تعود الصياغة الشهيرة لسؤال «هل يمكن للتابع أن يتكلم؟» إلى المفكرة الهندية الأمريكية «غياتري سبيفاك»، ويُصنَّف كمرحلة أساسية من تطور الدراسات «ما بعد الكولونيالية/الاستعمارية».
يبدأ سرد تاريخ هذا التقليد الفكري عادةً بظهور دورية «دراسات التابع» المعنية بالبحوث التاريخية في الهند، ودراساتها عن القومية الهندية والكولونيالية البريطانية والفلاحين والفئات الأكثر تهميشًا في البلاد، ومن ثم وصول تأثيرها إلى الأكاديميات الأمريكية لتتفاعل مع أعمال إدوارد سعيد و«هومي بابا» و«غياتري سفيباك»، ويكتمل بذلك البناء النظري شديد التعقيد للدراسات ما بعد الكولونيالية.
ضمن هذا السرد يبدو سؤال سبيفاك تطورًا طبيعيًّا للإشكالات التي طرحتها «دراسات التابع» أدى إلى نتائج حاسمة في مجالات بحثية متعددة، من التاريخ والأنثربولوجيا وصولًا إلى النقد الأدبي. وعلى الرغم من أن هذا التصور صحيح إلى درجة كبيرة، فإننا مضطرون إلى تعديله بعض الشيء بناء على ملاحظات مؤرخين هنود كانوا في يوم ما من المسهمين في «دراسات التابع»، والبحث عن مصادر ذاك السؤال بعيدًا عن الاهتمامات الأولية لمؤسسي هذه المجموعة.
الفرضية التي سنطرحها أن سؤال سبيفاك ينتمي أساسًا إلى النقاشات التي دارت بين المثقفين الفرنسيين في ستينيات القرن العشرين، وبالتحديد الخلاف الشهير بين «جاك دريدا» و«ميشيل فوكو»، وهو سجال بعيد من الناحية التطبيقية عن الهموم التي كانت تحرك المؤرخين الهنود في «دراسات التابع»، ولكنه فُرِضَ عليهم في ما بعد فرضًا، ربما عن طريق «سلطة المعرفة».
الأمر الآخر الذي سنزعمه أن هذا «التطور» غير المنتَظر في «دراسات التابع» لم يكن فرضه ممكنًا لولا أن المؤرخ «راناجيت جوها» الذي لعب الدور التأسيسي في هذه المدرسة خلط في أعماله بين مفاهيم بالغة التناقض وغير قابلة للموالفة.
ولادة «التابع»
كان السؤال الأساسي الذي حرك المؤرخين الهنود منذ الاستقلال هو التالي: لماذا لم تتمكن البرجوازية الوطنية الهندية من تحقيق نهضة شاملة على امتداد البلاد عن طريق القيام بالدور الذي يُظَن أن البرجوازيات الأوروبية لعبته في ما مضى: طرح نفسها كطبقة تمثل الأمة بأكملها، وقادرة على بسط هيمنتها على كامل فئات المجتمع لتوحده ضمن مشروعها؟
سؤال «أطفال منتصف الليل» هذا، والإحالة هنا إلى رواية «سلمان رشدي» التي تتحدث عن الجيل الذي وُلِدَ أو تفتَّح وعيه مع إعلان الاستقلال، كان مشتركًا لدى جميع أبناء المستعمرات السابقين، ولكنه اتخذ في الهند شكلًا أكثر كثافة لحدة التفاوت بين حياة النخب الوطنية وواقع قطاعات واسعة من السكان على كل الأصعدة، سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا. فبينما انشغلت النخب المتعلمة الناطقة بالإنجليزية في مشاريعها «التحديثية»، كانت الأغلبية تعيش وكأنها في عالم آخر. عالم بدا أنه ينتمي إلى مرحلة سابقة للحداثة ومفاهيمها عن «السياسي».
يتحدث جوها في دراسته المبكرة «عن بعض جوانب التاريخ الهندي» عن مقاربتين أساسيتين للتاريخ الهندي آنذاك: الأولى ترى أن النخب القومية الهندية أقلية ترعرعت في المؤسسات التي أنشأتها الكولونيالية البريطانية، وتنافست على المصالح والامتيازات والفرص المحدودة للحكم الذاتي التي كان البريطانيون يسمحون بها، دون كبير اهتمام بالمثل القومية. أما ما يحسبه البعض صراعًا من أجل الوطن والاستقلال، فلم يكن سوى صراع هندي داخلي بين فئين من المستفيدين تحت ظل المستعمر، وفي المؤسسات المحدودة التي أنشأتها.
المقاربة الثانية كانت ترى في التاريخ الهندي صراعًا أخلاقيًّا لأجل الحرية خاضته النخب الهندية القومية ضد الاستعمار. وأن مشكلات الهند بعد الاستقلال نتيجة الإمبريالية و«اقتصادها السياسي»، وستبقى القومية نقيض الكولونيالية الجديدة هذه وقوة أساسية في مواجهتها.(1)
كلا المقاربتين ركزت على ثنائية كولونيالية/قومية هندية، أي حصرتا اهتمامهما بدراسة النخب والمؤسسات الاستعمارية، وتجاهلتها الفعل التاريخي لأغلبية الهنود. هنا جاءت أعمال جوها وزملائه لتغيِّر المنظور كليًّا: لا بد من إنقاذ الممارسة التاريخية للفئات «التابعة» من براثن التأريخ النخبوي، وقراءة التاريخ الهندي من منظور الفعل الواعي لهذه الفئات، وهو الفعل الذي لم يكن على الإطلاق مجرد أصداء لفاعلية النخب.
اعتمد جوها وشركاؤه بالدرجة الأولى على منهج مدرسة المؤرخين البريطانيين الماركسيين، وعلى رأسهم «كريستوفر هل» و«إيريك هوبزباوم» و«إدوارد تومبسون» الذين حاولوا كتابة «التاريخ من تحت»، وتوضيح الدور المحوري الذي لعبته الفئات الأقل حظًّا، وبخاصة الطبقة العاملة البريطانية، في سيرورة التاريخ الذي كان حتى وقتهم تاريخ البرجوازية ونخبها.
ومثلهم تأثر جوها بمفاهيم الماركسي الإيطالي الشهير «أنطونيو غرامشي»، وبخاصة مفهوم «الهيمنة»، واستمد منه مفردة «التابع»، وعرَّف «الطبقات التابعة» بأنها «الفارق الديموغرافي» بين إجمالي السكان الهنود والنخب المحلية والأجنبية المسيطرة.(2)
يتحدث جوها عن «سياسة العموم» التي مارستها الفئات التابعة التي لطالما تحدث عنها التأريخ النخبوي بضمير الغائب، وأسقطها من حساباته، أو اعتبارها مجرد «حفريات» و«أفكار متخلفة» تعود إلى زمن مضى، ولا تحوي مفهومًا لـ«السياسي».
لم يسعَ جوها إلى تمثيل ما كان يدور في أذهان أفراد «الطبقات التابعة»، بل استنبط «البنية الأولية للوعي» الذي كان يحكم العلاقة بين النخب والتابعين.
بالنسبة إلى جوها، فإن هذه الممارسات تنتمي بجدارة إلى الزمن الحديث لأنها استطاعت أن تتفاعل وتتأقلم بنجاح مع شروط الحداثة الاستعمارية.
ولعل أهم أشكال سياسات التابع هو أنماط التنظيم والتجييش الذي استطاعت الفئات التابعة عن طريقها تنظيم انتفاضات وتمردات فعالة ضد سلطة النخب، بالاعتماد على حيوية «البنى الأهلية» (علاقات القرابة، الدين، البنية الطبقية الهندية التقليدية). هذا التفاعل مع «الحديث» و«السياسي» تحكمه، وفقًا لجوها، شبكة معرفية وثقافية مغايرة لوعي النخب، أي «بارادايم» «التمرد الفلاحي»،(3) وكل مشروع جوها اللاحق كان محاولة لتوضيح هذا البارادايم.
جوها وكتابة «نثر التمرد»
لم يسعَ جوها إلى تمثيل ما كان يدور في أذهان أفراد «الطبقات التابعة»، بل استنبط «البنية الأولية للوعي» الذي كان يحكم العلاقة بين النخب والتابعين، وبين التابعين أنفسهم، باعتبارها ظاهرة محايثة (ملازمة) للتمرد الفلاحي نفسه. إلا أنه اصطدم بمشكلة كانت قد واجهت أساتذته من الماركسيين البريطانيين قبله: كيف يمكن كتابة تاريخ داخلي للفئات المهمشة التي لم تمتهن الكتابة والتعبير، ولم تملك مؤسسات لتدوين يومياتها، فلم تترك وثائق تعبِّر بها عن نفسها ووعيها للأحداث؟ أليست كل محاولة للحديث عنهم من مصادر أخرى ستُوقع المؤرخ حتمًا في إعادة إنتاج تصورات النخب عن الفئات التابعة؟
لجأ المؤرخون البريطانيون إلى الأنثربولوجيا وعلم الآثار وكثير من العلوم المساعدة الأخرى لحل هذه المشكلة وكتابة «التاريخ من تحت»، أما جوها، فاتبع أسلوبًا آخر، وهو الاعتماد على مناهج تحليل الخطاب المستمَدة من البنيوية الفرنسية، وذلك من خلال دراسة الخطابات التاريخية التي أنتجتها النخب عن الطبقات التابعة لاكتشاف التحيزات والآليات الأساسية التي تحكم تمثلهم للتابعين. واستنباط العناصر الأساسية لبارادايم التمرد الفلاحي منها، وهنا يمكننا ملاحظة المشكلة المنهجية في عمل جوها.
في نصه المعروف «نثر مقاومة التمرد» يعتمد جوها بشكل كبير على أساليب الناقد الفرنسي «رولان بارت» في تحليل الخطابات النخبوية التي كُتبت عن التابعين، بما في ذلك الكتابات التي وضعها مؤرخون متعاطفون بشكل علني مع ثورات الفلاحين الهنود، ورأى أنها تحمل سمات موحدة لأسلوب تمثيل النخب للفعالية التاريخية للتابع، والتي أضفت عليه صفات غرائبية حرمته من الوعي الذاتي، وفسرت تمرده بشكل سببي مادي بوصفه مجرد ردة فعل عفوية على السياسات الاستعمارية، أو بتأثره السلبي بمعتقدات وخرافات جاء استغلالها لتحفيزه على القتال والتضحية.(4)
في الوقت نفسه يؤكد جوها أن جميع هذه الخطابات ترفض «الاعتراف بالمتمرد بوصفه ذات تاريخه الخاص»، ولذلك، فهي ما زالت عالقة، مهما تعاطفت مع المتمردين، بالبارادايم الاستعماري النخبوي الذي يمثل أساسيات التحديث الكولونيالي.(5)
المشكلة هنا أن جوها يستعمل مفهوم «ذات التاريخ» بطريقة مماثلة للمفكر المجري «جورج لوكاش» في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» الذي رأى أن الطبقة العاملة ووعيها هو ذات التاريخ ومحركه الديالكتيكي. وفي الآن ذاته يستعمل جوها مقولات البنيوية الفرنسية التي رفضت مفهوم الذات من أساسه، وأكدت ذلك بأكثر من صيغة، لعل أشهرها ما قاله «لويس ألتوسير» عن كون التاريخ عملية تجري دون ذات فاعلة، بل نتيجة للبنى الاجتماعية والثقافية المختلفة.
وبالتالي، فإذا كان تفكيك خطاب النخب موجهًا لاستكشاف «بنية أولية» لوعي التابعين، فإن هذه العملية لا تصلح بالتأكيد لاستكشاف «ذات تاريخية» أو الحديث عنها. هذا الخلط بين «البنية» و«الذات» كانت له آثار فكرية كارثية لدى جوها وكل من تأثروا به.
وإذا عدنا إلى المؤرخين الماركسيين البريطانيين سنجد أنهم كانوا واعين بشكل كامل باختلاف مناهجهم عن المناهج البنيوية لدرجة أن «تومبسون» كتب نصًّا شهيرًا، باسم «بؤس النظرية»، خصصه لانتقاد ألتوسير والبنيوية عمومًا، ورفض ما تقترحه من آليات للتأريخ.(6)
إذا وافق المرء على وجود «بنية أولية» للوعي، فسيكتشف عندها أن الذوات ليست إلا منتجًا لهذه البنية، وعندها يمكن الحديث عن «الوعي» من موقع مراقب خارجي يحدد بشكل علمي أساسيات بنية هذا الوعي، دون الخوف من إهدار منظور الذوات التي تنتجها البنية، فهي ليست إلا نتيجة، ولا تعد العامل الأساسي في البحث. كل مبدأ «نقد النخبوية» سيصبح لا معنى له بالمنظور البنيوي.
وفي المقابل، إذا كان البحث حريصًا على «ذات تاريخية»، فلا معنى عندها للبحث عن «بنى أولية»، لأن هذه البنى ستفقد «أوليتها»، وستصبح منتوجًا للفاعلية الإنسانية، وسيصبح عندها من الضروري الالتزام بمنظور هذه الذات حصرًا لأن كل بنية يستنبطها مراقب خارجي ستكون «تغريبًا» بالمعنى الهيغلي لفعالية الذات ومنظورها.
هذا التناقض يبدو فاضحًا في حديث جوها عن الدين، فهو يرى أن النخب تجاهلت دومًا أهمية الدين بالنسبة إلى التابعين الهنود، وعملت على اعتباره تعصبًا ومخلفات رجعية، أو فسرته ضمن منظور علماني يراه محفزًا للثورة على وضعية مادية تتسم بالظلم.
يرى جوها أن هذه التحليلات نتيجة لـ«الوعي الاستعماري» الذي يهدر صوت التابع، ولكنه في الوقت نفسه يرى الدين «تعبيرًا شاملًا عن اغتراب ذاتي يجعل المتمردين ينظرون إلى مشروعهم على أنه محمول على إرادة غير إرادتهم».(7) هل الدين «اغتراب» لـ«ذات التاريخ»، أم أنه من أسس بارادايم «التمرد الفلاحي» الذي يهمله الاستعماريون؟
لا إجابة واضحة لدى جوها، فلو استخدمنا المنظور «اللوكاشي-الهيغلي»، فسنختار الاحتمال الأول، وإذا استخدمنا المنظور البنيوي، فسنختار الاحتمال الثاني، وسيمكننا عندها أيضًا، كمراقبين خارجيين، وصف الدين بوصفه بنية ثقافية دون الالتفات كثيرًا إلى منظور «ذات التابع».
لم تأتِ مدرسة «دراسات التابع بكثير من التجديد، فهي خلطت بين عدة مذاهب متعارضة في الأكاديميات الغربية، واستبدلت «البروليتاريا» التي طالما قدسها الماركسيون بـ«الجماعة الأهلية» للتابع.
يستمر هذا التناقض في «دراسات التابع»، ويترسخ مع مرور الزمن، فنجد في كتاب «الأمة وشظاياها» لـ«بارثا شاترجي» أن تاريخ التمردات الفلاحية يتمتع بخصوصيته في الهند، ولكن شكل تطوره الخاص «تشظَّى، تشوَّه، حُشِرَ ضمن مخطط التاريخ الكوني فقط من خلال العنف الاستعماري»، ويؤكد أننا «لن نستطيع أن نفهم الوعي الفلاحي وعناصره المكونة إذا استمرينا في النظر إليه من خلال بارادايم العقلانية البرجوازية، علينا أن نقرَّ بأن للوعي الفلاحي بارادايمه الخاص به، وهو لا يختلف فقط عن الوعي البرجوازي، وإنما يشكل آخره».(8)
لم يخبرنا شاترجي كيف سيستطيع، وهو الأستاذ في جامعة كولومبيا الأمريكية، أن يتجاوز «البارادايم البرجوازي»، ويتكلم بلسان الفلاحين، أو بالأصح كيف سيتقمص منظور «الذات» على المستوى التاريخي لتحريرها من بنى المعرفة الاستعمارية. هل الجينات الهندية كافية وحدها لضمان هذا؟
الإجابة، إذا اعتمدنا على آراء أستاذه جوها ونقده للنخب المحلية، هي النفي بالتأكيد. لم تأتِ مدرسة دراسات التابع بكثير من التجديد، فهي خلطت بين عدة مذاهب متعارضة في الأكاديميات الغربية، واستبدلت «البروليتاريا» التي طالما قدسها الماركسيون بـ«الجماعة الأهلية» للتابع. وهو ما لاحظه المؤرخ الأمريكي من أصل تركي «عارف ديريك»، فدراسات التابع بحسبه لم تكن أكثر من إضافة بعض «الحساسيات العالمثالثية» إلى التيارات السائدة في الأكاديميات الغربية.(9)
رغم هذا، فقد أنتجت هذه المدرسة في مرحلتها الأولى تراثًا غنيًّا من البحوث التاريخية المهمة، ولم تنجرف كثيرًا، رغم انتقادها للنخب، إلى مواقف معادية مبدئيًّا للحداثة والتنوير. ولم تُحِلَّ «الخطاب» و«الهوية» محل دراسة العوامل الاجتماعية والاقتصادية. الفارق الأساسي الذي حوَّل «دراسات التابع» إلى «ما بعد كولونيالية» كان سيأتي من مكان مختلف تمامًا.
سجالات فرانكفونية
قد يبدو سؤال غياترى سفيباك الذي ذكرناه في بداية حديثنا نابعًا من الإشكالات التي أدى إليها خلط جوها بين البنية والذات، ولكن سياق السؤال والافتراضات الضمنية التي حملها مختلف تمامًا عن هذا. ويأتي ضمن شرط هيمنة المفاهيم التفكيكة، وطروحات الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، على عدد من الأقسام الأدبية في الجامعات الأمريكية. سؤال سفيباك لم يكن في الواقع سوى صدى لسؤال سبق أن سأله دريدا، في سياق آخر، لميشيل فوكو.
في عام 1963 ألقى دريدا محاضرة شهيرة، عبارة عن تعقيب على كتاب فوكو «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» الصادر قبلها بعامين، والذي يعد العمل التأسيسي لمشروعه الفكري بأكمله.
إذا كان الجنون، حسب فوكو، قد تعرَّض للعزل والسيطرة عليه واعتقاله، وتحويله إلى «آخر» بالنسبة إلى العقل واللغة والمعنى والتاريخ، فكيف سيتمكن في كتابه من تمثيل الجنون الحقيقي باستخدام العقل واللغة والتاريخ ذاتهم، وهم الأدوات المعرفية لكل كتابة وتأليف؟
وإذا كان فوكو يريد بالقيام بـ«أركيولوجيا للصمت» الذي فرضه العقل على الجنون، أفليست الأركيولوجيا ذاتها (منهج فوكو في الحفر التاريخي بالخطابات والبنى المعرفية) منطقًا يتضمن لغة وعبارات، أي عملًا من داخل العقل؟
وأخيرًا، أليس كل حديث عن الجنون، ما دام يأتي حتمًا من ضمن اللغة والعقل، سيكون اعتقالًا وحجرًا جديدًا عليه، حتى لو كان بغرض مدحه والانتصار له؟(10)
الحل الذي لجأ إليه فوكو، بحسب دريدا، هو التفريق بين «اللوغوس» في الفلسفة اليونانية (المبدأ أو القانون الكلي) الذي لم يكن له نقيض، وبين «العقل» الذي نشأ في العصر الكلاسيكي في أوروبا، ووجد صياغته الأساسية في الكوجيتو الديكارتي (أنا أفكر إذًا أنا موجود). هذا العقل لم ينشأ إلا عن طريق إنشاء نقيض و«آخر» له هو الجنون، والحجر على هذا النقيض والحرص على التبرؤ منه والتميز عنه، هكذا تصبح صياغة الكوجيتو الديكارتي لدى فوكو هي: «أنا أفكر إذًا أنا لست بمجنون».
يلحظ دريدا بدهشة أن فوكو يلجأ إلى نوع من الجدل الهيغلي في تعامله مع اللوغوس الإغريقي، فهذا المبدأ نظرًا لكليته يحوي العقل واللاعقل، أو على الأصح يحوي تمزقًا بين العقل والجنون، بما يسمح بالتحرك بين هذين المبدأين، كما كان المجانين يتحركون بحرية نسبية في مدن العصور الوسطى.
وهكذا يمكن انتقاد العقل من داخل لغته ومبادئه نفسه، ويكون النقد موجهًا إلى الآليات التي يحصن بها نفسه ضد الجنون، ويمايز نفسه بواسطتها عنه. إنه نقض استقرار العقل والثورة عليه من الداخل.(11)
يرى دريدا أن هذا المشروع الفوكوي مستحيل، وأن كل قول أو تفكير يتطلب بالضرورة إقصاء الجنون،وهذا لا يقتصر فقط على «عقل العصر الكلاسيكي» أو الكوجيتو الديكارتي، بل هو شرط الذات المتكلمة نفسها، التي «تستدعي الجنون من داخل الفكر، ولا يمكنها تحقيق ذلك إلا ضمن بُعد الإمكانية ولغة الحكاية وحكاية اللغة، وبذلك، فإن هذه الذات ستطمئن بكون لغتها مناهضة للجنون الحقيقي، وتتخذ المسافة الضرورية كي تستمر في الحياة والكلام».(12)
ولذلك، فإن فوكو، بحسب دريدا، أساء تفسير الكوجيتو الديكارتي، فديكارت لم يُقصِ الجنون تمامًا من مقولاته، بل جعله احتمالًا ممكنًا ومحايثًا لكل فعل عقلي، ولكنه بحكم منطق اللغة والعقل أعاد موضعة العقل والجنون في بنية جديدة، لنقد نمط العقلانية السائد في عصره. وهو نفس ما فعله فوكو في كتابه.(13)
أي أن ديكارت أعاد تأويل علاقة العقل والجنون لينتقد عقلانية القرون الوسطى، في حين فعل فوكو عملية مشابهة لنقد عقلانية العصور الحديثة. وكله ضمن إطار العقل والذات المتكلمة، أي «لغة السجَّان» الذي يحجر على الجنون من خلال إدخاله وراء قضبان المفاهيم والعبارات والمنطق.
محاضرة دريدا هذه استدعت ردًّا حادًّا من فوكو، ووترت العلاقة بين الرجلين إلى درجة القطيعة، إلا أن نقد دريدا المحكم ظل يلقي بظلاله على كل جوانب مشروع فوكو الفكري.
كل محاولة للكلام عن التابع تأويل ناطق بلسان النخب، ومحاولة إعادة بناء عالم التابعين ليست سوى خطاب لغوي وعقلاني نخبوي جديد.
يمكننا أن نمد نقد دريدا للقول إن فوكو أعاد بناء ثنائية ديكارتية جديدة يتمركز فيها اللوغوس حول «الجنون»، وكل ما يبدو مبعدًا ومهمشًا ومقموعًا، ويوجه ضد «العقل» والسلطة و«الحوكمة» والمعرفة الحداثية. هكذا لن يبدو تأييد فوكو للثورة الإيرانية مثلًا غريبًا أو مفاجئًا، فـ«السياسة الروحانية» التي رآها فوكو في حكم «الملالي» نقيض «العقلانية الغربية»، حتى لو كانت تقمع وتعدم وتسجن، تمامًا كما فعل «العقل» نفسه في «العصر الكلاسيكي».
بالعودة إلى سفيباك، فإن جُلَّ ما فعلته هو إسقاط نقد دريدا على «دراسات التابع»، فماثلت بين «العقل» الديكارتي والنخب الكولونيالية، كما جعلت «التابع» مناظرًا للمجنون.
هكذا يقع منظرو التابع في نفس الخطأ الذي وقع فيه فوكو، فهم يظنون أنهم يستطيعون كتابة تاريخ الطبقات التابعة بعيدًا عن التأريخ النخبوي، في الوقت الذي يستخدمون نفس لغة هذه النخب الفكرية ومنطقها وأدواتها. أما محاولات جوها لاكتشاف «البنية الأولية لوعي التابع»، من خلال إعادة قراءة خطاب النخب، فهي شبيهة تمامًا بمحاولة فوكو الفاشلة للثورة على العقل من داخلة وبلغته.
كل محاولة للكلام عن التابع تأويل ناطق بلسان النخب، ومحاولة إعادة بناء عالم التابعين ليست سوى خطاب لغوي وعقلاني نخبوي جديد. إنها دائرة مغلقة لا سبيل للفكاك منها.
هكذا غرقت «ما بعد الكولونيالية» مع سفيباك وإدوارد سعيد بـ«إنتاج خطابات عن خطابات» بحسب تعبير الباحث الفرنسي «أولفييه روا» في نقده اللمَّاح لسعيد ومدرسته،(14) فما دام أي خطاب تاريخي أو معرفي عن التابع (أو الشرق، المهمشين، المسلمين، المجاني، إلخ) إنشاءً خارجيًّا يصادر صوتهم، ويحددهم كآخر و«موضوع» للتفحص، أي يضعهم تحت عمل السلطة والمعرفة، فلا يمكن للعلوم الإنسانية أن تطمح إلى أكثر من تفكيك خطابات النخب (أو الغرب، البيض، الكولونياليين، التنويريين، إلخ)، دون أي هدف سوى إظهار «استحالة التمثيل وسلطويته».
المعرفة ممنوعة، وعلى الخطاب أن يرُكَّب على الخطاب إلى ما لا نهاية.
هذه العدمية المعرفية بعيدة كثيرًا عن المشروع الأساسي لمدرسة «دراسات التابع» التي سعت إلى إنتاج معرفة منضبطة عن حياة الفلاحين الهنود وتاريخهم. وسؤال سفيباك لم يكن بهدف حل الإشكال المعرفي الذي أوقع جوها وتلامذته أنفسهم فيه، بل للبرهنة على استحالة مشروعهم نفسه، بل ربما لاستحالة أي معرفة إنسانية تسعى إلى الموضوعية.
ربما كان فرض الإشكالات ما بعد البنيوية على «دراسات التابع» أمرًا استلزمه وصول هذه الدراسات إلى طريق مسدود، ولكن قد يمكننا القول أيضًا إن هنالك «سلطة معرفية» و«رأسمالًا رمزيًّا» تملكه الأكاديميات الغربية سمح لها بفرض أولوياتها المعرفية (أو اللامعرفية) على الباحثين الهنود، بأسلوب قد يستدعي للذاكرة الأساليب القديمة للمؤسسات الاستعمارية البريطانية بفرض أولوياتها ومنطقها على النخب الهندية
العودة إلى نيودلهي
لم يمر هذا التغير في وجهة «دراسات التابع» دون معارضة من بعض مؤرخي هذه المدرسة نفسها. ولعل أهم مثال على ذلك هو انسحاب «سوميت سركار»، أستاذ التاريخ في جامعة دلهي، من المشاركة في «دراسات التابع»، التي كان من مؤسسيها، ونقده الشديد للمنطق الذي فرضته هيمنة أفكار سعيد وسفيباك وهومي بهابا على أعمالها.
التجارب التاريخية الملموسة ليست شفافة بحيث يمكن إدراكها ووصفها بشكل محايد، بل هي مرتبطة بالتفسيرات والمواقف السياسية المختلفة.
ينتقد سركار الهوس باعتبار الاستعمار شكلًا من الهيمنة الثقافية، ونمطًا من الحداثة الغربية، ما يجعل للأبعاد الثقافية للاستعمار أولوية مطلقة على سلسلة كاملة من الممارسات الاجتماعية والسياسية وعلاقات السلطة داخل المجتمع الهندي. ويجعل عملية التحديث في الهند أثرًا ثقافيًّا غربيًّا يجب رفضه بوصفه شكلًا للهيمنة التنويرية، وهي بحسب هذا النمط من التفكير السمة الأساسية للحداثة الاستعمارية الغربية. هذا الاختزال للظاهرة الاستعمارية بوصفها مجرد إملاء ثقافي يراه سركار فهمًا تاريخيًّا محدودًا.
يحاول المؤرخ الهندي أيضًا استعادة منهجية المؤرخين الماركسيين البريطانيين، وبخاصة تومبسون ومفهومه عن «الخبرة» التاريخية التي تُفسَّر عادةً على أنها نتيجة التقاء الضغوط الخارجية بالممارسات الإبداعية للبشر. وبالتالي فـ«الخبرة» ليست «خصوصية ثقافية» لمجموعة بشرية محددة لا يمكن ترجمتها بين الثقافات المختلفة، وفي الوقت نفسه غير قابلة للاختزال ضمن تصورات كلية عن «حركة التاريخ»، نظرًا للظرف التاريخي المحلي المحدد لها.
من جهة أخرى، فإن التجارب التاريخية الملموسة ليست شفافة بحيث يمكن إدراكها ووصفها بشكل محايد، بل هي مرتبطة بالتفسيرات والمواقف السياسية المختلفة، باعتبارها تشكلت أساسًا ضمن الصراع الاجتماعي والطبقي. ولذلك، فإن التجربة التاريخية لا توجد إلا من خلال «التفسير»، سواء بالنسبة إلى النخب أو التابعين(15)
بهذه الطريقة يحاول سركار الخروج من مأزق «دراسات التابع»، فاستحالة التعبير عن «التابع» يمكن تجاوزها من خلال قابلية ترجمة خبرته التاريخية إلى لغة عقلانية كونية قابلة للفهم من الجميع أولًا، واتخاذ موقف سياسي متحزب ومنحاز لتفسير التابع لخبراته ثانيًا.
لا ندري مدى قابلية هذا المنهج للنجاح، فـ«إمكانية الترجمة» تطرح إشكالات معرفية عديدة، وكاتب هذه السطور منحاز لوجهة النظر البنيوية التي تجد في ماركسية المؤرخين البريطانيين مغالطات وضعية تخلط بين موضوع المعرفة والموضوع الواقعي، أي أنها لا تفرق بين موضوع المعرفة التاريخية الذي يجب إنشاؤه نظريًّا داخل عملية المعرفة، والوقائع التاريخية الفعلية التي لا معنى لها دون إطار معرفي نظري مناسب.
في كل الأحوال، مهما تكن انتقاداتنا لمثل هذا المشروع، فهو يبقى أفضل بمراحل من شطحات «ما بعد الكولونيالية» وخطاباتها المتناسلة بعبثية غرائبية، وعدائها للحداثة والتنوير، بل ولإمكانية المعرفة ذاتها.
الأهم من ذلك أن بإمكان المرء أن يتخذ موقفًا «بعد كولونيالي» في وجه «ما بعد الكولونيالية» نفسها: لا بد من القطيعة مع الهيمنة الكاسحة للخطابات القادمة من الجامعات الأمريكية والبريطانية، والتي تفرض نفسها من خلال بنية تحتية كاملة من المنح الدراسية والأبحاث الممولة والمنظمات غير الحكومية، وتروج لأفكار محافظة بشدة، من شأنها دعم هيمنة أكثر الفئات تسلطًا وقمعًا في المجتمعات «غير الغربية». من هذا المنطلق، فالحماس لمشاريع بحثية مماثلة لمشروع سوميت ساركار، مؤرخ نيودلهي، نوع من «التضامن الأممي».
لم يحظَ التابعون والمهمشون والمجانين بما حظي به سفيباك وفوكو وإدوارد سعيد، فقد كان بإمكان سفيباك أن تتحدث كثيرًا عن الساتي (حرق الأرامل الهنديات مع أزواجهن المتوفين) والنساء الهنديات دون أن تجرب يومًا آلام الحريق أو جمع روث الأبقار، باعتباره وقودًا، لإعداد وجبة العشاء للعائلة. وكان باستطاعة فوكو أن يؤيد حكم الملالي في إيران دون أن يجرب مصير المثليين الإيرانيين في ظل «السياسات الروحية»، بل سافر بعدها إلى أمريكا ليغرق في ممارسات جنسية مثلية جامحة. أما سعيد، فكان يتنقل بحرية عبر الحدود بخلاف أبناء جلدته من فلسطينيي المخيمات.
ربما كان الأجدى العمل على أن ينال المهمشون ما ناله هؤلاء من ميزات وخيارات متعددة وأمن مجتمعي وسياسي واقتصادي، بدلًا من «الخطابات عن الخطابات»، وذلك لن يكون إلا بتقدير مكتسبات الحداثة والتنوير والسعي لأجلها على الصعيد العالمي، وعندها فقط يمكن لـ«التابع أن يتكلم».
هوامش
(1) راناجيت جوها، «عن بعض جوانب التاريخ الهندي»، ترجمة كرم نشار، موقع «الجمهورية»
(2) عن علاقة جوها بمنهج المؤرخين البريطانيين وتأثره بغرامشي، انظر: ديبيش شاكرابارتي، «دراسات التابع والتأريخ ما بعد الكولونيالي»، ترجمة ثائر ديب، مجلة «أسطور»، العدد 3/2016. ص12
(3) جوها، «بعض جوانب التاريخ الهندي»، مصدر سابق
(4) رانجيت جوها، «نثر مكافحة التمرد»، ترجمة ثائر ديب، مجلة «أسطور»، العدد 6/2017 ص123
(5) المصدر نفسه ص147
(6) تومبسون، «The Poverty of Theory or an Orrery of Errors»، عام 1978
(7) جوها، «نثر مكافحة التمرد»، مصدر سابق ص144
(8) اعتمدنا على ترجمة موقع الجمهورية لفصل من الكتاب، انظر: بارثا شاترجي، «الأمة وفلاحوها»، ترجمة كرم نشار
(9) عارف ديريك، «The Postcolonial Aura: Third World Criticism in the Age of Global Capitalism»، «Critical Inquiry» journal 20, no. 2 (Winter, 1994): 340
(10) المحاضرة موجودة في كتاب جاك دريدا «استراتيجية تفكيك الميتافيزيقيا»، ترجمة عز الدين الخطابي، انظر ص24-25
(11) المصدر نفسه ص26-29
(12) المصدر نفسه ص54
(13) المصدر نفسه ص55-59
(14) أولفييه روا، «ماذا لو اختفى الشرق؟ نقد السعيديين»، مجلة «بدايات» العدد 7 (شتاء 2014)
(15) سوميت سركار، Subalternity, History and the Global, «Actuel Marx Journal, 2 011/2 (No 50)