة التوازن والإتقان، أي قادرًا على الفعل والفاعلية، وجعل الفكر والعمل بؤرة واحدة ذات أثر في الواقع يلحظه الخصم قبل الصديق، والبعيد قبل القريب، تزهر أبعاده الإيجابية في كل مكان.. فهو فعل مشدود بخيوط متينة إلى الإيجابية الموصولة بنظام الكون في دائرة النظام الرياضي الذي يحتويه.
بعبارة أخرى، إن الفعل لا يكون فعلاً إلا عندما يقترن بالإيجابية، أما دون ذلك فهو شيء آخر؛ لأن اقترانه بالفساد والسلبية قد أبعده عن دائرة الفعل حقيقة، ولأن مخرجات الفعل المطلق قد حققت وتحقق الوجود البديع والجميل بوساطة مفتاح القدرة الإلهية “كن فيكون”.
قد يقال إن القبح والشر مظاهر موجودة في الوجود. نعم إن القبح مظهر يلحظ في هذا الوجود من خلال التصرفات على الأقل، لكن التنعم في حقيقة القبح يقود إلى إدراك أعمق وأدق لحقيقة الجمال الموجود في الكون، فهذا القبح يؤكد إبداع المبدع، ويؤكد جمال الجميل، إذ بأضدادها تدرك الأشياء، ولا يدرك الخير إلا من معرفة حقيقة ضده وهو الشر، ولا يعرف الجمال دون لمس حدود القبح، ويستحيل تذوق الإبداع الذي فطر عليه الوجود دون وعي قيمة انعدام ما يتجلى فيه ومن خلاله الإبداع. بعبارة أخرى، لا يمكن إدراك عظمة الوجود دون الشعور بالعدم.
الإبداع وروح الفطرة
إن الإبداع في حدود بعده الإنساني -وباعتباره فاعلية مُعبّرة عما يعتلج في عمق الذات من آمال وتطلعاتها- ينبغي أن يكون إيجابيًّا ومتطلعًا إلى أفق يروم الصلاح. فالإبداع من هذا المنطلق، سبيل يمتلكه ذوو الأرواح المشرقة، الذين يوظفونه في ترجمة نبض المجتمع ومكنوناته. وهو في منظورهم، وسيلة لرسم معالم وجود هذا المجتمع، ونحت لكينونته كما يستشعر بها في أصل الفطرة. لقد خلق الله تعالى الإنسان وحباه بجملة نِعَم لم تُمنح لمخلوق سواه، وجهزه بجهاز يُقدره على السير في مسار الإعمار -إعمار الأرض وبناء الحضارة- تحقيقًا لهدف سام هو أصل وجود الإنسان وهو العبودية.
إن الإعمار وبناء الحضارة، في مسيس الحاجة إلى روح الإبداع لأنه ضرورة، ولذلك كانت صفة المبدع من أهم صفاته تعالى، وهي في الغالب مقرونة بصفة الجميل، ولذلك كذلك كانت صفة المبدع من أهم صفات الربوبية، لأن الإبداع أعم من الخلق، ولعل هذا هو مضمون قوله تعالى: (وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(البقرة:115-117)، لم تذكر الآية الأخيرة بأن الله بديع الإنسان فحسب، بل ذكرت كونه تعالى بديع السماوات والأرض وما فيهما. وقد ذكرت آية أخرى في سورة أخرى بأن الله “خلق الإنسان”، وعلى هذا الأساس كان الإبداع -فيما نرى- أعم من الخلق.
وجملة القول، إن الله عز وجل هو مبدع الوجود كله، فقد أخرجت قدرته المطلقة الوجود من العدم، وأعطته هويته ضمن نظام الكون، وزينته بما يستحق من زينة وجمال، بل أوجدت ما يناقضه تأكيدًا لهذه الهوية وإلحاحًا عليها.. فالله ليس مؤلف نظام الأشياء ومرتب صورها فحسب، بل هو مبدع مادتها أيضًا. بكلام آخر، إن كل ما لم يكن موجودًا، صار بفعل قدرته موجودًا؛ فلقد أخرج بقدرته كل شيء من العدم إلى الوجود، ولأنه مبدع مطلق وجميل مطلق، فقد صارت كل الأشياء وما اكتسبته منه، علامات تدل عليه.
يقال إن الله عز وجل عندما شاء أن يُعبَد وأن يُسبَّح، خلق الوجود وخلق الإنسان، وكان خلقه للإنسان وفق هيئة معينة، وجهزه بكل ما يلزم حتى يتوجه إليه بالعبودية.. وخلق في الوقت نفسه الوجود، وأبدع الوجود إبداعًا كلوحة فنية، حتى يكون مظهرًا لتجلي صفة المبدع في الوجود، متيحًا لأرقى المخلوقات حيزًا للاستمداد من هذه الصفة. فمظاهر الإبداع المتجلية في الوجود، والموسومة بالإتقان وبالتوازن، تدل كلها على عظمته، وعلى مقدرة الصانع. ولقد كان مناط التكليف هو التأمل بأوجه متعددة وبصور مختلفة في هذا الوجود، فالسمة الأساسية لهذا الإبداع ولهذا الوجود، هو دقة الصنع ودقة الإبداع وكماله واكتماله، حتى يكون ذلك إدراكًا لعظمة هذا المبدع المطلق الإبداع.
الإنسان والإبداع
للناس مراتب ومقامات في التعرف على هذا المبدع والتفاعل مع إبداعه، فهناك من لا يستطيع إدراك النزر اليسير، ولا يقدر على تعبير هذه العظمة وهذا الكمال والاكتمال، وتنحصر مهمته في مجرد تلقّي وتذوّق ما يجود به أهل الذوق الذين يعبرون سمياء الكون. وهناك من يدرك، على قدر استعداده واجتهاده في باب العبودية والاتصال بالخالق تعالى. أما الأنبياء والرسل -بما جهزهم الله به من استعدادات خاصة وفق مراتبهم، وباصطفائه لهم- هم أكثر البشر قابلية للقيام بالمهمة التي أوكلت إليهم بصورة بديعة، تستلهم الضوابط الكلية التي سنها الله عز وجل، فاستعدادهم المستمد مشروعيته منه تعالى، أقدرهم على ابتكار أساليب وطرق وسبل للقيام بالمهمة التي أوكلت إليهم. إن وظيفة الأنبياء والرسل المؤسسة على التبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة، تقتضي الإبداع. ألم يخاطب الله عز وجل رسوله الكريم في التنزيل بأنه لو كان فظًّا غليظ القلب، لانفض الناس من حوله؛ لأن فتح القلوب، والتأليف بين الناس، وتشبيك العلاقة بالمعنى الإيجابي، يحتاج إلى المرونة وإلى الحكمة التي تفكر في كل ما هو مثار النقاش والبحث عن الحلول والتجاوب معها، وهو أمر يقتضي الإبداع، ويقتضي القوالب الجميلة التي تزيده رونقًا احتفاء بالجمال المطلق.
القدرة على الإبداع هي التي أتاحت للإنسان إيجاد حلول -قد لا تخطر على البال- يولَج منها إذا أُغلقت كل الأبواب وحالت بين الوصول إلى الأهداف والمرامي الحوائل والموانع، الأمر الذي يجعل الأمر أكثر إلحاحًا. يقولون إن الحاجة أم الاختراع، أيْ إن الإنسان كلما احتاج أمرًا وصار ذلك أمرًا ملحًّا، فكر في اختراع ما يجيب به على حاجته، وكلما كانت هذه الحاجة ضرورية كلما كانت الرغبة في الوصول إلى غايته ملحة، وقد يتوسل إليها بشتى الوسائل والسبل.. ويستوي في ذلك الحاجة المشروعة والحاجة غير المشروعة؛ والحاجة المشروعة تبحث لنفسها عن السبل المشروعة وتبدع كذلك في هذا المجال، والحاجة غير المشروعة تبحث لنفسها عن السبل غير المشروعة وتستبيح كل الوسائل وكل السبل المشروعة وغير المشروعة، شعارها “الغاية تبرر الوسيلة”.
عندما اختار الرسول محمد صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه مبعوثًا منه إلى اليمن، حرص على أن يكون اختياره له مؤسسًا على أمور كثيرة واستعدادات محددة كانت العين الثاقبة للرسول صلى الله عليه وسلم تلحظها وتتابعها. فاختيار الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب أفق واسع يمكنه من أن يبتكر السبل والوسائل للوصول إلى المرامي والأهداف والغايات النبيلة، التي أُرسل محمد صلى الله عليه وسلم من أجلها. ومن هنا فإن تصلب الرؤية وانحصار الأفق، لا يسمح للذات بأن تتحرك الحركة الموفقة، ولا يسمح لها بأن تتصرف التصرف الصحيح.
إن معاذ بن جبل رضي الله عنه نموذج الجيل الذي تربى في مدرسة المعلم الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم، والنموذج البشري الذي ترك بصمته على صفحة التاريخ، وطبع الحضارة بميسم الرؤية الفكرية التي ينتمي إليها، دون أن يكون وعيه متجهًا إلى تحقيق غاية خاصة سوى عبودية خاضعة لله وحده.
الذين أبدعوا في دائرة الحضارة الإسلامية هم نتاج هذه الروح، أو لِنَقُلْ إن الحضارة التي قامت بمثل هؤلاء، كانوا في حياتهم -قبل هذه الروح التي سرت فيهم- مجرد رعاة وبدو قساة الطبع أمزجتهم متصلبة، قلوبهم قاسية تشبه قساوة الصخر والحجر والطبيعة الصحراوية التي كانت تحيط بهم من كل جانب، بل إن طباعهم كانت أشد صلابة من الصخر، ومع ذلك استطاع هؤلاء، التحول إلى طاقة متدفقة تجود بالإبداع الخارق. ألم تكن روح الإبداع أو الابتكار، هو المنهج الذي نجح الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وعامة المسلمين -بوساطته- في فتح العديد من البلدان بعد أن فتحوا قلوب سكانها من بعيد.
الإبداع والحكمة
المرونة والقدرة على التكيف، من أهم ما يمكن للإبداع زرعه بين جوانح الإنسان، والآية الكريمة المشار إليها سالفًا تلح على هذه المرونة. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجًا في هذا الباب، أو لِنقُلْ إن أهم ما ميز شخصيته النبوية، هو الحكمة؛ فقد كان حكيمًا، ونظرته ثاقبة وذا بعد نظر، بل كان صاحب رؤية إبداعية، يستطيع ابتكار سبل شتى في اللحظة والحين، ابتكارَ كل ما من شأنه تسهيل فتح القلوب. وهنا يطرح السؤال الآتي فارضًا نفسه بإلحاح: هل الحضارة والعمران الذي تأسس في ظل الإسلام وقيمه، كان وليد تمثل روح الإسلام وقيمه فحسب؟ الجواب: إن الأصل في ذلك، يرجع إلى القدرة على ابتكار نموذج للحياة والإعمار، متوافق مع هذه الروح التي بثها الإسلام في عروق من انتسبوا إليه وانتسبوا إلى المنظومة الفكرية والعقيدة والروحية التي تنطلق منه.
الإبداع والحرية
لقد صار حالة روحية يتحرك الفكر وكل خلايا الإنسان على إيقاعها. لقد فك الإسلام وقيمه عقال الإنسان، وكسر ما كان عليه من قيود فتحرر أفقه من الانشداد إلى التراب وانحصار نظره في حدود المادة الفانية، إلى الارتباط بالوجود الفسيح، فصار الفكر والتفكير والتأمل مساحة شاسعة لا حدود لها.. فوجدت الذات نفسها وقد أحست إحساسًا حقيقيًّا بوجودها، وأدرك كل فرد في دائرة الجماعة أنه أداة ضمن نظام متكامل، وأنه لكي يدرك هذا النظام، يتوجب الإحساس بهذه اللوحة البديعة التي أبدعها المبدع المطلق إلى درجة لمس ذلك، وإلى حد معانقة هيئته بكل الجوارح.. أدركت هذه الذات -كذلك- أن هذا الإحساس، هو الذي يجعل لوجودها معنى، ويعرّفها حقيقتها الوجودية، فيجعلها تستشعر معنى مختلفًا للحرية.
لم تعرف البشرية -إلى حدود اليوم- ولن تعرف نظام حياة يستطيع تحقيق حرية الإنسان، وتحقيق المفهوم الكلي للحرية، وتحقيق المفهوم الفعلي للحرية، والإبداع متصل شديد الاتصال بالحرية في بُعدها الفعلي والحقيقي كما سطر منهجها القرآن الكريم.
من أكبر الإشكالات التي تواجه الإنسانية اليوم هو إشكال الفهم المنحرف للحرية، باعتبارها عنصرًا ضروريًّا للإبداع في بُعده الإيجابي؛ لأن الإبداع الذي قُيِّدت حركته وانحصر أفقه، لا قدرة له على تحقيق صور إبداعية منسجمة والروح المحركة لنظام الوجود. فالفهم المنحرف للحرية، ينتج صورًا منحرفة للإبداع، ويخلق بلبلة تحجب الرؤية وتعكّر صفاء الانسجام بين مكونات الوجود.
النمطية الفكرية والإبداع
وأما الإشكال الثاني الذي يواجه الإنسانية، فهو إشكالية النمطية الفكرية، لأنها تقتل ملكات الإنسان التي جهزه بها خالقه، والتي يعتبر تفعيلها أهم أسس تحقيق العبودية. لقد جهز الله أرقى المخلوقات، بملكات خاصة لم يجهز بها مخلوق غيره، لكي يحيا ويتفاعل ويحقق العبودية. إن القدرة على ممارسة الإبداع والعيش في أفق التوازن والانسجام، والارتقاء إلى آفاق إبداعية عالية، يؤدي إلى تحقيق العبودية. بعبارة أخرى، إن الإبداع نوع من أنواع تحقيق العبودية لله، والعجز عن الإبداع والابتكار، هو عجز عن البقاء دون المقامات السامية في سلم العبودية.
قضية الإبداع ليست متصلة بالفن والأدب والإعمار فحسب، بل هي قضية عامة لكل المجالات المرتبطة بالإنسان. فالإبداع هو روح التجديد، وروح الفاعلية، وروح القدرة على البقاء والاستمرار، الإبداع هو حركية صناعة الحياة والاستمرار في الحياة. وفي الوقت الذي يتصاعد فيه الحديث عن نظريات ومناهج الفوضى الخلاقة من خلال الجمع بين المتناقضين، يستحيل تصور مخرجات إيجابية من هذه الدعوات، لأن الإبداع -في أصل بنائه وحقيقته- مكون إيجابي، والفوضى لا يمكن أن تكون مكونًا يصنع المقومات الإيجابية أو يبني ويشيد ما يفيد.
الفوضى الخلاقة التي يتحدث عنها ويروج لها، لا تصنع سوى المآسي والتعاسة لبني البشر، ولا هدف لها سوى فرض سلطة القوي على المغلوب الضعيف.. إنها فلسفة الطاغوت في العصر الحديث، ولا سبيل إلى تجاوزها إلا بإرساء قواعد الإبداع البناء.
التفاعل مع مظاهر الإبداع
في ضوء ما تقدم، يتبلور السؤال الآتي: كيف يجب تبلور الجمال والحس الفني عند المبدع المسلم والفنان المسلم؟ بينّا في مكان سابق أن الإبداع والجمال المنبث في هذا الوجود الموسوم بالإبداع والجمال، هما معًا مجرد تجلّ للجمال والإبداع المطلق الذي تجلى الله به ومن خلاله على الوجود، والذات المسلمة من هذه الزاوية، ينبغي لها التفاعل مع كل مظاهر الإبداع والجمال، على أنها سمياء دال على المبدع بدءًا من الذات، وهي عندما تعبر عن ذلك وتجسده من خلال عمل إبداعي في صور متنوعة وأشكال مختلفة كالقصيدة الشعرية واللوحة التشكيلية والقطعة الموسيقية والتحفة المعمارية، إنما تتفاعل مع ذلك كله.
الإبداع كلمة سحرية، تضفي المعنى على الأشياء والأفكار والوقائع والأحداث، فكل الأفكار والأحداث والوقائع إذا هي قطعت عن محركات الإبداع، وإذا لم توصل بهذه المحركات، صارت مجرد مكونات خالية من المعنى، وهذه الصلة هي ما يكسبها مكانها في سلسلة الخط الناظم الممتد من الأزل إلى الأبد.
الإبداع بناء متجدد
الإبداع ضد الفوضى، ويستحيل أن تكون الفوضى إبداعًا وأن تصنع إبداعًا. والوهم كل الوهم تصور الفوضى خلقًا. قد يكون للفوضى مكان ما في سياق الوجود العام، لكن دوره لن يتعدى حدود كونه مظهرًا يتيح استيعاب التوازن والنظام المنبث في كل ركن من أركان هذا الوجود، بل يمكن القول إن الفوضى هي الحال المنعكسة عن وضع اختلال التوازن الذي قد يتسبب فيه الإنسان نفسه عندما يسيء التفاعل من الوجود.
الإبداع محفّز طاقته ذاتية دائمة التجدد، يمد الهمم المتطلعة المتشوقة إلى الآفاق العالية بالطاقة الضرورية.. الإبداع أخ شقيق للإتقان، حيث لا يكون الإتقان إتقانًا إلا إذا سقي بدم الإخلاص المنسكب من القلب كما ينسكب الماء الزلال.
كل الذين يدّعون الإبداع فوضى -منذ فجر التاريخ- انكسروا، وفي قوائم الفساد والإفساد تسجلوا، لأن كل إبداع لا يرجع الفضل للمبدع الأول، فوضى، ومآله الاندحار والانكسار. قال قارون: “إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي”(القصص:78) فخُسفت به الأرض. الأرواح المبدعة لا تنظر بعين اليأس إلى ما حولها، بل تنظر بعين آملة حالمة، لأنها تحوّل كل شيء في هذا الوجود إلى وسيلة لإنجاز الخير والتقدم نحو الصلاح.
الإيجابية والأمل
القلب المبدع لا يستصغر شيئًا من الأفعال والتصرفات ما دامت تستحضر روح المبدع الأول وما دامت تأتي الفعل بإخلاص وصدق، إذ لا يستصغر الروح الخلاقة الأولى إلا من جهل أو تجاهل أبجديات الإبداع، ولذلك كانت الإيجابية هي المفتاح الذي يولَج منه إلى هذا العالم الفسيح والرحب، ولأن روح المبدع الحق دائمة التفكر في كل ما يحيط بها -ببعد إيجابي آمل غير يائس- فهي روح تدرك أن العبثية واللاأدرية وإشباع اللذة الجسدية والمادية، واعتبار الواقعية المتتبعة لتفاصيل السقوط الإنساني هي حقيقة الإنسان المطلقة، ليست من الإبداع في شيء، وأنها مجرد تعبير عن أحوال مرضية ينبغي مداواتها بمختلف أنماط الإبداع السليم.
روح المبدع كالماء؛ إذا لامس أديم الأرض اهتزت وربت مشرقة مستبشرة، وإذا شرب منه المتعطشون دبّت فيهم الحياة. إن المبدع بالمواصفات المتطلع إليها، طبيب حاذق في مجاله، عارف بحقائق النفس البشرية، وعارف بالمذاهب والأهواء التي تنحرف بالإنسان، وعارف بما يداويها حين يشتد المرض، وعارف -قبل ذلك- بشروط الوقاية من الأمراض والأهواء.