بلاغة كتابة الترجمة ابن العريف، وحكاية حلوله بمراكش أنموذجاً
محمد فتح الله مصباح
توطئة:
ليس الهدف من هذه الورقة الخوض في سيرة الشيخ العارف ابن العريف[1] أحدِ أولياء مراكش، ولا الدخول في عالمه الصوفي، وإنما القصد هو البحث في كيف يمكن أن تكون الترجمة أو السيرة شكلا من أشكال السرد القديم، وكيف يمكن أن تكون موضوعا للسرديات، وأن تخضع لآلياتها التحليلية، فتكشف عن بلاغتها وجماليتها الفنية.
وقد ذهب النقّاد ومنظرو الأدب إلى أنّ الترجمة أو السيرة «نوع أدبي قديم، وهو أولا جزء من علم تدوين التواريخ، من الناحية المنطقية ومن ناحية التسلسل الزمني».[2] وتدخل السيرة أو الترجمة مجال الأدب لا من حيث هي «حوادث تروى، بل حياةُ تعاد».[3] وليس بالضرورة أن تخص هذه الحياة شخصية متميزة؛ فالسيرة مثلا - حسب رينيه وليك وأوستن وارين - «لا تميز (...) في منهجها بين رجل الدولة وقائد الجيش والمهندس والمحامي والرجل الذي لا يلعب دورا في الحياة العامة»[4]؛ لأنّ الأساس الذي يمنحها قيمتها الأدبية هو حضور الصدق، يقول كولريدج: «إنّ أية حياة مهما كانت تافهة ستكون ممتعة إذا رويت بصدق».[5] وقد اشترط سيد قطب، من جهته، عنصرين أساسين يتوفران في العمل الأدبي، ولا تأخذ الترجمة جماليتها إلا بهما، وهما «التجربة الشعورية والعبارة الموحية على هذه التجربة (...) وإذا خلت الترجمة من هذين العنصرين، أو أحدهما استحالت سيرة أو تاريخا بعيدا عن عالم الأدب».[6]
والمقطع الحكائي الذي ركّزنا عليه، في هذه القراءة، يرصد نكبة ابن العريف، وحكاية مَقْدَمِهِ وحلوله بمدينة مراكش حيث دُفن؛ وذلك من خلال كتاب: "الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات من الأعلام" للقاضي عباس بن إبراهيم التعارجي.
إنّ الحكاية في تاريخ الصوفية وتراجمهم ليست عبثية، وإنما هي بنية أساس في حياة الرجل الصوفي وجزء من وجوده
والحقيقة أنّ من بواعث الذات والموضوع التي جعلتني أختار هذا العارف الرباني ترجع إلى زمن بعيد، مذ كنت حدَثا لم أتجاوز الحادية عشرة من العمر. تعرّفت عليه من خلال الموروث الثقافي، والعادات الاجتماعية، والمعتقدات الشعبية عند أهل مراكش مسقط رأسي. تعرّفت عليه من خلال حكاية طريفة لأحد الأطفال، عندما استيقظ باكرا ذات صباح، وذهب في زمرة من أترابه إلى ضريح هذا الولي الصالح؛ كي يأكلوا جميعا الزبيب هناك بـ"الريشة" - على عادة أهل مراكش وبعض معتقداتهم - أملا في النجاح، والحصول على الشهادة الابتدائية.
وكم كانت الصدمة قوية عندما أُعلن عن نتائج الامتحان، ومُني الطفل بخيبة الأمل والمسعى حين رسب في الامتحان للمرة الأولى والأخيرة في مسيرته الدراسية كلها؛ على الرغم من أنّه أكل الزبيب بالريشة في الضريح!!! ومنذ ذلك اليوم، وضع الطفل ذلك المورث الثقافي، وتلك العادة الاجتماعية، وذلك المعتقد الشعبي موضع تساؤل. وتكونت لديه رغبة قوية في معرفة السرّ، ومنه سرّ الظاهرة الصوفية، وحقيقة الأولياء والصالحين، وما يُحاك في حقهم من حكايات وكرامات. وسبيله في ذلك هو البحث، لكن هذه المرة ليس من منطلق العادات الاجتماعية والمعتقد الشعبي؛ وإنما من خلال الثقافة العالمة والموقف النقدي. فكنت حينئذ ذلك الطفل الصغير صاحب الحكاية، ثم كنت بعدئذ ذلك الباحث المهتم.
وعندما أتيحت لي قراءة كتاب "الإعلام"، وجدتني مجرورا لابن العريف أتعرّف عليه من جديد، وأقدّمه إليكم اليوم كما وعيته من خلال العباس بن إبراهيم، لا كما وعاه ذلك الطفل الصغير.
1- في مصادر الترجمة لابن العريف
بالرجوع إلى كتاب الأعلام، نجد أنّ العباس التعارجي قد استشار في ترجمة ابن العريف عدة مصادر نذكر منها:
1-1 بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس لابن عميرة الضبي أحمد بن يحيى (ت. 529هـ).
1-2 التشوّف إلى معرفة رجال التصوّف ليوسف بن يحيى ابن الزيات التادلي (ت. 627هـ).
1-3 التكملة لكتاب الصلة لمحمد بن عبد الله القضاعي المعروف بابن الأبار (ت. 658هـ).
1-4 سنن المهتدين في مقامات الدين لمحمد بن يوسف المواق (ت. 897هـ).
1-5 الصلة في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم ومحدثيهم وفقهائهم وأدبائهم، لابن الأبّار.
1-6 كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة مصطفى بن عبد الله. (ت.1267هـ).
1-7 محاسن المجالس لأحمد بن محمد ابن العريف (ت.536هأ).
1-8 المشتبه في الأسماء والأنساب، والكنى والألقاب لمحمد بن أحمد الذهبي (ت.748هـ). (ولعل صاحب الإعلام اختلط عليه هذا الكتاب بكتاب «مشتبه النسبة» فأحال عليه.
1-9 معجم أصحاب الإمام الصدفي لابن الأبّار.
1-10 نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لأحمد بن محمد المقَّري (ت.10414هـ).
1-11 نيل الابتهاج بتطريز اتلديباج لأحمد بابا التنبكتي (ت.1036هـ).
1-12 أخذ العباس بن إبراهيم من هذه المصادر وأحال عليها، كما أحال على مصادر إضافية أخرى، مثل "النجم الثاقب" و"فتح الالتجا في تبيان نسبة وطريقة القطب سيدي سالم أبي النجا"، و"روض الرياحين" و"وفيّات الأعيان" و"شذرات الذهب" و"غاية النهاية".
وأضاف محقّق "الإعلام" مصادر أخرى تتضمّن مادة خصبة للتعرف على ابن العريف، فأخذ منها العباس بن إبراهيم ما يكفي لإعطاء صورة تقريبية لهذا العارف. وحاولنا بدورنا أن نعيد تنظيم بعض ما أورده صاحب الإعلام ونقدمه وَفقَ ما رسمنا لهذه الورقة من أهداف.
2- بطاقة تعريف لابن العريف (481 - 536هـ)[7]
2-1- اسمه ونسبه:
هو أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي، من أهل المَرِيَّة، ويُعرف بابن العريف. أصل أبيه من طنجة، بحسب ما ذهب إليه ابن الأبّار في "معجم أصحاب الإمام الصفدي". ويبدو أنّ العباس بن إبراهيم مهووس بتأكيد الأصل العربي لابن العريف. يظهر ذلك من خلال تخصيص حيز من الترجمة لمناقشة أصل قبيلة صنهاجة هل هي من البربر أو من عرب اليمن.[8]
2-2- ثقافته:
بدأ تعلق ابن العريف بالقرآن والعلم منذ صغره، على الرغم من أنّ أباه رفعه إلى حائك يعلمه الحياكة وهو لها رافض، فتركه لشأنه حتى صار من الفقهاء والمحدثين والقراء المجيدين. ثم غلب عليه الزهد والإيثار مع الإقلال، فأصبح علما من أعلام التصوّف وأحد رجال الكمال. وبحسب ابن الأبّار، فقد تصدر بالمريّة للإقراء، وذلك بسرقسطة، وولي الحسبة ببلنسية.
2-3- شيوخه:
روى ابن العريف على يد كثير من الشيوخ، فممن روى عنهم: يزيد مولى المعتصم، وعمر بن أحمد بن رزق المعروف بابن الفصيح، وعبد القادر بن محمد القروي، وخلف بن محمد بن العربي، وأبو علي حسين بن محمد الصدفي، فضلا عن ابن بشكوال من خلال ما كان بينهما من إجازة ومراسلات خطّية.
وقرأ القرآن عن أبي الحسين البرجني بالمريّة، وأبي القاسم بن النحاس، وأبي جعفر الخزرجي بقرطبة، كم روى كتاب الفصوص لصاعد عن أبي محمد الركلي.
2-4- تلاميذه:
أخذ عن ابن العريف وتتلمذ على يديه: القطب سيدي سالم أبو النجا (537هـ)، وإسماعيل بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي (أخوه)، والشيخ العارف علي بن خلف ابن غالب الأنصاري من أهل شلب المتوفى بالقصر الكبير ودفينه عام 568هـ، ويقال 573هـ، ومنهم أيضا، الإمام أبو بكر عبد الباقي بن محمد برال الحجاري.
3- حكاية حلول ابن العريف بمراكش:
تكاد تتّفق الروايات على أنّ السبب في مقدم ابن العريف إلى مراكش، يرجع إلى عامل الوشاية به إلى السلطان علي بن يوسف؛ من قِبَلِ بعض فقهاء الأندلس. ثم تختلف بعد ذلك في الجزئيات والتفاصيل. ويبدو أنّ العباس بن إبراهيم قد استفاد من كل تلك الروايات، ثم قدّم لنا الرواية الآتية:
«حدّثونا عنه أنّه كان ببلده المريّة، على أحواله الحسنة المرضية في الجد والاجتهاد، وملازمة الأذكار والأوراد، وصُحْبة العباد والزهاد. فغار منه قاضي المرية المعروف بابن الأسود، وحمله مقت الحسد أن كتب للخليفة بمراكش أمير المؤمنين علي بن يوسف بن تاشفين، وكان أمر الأندلس إليه، وخَوَّفَهُ في الكِتاب من حال ابن العريف. فكتب الخليفة لعامله في المرية أن ابعث إلينا ابن العريف. فأمر به العامل، فأدخل في القارب ليُخْرَجَ به في البحر إلى سبتة. فأشار القاضي على العامل بتكبيله، فبعث إليه من يُقيده، فأدركه رسول العامل، وهو في البحر لم يخرج منه بعد فكبله. وذهب راجعا في البحر إلى المرية، فقال ابن العريف: روَّعَنا روَّعَهُ اللهُ تعالى، فلقيه العدو في البحر فحمله أسيرا. فلما وصل ابن العريف إلى سبتة وافاه رسول السلطان بالأمان، وأن تُحل قيوده ويسرح، فقال ابن العريف: كنت أريد أن لا يعرفني السلطان وقد عرفني الآن، فلا بد من رؤيته. فوصل إلى مراكش وأقبل عليه السلطان وعظمه وأبان حقه وأكرمه وسأله عن حاجته. فقال ليس لي حاجة إلا أن أُخَلاَّ أذهب حيث شئت، فأذن له في ذلك. فلما خاب سعي القاضي ابن الأسود فيما أراده من فساد ابن العريف تحيل عليه في أن جعل له سُمّا في طعام الباذنجان، فأكله ابن العريف فمات رحمه الله بمراكش سنة ستّ وثلاثين وخمسمائة؛ واحتفل الناس لحضور جنازته، وندم السلطان على ما كان منه إليه، وصار يبحث عن أصل ذلك وسببه، فأُنهي إلى السلطان خبر القاضي ابن الأسود وقتْلُه، فقال السلطان: والله لأفعلنّ به ما فعل بذلك الولي، ولأغربنّه ولأقتلنّه بالسمّ، فبعثه مقيّدا إلى سوس الأقصى، وأن يُسقى هناك سُمّا. فكان ما أمر به السلطان ومات القاضي مغربا عن وطنه مسموما».[9]
4- تحليل الحكاية:
4-1- المقاطع السردية وسير الحدث:
بالتأمل في هذه الحكاية، نجد أنها تتكوّن من ستة مقاطع سردية ينمو الحدث من خلالها كالآتي:
المقطع الأول: حال التوازن والاستقرار
كعادة كل حكاية، يرفع ستار الحكي على مشهد عاد ومستقر، بحيث قُدِّمَ في هذه الحكاية زاهد يجتهد في ذكر ربه، بحسب ما يطمح إليه العباد والزهاد والأولياء، من الوصول إلى العلم اللدني؛ ولذلك كان اسم هذا الشيخ الزاهد "ابن العريف". اسم دال ورامز إلى العلم والعرفان.
المقطع الثاني: كيد القاضي ابن الأسود لابن العريف
تظهر في هذا المقطع شخصية جديدة، على النقيض من الشخصية الأولى؛ فلئن كان اسم الأول يرمز إلى العلم والنور والمعرفة، فإنّ الثاني يرمز إلى الجهل والظلام. نستفيد ذلك من اسمه؛ أي ابن الأسود، ولذلك تضعنا الحكاية منذ البداية أمام ثنائية ضدية هي العرفان/ الجهل أو النور/الظلمة. ومن هنا ينشأ الصراع بين الطرفين، ويحدث التصدع في حال التوازن والاستقرار في المقطع السابق. وذلك عندما ران المقت والحسد على قلب ابن الأسود، فوشى بابن العريف إلى السلطان، وصوّره له في صورة المنازع السياسي الذي يهدد سلطته، ويقوّض مشروع دولته المتمثل في الجمع والتوحيد؛ ذلك أنّ اسم السلطان، لا يخلو هو الآخر، من دلالة رمزية تاريخية: فهو "علي بن يوسف"، حيث "علي" رمز للعلو والشموخ، و"يوسف" رمز للجمع والتوحيد، كما يستفاد ذلك من دلالة هذا الاسم في أصله العبري.
وهنا نستحضر الدور التاريخي، الذي قام به يوسف بن تاشفين مع ابنه عليّ، في جمع شمل الأندلس، وحمايتها من العدوّ الذي يتربّص بها، فضمّها إلى المغرب. ولذلك، ليس من الغريب أن يعطى هذا السلطان أمره لعامله بالأندلس بأن يرسل إليه هذا الذي يريد أن ينازعه السلطان، ويقوّض مشروعه السياسي.
المقطع الثالث: ابن العريف ورسول العامل
يبدو في هذا المقطع أنّ مقت القاضي لابن العريف كبير، وأنّ رغبته في تأزيم وضعية الشيخ أكبرُ؛ وعليه أوحى لعامل السلطان بتكبيله على الرغم من كون القارب الذي يحمل الشيخ، قد شق طريقه في البحر. وهنا تظهر شخصية جديدة، لكن الحكاية لا تمنحها اسما مخصوصا كما صنعت مع الشخوص الرئيسة، وإنّما أعطتها صفة، بحسب وظيفتها في سياق الحدث، وهي "رسول العامل" الذي سيركب البحر بأمر من سيده، ويلحق بالقارب كي ينفذ أمر تكبيل الشيخ. وهنا تظهر للولي كرامة حين دعا على هذا الرسول، فما لبث أن انتقم منه الإله، فأخذه العدوّ أسيرا وهو في طريق عودته.
المقطع الرابع: ابن العريف والسلطان
يتم اللقاء في هذا المقطع، بين ابن العريف والسلطان، لكن على مرحلتين:
- المرحلة الأولى تمهيدية وعن بُعد: تمثل ذلك في اللحظة التي رسا فيها القارب الذي يحمل الشيخ على أرض سبتة، وجاء رسول السلطان بأمر فك قيود الشيخ وإطلاق سراحه.
- أما المرحلة الثانية فعن قرب: وذلك عندما ألحَّ ابن العريف على ملاقاة السلطان ورؤيته، فوصل إلى مراكش. وفي هذه المدينة تعود لحظة التوازن في حكاية ابن العريف، ويرد إليه السلطان اعتباره، ويمنٍّيه، لكن يبدو أنّ ابن العريف لا يبحث إلا عن أمر واحد هو الحرية؛ ومن ثمَّ لم يطلب من السلطان سوى أن يتركه يذهب حيث يشاء.
المقطع الخامس: قتل القاضي ابن الأسود لابن العريف
في هذا المقطع، تنتهي حياة ابن العريف نهاية مأساوية. فالقاضي ابن الأسود لم يقبل الفشل والهزيمة، ومن ثمَّ بعث بمن يدسّ السم في البادنجان لابن العريف، فأكله الشيخ، فمات سنة ست وثلاثين وخمسمئة.
المقطع السادس: انتقام السلطان لابن العريف من القاضي
وفي هذا المقطع الختامي، يعلم السلطان بكيد القاضي ابن الأسود، فيقرّر أن يكيد له، وينتصر لابن العريف، فصنع به مثل ما صنع ابن الأسود بابن العريف تغريبًا عن الأوطان، وقتلاً بالسمّ.
4-2- بنية الحكاية:
وبالنظر إلى هذه المقاطع السردية يتضح أنّ البنية العامة التي تتحكّم في هذه الحكاية لا تخرج عن الصراع بين ثنائية قوى الخير والشر، أو ما أسميناه سابقا بالصراع ما بين العرفان/ الجهل أو النور/ الظلمة، المتمثليْن في شخصيْ ابن العريف وابن الأسود.
أمّا تدخل السلطان وأعوانه فمن بين العوامل المساعدة على نموّ الحدث وتحقيق العدل وإقامة التوازن، على عكس ما يمكن فهمه من المقطع السردي الثاني حين أوهم ابن الأسود السلطان علي بن يوسف بأنّ ابن العريف ينازعه السلطة ويشكّل خطرا على مشروع دولته، فتحوّل الصراع بفعل هذه المكيدة والوشاية، وأصبح ما بين السلطان وابن العريف.
والحقيقة التي تقدّمها الحكاية هي أنّ ابن العريف، في كلتا الحالتين، مجنيّ عليه، ويحتاج إلى إنصاف علما بأنّ إنصافه كان مطلبا صعبا؛ لأنّ معركته كانت خاسرة منذ البداية، فغريمه الأول كان ذا سلطة ونفوذ باعتباره فقيها قاضيا في دولة الفقهاء، والغريم الثاني المفتعل كان هو السلطان نفسه. ولذلك ما بقي أمامه إلا التوجّه إلى السلطان الأكبر الذي هو الله فدعاه، وكانت منه الاستجابة.
وقد حاولت الحكاية أن تقدم لنا انفراجا في لحظة من لحظاتها، أي في المقطع الرابع، حين عفا السلطان عن ابن العريف، وأمر بتسريحه وفكّ قيوده. لكنّ الأزمة سرعان ما تعود مرة أخرى، في المقطع الخامس، حين نجح القاضي في الوصول إلى قتل ابن العريف، فيختل التوازن من جديد، وهنا يتدخل السلطان مرّة أخرى، ليقيم العدل وينصف ابن العريف وينتصر له.
وهكذا يمكن اختزال بنية هذه الحكاية على الشكل الآتي:
توازن – لا توازن – توازن – لا توازن – توازن
وبالتأمل في هذه البنية، نلاحظ أنّ مصدر حالة اللاّتوازن كانت دائما تصدر من القاضي ابن الأسود، الشيء الذي يجعل السلطان يتدخّل باستمرار لإعادة التوازن. والحقيقة أنّ هذه البنية لا تمثل إلاّ بنية سطحية تستضمر بنية عميقة وصراعا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا أعمق. وهذا ما سنحاول إبرازه على مستوى التأويل.
5- تأويل الحكاية:
5-1- على مستوى الوظيفة:
إنّ الحكاية في تاريخ الصوفية وتراجمهم ليست عبثية، وإنما هي بنية أساس في حياة الرجل الصوفي وجزء من وجوده. ومن ثم كانت لها عدة وظائف لعل أهمها[10]:
أولا: التأثير في المتلقي وجلبه للتعاطف مع بطل الحكاية. ولا يتحقّق ذلك إلاّ بتحقيق وظيفة ثانية هي:
ثانيا: إقناع هذا المتلقي بصحّة وصدق رسالة البطل الصوفي وولايته.
ثالثا: تثبيت قلب المريد. وبخصوص هذه الوظيفة ذكر المواق محمد بن يوسف في كتابه "سنن المهتدين في مقامات الدين" ما نصّه:
"حدّثني شيخي المنتوري بسنده إلى أحمد ابن العريف قال: كنت جالسا في مجلس أستاذي أبي علي الصدفي أقرأ عليه الحديث، فقرأ يوما الحديث ثم أغلق الكتاب وجعل يحكي حكايات الصالحين. فوقع في نفسي كيف يجيز الشيخ أن يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحكي حكايات الصالحين. قال: فما تم لي الخاطر حتى نظر إلي الشيخ شزرا وقال لي: يا أحمد، الحكايات جند من جنود الله يثبت بها قلوب العارفين من عباده. قال: فما بقي في جسدي شعرة إلا قطر منها العرق، فلما رآني دهشت قال لي: يا أحمد، أين مصداق ذلك من كتاب الله تعالى؟ قلت الشيخ أعلم. قال: قوله تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك)[11] الآية".[12]
وبناء على هذه المعطيات يتبيّن أنّ حكاية مقدم ابن العريف إلى مراكش لا تكتفي بمجرّد تقديم خبر تاريخي محايد، وإنّما تتجاوز ذلك لتؤدي وظائف أخرى تجعل المتلقي يرحّب بمقدم هذا البطل مع كثير من التعاطف والتبجيل والتقدير والاحترام. وقد نجحت الحكاية فعلا في تحقيق ذلك منذ مقدم ابن العريف إلى مراكش حتى الآن:
ففي القديم، احتفل السلطان بمقدمه وعظمه وأبان حقّه وندم عمّا بدر منه تجاهه، ولما مات احتفل الناس لحضور جنازته، وكل ذلك مؤشرات على نجاح وظيفة الحكاية واكتساب الشيخ لثقة المغاربة ومريديه بدءا من السلطان إلى العوامّ.
أما في الوقت الراهن، وعلى الرغم من تطوّر الرؤية تجاه الحركة الصوفية ورجالاتها. ما ازداد ابن العريف إلا تقديرا واحتراما واهتماما، بل الأكثر من ذلك، فإنّه كان يمثّل عند العامّة موطنا للكرامة وسببا في النجاح وتحصيل العلم والمعرفة كما أخذ ذلك عنهم ذلك الطفل الذي بدأنا هذه الورقة بحكايته.
5-2- على مستوى البنية العميقة:
إنّ البنية العميقة التي ستضمرها الحكاية هي ذلك الصراع التي احتدم بين الفقهاء والمتصوّفة، وبخاصة على عهد السلطان علي بن يوسف. وكان هذا الصراع، في جوهره، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا؛ إذ من المعلوم أنّ قيام دولة المرابطين تمّ بدعم من فقهاء المالكيّة على وجه الخصوص، من ثم أصبحت لهذه الفئة حظوة اجتماعية ودور كبير في اتخاذ القرار السياسي[13]. إلاّ أنّ مصالح هذه الفئة سرعان ما أخذت تتهدّد بفعل نموّ فئة اجتماعية أخرى ذات بنية ثقافية متقابلة مع البنية الثقافية الفقهية تقابل الباطن مع الظاهر. وتمثلت في الأساس في الفقه الصوفي ورجالاته؛ ولذلك كان القاضي ابن الأسود في الحكاية رمزا لفئة الفقهاء، كما كان ابن العريف رمزا لفئة المتصوفة.
وقف الصوفية في المغرب والأندلس، من الإحياء موقفا واحدا، فانتصروا له، وكتبوا إلى علي ابن يوسف كتبا يدينون فيها عملية الإحراق
والحقيقة أنّ محنة[14] ابن العريف في الحكاية ما هي إلاّ رمز لمحنة الفكر الصوفي ورجالاته في عصر المرابطين، ويكفي أن نتذكّر أنّ في هذا العصر، وبالضبط في بداية ولاية علي بن يوسف حدث إحراق كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي، فتناقلت هذا الحدث كثير من المصادر لعلّ أقدمها: "نظم الجمان" لابن القطّان[15]، و"المعجب" لعبد الواحد المرّاكشي[16]، و"بيوتات فاس" لابن الأحمر[17]، وغيرها كثير.
ومفاد هذا الحدث، كما هو معلوم، أن أفتى قاضي قرطبة أبو عبد الله محمد بن محمدين مع إجماع فقهاء أهل مدينته بإحراق كتاب الإحياء، فامتثل السلطان علي بن يوسف لهذا الإجماع، عمل على إحراق الكتاب سنة ثلاث وخمسمائة هجرية، في رحبة مسجد قرطبة. وبعث برسائله إلى جميع بلاده آمرا بإحراق الكتاب حيثما وجد.
وقد تعدّدت أسباب هذا الإحراق بحسب تعدّد الباحثين، إلاّ أنّهم لا يخرجون عما تضمّنه الكتاب من علوم المكاشفة[18]، ونقد الغزالي للفقهاء وما هم عليه من أخذ بالظاهر الدنيوي.[19] وفي كل الحالات والاحتمالات، فإنّ كتاب الإحياء يخرق المنظومة الفقهية ويعمل على تقوية الحركة الصوفية في المغرب والأندلس، حتى إنّ بعض متصوّفة الغرب الإسلامي قد لقّب باسمه فقيل هو "غزالي الأندلس" ويتعلق الأمر هنا بابن برجان دفين مراكش.[20]
وبما أنّ الحركة الصوفية قد انتعشت، في الغرب الإسلامي، انتعاشا كبيرا بسبب المرابطين وعلى الرغم منهم في الوقت نفسه، كما يذهب إلى ذلك بعض الباحثين[21]، فقد وقف الصوفية في المغرب والأندلس، من الإحياء موقفا واحدا، فانتصروا له، وكتبوا إلى علي ابن يوسف كتبا يدينون فيها عملية الإحراق كما صنع أبو الفضل بن النحوي[22]، وكذلك محمد بن علي بن محمد البرجي.
وهكذا يظهر أنّ الصراع بين الفقهاء والمتصوفة بدأ يحتدم في هذا العصر، فأخذ الفقهاء يكيدون للمتصوفة وعلى رأسهم ابن حمدين وابن الأسود، فتعرّضوا بسببهم إلى التغريب والتقتيل كما حصل لابن العريف وابن الحكم بن برجان ومحمد بن الحسن بن أحمد الميورقي.
وتطوّرت حركة التصوّف في الغرب الإسلامي حتى غدت حركة سياسية لم تقتصر على مواجهة الفقهاء وحدهم، بل صارت تطمح إلى قلب النظام السياسي، كما هو الشأن بالنسبة إلى ثورة المريدين بالأندلس وعلى رأسهم الشيخ أحمد بن قسي.[23]
وقد وعى سلاطين المرابطين هذا الخطر الذي يهددهم من قبل تطور الحركة الصوفية في عهدهم الشيء الذي جعلهم في كثير من الأحيان يظهرون بعض المرونة تجاه هذه الحركة. ومن هذا المنطلق، تفهم المواقف السياسية للسلطان علي بن يوسف ضمن حكاية ابن العريف، فهو موقف ذو وجهين متقابلين: "ضدّ" و"مع" في الآن نفسه، بحسب قوّة الجذب في الصراع ما بين الفقهاء والمتصوّفة.
وقد استغلّ مؤسّسو الدولة الموحّدية هذا الوضع، وعلى رأسهم المهدي ابن تومرت الذي استفاد من حركة المتصوّفة. ويكفي أن نعلم أنّه كان يعتبر نفسه تلميذا للغزالي، وأنّه استفاد منه كثيرا في وضع عقيدة الموحّدين.[24]
هكذا إذن، أصبحتُ أعي ابن العريف وحركته الصوفية لا كما وعيتها وأنا طفل صغير من خلال الموروث الثقافي والعادات والتقاليد الاجتماعية.
[1] - هو أبو العباس أحمد بن العريف، وليد المرية بالأندلس عام 481 هـ، ودفين مراكش بالمغرب عام 536ه. تنظر ترجمته بالتفصيل في مقدمة محققة كتاب: مفتاح السعادة وتحقيق طريق السعادة، لأبي العباس ابن العريف، جمعه أبو بكر عتيق بن مؤمن (496 هـ - 548 ه)، دراسة وتحقيق د. عصمت عبد اللطيف دندش، دار الغرب الإسلامي، ط. الأولى، 1993، بيروت: 14 - 39
[2] - نظرية الأدب، رينيه ويليك وأوستن وارين، ترجمة محيى الدين صبحي، مراجعة ذ. حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، طبعة 1987م، بيروت: 77
[3] - النقد الأدبي أصوله ومناهجه، سيد قطب، دار الشروق، ط.4، 1980، بيروت - القاهرة: 90
[4] - نظرية الأدب: 77
[5] - المرجع السابق.
[6] - النقد الأدبي أصوله ومناهجه: 88
[7] - لم يشر العباس بن ابراهيم التعارجي المراكشي إلى سنة ولادة ابن العريف، وما أثبتناه من كتاب "الأعلام" للزركلي. وذكر هذا الأخير أنّ وفاة ابن العريف كانت سنة 526هـ، وهو خطأ بالمقارنة مع ما أجمعت عليه مصادر ترجمة ابن العريف. ينظر الأعلام: 2/13-14
[8] - يُنظر الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات من الأعلام: 2/13-14
[9] - الإعلام: 2/10
[10] - ينظر بخصوص وظائف الحكايات والكرامات الصوفية تمثيلا لا حصرا:
- الكرامة الصوفية والأسطورة والعلم، لعلي زيعور: 115 – 171
- دينامية النص، لمحمّد مفتاح: 129- 156
[11] - هود، بداية الآية 119، وتمامها: "... وجاءك في هذه الحقّ وموعظة وذكرى للمؤمنين"
[12] - نقلا عن الأعلام: 2/23
[13] - ينظر المبحث الأول من دراسة د. الأمراني خلع النعلين: 41-44
[14] - هناك من يسمي هذه المحنة نكبة، وللمزيد من التوسع ينظر: بحوث في التصوف المغربي، د. حسن جلاب: 7-22
[15] - ينظر نظم الجمان: 15
[16] - ينظر المعجب في تلخيص أخبار المغرب: 177
[17] - بيوتات فاس الكبرى: 33-34.
[18] - ينظر مقدّمة ترتيب المدارك ج1، لمحمد بن تاويت الطنجي.
[19] - إحياء علوم الدين: 1/18 وما بعدها.
[20] - الأعلام: 2/7. وقد نقل الخبر عن ابن الأبّار في معجم أصحاب الإسلام الصوفي.
[21] - ينظر القاضي عياض الأديب (الأدب المغربي في ظل المرابطين)، عبد السلام شقور: 47
[22] - ينظر التشوّف إلى رجال التصوف: 96
[23] - ينظر: مقدّمة كتاب خلع النعلين، للمحقق: 53
[24] - ينظر: الدولة الموحدية، أثر العقيدة في الأدب، حسن جلاب: 20-21