فرج فودة: سيرة مفكّر شجاع
أحمد العطار
الّذين يفكّرون ثمّ يكتبون أحترمهم
والّذين يكتبون ثمّ يفكّرون أعذرهم
والّذين يكتبون ولا يفكّرون أبدًا
أردّ عليهم.
“فرج فودة”
***
لماذا فرج فودة؟
وأنا أقرأ كتاب “حتّى لا يكون كلاما في الهواء” لشهيد الفكر و الكلمة الحرّة الدكتور “فرج فودة”، وأنا أغوص بين ثنايا الكتاب، متنقّلا من مقال إلى آخر، وجدتني أتأسّف لمقتل مفكّر كان من الممكن أن يقدّم أكثر ممّا قدّم، وأن يكتب و يجادل ويفيد أكثر ممّا فعل.
شعرت وأنا أقرأ كتابه أنّ حافزا يدفعني إلى الكتابة عنه أو حوله أو انطلاقا منه، وأعترف أنّني استمتعت دوما بقراءته. جذبني إليه قوّة حجاج، و تماسك منطقه، وواسع علمه، ورشاقة قلمه. حلاوة الحديث وأدب الحوار. إنّه حقّا كاتب يمتع ويغري ويفتح الذّهن -ومند السّطور الأولى- على عقلانيّة كان يفتقدها الجوّ العام أنذاك في مصر وباقي الأقطار العربيّة الأخرى. ففرج فودة يتقن اللّعبة جيّدا إنّه يعرف حقّا كيف يجذب القارئ وللوهلة الأولى بلطافة معانيه، وومضات فكره، وجرأة موقفه. كما يتبلور ذلك جليا في نقده للتيّار الأصوليّ المتطرّف، ولدعاة الإنغلاق والإرهاب و الرّدة الحضاريّة. وهو النّقد الّذي حاول فودة تأصيله داخل البيئة الثقافيّة والسياسيّة العربيّة.
و أعترف للقارئ أنّي قرأته مرّات و مرّات عدّة. و أعاود اليوم – بعد مضي أزيد من 28 عاما على فراقه لنا- قراءة كتبه و الاستطراد في متابعة معركته ضدّ التّطرف والإرهاب، ودعاة الفتنة الطّائفيّة، وتسييس الدّين و تديين السّياسة.
لقد اغتالت يد الإرهاب و الجبن فرج فودة، و تصوّرت أنّها بإنهاء حياته قد أغلقت ملف واحد من أشجع الكتّاب اللّذين تصدّوا للعنف و التّسلط باسم الدّين.
وحتّى لا يغلق ملف هذا المفكّر، و حتّى لا يلفّ النّسيان أفكاره المستنيرة، وحتّى نستفيد من تجربته في مواجهة من يركبون شعارات الإسلام السّمحة، ليقتلوا و يدمّروا، ويعثوا في الأرض فسادا. ستكون هذه الورقة تعريفا وشهادة.
فرج فودة : مسار مفكّر
ولد فرج فودة بمصر العام1945 بمحافظة الزقا دمياط، و هو حاصل على ماجستير العلوم الزراعيّة و دكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزّراعي، من جامعة عين شمس 1981.
عمل معيدا بكليّة الزّراعة عين شمس، ثمّ مدرّسا بكليّة الزّراعة ببغداد، ثمّ أخيرا خبيرا اقتصاديا في بعض بيوتات الخبرة العالميّة.
من كتبه:
الحقيقة الغائبة- قبل السّقوط- حوار حول العلمانيّة – الإرهاب- نكون أو لانكون- حتّى لايكون كلاما في الهواء -الندير- الملعوب…إضافة إلى كتب و مقالات أخرى ومناظرات.
اغتيل بالقاهرة على يد متطرّفين إسلاميين في 08/06/1992.
شهادات في حقّ شهيد الفكر
بعد واقعة اغتيال “فرج فودة” اهتزّت كلّ أركان المجتمع المصريّ/العربيّ، فقد خرجت الآلاف لتشييع جنازته و التّنديد بمقتله. فقد عهدت مصر الاغتيالات السّياسيّة كما حدث مع رفعت المحجوب وأنور السّادات و غيرهم كثير. وكان هؤلاء محسوبين على السّياسة، أمّا فودة فقد كان رجل فكر وقلم ولم يسبق لمصر أن شهدت اغتيالات فكريّة كما حدث مع فرج فودة.
يقول “صلاح منتصر” رئيس تحرير جريدة أكتوبر الّتي نشر بها فودة آخر مقالاته “عندما سألو المتّهم باغتيال فودة عن أسباب جريمته قال لهم بسبب مقالاته في مجلّة أكتوبر تحت عنوان كلام في الهواء. و لا أظن أنّ هذا المتّهم قد قرأ مقالا واحدا له، لأنّ مستوى تعليمه يدلّ على أنّه بالكاد يفكّ الخطّ، وأنّه إذا قرأ لا يفهم كثيرا كلّ معاني ما يقرأ وأن مترجما نقل إليه ما جعله يؤمن بأنّه كافر ملحد زنديق، و أنّ اغتياله جاء في سبيل الله، وهو ما لا يكن بالقطع صحيحا، و لا يملك بشر أن يقوله عن بشر. هكذا أقنعوا الّذي أمسك بالمدفع و صوبه إليه. (حتّى لا يكون كلاما في الهواء ص6 و مابعدها)
أثارت كتابات فرج فودة جدلا واسعا ونقاشا كبيرا بين المثقّفين و المفكّرين ورجال الدّين . و اختلفت حولها الآراء وتضاربت، بل وتصاعدت حتّى بلغت حدّا كبيرا من العنف أدّى في النّهاية إلى توقّف الحوار وإعلان القتل، فكانت الطّلقات في مقابل الكلمات، والمدفع في مقابل القلم، والتّكفير في مقابل التّفكير.
وكان من البديهيّ أن يختار أنصار التّطرف و أصحاب القتل أقصر الطّرق-الإغتيال-بعد أن عجزوا عن المواجهة وفشلوا في الرّد، وقصروا في التّصدي، وبعد أن أعياهم المنطق السّليم، و أرهقهم العقل المستنير.
والغريب في الأمر أنّ فودة كان على علم بما يخبئه له المتطرّفون المتأسلمون، فقد وجد اسمه ضمن قائمة الاغتيالات لدى إحدى الجماعات الإرهابيّة . ولا غرابة كذلك أنّ هذا لم يثني “شهيد الفكر” و لم يجعله يتراجع أو ينحني و إنّما زاده – كما يقول- إصرارا و صلابة و عشقا لوطنه. ذلك ما صرّح به و قاله في غير ما موضع من كتبه و مقالاته.
دعونا نستمع إليه يتحدّث عن ذلك في كتابه “الإرهاب”:
” ما زلت أتذكّر أحد أيّام صيف عام1982 عندما كنت أعرض مسودّات كتابي “قبل السّقوط ” على الأستاذ الكبير إبراهيم طلعت في الاسكندريّة تعليقه المختصر: بالتّوفيق. ولكنّك تضع نفسك أمام فوّهة المدفع. وقد تذكّرت قوله مرّة ثانية، وأنا أتهيأ لإصدار كتابي “الإرهاب”. و كان تقديري أنّي وضعت بكتابته أمام فوّهة المدفع. و ها هي السّنوات تمرّ ويتوالى ما أصدرته من كتب و لم ينطلق المدفع بعد و لا يعنيني أن ينطلق” .
ثمّ يضيف قائلا “… و اليوم الّذي لا يصلني تهديد منهم و الصّباح الّذي لا تكتحل عيناي فيه بهجوم من تيّاراتهم، دليل قصور في سعيّ و تقديري. فكم كانت جوانحي ترقص طربا و أنا أقرأ هذا كلّ، فمعناه واضح لديهم مفهوم لديّ، و دلالته أنّي قد أوجعتهم بما أكتب و أثيرهم بما أجتهد، و مادام ردّ فعلهم سباب و قذف و شتيمة فمعنى ذلك أنّ منطقهم أعجز عن الرّد وأهون من الحوار. وإذا كان الشّيء بالشّيء يذكر فلعلّ القارئ يتذكّر أنّ اسمي كان ترتيبه الثّالث في قوائم الاغتيالات الّتي ضبطت لدى تنظيم “النّاجون من النّار ” كما يسمّون أنفسهم ” السّاعون إلى النّار كما أسمّيهم”. ولو لم يحدث ذلك لشعرت بأسى شديد، فالشّجاعة تقاس بعداء الجبناء و السموّ يقاس بعداء الوضعاء و الرّصاص هو التّعبير العنيف عن منتهى الضّعف (…) أي حوار هذا الّذي ينطق أحد أطرافه بالكلمات فيردّ الطّرف الآخر بالطّلقات. إذا كان المقصود أن نتراجع فقد طلبوا المستحيل، وإذا كان المستهدف أن نخاف فقد ظلّوا السّبيل، وإذا كان المطلوب أن نغمد القلم فقد أخطئوا رقم الهاتف. فالموت أهنأ من العيش في ظلّ فكرهم العيي وحكمهم العتيّ و منطقهم الغبيّ، و أن يفقد المرء حياته و هو يدافع عن حياة الوطن أشرف كثيرا من أن يعيش في ظلّ وطن ممزّق، و أن يضحّي المرء بالسّنوات الباقية من عمره أشرف كثيرا من أن يقضيها تحت حكم من يفضلون ركوب النّاقة على ركوب السيّارة -كما يذكر أحد أعضاء الجماعة في أسيوط- أو من يذهبون فرادى وجماعات لقضاء الحاجة في الخلاء -كما يفعل أعضاء الجماعة في المنيا-. المقبرة أهون والإستشهاد أفضل، والجهاد ضدّهم حتّى يقضي الله أمرا كان مفعولا هو الإختيار الصّحيح و المريح. (الإرهاب ص 11 وما بعدها).
هكذا إذن بجرأة وبسالة قل مثيلها يقف فرج فودة ضدّ التيّار، ويعرّض حياته للطوفان الكاسح، متمسّكا بموقفه، مؤمنا بمبادئه وقضيته. حتّى وإن دفع حياته ثمنا لحقّه في الدّفاع عن رأيه و فكره -وقد فعل إلى آخر رمق- وهو في نقده ودفاعه، وفي كرّه وفره، لا يعرف غير العقل والمنطق طريقا، والحوار والنّقاش سلاحا.
وكلمة حقّ نقولها في حقّ هذا الرّجل وهو أنّه حتّى وإن اختلفنا معه جملة أو تفصيلا. وسواء تبنينا مواقفه أو عارضناها، فإنّه يبقى علينا في كلّ الأحوال أن نقف احتراما لموقفه الجريء و جرأته النّادرة وشجاعته الّتي يصعب اليوم أن نجد لها مثيلا.
وللاقتراب أكثر من شخصيّة فرج فودة و لفهم أعمق دعونا ننصت لما قاله صلاح منتصر الّذي عايشه و كان قريبا منه: “…بالرّغم أنّ فرج فودة كان ضخم الجثّة يخيف منظره من لا يعرفه فإنّ كلّ من اقترب منه انضمّ بسرعة إلى قائمة محبيّه. عندما كان يفاجأ برقّة أسلوبه وأدبه، و عفّة لسانه، ورهافة مشاعره وبراءة الطّفل من داخله. مع قوّة في الدّفاع عن فكره ودلائل لا تنفد جمعها من التّاريخ ورتّبها في أرشيف عقله. وكانت قدرته عظيمة في استخراجها بخفّة وعرضها برشاقة و إفحام محاوره بسهولة(…) كان من الكتّاب الّذين يضيفون عددا من القرّاء كلّ أسبوع بسبب الطّعم الخاصّ الّذي كانت تتميّز به كتاباته وأسلوبه المختلف الّذي يصاحبه فكر محدّد درس صاحبه طويلا إمكان الوصول بسهولة و ثقة إلى عقل القارئ، و في هدوء و قوّة. وكان منطقه يبدوا مترابطا لدرجة أنّي تصوّرت أنّه من خريجي كليّة الحقوق، وأنّه درس القانون بل لفترة اعتقدت أنّه محام، وكم كانت المفاجأة عندما اكتشفت أنّه درس الزّراعة، ولكنّه كان عاشقا مدمنا للقراءة و الكتابة”. (نفس المرجع ص3)
وها هي ذي شهادة رجل في حقّ صديقه ورفيق دربه إنّه الفنّان “عادل إمام” الّذي جمعته بفرج فودة الدّراسة بكليّة الزّراعة، وجمعتهما -كخاصيّة مشتركة- الرّغبة في الوقوف في وجه التّطرف، واحد بقلمه و الآخر بفنّه. يقول عادل إمام في حوار مع مجلّة “فنّ” العدد 129″..أنا لم أذهب إلى أسيوط للتّحاور معهم، فكيف أتحاور بالفكر مع من يمسك قنبلة…لقد قتلوا فودة لأنّه قويّ الحجّة، وذو فكر حرّ و مستنير. فأرادوا أن يسكتوا منطقه ليس بفكر مضادّ ولكن بطلقات الرّصاص الّتي مزّقت جلده.”
ولنختم هذا التّعريف بشهيد الفكر بما قاله في كتابه “نكون أو لا نكون “: ” إنّ ما أسجّله في هذا الكتاب شديد الأهميّة في تقديري لأنهّ يعكس واقع المعارك الفكريّة الّتي نعيشها، وهو سجل هامّ للأجيال القادمة أكثر من أهميته لجيلنا. لأنّه وثيقة شرف لجيل آبائهم، ولعلّهم لن يصدقوا أنّنا كتبناه ونحن غارقون في اتّهام التّكفير، ومحاطون بسيوف الإرهاب والتّهديد. ويقينا سوف يكتب البعض من الأجيال القادمة ما هو أجرأ و أكثر استنارة، لكنّه سوف يصدر في مناخ آخر أكثر حريّة وانطلاقا وتفتحا. ولعلّه من حقّنا عليهم أن نذكّرهم أنّهم مدينون لنا بهذا المناخ. وسوف يكتشفون عندما يقلبون أوراقنا ونحن ذكرى أنّنا دفعنا الثّمن(…) ويا أيّها القارئ بعد زمان طويل إقرأ لنا وتعلّم كيف يكون الإنسان موقفا، وكيف نحتنا عصر تنوير بأقلامنا. وكيف كانت الكلمات أقوى من الطّلقات. وافهم معنا ما فهمناه من كلمة الله العليّ القدير حين شاء أن تكون أولى كلماته في الإنجيل “في البدء كانت الكلمة” وفي القرآن “اقرأ” يأيّها القارئ بعد زمان طويل …إقرأ”.
لعلّنا اليوم في حاجة ماسّة لأطروحات التّنوير والفكر المستنير، ولاستذكار فرج فودة و فكره، ونحن في مواجهة الدّعاوي والجماعات المتطرّفة، ولعلّ الدّاعشيّة آخر إصدراتها قولا و عملا.
لعلّنا نقرأ، لنرقى .. لعلّنا نتذكّر فتنفعنا الذّكرى.