أفكار فيما وراء الكورونا
محنة الدّولة ومحنة مفاهيم الاجتماع البشريّ
لأزمة الكورونا أوجه عديدة نأخذ منها هنا ما يتّصل بالدّولة كمفهوم وككيان ناظم للاجتماع البشريّ. ففي الأزمة، كما هي حاصلة وتتدحرج، أكثر من دلالة في هذا الباب ليس على مفهوم الدّولة فحسب بل على طبيعة الأنظمة الّتي فيها ومعنى الاجتماع البشريّ في هذه المرحلة من التّاريخ، أيضًا. ونحن منذ البداية نوضّح أنّنا نميّز بين الأزمة بوصفها وباء وبين “سياسات إدارة الأزمة” وهي المتغيّر الّذي يدلّنا على مبحثنا هنا.
الأزمة بوصفها وباءً عابرًا للحدود والقارّات عكست بشكل واضح عُمق نظام العولمة القائم في مستوى منه على كثافة تنقّل البشر بين الأمكنة وسرعة هذا التّنقّل. فإذا افترضنا أنّ الوباء بدأ من إقليم يوهان في الصّين، فقد انتشر في غضون شهور قليلة إلى مُعظم دول العالم. هذا يعني أنّ أمامنا عيّنة كافية من الدّول المتفاعلة مع الوباء لنستنتج منها عليها وعلى ما يتّصل بمفاهيم الاجتماع.
نستطيع أن نُلاحظ دون عناء من التّقارير المنشورة، الرّسميّة منها والنّقديّة غير الرّسميّة، أن معظم الدّول أخفقت في التّعاطي مع الأزمة. هكذا في إيطاليا وإسبانيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وإيران وإسرائيل ولبنان مثلا. ونستطيع أن نُلاحظ، أيضًا، أنّ منظمة الصّحّة الدّوليّة ارتبكت حدّ أنّها لم تعتمد مبدأ المساواة في التّعامل مع الأزمة ومع الدّول المنكوبة بالوباء ـ تايوان مثلًا. واتّضح، أيضًا، أنّ حكومات “مُحترمة” أقدمت على “سرقة” و”خطف” معدّات وتجهيزات طبّيّة وأحيانًا أساسيّة ـ الكمّامات مثلا ـ وهي في الطّريق إلى دول أخرى كي توفّر لنفسها ما يستر هشاشتها أمام الوباء وأمام مواطنيها.
وظائفيّة الدّولة في الاختبار
على العموم يُلاحظ أنّ مُعظم الدّول لم تكن مستعدّة في منظومتها الصّحيّة على ما تعنيه من بُنيّة تحتيّة مناسبة، مشافٍ ومراكز طبيّة وموارد بشريّة وملاكات وطواقم ومهارات وتجهيزات ومعدّات لسيناريو تفشّي وباء على شكل فيروس تلوّثيّ كالّذي نحن بصدده ـ COVID-19. من هنا فإنّ عشرات الدّول تعاني إلى اليوم من نقص حادّ في كلّ ما ذُكر وحتّى في الكمّامات الطّبيّة المناسبة والقدرة على إنتاجها. هذا عِلما بوجود أبحاث وتجارب سابقة تنبأت بحصول طفرات فيروسيّة بهذا الحجم حدّدتها المراكز البحثيّة والمطبوعات المتخصّصة. ونفترض أنّ بعض السّلطات الصّحيّة في بعض الدّول استشرفت سيناريوهات بهذا الاتّجاه. ومع هذا فإنّ مُعظم الدّول ضُبطت غير مستعدّة ولا في أي مستوى من المستويات. مع هذا نُشير إلى أنّ مجموعة من الدّول المقتدرة كألمانيا والسّويد والدّانمرك وإيسلندة مثلًا استطاعت أن تحدّد سياسة واضحة من الوباء في فترة زمنيّة قصيرة، اعتمادًا على معرفتها التّامّة بالقدرات العالية لجهازها الصّحيّ والمهارات والملاكات الكافيّة للتّعامل مع الوباء. وهو أمر لا يتأتّى من اليوم إلى الغد بل من سياسات مديدة ومن مفهوم الدّولة لذاتها ووظائفها تجاه مواطنيها. أو لنقل هي محصّلة لمدى إفلات الخدمات الصّحيّة في هذه الدّولة أو تلك من سيرورات التّاريخ والاقتصاد والاجتماع الفاعلة فعلها في تغيير وظائف الدّولة ومفهومها هي لهذه الوظائف. ونفترض أن تسارع سيرورة العولمة في العقود الأخيرة، على ما تعنيه من اندفاع لقوى السّوق وشيوع عقيدة خصخصة القطاعات العامّة في الاقتصادات الوطنيّة والكونيّة، قد ترك أثره بتفاوت في الدّول والمجتمعات.
وقد لاحظنا، أيضا، أنّ الدّول ذات الأنظمة المختلفة أدّت في الأزمة أداءً مختلفًا. ونورد فيما يلي نماذج نعتبرها دالّة على مفهوم الدّولة وطبيعة أنظمتها وعقائدها وعلى مفهوم الاجتماع فيها كما كشفتها الأزمة.
الدّول النيولبراليّة ـ إذا أخذنا الولايات المتّحدة مثلا باعتبارها الدّولة الأكثر اقترانًا بالعولمة والسّوق الحرّة وعقيدة “يد الله الخفيّة” الّتي تحرّك الاقتصاد وتنظّم الاجتماع ومع الانسحاب شبه الكامل من الخدمات العامّة لصالح خصخصتها، سنرى أنّها رغم “عظمتها” المتخيّلة أو الواقعيّة كدولة، إلَا أنّها بدت في ذروة هشاشتها فيما يتّصل بمعالجة الأزمة أو اعتماد سياسات واضحة مبنيّة على أساس عقيدة أو فرضيات عمل. وهو ما جعل دالّة الموتى في ارتفاع مضطرد من يوم ليوم. بل رأينا أنّها عجزت عن توفير الخدمات اللاّزمة في الوقت المناسب سوى في الحالات الّتي استطاع فيها المريض دفع ثمن كلفة علاجه! أو بكلام آخر ـ عجزت قوى السّوق السّاعية إلى الرّبح عن وضع سياسة تصدّ الوباء وتكبحه. لقد كشف الوباء طبيعة الدّولة الأمريكيّة في راهنها والإيديولوجيا الّتي تحكم الاجتماع وتُديره. إنّ غياب الدّولة عن توجيه الاقتصاد وإدارته بشكل مباشر وحصرها ذلك في “الأدوات الماليّة” كالبنك الفيدراليّ والبورصة ومعدّلات الفائدة وسياسة الاعتمادات تُرجم إلى غياب أو شبه غياب في مواجهة الأزمة بشكل فعّال. بل عكست تصريحات الرّئيس الأمريكيّ بخصوص الأزمة ارتباك الدّولة ومنظومتها الإداريّة. ولعلّ أوضح ما نُشر في هذا الباب هو تلك الأحاديث المشتقّة من الخطاب النيوليبراليّ أو قُل الرأسماليّة المتوحّشة والقائلة بضرورة التّضحيّة بكبار السّن أو بمئتين ألف مريض بالاحتمال لغرض حماية الاقتصاد وعمليّة الإنتاج ـ إقرأ عمليّة تكديس الأرباح. أي تفضيل استمرار الإنتاج على رصد ما ينبغي من موارد للتّعامل مع الأزمة. أو إخضاع الأزمة، أيضا، للمبدأ القائل بـ”يد الله الخفيّة” الّتي من شأنها أن تتدبّر الفيروس وانتشاره وضحاياه وكلّ شيء، وعليه ينبغي ترك ألأمور كما هي رهنا لـ”مِزاج” الفيروس وتحوّلاته أو للوضع الصّحيّ لكلّ مواطن. إلى حدّ مّا، قالت الدّولة لمواطنيها تدبّروا مع الوباء كما تتدبّرون أحوالكم الأخرى، فأنا لست قادرة ولا معنيّة بسياسات غير إصدار جملة من التّعليمات والأوامر الّتي تحدّد تنقلات النّاس وسلوكها اليوميّ. أمّا التّحويلات الماليّة الّتي أجرتها الدّولة للمواطنين فهي تؤكّد هذا المنحى ولا تنفيه لأنّه جاء ليُغطّي عن فشل الدّولة في توفير خدمات صحيّة للجميع لأنّ مبنى جهازها الصّحيّ غير مؤهّل لذلك ويقوم على أساس بيع الخدمات لمَن يستطيع شراؤها فقط وأنّ الدّولة ليست طرفًا في التّعاقد بين مقدّم الخدمة وبين مُقتنيها!
الدّول ذات الاقتصاد المخطّط ـ لنأخذ سنغافورة مثلا الّتي تلعب الدّولة فيها دورًا حاسمًا ليس في الاقتصاد وعملياته بل في إدارة مباشرة للاجتماع البشريّ وتحديد المسموح والممنوع في الحياة اليوميّة في الحيّز العامّ والتّشدّد في توفير سلّة خدمات تقصد تحقيق الرفاهيّة للمواطنين وليس فقط الخدمات بمستوى معقول. هنا، رأينا نجاعة أكبر في تحديد سياسة مواجهة الوباء لجِهة سرعة وضعها ووضوحها وفاعليتها، أيضا. وهكذا كان في الصّين العظيمة الّتي لجأت بسرعة ونجاعة إلى سلسلة من الإجراءات المشتقّة من عقيدة نظريّة وفرضيات عمل مكّنتها من محاصرة الوباء وتطويق آثاره. ومثلها كوريا الجنوبيّة وتايوان. وقد حقّقت الأخيرة ـ عدد سكانها نحو 22 مليون نسمة ـ إنجازًا في صدّ الوباء. ففي كلّ هذه الدّول وفي اليابان أيضا لوحظ الدّور المركزي للدّولة في التّصدّي للوباء في مستوى توفير الخدمات الطبيّة اللاّزمة وفي مستوى الإجراءات الإداريّة الّتي نصّت على إحداث توازنات بين الإبقاء على الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة بالحدّ المعقول وبين عزل مسبّبات انتشار الوباء وحماية الفئات المتضرّرة أكثر من غيرها بالاحتمال من خلال فرض قيود على حريّة التّنقّل. علاوة على ذلك اهتمّت هذه الدّول برصد نسبة معقولة من ناتجها القومي لدعم المواطنين والاقتصاد في محنته. الدّولة هي الّتي حضرت بكلّ هيبتها وقدراتها في المواجهة. عمليًا وقفت حاجزًا بين الوباء وبين المواطنين المعرّضين له. عكس ما رأينا في النّموذج الأمريكيّ.
دول الرفاه و”الحياة الطيّبة” ـ هي الدّول الأوروبيّة الّتي لا تزال ملتزمة بمبادئ دولة الرّفاه والخدمات في أعلى ما يكون. السّويد وألمانيا والدّانمرك والنّرويج وهولندا وآيسلندا ـ هنا رأينا الدّولة تسارع في اعتماد سياسات واضحة ذات عقيدة وفرضيات واضحة في مركزها المراهنة على قُدرات الأجهزة الطبيّة ومستوى الخدمات والمهارات البشريّة في الجهاز وعلى الصّحة العامّة والوضع الصّحي المتين للمواطنين في صدّ الموجة الأولى للوباء ريثما تعدّ الدّولة نفسها للموجة الثّانية. كما راهنت على ثقافة النّاس ومسؤوليتها الذّاتيّة في الوقاية والتزام التّعليمات. هنا برز التزام الدّولة للمجتمع وأفراده وقُدرة المؤسّسات على توفير ما يلزم في وقت قصير نسبيّا وعلى اعتماد النّظريات العلميّة الّتي تطوّرت في البلد لغرض وضع السّياسات المناسبة في مواجهة الأزمة.
الدّول الفاشلة ـ من ضمنها دول متقدّمة وأخرى من العالم الثّالث والعالم العربي. فإيطاليا قصّة فشل في مواجهة الأزمة مثلها مثل دول العالم الثّالث المنكوبة الّتي تعدم جهازا طبيًّا وبُنيّة تحتيّة في حدّها الأدنى. إيطاليا في تراجع اقتصادي وإداري وسياسي من سنوات طويلة وهي مرشّحة وفق معطيات الاتّحاد الأوروبيّ للوقوع في أزمة اقتصاديّة حدّ الهاوية والتّشظّي. وقد كشفت الأزمة هشاشة الدّولة الإيطاليّة وعجزها. وقد عكست دموع رئيس الحكومة على الشّاشة هذه الهشاشة ووصول الدّولة إلى حالة العجز في إغاثة مواطنيها المنكوبين. ومثلها كلّ الدّول الفاشلة في العالم الثّالث الّتي لا تجرؤ على نشر معطيات الوباء في أراضيها. وإذا أخذنا لبنان مثلا لرأينا أنّ الدّولة عاجزة عن إغلاق حدودها ومعابر الدّخول والخروج منها لا في البرّ ولا الجوّ ولا البحر. هذا ناهيك عن أنّ الدّولة تعدم أي بنيّة تحتيّة أو ضمانات تأمينيّة لتوفير الخدمات لكافةّ المواطنين على قدم المساواة. أمّا الصّراع الدّائر حول معدّات وتجهيزات مواجهة الوباء فيترك هذه الدّول في المؤخّرة لأنّها لن تستطيع أن تصمد في صراع كهذا في مركزه القوّة والمال. هذا يعني أن يظلّ مواطنوها تحت رحمة قلّة الحيلة ونقص الموارد وبؤس السّياسات.
رأسماليّة الأزمات
في كتاب الأستاذة الأمريكيّة نوعمي كلاين بعنوان “عقيدة الصّدمة ـ صعود رأسماليّة الكارثة” (The Shock Doctrine: the rise of disaster capitalism)، نظريّة متكاملة تسرد قصّة انقضاض الرّأسماليّة على الأزمات واستثمارها في تكديس الأرباح. وتُشير إلى صناعة الأزمة والتّهويل والمبالغة في توصيفاتها لغرض شلّ ردّ فعل النّاس وكيّ وعيهم بأن لا حلّ للأزمات إلّا بما تقترحه المؤسّسات الرّأسماليّة ـ وغالبًا ما تفعل برعاية الدّولة ومن خلال بُنيتها القانونيّة والإجرائيّة. وتُشير كلاين إلى أنّ مثل هذا الأمر حصل مرّات عديدة في الماضي داخل الولايات المتّحدة نفسها ـ أزمة هوريكان كترينا في نيو ـ أورليانز مثلا ـ وخارجها من خلال حروب مدروسة مثل الحرب على العراق وتحويل أمر معالجة الإرهاب إلى شركات خارجيّة “بلاكووتر مثلا، بعد حوادث 11 سبتمبر! بمعنى أنّ “الصّدمة” الّتي تُستثمر من رّأسمال هي تلك النّاتجة عن حدث طبيعي كوباء الكورونا مثلًا، أو تلك النّاتجة عن سياسات محدّدة للدّولة كإشعال حروب أو تدخّل في أزمات. وفق هذه القراءة السّريعة يُمكننا أن نرى أنّ هذا النّموذج من الدّول ـ وإن بتفاوت ـ ينكشف في مثل هذه الأزمات متنكّرا للمجتمع وإدارته ملتزما بالعقيدة النيوليبراليّة ومُقتضياتها وأوّلها حماية مصالح “الأقوياء” وتجيير الأزمات في صالحهم واعتماد التّدابير اللاّزمة لوصول السّيولة النّقديّة المخصّصة لمعالجة الأزمات إلى جيوبهم. وقد تبدو هذه الحالة هي الأكثر تطرّفا وفق نظريّة كلاين لكنّها تحصل هنا وهناك بتفاوت في الدّول ذات العقيدة النيوليبراليّة (في إسرائيل أيضا، يطبقون السّياسات الأمريكيّة بشكل يفوق النّموذج الأمريكي نفسه لجهة توحّشه). لكن حتّى وفق نماذج أقلّ تطرّفا نرى بوضوح ضمور الدّولة كمفهوم ولاعب في إدارة شؤون المجتمع وفي الالتزام بحمايته وإدارته إدارة معقولة أو متساوية في كلذ الأوقات لا سيّما وقت الأزمات كما هو الوضع الآن مع وباء كورونا.
في بعض النّماذج انحسرت الدّولة وبانت هشاشتها وعجز نظامها النّيوليبرالي عن إسناد المجتمع والأفراد. في هذه الحالة بان النّظام الاقتصادي المعتمد فيها على حقيقته لجِهة سلّم أولوياته وأهدافه المتمحورة في تحقيق مصالح الرّأسمال ومؤسّساته والهروب بخدع لفظيّة أو إجراءات وهميّة أو بائسة من تحمّل مسؤوليّة الأزمة واستحقاقات مواجهتها. في بعضها لم تصل الدّولة إلى مستوى توفير الحدّ الأدنى من هذه الخدمات الصّحيّة لا في الحالة العاديّة ولا في حالة الوباء! من هنا رأينا أنّ “الدّول العاجزة” بسبب عقيدتها الاقتصاديّة أو بؤس نظامها في الأصل بإلقاء مسؤوليّة مواجهة الوباء على مواطنيها ـ “افعلوا كذا ولا تفعلوا، التزموا بيوتكم أو قلّلوا من اختلاطكم، أو تدبّروا أمركم بأنفسكم لا شأن لي ولا دخل أو لا قُدرة لي على شيء”.
صور الأزمة في حقول الاجتماع
سياسات مواجهة الأزمة كشفت الفارق في مفهوم الدّولة من منطقة لأخرى ومفهوم الاجتماع البشريّ في حدودها. فالرّأسماليّة بصيغتها النّيوليبراليّة غيّرت من هذا المفهوم لجِهة “تَرقيقيه” حدّ الهشاشة وانسحاب الدّولة من الحيز العامّ الّذي تقتصر وظائفها فيه على حفظ الأمن العام. أمّا ما عدا ذلك فهو للسّوق وقواها الفاعلة. دول مثل الولايات المتّحدة قادرة على مواجهة الوباء لو أرادت ذلك في سياساته وسلّم أولوياتها وإرادتها، لكنّها لا تُريد وليس في عقيدتها ـ الرّأسماليّة المتوّحشة ما يُجعلها تفعل. بمعنى أنّ “يد الله الخفيّة” لا تشتغل هنا قطعًا. أو أنّ هذه السّياسات في بعض الأماكن كشفت تراجع مفهوم الدّولة إلى كيان هشّ عاجز عن إغاثة مواطنيه ولو أراد بسبب من عدم نضوجه أو شحّ الموارد وغياب المعرفة الإداريّة والعلميّة. أمّا النّموذج الّذي نجح في التّعامل مع الأزمة حتّى الآن فهو الّذي يضمّ نوعين من الدّول، تلك الّتي لا تزال ملتزمة بمبادئ دولة الرفاه على ما تعنيه من اقتناع الدّولة بواجبها حماية المجتمع وتوفير حقوق اجتماعيّة واقتصاديّة إضافة إلى حقوقه السّياسيّة (السّويد والدّانمرك وآيسلندا ونيوزيلندا). أو تلك الدّول الّتي تصرّ على الحضور في الاقتصاد/المجتمع (الصّين وتايوان وسنغافورة) وتحمّل مسؤوليّة تحقيق مصالحه العامّة من خلال توفير سلّة خدمات عامّة ناجعة وفي مستوى عالٍ وتوزيع الموارد العامّة بشكل عادل نسبيا لما فيه سعادة النّاس ورفاهيتهم.
وما دمنا في هذا الباب نُشير إلى دلالات تركتها أزمة الكورونا في أرض مفاهيم دولانيّة ومجتمعيّة أخرى مثل مفهوم “الاتّحاد الأوربي” ككيان سياسي ـ اقتصادي ـ اجتماعي يتجاوز الدّولة إلى كيان متعدّد الدّول/الكيانات ويُحاول أن يتوسّع وينتشر ويتعمّق. فالأزمة بأشهرها القليلة كشفت ضعف اللّحمة والتّضامن بين الدّول وتملّص الكيانات الكبيرة مثل ألمانيا من مسؤولياتها نحو مجتمعات خارج ألمانيا ـ كإيطاليا الجارة، مثلا! أمّا انشغال كلّ حكومة بمواطنيها وعزوف الواحدة عن شؤون الأخرى “فكّك” “الاتّحاد من جديد إلى مركبّاته الأساسيّة وهو الدّولة القُطريّة الّتي اكتشفت أنّ عليها وحدها مسؤوليّة مواجهة الأزمة وأن لا شفيع لها في “الاتحّاد”! واللاّفت أنّه في حين غاب “الاتّحاد” في الحالة الإيطاليّة مثلًا حضرت مساعدات كوبا بالأطبّاء ومساعدات الصّين بالتّجهيزات! وأرجّح أنّ أزمة الكورونا ستترك أثرها على “الاتّحاد الأوروبيّ” والعلاقات بين مكوّناته في نظرة الدّول الأعضاء إليه ونظرة الدّول والمجتمعات إلى ذاتها. شيء مّا تضعضع في هذه “العمارة”ّ!
أرض أخرى ينبغي أن نرى إلى أزمة الكورونا فيها وهي المجتمع المعولم. فإذا كانت العولمة في سيرورتها الأساس دكّ الحدود وفتحها أمام حركة المال والبضائع وتنقّل النّاس وخطوط الإنتاج فإنّ الأزمة اضطرّت غالبية الدّول إلى إغلاق الحدود والعودة إلى أنظمة حماية تُبطئ إلى حدّ غير مسبوق حركة التّنقل الآنفة الذّكر. وكما حصل في أرض الاتّحاد الأوروبيّ، هنا أيضًا أذكت الأزمة المشاعر القوميّة الوطنيّة وأعلت من شأن الجماعة بوصفها الأهمّ والأعلى الّتي ينبغي أن تشمّر الدّولة عن سواعدها لإغاثتها. بمعنى أنّ الأزمة في انتشارها وخطرها أعادت تعمير نقاط العبور ورسم حدود الدّول القوميّة من جديد. كأنّ الأزمة أحدثت منعطفًا في سير التّاريخ من الدّول إلى خارج وجعلته يسير من خارج الدّول عودة إلى داخلها، من تفكيك المجتمعات داخلها بفعل العولمة وسيروراتها إلى إعادة البناء. وفي كلّ هذه الحركات الهائلة القوّة لا شيء يظلّ مكانه خاصّة مواقع الجماعات الّتي تشكّل المجتمعات في داخل الدّول. وقد رأينا سعيًا على مدار العالم للمجموعات المهيمنة داخل الدّول على الاستئثار بكلّ شيء في إطار عمليتيْ التّفكيك والبناء الجاريتيْن. وهذا ما يقودنا إلى حقل آخر من الحقول الّتي قد تؤثّر عليها الأزمة أو الدّق تكشف الأزمة ما يحصل في أرضها. وهو حقل الفكرة الليبراليّة الّتي جاءت الأزمة وكشفت انحسارها الشّديد بفعل العمليتيْن المذكورتيْن الحاصلتين منذ سنوات طويلة قبل الأزمة. وجاءت الأزمة لتفتح باب “حالة الطوارئ” كحالة عاديّة لن تنتهي وفق تقديراتنا بانتهاء أزمة الكورونا بل سيكون في كلّ المجتمعات المأزومة مَن يسعى إلى إطالة أمدها بدعوى معالجة آثار الأزمة على الاقتصاد والمجتمع.
وأخيرا، من الجدير أن ننظر إلى حضور أزمة الكورونا في مساحة العلاقات بين الصّين وبين الولايات المتّحدة الأمريكيّة كقُطبيْن اقتصادييْن مركزيْن يتصارعان على المكشوف أو بالوكالة وعلى كلّ المستويات لتحقيق الحدّ الأقصى من المصالح في عالم مأزوم بالكورونا وقبل الكورونا بألف عمليّة تفكيك وبناء في مواقع لا نهائيّة من الكرة الأرضيّة. تتأثّر علاقاتهما بالأزمة وتتأثّر سياسات الأزمة بالعلاقات في عمليّة معقّدة تسعى الصّين خلالها إلى الخروج من الأزمة على أنّها الطّرف الأقوى في هذا الثّنائي ـ أقوى في تصريف الأزمة وإدارتها وأقوى في مدّ يد العون لمجتمعات منكوبة أبدت عجزا في التّعامل مع الأزمة ومضاعفاتها. وهي تبدو إلى الآن على الأقلّ وقد “انتصرت” في سباق التّعاطي مع الأزمة، في مستوى أداء الدّولة وتطبيق السّياسات ومساندة المواطنين وتوفير الخدمات الطبيّة الضّروريّة والتّجهيزات اللاّزمة. بمعنى أنّ العالم في أزمة الكورونا، أيضا، لا يتوقّف عن السّياسة ولا عن الصّراع ولا عن السّعي المحموم لتحقيق مصالحه وتسجيل التّفوّق.
إدراك ـ ضمور الدّولة حضور المجتمع
لجأت بعض الدّول، كما في إيطاليا، إلى إلقاء كامل مسؤوليّة المواجهة على المواطنين وحمّلتهم المسؤوليّة الأولى في جهود المواجهة مع الوباء بأن عزلتهم عن الحياة في بيوتهم (هذا بعد أن شعرت أنّها تأخّرت في اعتماد إجراءات وتدابير تطويق الأزمة في الشّهرين الأولين) لتجنيبهم التقاء الفيروس اللّعين. وعلى النّهج ذاته، النّاتج من عجز الدّولة، زجّت بالطّواقم الطبّيّة غير المجهّزة ولا المدرّبة لمثل هذه الأزمات في خط ّالمواجهة الأوّل والأخير للوباء وهو ما أدّى في كثير من المواقع إمّا إلى تحييد هذه الطّواقم بسبب إصابتها بالعدوى واضطرارها للانعزال الصّحيّ أو إلى موتها كمصابة مباشرة طريق المرضى الّذين غصّت بهم المشافي وردهاتها وساحاتها وأقبيتها فيما برز النّقص الّشديد في التّجهيزات والموارد اللاّزمة. أمّا في الإكوادور أو الولايات المتّحدة فقد تحوّلت الدّولة إلى شركة دفن للموتى، تجمع جثثهم من الشّوارع والبيوت بالشّاحنات المبرّدة أو تجمّعها في مراكز كانت تجاريّة أو في أماكن خاصّة ريثما يزول الوباء ويتراجع فيتسنى إجراء مراسم دفن لائقة. بمعنى، أنّه في ساعة الحشر انسحبت الدّولة بوصفها “الملاك الحارس” من المعركة خاسرة أو أنّها لم تدخلها لمعرفتها المسبقة بالهزيمة فيما الضّحايا هم الأفراد الّذين يحملون الدّولة على أكتافهم ويموّلونها من جيوبهم ويحفظون عقدها الاجتماعي. وها هم خرجوا منه الشّريك المخذول. هذا هو الموضع في تاريخ الدّولة الحديثة الّذي يعود فيه الفرد ليبحث عن المجتمع بديلا للدّولة في حال خذلانها له أو في حال تعطيلها بالكامل لسبب مّا. وفي العديد من المواقع في العالم ظهرت قُدرات المجتمع المدنيّ في إعادة الأمل للفرد ولعموم النّاس ـ يكفي أن ترى الإيطاليين على شرفاتهم وشبابيكهم ينشدون للأمل والحياة كتعبير عن إدراكهم الحاجة إلى تعاضد وتضامن وتكافل ونظام جديد فتّته الدّولة النيوليبراليّة. أو هو تعبير عن التّطلّع إلى دولة تخدم المجتمع لا العكس. ومثل التّجربة الإيطاليّة الّتي أتت من انكسار، جاءت مبادرات على طول العالم وعرضه تعبّر عن كلّ مفاهيم الُلحمة والتّعاضد والمسؤوليّة والتّكافل ـ تطوّع ومتطوّعون وتبرعات بالمال والمواد والمؤن وبكلّ شيء أملا في البقاء والحضور عندما غابت الدّولة. لقد كشفت أزمة الكورونا أسوأ ما في الاجتماع البشريّ ـ الرّأسماليّة المتوحّشة الدّاروينيّة وأفكارها وفلسفتها و”أخلاقها”، وأجمل ما في الاجتماع البشريّ في الوقت ذاته، قيم الإيثار والتّضامن والرّأفة والسّؤال الأخلاقي فيما يتّصل بالحياة والموت وواجب المجتمعات نحو أعضائها لا سيّما في الأوقات العصيبة.
يطيب للبعض أن يُنظّر لانتهاء صلاحيّة الدّولة الحديثة كما عرفناها بدلالة أنّها عجزت أو غابت في المواجهة مع أزمة بهذا الحجم. أو هي تقلّصت وضمُرت لصالح قوى خارج مؤسّساتها وسيادتها هي قوى السّوق المُعوْلَمة والشّركات القادرة على ابتلاع دول بكلّ الأحجام. وقد تكون أحيانًا مجرّد كيانات تشتغل في خدمة هذه القوى وتحقيق مصالحها الّتي تشابكت حدّ عدم القدرة على تبيان أوّلها من تاليها أو رأسها من ذنبها. وهي قوى سترصد كذا مليون يورو في الشّهر للاعب كرة قدم لكنّها ستُبقي على العالم وباحث المختبر فقيرا أو على قدر حاله. وهي القوى ذاتها المستعدّة لأن تدفع كذا مليون لعارضة أزياء يتبعها الغاوون عبر الإنستغرام وغير مستعدّة لتوفير خدمات صحيّة بمستوى لائق لمواطني الدّولة. إنّه موضع الكسر الّذي تكون فيها المجتمعات ملزمة بإنتاج ذاتها من جديد. وقد كشفت أزمة الكورونا أنّنا قد بدأنا هذه الحقبة التّاريخيّة الّتي لا يُمكن أن نكون واثقين بنتائجها. فهي مثل الحبّ الّذي ندخله بإرادة دون أن نعرف كيف سيتدحرج وبأي اتّجاه.
(2)
محنة النّيوليبراليّة بوصفها ديستوبيا
في القسم الأوّل المنشور هنا في “الأوان” حاولت أن أرى أثر وباء الكورونا في مفهومنا للاجتماع البشريّ كما تجلّى في تعامل الدّولة ـ بوصفها الشّكل الأكثر حداثة للاجتماع ـ مع الوباء وما لفّ هذا التّعامل من نقاشات كشفت ضمور نماذج من الدّول حدّ الاضمحلال ومتانة نماذج أخرى حدّ الاقتدار. ليس هذا فحسب بل رأينا كيف أنّ الوباء كشف عيب النّيوليبراليّة في طورها الرّاهن وحتميّة صدام ما تروّج له من معايير “مقدّسة” لنظام “السّوق الحرّة” و”يد الله الخفيّة” مثل النّجاعة والنّموّ الاقتصاديّ مع منظومة قِيَم الحداثة وما بعدها، وفي رأسها قُدسيّة حياة الإنسان.
أمّا في هذا القسم فسأحاول الخوض في السّؤال عمّا يُمكن أن يحصل بعد تجاوز شوط الوباء بوصفه حدثًا مصمّمًا كما يراه فلاسفة ومهتمّون نشروا رؤاهم في هذا الموقع. فهل حقًّا نحن بصدد حدثٍ مصمّم بحيث لا يكون الاجتماع البشري بعد هذا الوباء كما كان قبله؟ أو هل سيكون الوباء فاعلًا في إقناع المجتمعات منفردة والمجتمع البشري مُجتمعًا بالانسحاب من أمكنة وأزمنة العولمة المجهولة المدى والعصيّة على الضّبط، إلى زمنٍ ومكان وطنيّ معلوم قابل للضّبط؟ أسئلة تتّصل من جديد بالاجتماع البشريّ. لا يقلّ أهميّة من مثل هذه الأسئلة ذاك السّؤال المتّصل بالعلاقات بين قوى السّوق المعولمة وفروعها الوطنيّة؟ والسّؤال هنا ذو مستويين اثنيْن، في الأوّل: على فرض أنّنا انتهينا من أمر الوباء، فما هو مصير توازنات القوى بين القوى الاقتصاديّة الكُبرى الفاعلة والمتنفّذة المتصارعة على الثّروات والموارد الاستراتيجيّة. في الثّاني: ما هو مصير هذا التّقطّب بين هذه القوى وبين المستَغَلِّين المُستضعفين في الأرض بعد أن ازدادوا التّصاقًا بالحدّ الأدنى ولم يصلهم من الثّروات وتكديسها ما كانوا يأملون؟
أسئلتي كبيرة أطرحها لا لغرض الإجابة عليها وحدي بل آملًا في أن تُثير محاور في النّقاش لم يطرقها المهتمّون بعد أو طرقوها من زوايا اهتماماتهم وحقولهم المعرفيّة.
الكورونا ـ هل هو حدث مصمّم حقًّا؟
أثر الكورونا على الاجتماع البشريّ متعلّق بمدى تحوّله إلى حدثٍ مصمّم على مستوى الكون. حتّى يتّضح السّؤال علينا أن نعرّف الحدث المصمّم على مستوى الكون. وهو تعريف نظريّ وعمليّ في آن. الحدث المُصمّم في تاريخ المُجتمع البشريّ هو ذاك الّذي يترك أثره على الكون وينبري الاجتماع البشريّ بالاشتغال بدروسه ومُدركاته بواسطة مكوّنات الاجتماع ـ الدّول والمنظّمات ومراكز تطوير الأفكار ومنظومات العقائد وتحويلها في نهاية الأمر إلى: قوانين، أعراف، معايير، نصوص، دساتير، سياسات، اتّفاقيات، تفاهمات وبرامج. من الأحداث المصمّمة وهي في العادة مُمتدّة زمنيًا، نشوء الدّولة الحديثة ـ القُطريّة، والثّورات الكبرى، الصّناعيّة والمعلوماتيّة، والثّورات الإيديولوجيّة، الفرنسيّة والرّوسيّة والأمريكيّة، الحرب الكونيّة الأولى والثّانية. بقصد قاصد انتقيت أحداثًا مصمّمة من العصر الحديث الّتي شكّلت على نحو كلّي الاجتماع البشري في راهنه.
أتحفّظ من تسمية وباء الكورونا حدثًا مُصمّمًا بحجم الأمثلة الّتي سُقتها هنا. وقد أكون في هذا مُخالفًا لوجهة نظر زملاء مفكّرين وفلاسفة. لكنّي سأقترح التّأمّل الدّارس لما أحدثته الأوبئة عبر التّاريخ البشري لأشير إلى أنّها لم تغيّر من حركة التّاريخ وإن كانت حصدت عشرات ـ مئات الملايين من مرّة لمرّة. صحيح أنّ تغيّرات في الاجتماع البشريّ أحدثت الأوبئة وطفراتها لكنّ الأوبئة لم ترتدّ على الاجتماع البشري ليُغيّر من نزعاته الّتي حكمت سير التّاريخ. فالأوبئة الّتي نجمت عن وصول المُستعمِر الأوروبي إلى شمال أفريقيا وأمريكا اللاّتينيّة مثلا، والّتي وأودت بحياة الملايين لم تُغيّر وجهة الاستعمار ولم تجعله يقف أمام صورته في المرآة وينكفئ راجعًا. وهل غيّرت الكوليرا من “طبيعة” المجتمع البشري أو المجتمع الوطني داخل الدّول أو هل فعلت الكوليرا ذلك، سوى الاشتغال ووضع سياسات لمواجهة الوباء؟ وهل غيّر نقص المناعة المُكتسبة المعروف بـ”الإيدز” أيّ شيء في الأفكار الكُبرى الّتي يقوم الاجتماع البشري عليها؟ لقد أودى وباء الجدري في بدايّة القرن العشرين بحياة حوالي 300 مليون إنسان بعد أن ضرب 31 دولة وإقليم في حينه ـ هل غيّرت هذه الحقائق المذهلة، مقارنة بمعطيات وباء كورونا وأوبئة أخرى، في المئة سنة الأخيرة ـ من طبيعة الاجتماع البشري والعوامل الّتي تتحكّم فيه؟ أسوق هذا للتّدليل على ما أرجّحه من أنّ وباء الكورونا غير قادر على التّحوّل إلى حدثٍ مُصمّم بالنّسبة للمجتمع البشريّ أو توجّهاته في المرحلة المقبلة، مثله في هذا مثل أوبئة أخرى أشدّ وأكثر فتكًا أتت وانقضت دونما أن تنكسر حركة التّاريخ باعتبارها انتقال المجتمع البشريّ من طور لطور بدفع من الصّراع بين الطّبقات أو بدفع القوى المتنفّذة فيه نحو آفاق محدّدة ـ القوى القابضة على وسائل الإنتاج ومفاتيحه وعلى الثّروات والموارد ورأس المال. يبدو لي في ضوء حركة التّاريخ بهذا المعنى هي الوحيدة الّتي غيّرت وتغيّر في طبيعة الاجتماع البشريّ ومنظوماته الفكريّة والعقيديّة والأخلاقيّة. أمّا الأوبئة فقد تفتك ثمّ تذهب كأنّها لم تكن وإن كانت تغيّر من سلوكيات الأفراد ومن عاداتهم وخياراتهم، أو من سياسات المجتمعات والدّول وفي اقتصاداتها ـ لكنّ كلّ هذا، إذا حصل، لا يقترب من تغيير مفاهيم الاجتماع البشريّ.
مُجتمع بشريّ يُفلت من كوابحه
جدير بنا أن نرى في أي سياق تاريخي يأتي وباء الكورونا. ما هي حركة التّاريخ الّتي نفترضها أرضًا للوباء وكيف يُمكن أن يكون التّفاعل بينها وبينه. السّيرورة الأساس الّتي أتبيّنها في حركة التّاريخ البشريّ في العقود الأخيرة، هي العالم من وثاقه الّذي تشكّل في النّصف الأول للقرن العشرين. وفي اعتقادي أنّها الحركة الأساس الّتي ستحكم العالم في المدى المنظور بعد انتهاء أزمة الكورونا. أمّا التّحرّر هنا فهي لفظة تعني الإفلات والجموح والتّوحّش، وأستعملها للتّدليل على انسحاب مزدوج للاجتماع البشري من فكرتيْن كبيرتيْن، الأولى ـ فكرة دولة الرّفاه الّتي أنتجتها سلسلة من الثّورات الفكريّة والنّضالات الطبقيّة والعمّاليّة المعمّدة بالدّم من أستراليا إلى بريطانيا إلى أمريكا الشّماليّة. وهي شكل متطوّر للاجتماع البشريّ يقوم على توازن غير مسبوق لقِيمتيْ المساواة والحريّة وتطبيق ناجع لمفهوم العقد الاجتماعي وشكل متطوّر للدمقراطيّة كفكرة ونظام إدارة وإجراءات يوميّة وأنماط وترتيبات وتوازنات. الثّانية ـ فكرة السّلم البشريّ المعبّر عنها بهيئة الأمم المتّحدة وسلسلة من المواثيق والمعاهدات والقوانين والأعراف الّتي أنتجتها الحروب في العصر الحديث لا سيّما الحرب العالميتيْن الأولى والثّانية. حركة التّاريخ تنزع بوضوح إلى الإفلات من استحقاقات فكرتي دولة الرّفاه والسّلم البشري كفكرتيْن تعكسان الأمل في اجتماع بشري أفضل وأكثر أمنا واستقرارًا لأكثر ما يكون من البشر.
رسمت توازنات الفترة الّتي أعقبت الحرب الكونيّة الثّانية خرائط العالم وعلاقاته على إيقاع تقاسم المصالح ومناطق النّفوذ وموارد العالم بين قطبيْن وأتباعهما. وبدا أنّ الجميع متفاهمين على نحو يحفظ الهدوء العام في العالم. وبدا، أيضًا، أنّ العالم بقواه الأساسيّة قد خبِر على جلده معنى الحروب وكوارثها فآثر أن يجنح إلى تسوية الصّراعات بالدّبلوماسيّة أو عبر القطبيْن وما تفرضه التّوازنات بينهما. صحيح إنّ نزاعات نشأت هنا وهناك وأنّ الهدوء النّسبي مال أحيانا إلى التّصعيد ومع هذا ظلّت النّزعة الأساسيّة في العلاقات الدّوليّة هي ضبط النّفس والالتزام باستخلاصات الحرب ونصوص المعاهدات والمواثيق الّتي تحفظ العالم دون “تفجيرات” عسكريّة واسعة النّطاق. يُمكننا اعتبار ما تمّ هنا على أنه آليات (مجلس الأمن ومبعوثي السّلم واللّجان الأمميّة والمحكمة الدّوليّة ومؤسسات التّحكيم العالميّة) لتصريف الخلافات والنّزاعات بين الدّول والأمم في حال بروزها.
إلاّ أنّ انتهاء الحرب الباردة وهزيمة المنظومة الاشتراكيّة في صراع الأيديولوجيات شكّل، من حيث جوهره، حدثًا صمّم العلاقات الدّوليّة من جديد على أساس وجود قُطب واحد و”عقيدة” واحدة تقريبا قادتها الولايات المتّحدة الّتي بدت ـ وفق كلّ المؤشّرات ـ منتشية بنصرها التّاريخيّ حدّ ذهاب البعض إلى مقولة “نهاية التّاريخ” على اعتبار أنّه في الأساس سلسلة لا تنتهي من الحروب والصّراعات بين العقائد لا سيّما بين الرّأسماليّة وبين الفكرة الاشتراكيّة. ليس هذا فحسب، فقد أدّى انتهاء الحرب الباردة وانهيار أنظمة الحماية الوطنيّة في ثلث مساحة العالم تقريبا إلى تسارع وتيرة العولمة كجملة سيرورات في أساسها جريان أكثر سرعة ووحشيّة للبضائع والرّأسمال وخطوط الإنتاج والقوى العاملة وما تُنتج من أفكار ونظريات ومعايير في الاقتصاد وفي الحياة عمومًا. وهو جريان محرّر إلى درجة شبه تامّة من تدخّل الحكومات الوطنيّة ورقابتها ومكوسها وضرائبها. واتّضح أكثر من أي وقت مضى في التّاريخ تفوّق قوّة الرّأسمال المعولم على الدّولة الوطنيّة وتقدّم الشّركات المتعدّدة الجنسيات الكونيّة على الدّول حتّى الكبيرة منها. وكما يقول يورجن هبرماس إنّ العولمة أضعفت ليس السّيادة الوطنيّة بمفهومها الكلاسيكي فقط، بل أضعفت قُدرة الحكومات الوطنيّة على بناء السّياسات الوطنيّة أو تطبيق هذه السّياسات على الأرض. ليس هذا فحسب بل إنّ العولمة دكّت الفكرة الدّيمقراطيّة في الدّولة الوطنيّة من خلال التّدخّل الفظّ في العمليّة الاجتماعيّة وصراع القوى بين وجهات النّظر في المجتمع الوطنيّ وفي عمليات الانتخاب، مصدر السّيادة والنّظام البرلماني. ويُخيّل لي أحيانًا أن الانتخابات في بلدان عديدة كبيرة وصغيرة صارت أكثر فأكثر انعكاسًا لهذه الصّراعات في حملاتها ونتائجها ورموزها وفوزها وخسارتها. كلّما فاز أحد في أقصى الشّرق وجدنا أحدًا في أقصى الغرب يفرح للنّتيجة. مشهد يعبّر عن تشابك منظومة العولمة وتقاطعها مصلحيًّا بشكل غير مسبوق في التّاريخ وعلى نحو يحسم شكل المجتمع البشري عبر العالم ويرسم معالمه. هناك ازدياد كبير في ثروة الشّركات الخاصّة والقطاع الخاصّ ليس على حساب الطّبقات والفئات الفقيرة والوسطى فحسب بل على حساب الدّول نفسها، أيضا. وهو أمر جعل من الدّول أقلّ قدرة على تنفيذ مشاريع أو ضمان سلّة خدمات معقولة أو مواجهة أزمات مستجدّة. فقد تملك القرار لكنّها يقينًا لا تملك اليقين. وقد رأينا ذلك جليًّا في أزمة وباء الكورونا حيث عرفنا دولًا عُظمى كالولايات المتّحدة تفشل تمامًا بسبب بنيّة اقتصادها وانسحاب الدّولة منه في مواجهة الوباء وآثاره. وقد خضعت سياسات الأزمة فيها إلى حسابات الرّبح والخسارة كصورة أبهى لتحكّم مفاهيم اقتصاد السّوق الحرّة في إدارة الاجتماع البشريّ.
صار واضحا أكثر فأكثر قوّة الشّركات في صياغة السّياسات الاقتصاديّة الوطنيّة وتوجيهها من خلال طاقتها الماليّة أو من خلال قبضتها على البورصات والاتّجار ونفوذها في المؤسّسات الماليّة، أو عبر شبكات كونيّة من نشطاء اللّوبي الاقتصاديّ المنتشرين في كلّ موقع تتقرر فيه السّياسات الوطنيّة والإقليميّة والدّوليّة. فمحيط مقرّ هيئات الأمم المتّحدة والبنك الدّولي وصندوق النّقد مثلا تشهد حضورا كثيفا لهؤلاء النّشطاء الّذين يمارسون شتّى أنواع الضّغط ليل نهار على صانعي القرار. كما أنّ مدينة بروكسيل مثلا مقرّ هيئات الاتّحاد الأوروبي تعجّ بهؤلاء النّشطاء الّذين يمثّلون شركات أوروبيّة وعالميّة مهمّتها تيسير عملها وتجارتها وأرباحها من خلال إقناع دول الاتّحاد بعدم ضبط الأسواق أو تشديد الأحكام المتّصلة بالصّحة العامّة أو بالبيئة أو بالجودة.
أمّا النّتيجة فلم تكن مجرّد المسّ بمفهوم دولة الرّفاه بل بمحاصرته حدّ تدميره كلّيا في أقاليم واسعة من العالم لا سيّما في أكثر المجتمعات بحاجة إليه ـ مجتمعات نامية ودول العالم الثّالث أو الدّول الّتي لا تزال تلملم جراحها وشظاياها من آثر حقبة الاستعمار. ولننتبه كيف أنّ روسيا ـ وريثة الاتّحاد السّوفييتي ـ والهند والصّين انخرطت كلّها في النّظام الجديد ضاخّة فيه قوى دفع جديد أخذته إلى ذُرى جديدة من حيث ما يصفه توما فيكتي في كتابه الجديد “الرّأسمال في القرن الواحد والعشرين” كأبشع صورة لتركّز الثّروات في أيدي قلّة من النّاس عبر العالم. ويؤكّد أنّ الأمر لم يحدث من تلقائه بل بقوّة تطبيقات إيديولوجيّة وسياساتيّة على مستوى الدّول والكون كلّه. ويضرب مثلا على ذلك سياسات الضّرائب ومبادئ الملكيّة الشّخصيّة فقد نزعت في كلّ مكان تقريبا إلى تخفيف العبء الضّريبي عن الرّأسمال حدّ تحريره منها و/أو عبر “ملاجئ” خاصّة منتشرة هنا وهناك على شكل دول أو جيوب دولانيّة تعفي الشّركات المسجّلة فيها من الضّرائب أو تخفّضها إلى الحدّ الأدنى. أمّا الملكيّة الفرديّة فاعتُبرت مقدّسة أكثر فأكثر الأمر الّذي سمح لقلّة مُقتدرة من امتلاك كلّ شيء تقريبا ـ أصول ماليّة وأسهم لشركات ومُنتجين في كلّ حقل ومجال ومناجم ومناطق الموارد الطبيعيّة وعقارات دون حدود.
ونحن إذ نؤكّد أثر العولمة بوصفها سوقا عالميّة حرّة القويّ فيها يأكل الضّعيف (يُذكّرنا المشهد بما أشارت إليه أدبيات العقد الاجتماعي من أنّ الحالة قبل العقد هي حالة طبيعيّة لا أمن فيها ولا أمان وأنّ القويّ فيها يأكل الأضعف منه أو يستغلّه) لا ننسى، أيضا، الخلل الّذي أصاب خارطة المصالح بعد انتهاء الحرب الباردة واضطرار القوى الفاعلة إلى محاولة رسمها من جديد من خلال صراعات مباشرة أو بالوكالة عبر قوى تابعة. صحيح أنّ المكوّنات الأضعف في النّظام المُعوْلَم هي الّتي كانت الأكثر تأثّرًا من هذه التّحولات ـ العالم العربي مثالا ـ لكن هذه التّغيرات أنتجت مفاعيلها في الدّول المركزيّة، أيضا، كالولايات المتّحدة وروسيا والاتّحاد الأوروبيّ والصّين والهند. واتّخذت هذه المفاعيل أشكالا خاصّة في كلّ موقع يُمكن تبيان بعض ملامحها مثل انحسار قوّة الفِكرة الدّمقراطيّة في معاقلها واستحقاقاتها وعودة اليمين العالمي إلى الواجهة والتّراجع عن اتّفاقيات حفظ البيئة العالميّة والالتزام بمعاهدات الحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري وضرب اتّفاقيات التّجارة الدّوليّة وخرقها بمبادرة الإدارة الأمريكيّة في عهد الرّئيس ترامب. هذا إضافة إلى اندلاع حروب إقليميّة في مواقع الصّراع وانهيار العديد من الدّول أو إضعافها إلى حدّ بقائها بالاسم فقط مثل اليمن وأفغانستان وسوريّة والصّومال وفنزويلا والبحرين وليبيا إلى آخر القائمة. لقد أنتجت قوى السّوق مفهوم “سوق العمل المرن” وفرضته في كلّ مكان تقريبًا وهو يقضي بتحريك خطوط الإنتاج وبتسهيل هجرة العمالة لتحقيق مزيد من التّحكّم في الأجور وإبقائها في مستوى يحقّق للمُنتجين أعلى نسبة من الرّبح. وقد تمّ تعميم مبدأ المرونة هذا على الاجتماع البشري للغرض نفسه من خلال جعل مفهوم الدّولة بسيادتها وحدودها وقرارها الوطنيّ مرِنًا بما فيه الكفاية حدّ السّيولة الّتي يتمّ تجييرها فيما يتناسب مع الهدف والمصلحة.
لا أعتقد أنّ وباء الكورونا سيؤدّي في المدى المنظور إلى وقف هذه السّيرورة أو كبح جماحها بوصفها شبكة من العمليات الاجتماعيّة ـ الاقتصاديّة ـ الفكريّة ـ السّياسيّة ـ العسكريّة الهائلة التّأثير. لأنّ هذه الشّبكة قادرة على احتواء الوباء مهما كان فتكه بالبشر في أكثر من مئتي دولة على مدار الكرة الأرضيّة. وهي القوى الّتي احتوت الأزمة الاقتصاديّة في العام 2008 ومضت إلى مزيد من التّحكّم بالثّروات والموارد على حساب الشّركاء الآخرين في المجتمع البشريّ ـ طبقات عاملة وفئات وسطى ـ تلك الفئات الّتي كانت عبر العصر الحديث فاعلة في الثّورات والتّحويل من طور اجتماعي لطور اجتماعي آخر. وهنا يأتي المحور ألأبرز الّذي كشفته أزمة كورونا وهو حقيقة أنّ هذا العالم الرّاهن يعدم قوة حقيقيّة قادرة على فرض تغيير فعلي في الاجتماع البشريّ لجِهة إعادة بناء الأوتوبيا القائمة على دولة الرّفاه من جهة وعلى السّلم العالميّ من جهة ثانية أو على عدل نسبيّ في توزيع الثّروات في إطار ما يسمّيه توما فيكتي “NEW DEAL”، أو كتلك القادرة على إنتاج أوتوبيا مناوبة جديدة تشكّل تحدّيًا جدّيا للديستوبيا الّتي أنتجتها النّيوليبراليّة المتوحّشة. وهذا ما سنحاول الوقوف عنده هنا بوصفه السّؤال الأبرز الّذي تطرحه أزمة الكورونا.
هل هو غياب قوى تغيير المجتمع البشريّ؟
كشفت أزمة الكورونا المستجدّة أزمة مُقيمة في الاجتماع البشريّ ناجمة عن اضمحلال حركة ثوريّة حقيقيّة استطاعت في حِقَب سابقة أن تحقّق إنجاز دولة الرّفاه كتسويّة تاريخيّة بين قوّة العمل والرّأسمال، مالك وسائل الإنتاج وكنقطة توازن معقولة بين المصالح في المجتمعات وبينها. لقد استطاعت الشّبكة النّيوليبراليّة المندفعة بقوّة على متن العولمة أن تحتوي نقيضها في كلّ المواقع تقريبًا وتنسحب من جانب واحد وبفظاظة من تفاهمات التّاريخ مع حركة العمال والفئات الوسطى ومن اتّفاقيات ما بعد الحرب العالميّة الثّانية الماليّة والسّياسيّة والعسكريّة. وأراها منفردة في رسم مشهد الاجتماع البشريّ بعد أن “اشترت” كلّ شيء، السّياسة ومواقع صنع القرار والدّول والقيَم والمعرفة وأنتجت بدلها مفاهيم تخدمها وتصبّ في مصالحها. أو بكلمات أخرى ماركسيّة، استطاعت النّيوليبراليّة أن تشتري حتّى الآن التّناقض التّاريخي بينها وبين الّذين تستغلّهم أو تحرمهم أو تنهب مواردهم وحقوقهم في عيش كريم أو رفاهية يستحقونها.
من اللاّفت مثلا أنّ الأفكار الثّوريّة قد اضمحلّت عِلما بأنّ الاجتماع البشري ازداد قهرًا وظُلما وإجحافًا وأنّ الفوارق فيه اتّسعت وتركّزت الثّروات في أيدي قلّة بلغ ذروة غير مسبوقة في المئة سنة الأخيرة. الأفكار لا تضمحلّ من ذاتها، ولا القِيَم الّتي سادت حقبة الثّورات الكُبرى أو حقبة حركات تحرّر الشّعوب. هناك مَن أضعفها وشطبها من التّداول لصالح مفاهيم مناوبة تحقيق النّموّ الاقتصادي على وعد موهوم بأنّ زيادة معدّلات النّموّ لا بُدّ أن تعود بالفائدة على كلّ الشّركاء حتّى أضعفهم. هكذا تمّ رهن حقوق العمال وأجورهم ورفاهيتهم لفكرة تحقيق النّموّ الّتي تحوّلت إلى مبرّر حاضر دائمًا لسلب حقوقهم وخفض أجورهم. لقد تحرّرت أوطان كثيرة في حقبة تحرّر الشّعوب واستقلّت ورفعت أعلامها طيلة النّصف الأوّل من القرن العشرين ـ إلّا أنّه لم يبق منها الكثير واقفًا على رجليْه قادرا على رفع راياته بفخر لأنّ الاستعمار عاد بلباس آخر (حتّى كلمة الاستعمار صارت نادرة بعد أن شطبتها النّيوليبراليّة ومنظّروها ومصمّمو الوعي عندها من قاموس التّداول) عبر المؤسّسات الماليّة الوليّة أو عبر “الاستثمار” العدواني. فلننظر إلى ما حصل لدولة اليونان، هذه الدّولة العريقة، كيف سلبها نظام الإقراض كرامتها وكرامة شعبها. أو كيف أنّ النّيوليبراليّة أنزلت إيطاليا من رفاهيتها إلى أحطّ مرحلة لها في العقود الأخيرة ـ كما تجلّى ذلك في الإخفاق المبثوث للحكومة ـ الدّولة في حماية مواطنيها من الوباء. كذلك في إسبانيا؟
لننظر إلى العنف الثّوري كمصطلح وممارسة كيف اختفى من التّداول إلّا فيما ندر؟ كيف استطاع “النّظام اللّغوي الجديد” أن يحوّل هذا العنف الّذي كان مقدّسًا في مراحل سابقة إلى منظّمات مجتمع مدني تشتغل بالتّغيير الاجتماعيّ ليس إلّا تستقدم خطّ مواصلات إلى حي ناءٍ أو تُقيم ملجأ للنّساء المعنّفات أو توفّر بعض أماكن العمل بأجر بائس لسكان حيّ مهمّش. مثل هذه الإنجازات، على أهميّتها، تعبّر عن مستوى التّطلّعات في واقع اتّسع فيه فارق القوّة بين المُجتمع وبين القوى الّتي تُديره وتتصرّف بمقدّراته بما فيها الوقت لا سيّما الحاضر منه والمستقبل. الذّاكرة للنّاس والحاضر والمستقل للقوى المتنفّذة. الثّروة للقلّة واليُسر للبعض والبؤس للباقين.
بمعنى أنّ الأيديولوجيا النّيوليبراليّة اشتغلت، أيضا، في صناعة الأفكار والتّرويج لها في فرض سلطتها المعرفيّة والبلاغيّة كأي سُلطة كما عرفنا ذلك من كتابات غرامشي وفوكو وسعيد. كما أنّها استطاعت أن تتحكّم بالتّمثيلات، أيضا، عبر امتلاكها الواسع للميديا الحديثة والكلاسيكيّة وسيطرتها شبه التّامة على ثقافة الصّورة، أيضا، باعتبارها الأقوى في تحديد التّمثيلات والتّداعيات. ولم يغب عنها ضرورة السّيطرة على ورشات إنتاج الأفكار المتمثّلة بالأكاديميا عبر التّبرّع بسخاء للمؤسّسات الأكاديميّة العامّة أو عبر امتلاكها بالكامل كمشروع اقتصادي وإخضاع المعرفة العلميّة للسّوق. وقد لوحظ في كثير من المواقع أنّ الرّأسمال يُسارع إلى اقتناص الفرص في هذا المضمار والانقضاض على كلّ مؤسّسة أكاديميّة أو إعلاميّة واقتنائها إذا تيسّر ذلك حتّى لو لم تكن ربحيّة هي نفسها لأنّ الرّبح الصّافي هو في قيمتها الإضافيّة كمصمّمة للوعي أو كأداة جَتمَعة إيديولوجيّة بأهداف محدّدة.
قصد النّظام النّيوليبرالي المشبوك بعلاقات لا تُرى لعُمقها وتقاطعها والمتمتّع بقوّة هائلة في كلّ حقول الاجتماع البشريّ “كيّ الوعي” البشري بالعديد من الأدوات والمنظومات والتّطبيقات وهندسته على نحو مُريح وطيّع يحتوي مُسبقًا فكرة الثّورة الّتي جعلها مع الوقت “وعيًا نقديًا” يتعارض مع النّظام ولا يسعى إلى تغييره ـ وهي المحصّلة النّهائيّة تقريبًا للصّراع بين النّيوليبراليّة كقوّة تكتب التّاريخ وبين قوى مُضادّة تُريد أن تشارك في الكتابة أو تشوّشها. وهو يُنتج لغة ومُفردات جديدة سائلة أو مغسولة تزيّد القُبح الّذي أنتجته وتصوّره على أنّه أفضل الأقدار الممكن للإنسان أن ينعم بها في هذا الزّمن! وهو على نهج أنظمة سابقة كالاستعمار مثلًا يُنتج قوى الثّورة المُضادّة في كلّ مكان يتململ فيه النّاس ويخرجون على لُغته وشريعته. آليّة معروفة لاحتواء الثّورة أو إجهاضها كما حصل في الحيّز العربي في سوريّة والعراق مثلًا، وكما يحصل في أفريقيا. لقد كانت “داعش” طريقة هذا النّظام ـ وهو نظام متعدّد الرّؤوس والشّركاء وأصحاب المصالح ـ في الانقضاض على موارد طبيعيّة في العراق وسوريّة وليبيا. وكانت ذريعة “السّلاح النّووي” في أيدي صدّام حسن طريقتهم في وضع اليد على موارد البلد ومقدّراته. وكانت “القاعدة” من قبل طريقهم السّالكة إلى أفغانستان.
إنّ الصّراع على الموارد والمصالح يتمحور الآن ليس بين الشّعوب وبين النّظام النّيوليبرالي بل بين أقطاب هذا النّظام في الرّاهن. هذا عِلمًا بتعمّق التّناقض بين القلّة الممسكة بعنق التّاريخ وبين غالبيّة من النّاس تعاني من الاستغلال أو في طريقها إلى الفقر. وقد يكون الوباء أعاد إلى الواجهة هذا التّناقض أيضا بعد أن شهدنا لعقود تمحورا للصّراع بين قوى الرّأسمال نفسها من خلال دول أو شركات أو غيرها من وسائل ـ أسواق وبورصات ومضاربات لا نهائيّة. لننتبه كم من الكتابات ـ وأفترض في اللّغات الّتي لا أعرفها أيضا ـ كُتبت في أشهر الوباء بالذّات عن ضرورة وقف تمدّد الصّين باعتبارها هي الخطر وليس الوباء! ومن تحاول الأوساط الأمريكيّة المتنفّذة وأعوانها في كلّ مكان على توجيه الأنظار من وباء الكورونا أو استثماره ضدّ الصّين على اعتبار أنّ الصّراع الأكبر هو بين الولايات المتّحدة والصّين، ومن ثمّ بين الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي وبين محاور إقليميّة في الشّرق الأوسط وشرق آسيا وجنوبها وفي كلّ القارّات في العالم. وهو صراع على الثّروة والموارد الطبيعيّة والمصالح. وهو صراع يتّخذ أشكالا عديدة من شراء الدّول إلى المبادرة إلى حروب مباشرة أو بالوكالة أو حروب مُخصخصة أو تقسيم دول أو إنشاء أخرى جديدة أو عبر تفاهمات وتحالفات تتغيّر وتتبدّل بين مراكز القوى العالميّة وقوى محليّة قد تكسب اليوم وتخسر غدا. وفي هذا الصّراع تؤجّل الفئات المُستضعفة في المجتمعات والشّعوب ومصالحها إلى موعد قد يأتي أو لا يأتي. وأرجّح أنّه لن يأتي في المدى المنظور تفاقمت أزمة الكورونا أو انفرجت. بل أرجّح بناء على نظريّة نوعمي كلاين “عقيدة الصّدمة ـ صعود رأسماليّة الكارثة” (The Shock Doctrine: the rise of disaster capitalism)، أنّ القوى النّيوليبراليّة قادرة ليس فقط على احتواء الأزمة بل على استثمارها. وقد رأينا كيف أنّ غالبيّة التّقدمات الحكوميّة الأمريكيّة في ضوء الأزمة ذهبت إلى الشّركات الكبرى. وأنّ هذه الشّركات تشترط إعادة العمّال المفصولين بسبب الأزمة إلى الحصول على تقدمة حكوميّة عن كلّ عامل فُصل. وليس لأنّ هذه الشّركات قد أفلست بل هي من الشّركات الّتي تحقّق أرباحا خياليّة منذ عقود على ظهر العمال وباستغلالهم، بل لأنّ هذه هي طبيعة العلاقة بين هذه الشّركات والدّولة كأمينة على المال العام ـ في نهاية المطاف ستأتي الأموال من دافع الضّرائب لا من الجيب الخاصّ للرّئيس ترامب ـ دورة مُغلقة: الكثيرون الّذين لا يملكون سوى القليل يسدّ رمقهم ويمنحهم بعض الوقت كي يتمتّعوا بالحياة وبعض رفاهيّة مضطرّون بتدخّل الدّولة والسّلطة لتحويل ما يدّخرونه أو يودعونه على شكل ضرائب ورسوم عند الدّولة للقلّة الّتي تملك الكثير!
استشراف
أزمة الكورونا عالميًا لن تؤثّر في التّوجّهات الّتي ترسم مشاهد الاجتماع البشريّ في الحقبة الرّاهنة ولا سلّم أولوياتها في المدى المنظور. هذا علمًا بأنّه من المفروض أن تُنتج كلّ ظاهرة نقيضها، قانون نفيها. بمعنى أنّه لا يُمكن للقوى الممسكة بناصيّة النّيوليبراليّة أن تظلّ قادرة على مواصلة توجيه دفّة العالم والاجتماع البشريّ بالاتّجاه الّذي يخدمها. ومع هذا ـ أفترض أنّها لن تتنازل عن ذلك بطيب خاطر أو لمجرّد أنّ وباء الكورونا أثار جُملة أسئلة جوهريّة وتحدّيات في هذا القطر وذاك حيال وظيفتها التّاريخيّة وما أحدثته من ضرر في المجتمع البشريّ وتدمير لاحتمالاته أن يكون أفضل وأعدل. سنراها تُقاتل بكلّ ما أوتيت من موارد وعلى أكثر من جبهة لأنّ لديها كلّ العالم لتخسره! بالمقابل، لا أعتقد أنّ العالم يخلو من الرّغبة والإرادة لرفع بطاقة حمراء في وجه هذه القوى والسّيرورات الّتي تقودها. ففي العالم مؤشّرات رفض ومُقاومة. ربّما أنّها لم تكتمل ولم تنتظم بعد. وربّما أنّها ليست بحاجة إلى اكتمال أو انتظام وأنّها ستتحوّل في يوم من الأيّام إلى مدّ يجتاح العالم كما اجتاحت ثورات الشّعوب العربيّة أقطارها أو كما اجتاح وباء الكورونا العالم.
تجدر الإشارة إلى ما فعله وباء الكورونا على الأرض الأوروبيّة. شرر وإرهاصات يُمكن أن تتحوّل إلى أثر الفراشة الّذي أحدثه وباء الكورونا. علينا أن ننتبه مثلا إلى ما كشفه الوباء من هشاشة النّسيج الّذي يتألّف منه الاتّحاد الأوروبي الّذي عاد في شهور الأزمة إلى مكوّناته ـ كلّ دولة تواجه الأزمة لوحدها. بل ظهر غياب أنواع التّضامن الأولى بين هذه الدّول مع عدّ انتصار الدّول القويّة للدّول الضّعيفة ـ على الأقلّ هكذا بدا في الإعلام. هنا قد يُعاد التّفكير في نظام “الاتّحاد” وتبعات هذا النّظام في العلاقات بين الدّول الأعضاء فيه. أرجّح أن تخلص بعض المجتمعات الأوروبيّة إلى استنتاجات قد تجعلها معنيّة بتغيير موضعها ضمن “الاتّحاد” أو يدفعها إلى المطالبة بوضع نظام عمل مُلزم للاتّحاد ككيان وسيادة اقتصاديّة في زمن الأزمات المُشابهة ولا أستبعد أن تجاهر بعض الدّول برغبتها في “بريكزيت” جديد على غرار ما حصل مع بريطانيا من قبل. لا أستطيع التّكهّن بمآلات الصّراع الآخذ بالتّعمّق والاتّساع بين الولايات المتّحدة كقوّة تحاول تكريس هيمنتها الاقتصاديّة السّياسيّة ـ العسكريّة عالميًا وبين الصّين الّتي تصرّ على مواصلة اندفاعها نحو صدارة عالميّة في كلّ المستويات الممكنة. لا أحد يستطيع أن يضمن بقاء الصّراع الكبير هذا والصّراعات الأدنى على الموارد والمصالح قيد السّيطرة وأن يستمرّ على حساب شعوب ومجتمعات وأقطار خارج الولايات المتّحدة والصّين نفسيهما. تُشير بعض المعطيات إلى أنّ الولايات المتّحدة بدأت تضيق ذرعا على مستوى الدّاخل والخارج بجدارة الصّين في الصّراع والمنافسة وأنّها تبدو الأضعف في معادلة الصّراع في المدى المنظور لأسباب تتعلّق ببنيتها الدّاخليّة ـ نظام فيدرالي لولايات متمايزة مع جيوب فقر وعوز واسعة وفقر الدّولة مقابل الشّركات العملاقة وإخفاق تامّ في مواجهة وباء الكورونا. بالمقابل، تقف الصّين متينة كمجتمع ونظام وثقافة ومعدّلات نموّ وتمدّد حثيث في القارّات وفي مرافق الإنتاج كافّة ـ من الصّناعات الكلاسيكيّة التّقليديّة إلى أرقى الصّناعات والتّكنولوجيا المدنيّة والعسكريّة. مثل هذه الصّراعات تغذّي اليمين العالمي في مستوى الفكر والاقتصاد وتدفعه إلى مزيد من التّوتير والشّحن السّالب ونظريات عنصريّة مقيتة يُعاد إنتاجها كسياسات تعمّق الفوارق والفجوات والاستحواذ والقهر والحرمان.
على مستوى منفصل متّصل علينا أن ننتبه إلى الاتّساع النّوعي غير المسبوق للفئات الوسطى في كلّ من الصّين والهند ـ بلدان متجاوران ـ كمؤهّلة لتطوير وحمل بُشرى أوتوبيا المرحلة المقبلة للاجتماع البشريّ. والبرجوازيّة كطبقة هي الّتي اضطلعت تاريخيًّا بهذا الدّور التّحويلي في المجتمعات عن طريق الثّورات وإنتاج الأفكار والمنظومات والآليات الّتي تقلّص الفوارق وتخفّف من حدّة التّناقضات.
وحسب الرّواية الدّينيّة في بيئتي فإنّ الفرج النّهائي سيأتي من الشّرق. على العموم، فإنّ كلّ نظام يُنتج نقيضه أو قانون نفيه. ولا أعتقد أنّ نظام النّيوليبراليّة سيكون قادرًا على منع تطوّر قانون النّفي وإن استطاع هذا النّظام تأجيل أو إرجاء ذلك. قد لا نرى شيئا ما جدّيًا في المدى المنظور بيد أنّ وباء كورونا أعاد إلى الواجهة وبقوّة مفهوم العقد الاجتماعي ووظائف الدّولة. لقد كان الخاسرون من تلاشي دولة الرّفاه في كثير من أقطار العالم أكثر بكثير من أولئك الّذين استفادوا من النّيوليبراليّة المتوحّشة ـ ربّما أسهم وباء كورونا على كشف هذه الفارق في العدد على مدار العالم ودُفعة واحدة ـ وهو فارق لم يعد أمامه أفق ليتّسع أكبر وأنّه حان الوقت كي يتقلّص. ولن يتقلّص من وباء الكورونا بل من أثر الفراشة لهذا الوباء.