المال بين أهل السلطان وأهل القرآن
عبد المجيد بوشبكة
وأنا أتصفح واحدًا من الكتب القيمة التي تذكرنا ببعض سلوك ومنجزات الجيل الفريد زمن النبوة الزاهر، أثارني موضوع علاقة ذلك الجيل بالدنيا والكدح في جمع الأموال. ولاحظت أن الأمر تجاوز المعلوم لدى كثير من المسلمين في علاقة المسلم بالدنيا وجمع الأموال وكذا من عرف بذلك من الصحابة الكرام. حينها تسلل إلى حدسي الكثير من أقوال وتوجيهات الأستاذ المجدد محمد فتح الله كولن وفي غير ما موضع، حيث كسر المألوف عند عدد من مشاهير العلم الذين ما فتئوا ينفرون من حطام الدنيا وجمع أموالها، ويدعون إلى الزهد فيها والإدبار عنها، حتى بات بعض المسلمين يتفاخرون بالفقر والفاقة وهم عيال على غيرهم في قوتهم وما تستقيم به حياتهم؛ بل إن الكثير من خصوم الدين اليوم، اتخذوا من فقر الناس وسيلة لاستعبادهم وتركيعهم والتطاول على كرامتهم.
وقد ذكر عدد من العلماء الأثبات علاقة الصحابة الكرام رضي الله عنهم بالدنيا، وأماطوا اللثام عن الخيط الأبيض من الأسود من حطامها. ومن بين هؤلاء، الشيخ الفذ المحدث عبد الحي الكتاني في كتابه النادر، “نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية”. فقد أثر عن ذلك الجيل الفريد من الصحب الكرام رضي الله عنهم قصص وروايات ما أحوجنا إلى إعادة قراءتها وفهمها، من أجل فقه للحياة جديد يميط اللثام عن ما ران من أفكار بقلوب كثير من الناس قبل عقولهم.
فكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الإيمان كان يعلّم العلم. وتوجيهاته عليه الصلاة والسلام في الباب غزيرة، ناهيكم عن التوجيهات الربانية العطرة. ولأن التعلم في الصغر كالنقش على الحجر -كما في المأثور عن الإمام علي رضي الله عنه- فقد كسر الصحابة الكرام تلك القاعدة فتعلموا وهم كبار في السن، كما أسلموا وآمنوا وهم شيوخ، وتعلموا الإسلام وصاروا في ذلك أساتذة العالم.
لقد روي عن الفاروق عمر رضي الله عنه كما في باب العلم عند البخاري: “تعلّموا قبل أن تسودوا”. ونقل عن القاضي عياض: أي قبل أن تتزوجوا لئلا تشغلكم أزواجكم وبيوتكم عن ذلك، وفي هذا السياق روى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان يتناوب هو وجار له من الأنصار النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل هو يومًا وينزل جاره يومًا، يقول: “فإذا نزلت يومًا جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي. وإذا نزل فعل مثل ذلك”. قال العلماء: ومفاد ذلك أن طالب العلم لا ينبغي له أن يغفل على معاشه حتى يتمكن من الاستعانة على طلب العلم. وبذلك تصان كرامة الإنسان في الحياة. فلا السعي من أجل المعاش يشغل الإنسان، ولا طلب العلم يترك. هكذا تربى الجيل الفريد الذي عمر الدنيا وساد فيها، واهتم بالعلم النافع وحصد الحسنيين.
وقد روي عن سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه كان يتخذ وقت السمر لسماع كتب التاريخ وأخبار الأمم. ليس هذا فحسب، بل إن عددًا من أهل العلم خصصوا أبوابًا جمعوا فيها ما يدل على ممارسة الصحابة الكرام رضي الله عنه للحكمة والتنجيم والقافة (الرواية وتتبع الآثار) والموسيقى والطب والإدارة والحرب والسياسة والترجمة والإملاء والصناعة… ناهيكم عن التجارة. لذلك اهتم الصحابة الكرام بجمع المال في الدنيا، لكن ذلك كان وفق فلسفة الإسلام وعظمة شريعته، لا كما تسلل إلى أهل بعض الناس من الكبراء والسلاطين، الذين اتخذوه منفذًا للطغيان والتجبر.
ومن الصحابة الذين توسعوا في الدنيا وجمعوا الأموال، عدد هائل -منهم على سبيل المثال- ما نقرأه دائمًا في السيرة النبوية العطرة وخاصة في ظروف الحرب وضيقها، ومواجهة كيد الخصوم ودسائس الأعداء. ولعل أبرز مثال على ذلك، ما أنفقه سيدنا عثمان رضي الله عنه على جيش المسلمين في ما عرف بجيش العسرة في غزوة تبوك من أموال طائلة جهز بها جيش المسلمين في ظروف صعبة، وقد قيل إنه أنفق على ذلك الجيش حمولة ألف بعير وسبعين فرسًا، الشيء الذي جعل النبي صلى الله عنه يحفظها له بدعوته: “اللهم ارض عن عثمان، فإني راض عنه”. وعن الترمذي أن النبي صلى الله عنه بعد عطاء عثمان هذا، نزل عليه السلام من أعلى المنبر وهو يقول: “ما على عثمان ما عمل بعد ذلك”. لقد فاز سيدنا عثمان رضي الله عنه بذلك الرضى النبوي الغالي في الدنيا قبل الآخرة.
هذا العطاء وهذا الإنفاق المثالي لا يمكن أن يصدر إلا عن إنسان خبر الحياة ودروبها وحقق من النجاح فيها ما وافق سننها فأعطته وبسخاء. لكنه لما فقه الإسلام وتذوق حلاوة الإيمان، علم بأن المال مال الله وأنه عبد مستخلف فيه، فرد الأمر إلى صاحبه وأنفق ذلك المال وبسخاء وعن طيب خاطر في سبيل الله.
وقد تحدث الناس عن غنى سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حتى قيل عن حنكته: لو أنه رفع حجرًا لرجا أن يصيب تحته ذهبًا. وبعدما توفي سيدنا عبد الرحمن رضي الله عنه، حفر الذهب من تركته بالفؤوس. وأوصى رضي الله عنه بخمسين ألف دينار، وأعتق ثلاثين عبدًا، وتصدق بأكثر من أربعين ألف دينار وبخمسمائة فرس وبخمسمائة راحلة. وعن الحافظ الترمذي أنه أوصى لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن بحديقة بيعت بأربعمائة ألف. وروي عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أن ابن عوف رضي الله عنه أوصى لمن بقي بعده من أهل بدر بأربعمائة دينار لكل رجل، وكانوا مائة فأخذوها.
وفي طبقات ابن سعد: فجميع مال الزبير بن العوام رضي الله عنه أربعون ألف ألف ومائتا فرس. وعن هشام بن عروة رضي الله عنه عن أبيه قال: كان قيمة ما ترك الزبير إحدى وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه خلف تسعين ألف دينار سوى الرقيق والماشية. وجاء في مروج الذهب أن غلة طلحة في العراق ألف دينار كل يوم، وفي غيرها أكثر من ذلك.
وعن ابن عساكر أنه ممن كان من أغنياء الصحابة الكرام عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقد كان يلقح كروم الوهط (بستان له بالطائف) بألف ألف خشبة، كل خشبة بدرهم. وكانت له دور كثيرة بمصر ودور بدمشق وغيرها… حتى قال بعضهم إن ما يذكر من ثروة ابن العاص لا يقبله عقل.
ومن أغنياء الصحابة سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، فقد أخرج صاحب الطبقات وغيره، أن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه كان من أصحاب الأموال. وفي غناهم يقول الشيخ محمد بن أحمد الحضيكي (1775م): ولا ينافي زهدهم في الدنيا كونهم أغنياء كما تقدم، وحصولها بأيدي بعضهم بدعائه صلى الله عليه وسلم لأنس وابن عوف، وثنائه عليه السلام على المال بقوله: “نعم المال الصالح للمرء الصالح” لأنهم خُزان الله.
ومما قيل في تفسير قول الله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ)(الشورى:27)؛ الضمير هنا يعود على الرزق لا على الاسم الشريف، فقد بسط سبحانه لعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما رضي الله عنهما، ولم يكن منهم أحد باغ.
نعم لقد حاز صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا من أطرافها، إلا أنهم -وكما روي- جعلوها مطية للآخرة، ولم يغتروا بأموالهم ولا بسلطانهم فينحرفوا عن المبادئ التي من أجلها تحركوا وعلى رأسها؛ إحقاق الحق وإزهاق الباطل على غرار المنهج النبوي الذي علمهم إياه نبي الهدى صلى الله عليه وسلم. فانطلقوا من مكة إلى كثير من بقاع العالم؛ همهم الأول الجهاد في سبيل الله بالمال، كما جاهد غيرهم بالنفس. وبذلك الجهاد المبارك انتشر هذا الدين العظيم حتى بلغ ما بلغ الليل والنهار.
واليوم أتى على الناس حين من الدهر أصبح جمع المال فيه شغلهم الشاغل، والتنافس فيه مباح لكل من دب على الأرض إلا على المسلمين. فمن نجا منهم من عقم الفتاوى السائبة أو الفهوم القاصرة، أصابه شراك العولمة الجامح وقيمها الحمقاء التي لا تبقي ولا تذر.فكل من لم ينخرط في سلك أهلها فهو عدو مفترض ومتهم حتى تثبت براءته.
بين هذا وذلك، بدأ أنين المسلمين يسمع في كثير من بقاع العالم اليوم رغم تواجد جل الثروات في بلدانهم وتعدد الدعوات لأخذ أمورهم بيدهم، إلا أن المكائد من الأولياء قبل الخصوم باتت مثل قطع الليل المظلم عليهم، لا أمل لهم إلا رحمة الله وعنايته.
في خضم هذا الأنين بدت شرارات الأمل تلوح حينًا وتغيب آخر بفضل جهود العقلاء والمخلصين؛ من العلماء والوجهاء ورجال المال والأعمال في هذا العالم المتوحش. أما جهود العلماء فقد صادفتُ بعضها وأنا أقرأ في هذا الصدد ما كتبه بعضهم، ومن ذلك قول الأستاذ الكبير محمد فتح الله كولن وهو يسلط أضواءه على سورة الكهف حين توقف عند قوله تعالى: (قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ)(الكهف:19)، قال: “والشيء الثاني الذي يجلب النظر في هذه الآية الكريمة هو المال والنقود، فمهما كانت النتيجة فإن النقود -أي مال الدنيا وزينتها- هي التي كشفت عنهم وعن مكانهم. لأن أهل المدينة عرفوا “يمليحا” -إن كان هو المشتري- من نقوده”.
من أول وهلة تبدو واقعية الرجل في قراءته لآي الذكر الحكيم جلية. وشرط الواقعية لم يعد ضرورة فقط في زمننا الممسوخ، كما يفهم بعض الناس وينكرونه على من يقول به من العلماء والدعاة، بل الواقعية شرط حاضر منذ زمن النزول للقرآن الكريم. ألم يصنف علماء الأمة هذا القرآن إلى مكي ومدني؟ هل يمكن لمطلع على هذا الدين أن ينكر أن القرآن المكي عالج في مجمله قضايا أساسية تهم الواقع العقدي الذي بات شغل الناس الشاغل؟ ألا تعد القضايا التي تطرّق إليها القرآن المدني هي همّ المسلمين حينها بالمدينة المنورة؟ بل إن قضايا أسباب النزول تعد صلب واقع الناس وهمومهم التي أجاب عنها القرآن بعد ما تتبع أطرافها وأصحابها.
نعم، هكذا يفهم الأستاذ فتح الله القرآن الكريم على أنه نزل صالحًا لكل زمان ومكان، ومن ثمة لا بد من فهمه على ضوء الواقع الذي يعيشه الناس، وإلا فقد يصبح غير صالح لنا كما يريد بعضهم أن يبقوه بعيدًا عن حياتنا إلى الأبد. ولم يكتف الأستاذ كولن بذلك بل أردف قائلاً: “إذن فرجل الفكر والدعوة إن كان لا يرغب في التعرض للقبض عليه من قبل الأعداء أو من قبل الأصدقاء أو من قبل مجتمعه، فيجب عليه ألا يبتعد عن حب الربح والكسب فقط، بل عن أي ضعف دنيوي في هذا المجال”. هكذا يمضي الرجل مستصحبًا لقوة المال من أجل الجهاد به لتبليغ الدعوة، وبذلك يجعل كسب المال مطية لربح الأجر عبر الدعوة إلى الله بعد التحرر من قيود وعوائق هذه الدعوة، ولعل المال أحد أكبر هذه القيود وأخطرها. كما عبر عن ذلك فحول الدعاة عبر العالم، وهو ما بينه كولن بقوله: “فكم شهد الماضي من رجال ومن سلاطين كبار أصبحوا أسرى للمال الغدار. وكم من مرة استغلّ هذا الضعف الموجود في فطرة الإنسان فمحيت مجتمعات وذلت أمم. ولكن مع هذا، فإن انتشار الدين في العالم معتمد الآن على النقود، أي على الرأسمال أيضًا وعلى قوة تمويل المشاريع الدعوية”. نعم، التاريخ يشهد -ولا زال- أن جل أهل السلطان يريدون أن يستعبدوا الكثير من أهل القرآن، ويجعلوهم طاقات جاهزة لنفخ الروح في دعواتهم وطموحاتهم كلما احتاجوا إلى نفخة منهم. لذلك يعتبر باب المال من أقوى الوسائل التي يستعملونها في ترغيب وترهيب العلماء والدعاة. وقد ميز العلماء المجتهدون اليوم بين جمع المال من أجل المال وجمعه من أجل الخير والبناء والدعوة إلى الله تعالى. وهذا هو درب الجيل الفريد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الأستاذ فتح الله كولن مؤكدًا ذلك: “يجب ألاّ يُهمل موضوع التمويل المادي، ولكن بشرط أن تكون النصوص الإسلامية من آيات وأحاديث وتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة ونبراسًا لنا. أجل، يجب أن يكسب المسلم ويكون غنيًّا، لكن على شرط ألا يستولي حب المال على قلبه. بل يضع ذلك المال في مكان “حرز” -بتعبير الفقهاء- بعيد عن يد اللصوص، ثم يصرفه في وجوه منافع الأمة. فلولا هذا التمويل، هل كان يمكن تحقيق هذه المشاريع الكبيرة؟”.
ليس هذا فحسب، بل الجميل في الموضوع هو أن بذور ذلك الفهم الواقعي لنصوص القرآن الكريم والصدق في تبليغها للناس، أنتج ثمارًا ثمينة في كل أرجاء العالم. نعم، كان الأغنياء -ولا زالوا- يجاهدون بأموالهم رغم كل الظروف الحرجة التي يمرون منها. إلا أن هناك فئة عريضة اليوم، اعتبرت كل المضايقات التي تلاقيها في سبيل جهادهم المالي، هي الدليل على صدق إيمانهم ورشد أعمالهم. إن الذين يتحدّون المكائد والتهديدات التي تهدف إلى ثنيهم عن طريقهم النبيل وجهادهم العظيم، إنهم يحيُون بذاك زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه. وإن الذين ينفقون على طلبة العلم أو الأرامل أو المشاريع الإعلامية، هم الذين يعيدون ذكريات التاريخ المجيد، لتمتلك الأمة زمام أمرها بيدها وتعول على أبناء جلدتها المخلصين، لدفع كيد الكائدين وخيانة الخائنين لرسالة الأمة وسرقة آمالها في زمن العولمة المتوحش.