الصراعات الإثنية، هل هي صراعات المستقبل؟ أو كيف يمكن تجنب الصراعات الإثنية؟(*

الصراعات الإثنية، هل هي صراعات المستقبل؟ أو كيف يمكن تجنب الصراعات الإثنية؟(*

جيري موللر وجيمس هبياريمانا وآخرون**

أولاً: أطروحة موللر والرد عليها (جيمس هبياريمانا وآخرون)

كان الأستاذ جيري موللر قد كتب في عدد مارس/ أبريل من مجلة (السياسات الخارجية) مقالةً مختلفةً عن إمكانيات التعدد الإثني في إحداث نزاعاتٍ عنيفة. وهو يذهب إلى أنّ القومية الإثنية -والتي تنبع من الإحساس العميق لكل مجموعةٍ إثنيةٍ بالحاجة إلى دولتها الخاصة- (ستظل تؤثّر في العالَم، وتُسهم في تشكيله في القرن الواحد والعشرين). ويتابع موللر أنّ أوروبا المعاصرة تَدينُ بسلامها واستقرارها لانتصار المشروع الإثني/ القومي للقوميات الكبيرة. أما الصغيرةُ منها فقد فتّتتْها الحدود، وفتّتها الرفاه الاقتصادي، بحيث ما عادت تستطيع إثارة نزاعاتٍ كبرى من أجل إقامة دولتها الخاصة. وفي المناطق والأقاليم والقارات الأُخرى؛ وحيث الأُمم ليست نظيفةً عِرْقياً بما في الكفاية؛ فإنّ موللر يوافق ونسْتون تشرشل في رأْيه أنّ (مزج الشعوب بعضها ببعض، سيتسبب في مشكلاتٍ كبيرة). وهكذا يقترح موللر تقسِيمَ الدول بحسب الإثنيات حلاًّ للنزاعات! وإذا كانت مقولة موللر صحيحة، ستكون لها آثارٌ هائلةٌ على سلام العالَم واستقراره. لكنْ هل هي صحيحة؟ ولماذا يجبُ أن تُثير الإثنيات النزاعات؟

فالواقع أنه ليس صحيحاً أنّ الاختلافات الإثنية مُثيرةٌ للنزاعات. كما أنه ليس صحيحاً على إطلاقه أنّ التعددية الإثنية تستولد العنف. فمقولة موللر تستند إلى أمرين؛ الأول أنه مادامت بعض النزاعات ذات أبعاد إثنية فهذا يعني أنّ الإثنية عنيفة، والثاني ما يُعرف بـ(الأصول الأولى للنزاع). فماذا تعني الأصول أو القاعدة في هذا السياق؟ وما هو عدد المرات التي يكونُ فيها النزاع إثنياً في حقبةٍ معينة؟ لقد درس كلٌّ من جيمس فيرون وديفيد لايتن النزاعات في إفريقيا من الاستقلال وإلى العام 1979م، وقسّماها إلى أربعة أشكال: النزاع الذي تقف فيه جماعةٌ ضد جماعةٍ أُخرى. والنزاع الذي تحاول فيه مجموعةٌ إثنيةٌ الانفصال للانضمام إلى دولةٍ أُخرى. والنزاع الذي سببُهُ تمرُّد مجموعة إثنية للسيطرة على النظام السياسي. والنزاع الذي يتطور إلى حربٍ أهلية وغايتُه تغيير النظام السياسي والحصص فيه لصالح إثنيةٍ معينةٍ أو اثنتين. وقد أحصى الباحثان مئات الإثنيات التي يمكن أن تخوض في نزاعات. لكنهما لم يجدا غير نزاعاتٍ قليلةٍ ذات أبعادٍ إثنية واضحة. كما أنهما ما وجدا مئات أو عشرات الدول الجديدة الناجمة عن انقسام إثني. فالحدود في إفريقيا اليوم تبدو كما كانت عام 1960م. ولذلك يختم الباحثان بالقول إنّ النزاعات الإثنية مفزعة، لكنها نادرة. وقد يكون خطأ موللر ناجماً من تركيزه على الحالات التي انفجرت فيها نزاعاتٌ أو تكونت من خلالها دول. لكنّ الواقع أنّ أكثر الدول ظهرت بشكلٍ سلميٍ وهادئ، رغم تكونها من عدة إثنيات وبخاصةٍ في أوروبا قديماً، وفي إفريقيا حديثاً.

ولا شك أنّ الانقسامات الإثنية إنْ حدثت فإنها تتسبب في عنفٍ كبير. وقد يكون العنف من الفظاعة، بحيث يبدو التقسيم هو الحلّ الوحيد الباقي. بيد أنّ هذا الحلَّ ما كان ضرورياً إلاّ نادراً. فالذي نحتاج إليه بالفعل الدراسة العميقة لكيفية عمل الإثنيات. ويعمد موللر لتعليل انهماك الإثنيات في نزاعات للقول إنّ الوطنية (العصبية) الإثنية هي الأساس في التضامُن والتنافُر. فهي تدفع باتجاه نُصرة القريب والاندراج فيه، والنفور من الآخر ومنازعته. وهذا تفسيرٌ سهلٌ ومُغْرٍ للنزاعات العنيفة الأخيرة في إفريقيا. كما أنه يفسر -حسب هذه النظرة- ميل الإثنيات للتقوقع والانفصال في شرق أوروبا، والاتحاد السوفياتي السابق. ولذلك يقترح موللر الانفصال حلاًّ للنزاعات العنيفة حتى لا يستمر الاقتتال وعدم الاستقرار. لكنّ التضامُن والتنافُر لا يفسّران في الحقيقة حدوثَ النزاعات، وكيف تنفجر. وتشير الأبحاث الأخيرة إلى وجود تفسيرين؛ الأول أنّ التضامن والتعاون مع زملاء البيئة الواحدة أسهل وأقلّ كلفة وأكثر واقعية، وليس بسبب الأصل الواحد مَثَلاً. والثاني التعامُلُ بالمثْل، لأنَّ كلَّ طرفٍ ضمن الإثنية معروف الأعراف وطرائق السلوك ويمكن توقُّعُ حركيته وردود أفعاله، بخلاف الغرباء. وهذان التعليلان مهمان إذا كانا صحيحين. فلو كان النزاع سببه إثني ولا شيئ غير؛ فإنّ الانفصال يصبح ضرورياً. أما إذا كان أمراً متعلّقاً بالوقائع وتقاليد التعامُل؛ فإنّ الانفتاح يصبح أسهل من مثل ما فعله جوليوس نايريري عندما اعتبر السواحيلية لغةً وطنيةً مطلع السبعينات لإيجاد أساسٍ مشترك، ونجح في ذلك. والقرار باتخاذ هذا القرار أو ذاك يمكن أن يكونَ تجريبياً مثل حالة أوغندا المتعددة إثنياً، والتي نشبت فيها نزاعاتٌ طويلة الأمد بين الإثنيات أحياناً، وداخل الإثنية الواحدة أحياناً أخرى. وقد تبين بالأبحاث الدقيقة أنّ التعاوُن بين الإثنيات المختلفة، ليس أقلّ حدوثاً من التعاون والتضامُن داخل الإثنية الواحدة.

ثانياً: الانفصال والأوطان (ريتشارد روزكرانس، وأرثر شتاين)

يذهب جيري موللر إلى أنّ الإثنية/القومية هي موجة المستقبل، ستؤدي إلى بروز كياناتٍ سياسيةٍ جديدةٍ وكثيرة. لكنّ ذلك ليس صحيحاً. فالذهاب إلى أنّ كل إثنية من حقها أن تكون لها دولة، تسبَّب في الاضطراب عبر التاريخ. وقد شجع وودرو ويلسون في أُطروحته (حق الشعوب في تقرير مصيرها) على هذا الأمر، لاعتقاده أنّ النزاعات الإثنية كانت سبب اندلاع الحرب العالمية الأُولى. لكن الذي جرى أنهم بعد الحرب الأولى جمعوا عدة إثنياتٍ في دولةٍ واحدةٍ مثل هنغاريا وإيطاليا والاتحاد السوفياتي. وكان الاعتقاد أنّ الإثنيات الصغيرة لا تستطيع اقتسام الموارد أولا تكفيها الموارد في مساحةٍ صغيرةٍ قائمة. وفي العالم اليوم 6800 لغة ولهجة، وليس أكثر من 200 دولة: فهل من المعقول تقسيم كلٍّ من هذه الدول إلى 34 قسماً؟! هنا يبلغ حق تقرير المصير حدوده القصوى غير المعقولة! أما الأطروحة القائلة بالدولة الواحدة للأمة الواحدة، فأمرٌ لا يمكن تحقيقُهُ لأربعة أسباب؛ أولها أن الدول تعتني اليومَ بأقلياتها أكثر بكثير مما كانت تعتني الإمبراطوريات. وثانيها أنّ الحصول على السيادة القومية يعتمد على عوامل خارجية واعترافٍ خارجيٍ كذلك. ونحن نعلم أنّ الحركات الانفصالية تلجأ عادةً للعنف مثل الباسك أو غيرهم. والعنف الإرهابي هذا يمنع من الاعتراف. ولذلك فالأحرى بالإثنيات أن تلجأ للحلول السلمية الداخلية، وليس السعْي للانفصال بالعنف، وهذا ما فعله أهل كيبيك (كندا). وقد تراجع الأوروبيون عن دعم الشيشان عندما استخدموا العنف. وقد يقوّض استمرار حماس في قصف القرى الإسرائيلية الدعم الدولي لحلّ الدولتين. وهكذا ربما باستثناء الفلسطينيين، ليس هناك من يعتبر أنّ الإثنيات في دولٍ ضعيفةٍ جديدةٍ هي حلٌّ أفضل من البقاء ضمن الدولة الكبيرة. وثالثها إنّ العولمة زادت من تذمر الإثنيات لأنها تسبّبت في عدم المساواة. لكنْ من جهةٍ ثانية فإن العولمة ذاتَها تتيح الفُرصة لتهدئة النزاعات من ضمن النظام السياسي الواحد، ومن خلال التنمية الكبيرة والواسعة. فإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وتايلاند تتألف جميعاً من إثنياتٍ مختلفة، وقد أفادت كلّها من النهوض العامّ. وشمال فيتنام وجنوبُها مختلفان ثقافياً، لكنهما أفادا معاً من النمو الاقتصادي. وكذلك الأمر مع كمبوديا المتعددة إثنياً، والتي أفادت من تحرك الصين لتصنيع جزءٍ من إنتاجها بالخارج. ورابعها أنّ الجماعات غير المرتاحة يمكن أن تلجأ طبعاً للعنف. لكنها تستجيب للعناية الاجتماعية والاقتصادية، ويمكن أن يُرضيها ذلك فلا تفكر في الانفصال. وفي حال عدم الرضا هناك أيضاً الحلُّ المرجَّح والمتمثّل في الهجرة. مثل هجرة المغاربة إلى فرنسا، والبولونيين إلى بريطانيا والولايات المتحدة. وهؤلاء جميعاًَ يجدون رضاً أكبر إذا لم تستطع دولهم الأصلية إرضاءَهم. وهناك إثنياتٌ وجماعاتٌ مشابهة أرادت الانفصال وقاتلتها الحكومة المركزية، لكنها عرضت عليها جزراً إلى جانب العصا، وجرى التوصل إلى حلٍ أفضل من الانفصال، مثل الإقليم أتشه الذي أراد الانفصال عن إندونيسيا. والأمر كذلك مع كشمير التي تتأرجح بين الجزر والعصا، والغالب أن لا تستطيع الانفصال. وقد فقد نمور التاميل بسيريلانكا عطف العالم، لأنهم لجأوا للمذابح ضد السنهاليين المدنيين. وتكوُّن كوسوفو غير المكتمل ليس مقدمةً لظهور دولٍ منفصلة على أساس إثني. فأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ذواتا الحكم الذاتي الواسع، لن تستطيعا في الغالب الانفصال عن جورجيا. وكذلك الأمر مع الأقلية المقدونية في ألبانيا.

ثالثاً: ردود جيري موللر

ما قصدتُ من وراء مقالتي في العدد السابق من مجلة (فورين أفيرز) أن تكون جدولَ أعمالٍ للسنوات القادمة. بل أردتُ التنبيه إلى أنّ القومية/ الإثنية أدّت دوراً أكبر مما أدركه الباحثون والمراقبون طوالَ القرن العشرين، وليس في النصف الأول منه فقط. وقد ذهبتُ إلى أنّ الأميركيين يميلون للتعميم بناءً على تجربتهم الخاصة التي لا يمكن أن تُعمَّم عالمياً. ومع ذلك فإنّ الإثنية وابن عمّها العنصر أو الجنس، لعبا ويلعبان دوراً معتبراً في الحياة الوطنية الأميركية، ومن مناطق السُكنى وإلى السلوك الانتخابي. والمعروف أنه عبر العقود المتوالية فإنّ الإثنية تبهتُ في أميركا، وتتضاءل الأفكار والتوجهات التي تقولُ بضرورة أن يكون للإثنيات دورٌ سياسيٌّ مخصوص. لكنْ إذا كان هناك تسامُحٌ إزاء خصوصيات البولنديين والأوكرانيين في شيكاغو، لماذا لا يسري الشيء نفسُه على السُنّة العرب والتركمان في كركوك بالعراق؟! وإذا كان الأميركيون يركّزون على تجربتهم الخاصة، فكذلك الأوروبيون، الذين غرَّتْهم ظاهرة (الاتحاد) فقللوا من شأن القومية/الإثنية، رغم وجود مشكلاتها بجانبهم في البلقان، وفي يوغوسلافيا السابقة.

والواقع أنني ما ادعيتُ أنّ العنف الذي رافق التجربة الأوروبية، سوف يكرر نفسه، بل سيكون الأمر خفيفاً بالمقارنة بتلك التجربة. لكنّ التوترات الإثنية سوف تزداد، ولن تنقُص، بفعل الحداثة والتحديث. وبعكس ما ذهب إليه الزملاء، ما رأيتُ أنّ الانقسامات الإثنية سوف تجلبُ العنف بالتأكيد، كما أنني عندما ذكرتُ مقولة ونستون تشرشل لم أؤيِّدْها. وقد ختمتُ مقالتي بما ملخَّصه: في غالب الأحيان؛ فإنّ مطالب حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي يمكن أن تجد تسويةً ضمن الدولة الواحدة. لكنْ في بلدان العالم النامي، حيث نشأت الدول والحدود حديثاً وعبر التجمعات الإثنية؛ فهناك إمكانية لظهور التوتُّر. وكما لاحظ حاييم كوفمان؛ فإنّ النزعات عندما تتجاوز حداً معيَّناً من العنف، فإنّ إبقاء المجموعات الإثنية المتصارعة ضمن كيانٍ سياسيٍ واحدٍ يصبح أمراً صعباً. وعندما يصل الصراع إلى حدود التصفية الإثنية أو العنصرية؛ فإنّ أجزاء واسعة ممن تهجَّروا لا تستطيع العودة أو لا يكون ذلك مرغوباً فيه... وفي هذه الحالة يكون التقسيم هو الحلّ الأكثر إنسانيةً وواقعية! وليس صحيحاً ما ذهب إليه الزملاء من أنني أُعيد النزاعات الإثنية إلى ميلٍ للخصومة في الطبيعة الإنسانية، بل ما قلتُه إنّ عمليات نشوء الدولة الحديثة أطلقت غرائز من عقالها. وقد استندتُ في ذلك إلى السوسيولوجي الكبير إرنست غلنر، والذي يستند إليه الزملاءُ المعترضون، ويستند هو إلى المؤرّخ العربي ابن خلدون في تأمُّلاته بشأن التضامُن القبلي للنسب الحقيقي أو الموهوم والجوار واللغة ووحدة الموارد والمصالح.

ولا أجد مجالاً هنا لمناقشة أطروحة فيرون ولايتن بشأن إفريقيا بين 1960و1979م. لكنْ على سبيل المثال؛ فإنّ الباحثين يعتبران النزاع في بيافرا بنيجيريا (1967-1970م) نزاعاً إثنياً، ويقولان إنه لم يؤدّ إلى تقسيم البلاد. لكنهما يتجاهلان أنه أدى إلى تهجير وقتل مليون إنسان وأكثر. ولو أنّ الرجلين تابعا رحلتهما بعد العام 1979م، لوجدا أنه في النزاع الإثني براوندا قُتل 800 ألف إنسان معظمهم من التوتسي!

ولستُ أختلف مع ريتشارد روزكرانس وأرثر ستاين، في أنّ إنشاء دولة لكل إثنية سيزيد من الاضطراب ولا يقلِّله. لكنّ الاضطراب الذي تسببه الإثنية/القومية ما حال دون استمرار جاذبيتها وإقبال المزعوجين عليها. وأنا مع الزميلين في أنّ أكثر الطموحات الإثنية لا يمكن تحقيقها، ويمكن الحصول على الحكم الذاتي ضمن الدول الكبرى بدون الحاجة إلى انقسام. وقد لاحظ دونالد هورويتز أن ّالفيدرالية هي نصفُ تقسيم. وهي لا تأتي إلاّ متأخرةٍ بعد استشراس النزاع. وقول الزميلين إنّ التوزيع الأفضل للثروة يخفف من النزاعات صحيح. لكنّ البلدان النامية ليست فيها تلك الثروات التي يمكن توزيعُها.

وفي النهاية، وبدون خوضٍ في التفاصيل، فالذي أدعو إليه المراجعة والنظر في المشكلات الإثنية، والتي أُفضّل أن تنحلَّ من ضمن الدولة القائمة. بيد أنّ الرؤية السائدة، والتي ترى استحالة تغيير الحدود، تجعل من الصعب أيضاً، التوصل إلى فيدرالية أو حكم ذاتي ضمن الدولة. فلنفكر في المشكلة الإثنية، والتي ستظلُّ تلعبُ دوراً في إفريقيا وآسيا، وأقلّ في أوروبا، في القرن الواحد والعشرين.

**************************

الحواشي

*) مقالةٌ نقاشيةٌ وردود على أُطروحةٍ لجيري موللر في عدد مجلة فورين أفيرز(أبريل 2008م) عن مستقبل القوميات الإثنية في القرن الواحد والعشرين. والمقالة النقاشية الجديدة منشورة في: Foreign Affairs: July- August 2008, pp. 138-150.

**) باحثون سياسيون وأنثروبولوجيون في المراكز البحثيو الأميركية.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=530

الأكثر مشاركة في الفيس بوك