الأسلوب المتأخّر
علي الشدوي
1
لم يطلب منّا الموت أن نحجز له يوما لا نكون فيه مشغولين (وود 2015 ص 15). الموت لا يعدنا لذلك يحدث أن نموت ونحن مشغولون. لكنّ الأمر ليس دائما؛ فقد ينتظرنا الموت في الوقت الّذي نعي فيه وندرك أنّه ينتظرنا. هذا الانتظار يعطي معنى هو موضوع هذه المقالة.
سنحلّل بإيجاز قصّة لعبد العزيز مشري (مشري، الأعمال الكاملة، ص 249) وستعرفون السّبب فيما بعد. في ممر إحدى العيادات النّفسيّة ينتظر شخصان دورهما. لا نعرف عنهما سوى أنّ أحدهما شابّ. يتوتّر الشّاب فيهدئه الآخر قائلا: ” اللّه يساعد، يمكن أن يكونوا قاسين “. من هم هؤلاء؟ لا السّائل يعرف، ولا الشّاب يردّ عليه. أنت من فين؟ يسأل الآخر فهو يريد أن يفتح مع الشّاب بابا للتّواصل الاجتماعيّ فيردّ الشّاب: ” أنا من ديار العفاريت … انبسطت “.
إجابات الشّاب قليلة وموجزة، لكنّنا نلمح خلفها سخريّة مرّة، ولا مبالاة، وقلب الأشياء؛ فالمستشفى ليس لعلاج المرضى، بل لتعقيدهم وتحويلهم إلى مهابيل، والآباء قاسون والإخوة غير مبالين. أسئلته لا علاقة لها بالموقف ” يا أخ أنت من إيّاهم ؟! ” نظارتك شمسيّة وإلا نظارة شغل ؟! ” . سليط اللّسان، فما أن يقابل رجلا حتّى يدعوه ” يا حرامي كم السّاعة؟ “. ” واللّه كّذاب، حرامي، منافق “. ما يلبسه لا يناسب المكان الّذي هو فيه” بيجامة زرقاء طويلة، ونعلين من البلاستيك تستعملان لدورات المياه. ربّما يهدأ فيتثاءب، ويضع ساقا على ساق، ويقرأ آيات من القرآن.
يمكن أن يغيب الكاتب عن القصّة لكنّه موجود، وإحدى علامات وجود الكاتب هي اختيار العنوان؛ فرغم كلّ تصرّفات الشّاب إلّا أنّ عنوان القصّة هو (عن العقل). يمكننا أن نرى في هذا العنوان إمكانات فكرة تجعل من اللّاعقلانيّة عقلانيّة؛ فتصرّفات الشّاب الّتي تتعارض مع ما هو مقبول بشكل عامّ (لا عقلانيّة) تتواءم مع حالته المرضيّة (عقلانيّة) لاسيّما أنّه يراجع عيادة نفسيّة.
إنّنا لا نعرف أي شيء عن مرض الشّاب، ولا نعرف اسمه ولا عائلته، ولا وضعه الاجتماعي. عدم المعرفة هذه ليست بلا فائدة فبإمكاننا أن نتخيّله على أنّه أي واحد منّا تحوّل إلى ضحيّة لمؤسّسة اجتماعيّة أو أمنيّة. لكنّ الأهمّ لموضوعنا هو أنّ المتخيّل سيدور حول لعبة معقّدة، يكون فيها الإنسان خاسرا، وتبدو هزيمته نتيجة مباشرة لتكالب الظّروف. المرض هو لا مبالاة الحياة بالإنسان. هناك من يتواءم مع مرضه ويتصالح، وهناك من يدفعه مرضه إلى أن يكون عنيدا وغاضبا ومضطربا وغير مستسلم. لا يهادن ولا يقبل ولا يهنأ ولا يتكيّف مع الواقع كما هو هذا الشّاب الّذي لا يكتفي برفع صوته إنّما يتحرّك بمبالغة واضحة؛ فحين يسير يشبه الأوز، وحين يقف يضغط بإبهامه على حافّة البيجامة لكي يظهر جسده مضغوطا ومشدودا.
عنوان المجموعة القصصيّة الّتي وردت فيها القصّة هو (الزّهور تبحث عن آنيّة) وهو عنوان تصرّف فيه أخبر القرّاء بأدب عبد العزيز مشري؛ أعني علي الدميني الّذي وصف اشتغالات مشري بالمرض والمستشفيات بأنّه ملحمة، وأنّ هذه الملحمة غدت ” زهورا في آنيّة الكتابة” (مقدمة الأعمال الكاملة، مجـ1، ص 36). بالفعل فقارئ المجموعة القصصيّة يشعر بهذه الملحمة وبأبطالها؛ فالشّاب المريض ليس إلاّ عودا من ضمن حزمة من المرضى يكشفون بعدا جديدا للوجود يتكوّن من المآسي الّتي تسكن خلف تصرّفاتهم وأقوالهم وحركاتهم. سحقهم المرض لكنّه شحذ إدراكهم ووعيهم ليدركوا ما يحيط بهم ويشعروا به. هذا الشّاب ومعه بقيّة المرضى تجاوزوا الإدراك العادي من أجل حاجاتهم. ألم يقل بطل رواية (قبوي) لدوستويفسكي: إنّ إدراكا عاديا من أجل حاجات الإنسان أكثر من كافّ، وأنّ زيادة الإدراك ليست مرضا وحسب، بل إنّ كلّ وعي مرض.
ليس الشّاب وحيدا في هذه المجموعة القصصيّة؛ فالمرضى في الرّدهات والممرات والغرف، وكلّ منهم يسير نحو نهايته الخاصّة ومصيره الشّخصي. مريض يغنّي (يا نسيم الصّباح .. سلم على باهي الخدّ) ومريض يدعو (يا عظيم يا كريم) ومريض يسرد أيّام صحته، ومريض يبكي، ومريض يبحلق، ومريض يلعن، وهناك مريض يرفع رأسه إلى السّماء قائلا (يا لعذاب الدنيا والآخرة).
يذكر واقع هؤلاء المرضى بالحياة الّتي عاشوها وهم مصطحون ممّا جعل القصص أقرب إلى أن تكون حكايات صغيرة ومعزولة وملتفة حول نفسها، أشبه ما تكون بإعادة صنع عالم من خلال انطباعات صغيرة وحادّة. لقد كان عبد العزيز مشري في هذه المجموعة القصصيّة فنّانا يحوز على رؤيته الخاصّة، فنانا وظّف قدره القاسي فراح يتأمّله. والأهمّ لموضوعنا أنّه كان فنانا متأخّرا.
2
سنأخذ الوقائع كما تبدو في مظاهرها البسيطة. في حوار مع علي الدميني (الأعمال الكاملة، مجـ3، ص 76) وافق عبد العزيز مشري على رأي النّاقد محمد العبّاس بأنّ النّقاد لا يستطيعون أن يقاربوا أعماله بمعزل عن مرضه. أصدر مجموعته القصصيّة الأولى ثمّ صمت سبع سنوات ولم يصدر خلالها أي عمل إبداعي. يمكن أن نستشفّ من حديثه عن هذه السّنوات أنّه قضاها متسائلا: ما الّذي أعرفه ولا يعرفه غيري؟ ما الّذي أريد أن أكتبه ولم يُكتب من قبل؟ وحتّى لو كُتب فكيف أكتبه وقد كتبه مَن هم أكثر منّي موهبة؟ لم يكن في بال المشري أن يكتب عن تجربته مع المرض إلى أن اقترح عليه ذلك الكاتب المصري صنع اللّه إبراهيم. ثّم وجد في تجربته مع المرض ما يبحث عنه. يقول في ذلك الحوار: ” الحقيقة الّتي قالها (محمد العبّاس) في شأن الكاتب الّذي لا يمكن تجزئته شخصيته إلى معازل. هذا صحيح جدّا إلى حدّ أن الروائي لو كتب خارج طفولته فلن يبقى له من رصيده الإبداعي سوى رصف لغته وتعميدها بالثّقافة (نفسه، ص 76).
لا تجد عبارة مشري معناها في كونها ردّا على العبّاس إنّما تحفل بدلالة تعليميّة هي أنّ المرض كالطّفولة تجربة تعاش ويمكن الكتابة عنها. ومثلما يمتح الكتاب من طفولتهم فقد متح من المرض. ومثلما أنّ كاتبا لا يستطيع أن يكتب خارج تجربة طفولته فالمرض عنده تجربة كالطّفولة لو كتب خارجها فلن يبقى من رصيده الكتابي سوى اللّغة المدعومة من الثّقافة. إذن من هذا المنظور بإمكان النّاقد العبّاس أن يقارب أعمال مشري من دون أن يضع العصا في العجلة.
يعرّف مشري الرّصيد اللّغوي الّذي عمدته الثّقافة في مجموعته القصصيّة الأولى الّتي طغى عليها الانشغال اللّغوي إلى حدّ أنّ مشري نفسه نادرا ما يذكرها ما لم يذكره بها أحد. المرض هو الّذي أخرجه من تلك التّجربة اللّغويّة الّتي لم يرض عنها تمام الرّضا وهو نفسه يعترف بفائدة مرضه على المستوى الإبداعي. النّقاد من جانبهم تحدثوا عن أثر المرض في كتابته. فقد تحدّث معجب الزهراني عن أنّ مشري تعالى فوق كلّ ألم، وتسامى بمعاناته إلى مرتبة المعاناة المنتجة (1999، ص 56) وتحدّث محمد الدميني عن أنّ مشري كتب من وحي معاناته الكبرى (1999، ص 332) بل إنّ علي الدميني يشكّ في أن يصبح عبد العزيز مشري كاتبا ذا اسم لولا مرضه، ويعتقد أنّه لن يتخلّى عنه فيما لو خُيّر في ذلك (الدميني 1999، ص 67).
يستعين عبد العزيز مشري، مدفوعا بخلفيته اليساريّة، بالقانون الّذي يصفه بالبدهي، ويعني بذلك صراع الأشياء (نفسه، ص 164) فليس هناك صحة دون مرض. يهدّد المرض الصّحة. ما يهدّد هو المرض وليس الصّحة. الصّحة على شقا المرض. المرض نهم والصّحة موضوع نهمه. وخلاصة هذا الجدل: دع المرض يكتب. دعه يعْبر ويعبّر إلى الحدّ الأقصى لتعرفه أكثر.
يبقى تأمّل عبد العزيز مشري للعلاقة بين المرض والكتابة ضمن حدود التّناول الّذي حدّده في مكاشفاته (الأعمال الكاملة، 2003، مجـ2، ص 11 وما بعدها). داخل هذه الحدود لم يقل ما هو جوهري في العلاقة بين مرضه وكتابته. ما كتبه في مكاشفاته عن علاقته بالمرض لا يعدو أن يكون لغة مدعومة بالثّقافة العلميّة تارة، وبما هو معروف تارة أخرى إلى الحدّ الّذي يجعل القارئ يخرج بانطباع هو أنّ تصوّرات مشري الكاتب عن المرض أضعف من تصوّرات بطله زاهر المعلول. ومع ذلك هناك ما يمكن قوله في الجانب البناء من أسلوب مشري المتأخّر. الأسلوب المتأخّر ليس مجرّد رفض إنّما له جانب يتسامى عن مجرّد قول (لا) للواقع، أو (هذا لا ينفع) لا بدّ من وجود عنصر بناء يتسامى ويحرّك المسار (سعيد، 2015، ص 57). لقد بدأ مشري بعد طول تأمّل؛ فالمرض لم يكن مطروقا في مجموعته الأولى (موت على الماء) لكنّه تبلور بعد ثمان سنوات في مجموعة (الزّهور تبحث عن آنيّة) حيث تعج بالمرضى الّذين سحقتهم الحياة، ليس أمامهم الكثير من الخيار، فهم إمّا أن يموتوا أو يتعفنوا. مصائر وأقدار تلتقي وتفترق في ردهات المستشفيات أو ممراتها.
3
بأيّ معنى عبد العزيز مشري فنّانا متأخّرا؟ ثمّة ما يشرح المعنى في المقارنة بين علي الدميني وبين عبد العزيز مشري. قبل موت مشري بفترة قليلة، تناقشا في طباعة أعمال عبد العزيز الكاملة، وتوقّفا عند الرّقابة على الكتاب. اقترح الدميني أن تُعدل بعض الفقرات فيما كتبه مشري أو إعادة صياغتها لكي توافق عليها الرّقابة. رفض مشري فما زال متمسكا بحقّ الكتابة في أن تكشف المستور عنه (الأعمال الكاملة، مجـ3، ص 366). هكذا يهدأ الدميني الشّاعر والمناضل والثّائر بعد أن تقدّم به العمر، بينما يزداد مشري رفضا حتّى بعد أن تقدم به السّن وتفاقم عليه المرض.
مرّة أخرى يُفهم من مقدمة الدميني لأعمال مشري الكاملة أنّ تجربة كتابة مشري عن المرض والمستشفيات مرّت بمرحلتين: الأولى مرحلة السّخط ثمّ تخلّت عن السّخط بعد أن تعود على المرض. وفق الدميني فقد أصبح المرض عنده طبيعيا مثل الذّهاب إلى الحمام أو مزاملة القلق اللّيلي أو معايشة جار مزعج ما من جيرته بد. ماذا يعني هذا لموضوعنا؟ أنّ مشري تصالح مع مرضه في المرحلة المتأخّرة من عمره ومن مرضه. هذا التّصالح والحديث للدميني انعكس على الكتابة الّتي استعادت إلفتها وحميميتها بعد أن كانت ساخطة.
تعود رؤية علي الدميني لتصالح عبد العزيز مشري مع مرضه في المقدمة الّتي كتبها لرواية مشري الأخيرة (المغزول) فمشري من وجهة نظر الدميني فلسف مرضه، وطبق واقع قدرته على احتماله، مؤكّدا دائما على أنّ المرض حالة يوميّة اعتياديّة كالنّوم والأكل والاستمتاع.
لكنّ ماذا لو أن تأخر مشري غير متصالح؟ ماذا لو أنّ تقدّمه في السّن وتفاقم المرض لم يجعلاه يتقبّل مرضه إنّما زاده تأخره عنادا وزاد الكتابة عمقا في نقد الواقع وليس التّصالح معه؟ في الواقع فإنّ الدميني يعسّ هذه الأفكار؛ فهو يرى أنّ كتابة مشري عن مرضه كشفا عن معاناة يتداخل فيها الصّحي والنّفسي والمكوّنات الثقافيّة (مشري، الأعمال الكاملة، المقدمة)، وأنّه خلق من المرض معادلا للسّعي لاسترداد الكرامة والحريّة (المجلّد الثّالث، ص 373) والأهمّ لموضوعنا أنّه يعتبر روايته الأخيرة (المغزول) صرخة مشري الأخيرة أطلق فيها موجوع أو مظلوم صوته قبل أن يقاد إلى حبل المشنقة أو حدّ السّيف أو الاقتراب من حافة الموت (نفسه، ص 377).
ليس غريبا ألّا تتصالح كتابة مشري مع الواقع؛ ولا أن يوحّد مرضه في سنه المتأخّرة كلّ مستويات نقده الاجتماعيّ والثّقافيّ والسّياسيّ. فهو وإن انتمى إلى هذا الواقع إلاّ أنّه خارج عن تصنيفاته: يعزف العود من دون أن يكون موسيقيا، يرسم من دون أن يكون فنانا تشكيليا. وعلى خلاف نظرائه لم يكتب عن المدينة إنّما كتب عن القرية، ولم يكن محايدا جغرافيا ولا ثقافيا حين يتجادل في كتاباته مجتمع المدينة الاستهلاكي ومجتمع القرية المنتج.
وفق إدوارد سعيد الّذي استعار مفهوم الأسلوب المتأخّر من الفيلسوف الألماني أدورنو وعمقه في دراسة بعض الفنانين (روائيين وموسيقيين) فالتّأخر لا يدفع الفنّان إلى أن يتصالح مع واقعه كما هي العادّة. التّأخر أن يبلغ الفنّان النّهاية وهو في كامل وعيه، ومدركا حاضره إدراكا عميقا. الأسلوب المتأخّر نوع من المنفى الاختياري عمّا هو مقبول عموما. أن تتأخّر يعني أن ترفض العديد من المكاسب الموفّرة للرّاحة داخل المجتمع (سعيد، 2015، ص 52 وما بعدها).
قد يكون جائزا على ما في ذلك من مجازفة أن نتصوّر عبد العزيز مشري شخصيّة متأخّرة؛ فتقدّمه في السّن، وتفاقم مرضه لم يدفعاه إلى أن يهادن زمانه، إنّما ناضل وتدرّب على “الاقتراب من حافة الموت والفناء، فأخبرنا عما يشبه العدم القابع خلف كلّ النّهايات التراجيديّة (الدميني في مشري، الأعمال الكاملة، مجـ3، ص 363). التّأخر يصطحب الزّمن دوما، إنّه طريقة في تذكّر الزّمن أكنّا نفتقده أو نلتقيه أو نصنعه (وود، 2015، ص 16) وعبد العزيز مشري فعل ذلك مرارا وتكرارا كما سنعرف في حينه.
يثير نمط مشري القروي موقفه من عصره المديني. مشري من أبناء الجنوب الّذين خرج أغلبهم على قرويتهم وتنكروا لها. من منظور الأسلوب المتأخّر نتفهّم شمّه رائحة طين القريّة ووديانها وهو في ولاية أمريكيّة، وانتشاءه بالنّجمة (نبات عشبي) في حديقة مستشفى. من منظور التّأخر نتفهّم بعده عن كلّ أنواع الطّعام الحديث؛ فبدلا من (ماكدونالد) في إحدى الولايات الأمريكيّة تمنى كسرة خبر يابسة من البلسن مغموسة في قهوة بن أو حقينة (الأعمال الكاملة، مجـ3، ص 22). لا يعني كون مشري ذا نمط قروي تقهقر إلى زمن ماض بقدر ما هو دليل على هشاشة الزّمن الحاضر وتفكّكه، وكسرة الخبز بالحقينة ليست إلاّ إفلات من قساوة زمانه وتحلّله.
لكون المشري متأخّرا فقط انفصل عمّا اعتبره مجايلوه تجديدات طموحة للكتابة الحديثة. فقد رأى أنّ الكتابة ” لا تحتاج إلى التّغريب، ولا إلى البحث عن مادتها وعالمها من خارج ما يقع في الذّهن من حكايات وأحاديث طويلة تكمن عند أصبع القدم (الأعمال الكاملة، مجـ3، ص 20). وحتّى هو يقرأ ما قرؤوه لم يرضخ لأعراف الكتابة ولغتها. وكلّما تقدّم في العمر زاد تمرده على جبروت عادات الكتابة وتقاليدها لاسيّما اللّغة. إنّ من الممتع أن نتحرّى لغة عبد العزيز مشري من منظور الأسلوب المتأخّر. نكتفي بأن نتساءل من يتجرّأ غير مشري لكي يكتب الجمل على هذا النّحو: “قالت العلبة الفضيّة طقّ (الأعمال الكاملة، مجـ، ص 90) ” رفعها بقوّة وهوى بها قالت العمامة صكّ (نفسه، ص 94) ” نضح منها (الدلة) قدر قليل على الجمر فقالت طشّ (نفسه، ص 105).
لقد بعثت أعمال مشري المتأخّرة شعورا جديدا بالعناد والغضب والقلق والاضطراب يختلف كليا عن عمله الأوّل (موت على الماء). روايات عبد العزيز مشري المتأخّرة لاسيمّا (المغزول) روايات متأخّرة إذا صحّ هذا التّعبير، وهي أكثر تأخّرا في كونها تتوقّف عند عوالم منسيّة خلفتها مسيرة التّقدم الاجتماعيّ والاقتصاديّ. هذه العوالم وصفها الدميني بـ ” مناطق شائكة، كان قد حرص على تجنبها بعد عمله الروائي الأوّل (الأعمال الكاملة، مجـ3، ص 370).
4
في عمل عبد العزيز مشري الأخير (المغزول) يخاطب زاهر المعلول نفسه قائلا: “أمّا أنت أيّها القبضة الآدميّة في هذا السّرير؛ فما أنكأ جرحك، وما أكبر وجعك اللّيلي الطّويل (الأعمال الكاملة، مجـ3، ص 532). هذا الوصف بالقبضة يجد وجه الشّبه في أنّه مبتور الرّجلين، وفي المعنى أنّه بحجم قبضة من جهة، وأنّه يمثّل ملء كفّ من جهة أخرى. لكنّ تصغير الحجم المادي لا يعني تقليل الحجم المعنوي؛ فالقبضة في إحدى معانيها هي القوّة كما في قولنا قبضة حديديّة.
نحن نعرف أنّ عبد العزيز مشري تعرّض للظّرف نفسه الّذي تعرض له بطل روايته؛ فقد بُترت إحدى رجليه من تحت الرّكبة، وبُترت الرّجل الأخرى من فوق مفصل الرّكبة؛ أي أنّه كبطل روايته زاهر المعلول بلا قدمين ولا ساقين ولا رجلين. ثمّ إنّه زرع كليّة، وسافر إلى أمريكا للعلاج. وكان كلّ هذا بسبب مرض السّكر. هذا التّشابه يصعّب التمييز بين الاثنين، ولو أن الاسم المطبوع على الغلاف (عبد العزيز مشري) هو الاسم الّذي داخل الكتاب لقلنا إنّه سيرة ذاتيّة. أعقد من هذا التّشابه هو التّطابق في الرّؤى بين مكاشفات المشري وتأمّلات بطله. لذلك وبنوع من المجازفة يمكن أن نعتبر الرّاوي هو مشري نفسه بعد أن جرّد من نفسه شخصيّة وصفها بالمعلول. غير أنّنا لن نفعل ذلك لاعتبارات نظريّة ونقديّة تخدم فكرتنا المتعلّقة بالجانب البناء في أسلوب مشري المتأخّر.
وصف الفيلسوف أدورنو الأعمال المتأخّرة وصفا لا ينسى. كتب ” إنّ نضج الأعمال الأخيرة لا يشبه النّضج الّذي يلقاه المرء في الثّمر… ليست الأعمال مكوّرة بل مثلومة، تالفة، تفتقد إلى حلاوة المذاق، فهي مرة وشائكة، ولا تستسلم للبهجة المجردة (نقلا عن سعيد، 2015، ص 48).
لا أبالغ لو قلت إنّ رواية مشري الأخيرة (المغزول) هي كذلك مثلومة ومرّة وشائكة. يتجلّى كونها مثلومة في سردها المتقطّع؛ شذرات طويلة أو مراحل قصيرة مركزة حول حدث أو فكرة سمح للسّرد بأن يتحرّر من الحبكة، وكونها شائكة لأنّ الشّذرات والمراحل وغياب الحبكة سمحت للسّرد أن تتداخل فيه الأزمنة والأحداث، وكونها مرّة لأنّ السّرد يحمل صدى المشري نفسه.
ليس هذا كلّ شيء. فالرواية تظهر أنّ مشروع حياة الإنسان مخنوق بعجزة، وأنّ الإنسان مسحوق تحت وطأة قدره القاسي والمؤلم. مصير الإنسان غامض ومخنوق في حلقة ضيقة. كلّ شيء حوله بلغ حدّا من الفظاعة حتّى أنّ التّعاطف والشّفقة يتحوّلان إلى قسوة. لقد كان الدميني محقّا وهو يرى المشابهة بين المرض الفردي المزمن الّذي عانى منه زاهر المعلول (بطل الرواية) وبين أمراض الفقر والجوع والقهر والتّخلف الّتي ننوء تحت أثقالها (الأعمال الكاملة، مجـ3، ص 377).
يتحدّث الرّاوي في القصص كما يتحدّث عبد العزيز مشري في مكاشفاته. أنا لا أقول: إنّ الرّاوي هو الكاتب، إنّما أقول: إنّهما يتشابهان في تصوّراتهما عن المرض؛ فإذا كان الرّاوي يتحدّث عن عظمة الإنسان ليتسامى بالمرض (انظر مثلا: الأعمال الكاملة، مجـ1، ص 246) فإنّ الكاتب في مكاشفاته لا يخرج عن تصوّر هذه العظمة (انظر مثلا: الأعمال الكاملة، مجـ2، ص 156) فهناك قدرة فائقة عند الإنسان ليحجم المرض؛ ليس الإنسان العادي كما هو عند الرّاوي إنّما الإنسان المبدع الّذي يجد في إبداعه الاستحقاق الكامل لكي يتحدّث عن مرضه.
هناك ما هو أكثر في الجانب البناء لأسلوب عبد العزيز مشري المتأخّر؛ فقد لجأ إلى مفهوم السّعادة ليبلور به في مكاشفاته كون بعض الأعمال الإبداعيّة توحي بالعظمة والرّفعة، ولجأ إليه لكي يفسّر إنتاج هذه الأعمال، من مثل أعمال الروسييّن استروفيسكي دوستويفسكي والفرنسي رامبو والإيطالي موبسان. فالقوّة الدّافعة لأعمال هؤلاء رغم مرضهم هو السّعادة الّتي يشعرون بها حين كتابتها. السّعادة عند مشري دافع مهمّ وخطير للكاتب، وهي “سيزيفيّة” الاستمرار والتّحدي في مواجهة ظروف الكاتب الصحيّة (الأعمال الكاملة، مجـ2، ص 158). سعادة مبدعي هذه الأعمال الإبداعيّة الخالدة تشبه سعادة الفلاّح بمحصوله بعد الجهد الّذي بذله. السّعادة الّتي تتحقّق عند الكاتب المبدع، أن يرى فعلها في الآخرين، ليس على هيئة مكافآت تشجيعيّة بالمديح، فذلك أمر لا يشغل بال الكاتب، بل بقراءة ما كتبه (نفسه، ص 157).
على المستوى التّوصيفي لم تحدّد صياغات مشري في مكاشفاته للعلاقة بين الكتابة والمرض أي مجال في الإنتاج الكتابي. هل يستلزم مثلا إدخال الإنتاج النّقدي لباختين المعلول، أو الإنتاج الفلسفي لنيتشة العليل أو الإنتاج الفكري لطه حسين الأعمى؟ هل تشمل العلاقة بين الكتابة والمرض الإنتاج الفكري والفلسفي والعلمي أم أنّها تقتصر على الإبداع النّثري والشّعري؟ لقد أشار في مكاشفاته إلى فرضيتين في ردّة فعل الفرد على المرض: الأولى الانتصار والثّانية الهزيمة (نفسه، ص 158) والمبدع (لم يقل الفيلسوف أو العالم) ينتمي إلى الفرضيّة الأولى.
غير أنّنا من جهة أخرى نستطيع أن نضمّ المفكر والعالم والفيلسوف إلى المبدع حين نبلور مفهوم آخر غير السّعادة وهو مفهوم (التّسامي) الّذي يعني تحويل المرض إلى نشاط سام. ومن دون أن ننجر إلى آراء فرويد الجنسيّة فالمرض كطاقة قابل لأن يتحوّل إلى نشاط ذهني وكتابي.
على أي حال لم يكن في نيتنا سوى أن نتوقّف عند فكرة عامّة من دون الدّخول في تفاصيلها في هذه الرواية أو غيرها من أعمال المشري، وإنّني آمل أن يكون قد اتّضح معنى أن يكون الأسلوب المتأخّر مدخلا لدراسة أعمال عبد العزيز مشري القصصيّة والروائيّة.