كورونا بين إعادة بناء الإنسان وإعادة بناء العالم

سناء السعداني

 

لقد تكاثرت التّحذيرات المروعة في هذه العقود الأخيرة. فعلى سبيل المثال أدّى الخوف من مرض جنون البقر إلى اتّخاذ تدابير مهمّة على مستوى استهلاك اللّحوم. كما أنّ تخوّفات أخرى نتجت عن أوبئة متمثّلة في وباء أنفلونزا الطّيور، جائحة H1N1ووباء السّارس كورونا فيروس، وكورونا فيروس المستجد، وإيبولا، وفيروس كورونا الشّرق الأوسط الّذي يسبب متلازمة الشّرق الأوسط التّنفسيّة (ميرس) نسبة للمنطقة التّي ظهر فيها وانتشر منها نظرا لكونه ظهر لأوّل مرّة في أبريل 2012 بالأردن. هذا علاوة على مرض الجمرة الخبيثة ووباء الجدري والشيكونغونيا وهو مرض فيروسي ينتقل إلى البشر عن طريق البعوض المصاب حسب منظمة الصّحة العالميّة وفيروس الزيكا وهو نوع من الفيروسات المصفرة الّذي ينتقل عن طريق البعوض. إنّ هذه الفيروسات منتشرة في آسيا وإفريقيا إضافة إلى أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبيّة حسب معهد باستور. كما أودت أوبئة أخرى كالتيفوس والكالكوليرا بحياة آلاف الأفراد بإفريقيا وأمريكا اللاّتينيّة ونخصّ بالذّكرجزيرة هايتي.[1]إنّ اسم كورونا يشتق من اللاّتينيّة ويعني التّاج أو الهالة نسبة إلى شكل هذا الفيروس على غرار الروتافيروس الّذي يظهر على شكل العجلة والفيلوفيروس وهو على شكل خيط كالإبولا. وفيما يتعلّق بكوفيد – 19 فهو اسم مختصر لكورونا (Co) وفيروس (vi) ومرض باللّغة الأنجليزية (d=desease) أمّا رقم 19 فيدل على سنة اكتشاف هذا الفيروس.وتعتبر هذه الفيروسات التّاجيّة السّبب الرّئيسي الثّالث لعدوى الجهاز التنفسيّ الفيروسيّة. وتتميّز بحمضها النوويّ الريبي (ARN) كما يُطلق عليه كذلك فيروس الريبو. ويكون هذا الحمض النّووي عمومًا منفرد الجديلة(ssRNA)[2]، كما يمكن أن يكون مزدوج الجديلة (dsRNA). وتسبّب هذه الفيروسات التهابات الجهاز التنفسيّ العلويّ وخاصّة الشّعب الهوائيّة إضافة إلى الإسهال. كما أنّها تعرف طفرات متكرّرة معروفة منذ فترة طويلة على غرار العديد من الفيروسات. أمّا فيما يتعلّق بالتّسلسل التّاريخيّ للفيروسات التاجيّة وخاصّة بعد التّطوّر الّذي عرفته المعدّات المخبريّة، فقد بدأت قصّتهم منذ سنة 1965 عندما تمكّن الطبيبان البريطانيان م. ل. بينو ودافيد تيريل اللّذين يعملان في وحدة أبحاث الزّكام بمدينة ساليسبري بالمملكة المتّحدة من اكتشاف فيروس في جسم طفل مصاب بالبرد فأطلقا عليه اسم فيروس 229E[3]. وفي نفس الصّدد فقد اكتشف هذان العالمان أكثر من 200 فيروس للأنفلونزا. وفي وقت لاحق، خلال أخذه عينة من الجهاز التنفسيّ لأحد الأفراد، وجد الباحث كينث ماكنتوش فيروسًا آخراً مشابهًا جدًا فأطلق عليه اسم [4]OC43. وبعد ذلك، تمّ الاتّفاق على اختيار اسم الفيروس التّاجي لتسمية هذه العائلة المعروفة منذ سنة 1967 بالحقل العلميّ والطبيّ. ويعتبر فيروس كورونا أقلّ خطورة من الفيروسات الّتي عرفها العالم خلال السّنوات الماضية، وخصوصا متلازمة الالتهاب التّنفسيّ الحادّ “سارس” ومتلازمة الشّرق الأوسط التّنفسيّة “ميرس”، باعتبار أنّ نسبة الوفيات المترتبة عن الإصابات بالسّارس في 2003 بلغت 16% وبالميرس نحو 13%، أمّا نسبة الوفيات النّاتجة عن الإصابة بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) فتتراوح بين 3 % و5 %. ففي الصّين على سبيل المثال لا الحصر وصل عدد الإصابات نحو 80 ألفا، من بينهم أكثر من 70 ألفا شفيوا من الفيروس، ويقدّرعدد الوفيات ب 2990 شخصا. وفي المقابل تقتل الإنفلونزا العادية ما بين 300 ألف و700 ألف شخص سنويا، وتصيب نحو 50 مليون شخص كلّ سنة حول العالم حسب تقارير منظّمة الصّحة العالميّة. من خلال هذه المعطيات، يبقى السّؤال الّذي يطرح نفسه وبقوّة هو لماذا كلّ هذا التّهويل والتّضخيم بالنّسبة لفيروس شفي منه الآلاف بشكل طبيعي؟ وبناء على أرقام الوفيات الّتي لا تتجاوز %3 من عدد الإصابات الإجمالي، نجد أنّ فيروس كورونا أقلّ خطرا من كثير من الأمراض كأمراض القلب والسّرطان والسّيدا وغيرها. ويكاد يرتّب كآخر فيروس ضمن قائمة الفيروسات الّتي تهدّد حياة الأفراد في حالة عدم قيامهم باتّخاذ الإجراءات الحمائيّة وفي غياب التّوعية بحيث أنّ أخطاء فادحة ومميتة في عدّة حالات تنجم عن الاستهتار والتّقليل من خطورة العدوى وانعكساتها.لقد فتح انتشار فيروس كورونا المستجد باباً لعدّة تأويلات وتخمينات وصلت لحدّ التّراشق بين بعض الدّول إلاّ أنّه في نفس الوقت، وحّد مصير المجتمع الدوليّ والإنسانيّ حيث أصبحت جميع المجتمعات تكافح للاستجابة والتكيّف مع السّيناريوهات المتغيّرة ومستويات التّهديد ووعياً منها بالمصير المشترك حيث استعانت إيطاليا بالصّين وكوبا كما أيقض القيم الاجتماعيّة بعد ما آلت إليه الإنسانيّة من إغلاق الحدود وإجراءات الطّوارئ وتعطيل الحياة اليوميّة للأفراد كولوجهم لبعض مؤسّسات التّنشئة الاجتماعيّة (مدارس – دور العبادة) وحرمانهم من حريّتهم في الحركة الّتي اعتبرتها الفيلسوفة “هانا أرندت”[5] الأقدم والأكثر بدائيّة.  إنّ حالة الأوبئة الحالية تعكس سلوكات عميقة ومختلفة لدى الأفراد والفاعلين فمنهم من يأخذ الأمور بالجديّة اللاّزمة ومنهم من يستهتر بالأوضاع المحتملة.  فالتّاريخ مليء بالمخاوف من الكوارث والأوبئة الطبيعيّة. فبعد الحرب العالميّة الثّانية انقسم العالم إلى ثلاث مجموعات من بينها معسكرين متنافسين أي المعسكرالرّأسمالي والمعسكر الاشتراكي. وعرفت هذه المرحلة تطوّرا جدّ مهمّ في مجالات صناعة الأسلحة بما فيها النّوويّة الّتي أثارت خلافات كبيرة وبالتّالي فالتّخوف الّذي كان مهيمنا على المجتمع الدولي كان بخصوص الحروب وانعكاساتها على المجتمعات الّتي تجلّت في عدّة ظواهر من بينها اللّجوء، التّشرد، الهجرة، الفقر… وفي ظلّ هذه الأوضاع عرف العالم تطوّرا مهمّا في عدّة مجالات تكنولوجيّة وعلميّة بما فيها المجال الصّحي وصناعة الأدويّة بحيث نجد وحدات بحث علميّة وتقتنيّة متخصّصة فى جميع أنواع العلوم الحقّة منها والإنسانيّة. وما يثير الاستغراب هو كيف أنّ فيروسا لايتعدّى بضع نانوميترات يزرع كلّ هذا الخوف والهلع فى هذه مجتمعات ويحقّق ما لم تحقّقه عدّة مفاوضات كتوقيف بعض الحروب. وهكذا فقد كشف فيروس كوفيد – 19 عن أهميّة وظيفة المجتمعات كوحدة وعلى تماسك النّظم الاجتماعيّة والأنساق المنظمة بين الأفراد والمؤسّسات أو حتّى السّلطة والمقصود بها هنا أصحاب القرارات. في هذا الظّرف العصيب الّذي تمرّ منه القارّات الخمس، توحّد الأفراد في تنظيم المجتمع لتحقيق الحاجات الإنسانّية الضّروريّة. كما استيقظت الإنسانيّة من سباتها لتحقيق القيم الكونيّة والصّفات الأخلاقيّة المنظمة بوعي أو دون وعي كوحدة وظيفيّة مبنيّة على التّكافل ومساعدة الفئات الهشّة كالأشخاص الّذين ليس لديهم مأوى ويكاد يكون الحجر الصّحي عليهم مجرّد دعاية، والّذين لا يزالون دون رعاية. وقد عرّت هذه الجائحة على بؤس بعض الدّول في ظلّ غياب نظام الحماية الاجتماعيّة والصّحيّة ودور العناية بالفئات الهشّة ووضع سياسات وبرامج رامية إلى الحدّ من الفقر والضّعف من خلال تعزيز الكفاءات وخلق فرص الّشغل ممّا يقلّل من تعرّض النّاس للمخاطر ويعزّز قدرتهم على إدارة المخاطر الاقتصاديّة والاجتماعيّة، مثل البطالة والإقصاء والمرض والعجز والشّيخوخة.

 *******

[1] Raoult,Didier,2020, Epidémie vrais danger et fausses alertes, de la grippe aviaire au Covid-19,p.5

[2] Patton JT (editor). (trad. du danois), Segmented Double-stranded RNA Viruses: Structure and Molecular Biology, Norfolk, Caister Academic Press, 2008

[3] D. A. J. Tyrrell and M. L. Bynoe, The British Medical Journal , Vol. 1, No. 5448 (Jun. 5, 1965), pp. 1467-1470

[4] https://www.lemonde.fr/blog/realitesbiomedicales/2020/03/27/il-etait-une...

[5] ARENDT, Hannah, La crise de la culture, 1954, Gallimard Idées, pp. 213-214

المصدر: https://www.alawan.org/2020/04/03/%d9%83%d9%88%d8%b1%d9%88%d9%86%d8%a7-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a5%d8%b9%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a8%d9%86%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d9%88%d8%a5%d8%b9%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a8/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك