صورةٌ للفنّان في شبابهِ
حوار مفتوح في الفنّ والشّعر والسياسة مع الشاعر والموسيقيّ الفلسطينيّ وسام جبران
ريم غنايم
(1)
يحضرُ الشّاعر والمؤلّف الموسيقيّ الفلسطينيّ، وسام جبران، كحالة متفرّدة في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ الرّاهن. في عواصم العالَم المختلفة، درس جبران (مواليد العام 1970) التّأليف الموسيقي وعزف على أهم خشبات المسارح العالميّة. مارس ويمارس التّأليف بشتّى أشكاله: شعرًا ونثرًا وموسيقى، وفي رصيده حتّى الآن ثلاث مجموعات شعريّة تفصلها عن بعضها مساحات زمنيّة كبيرة، إلى جانب المئات من المؤلفات الموسيقيّة المخصّصة لآلاتٍ انفراديّةٍ عديدة وتركيباتٍ آليةٍ وغنائية وأركستراليّة متنوعة، وموسيقى لأفلامٍ ومسرحياتٍ مُختارة، وعبر معالجات حديثة لآلة العود، أعاد النّظر في موروثها ولغتها الموسيقيّة.
مع جبران كان هذا الحوار الطّويل والشّامل حول مسائل ماهويّة تتعلّق بالموسيقى والشّعر والهويّة وقضايا عربيّة وفلسطينيّة حرجة نعيشها اليوم، ورهانات المستقبل.
سيرة الواحد المتعدّد
-لنبدأ معك هذا الحوار من منتصف الطّريق: السّيرة الحقيقيّة التي أنتَجتَها وأنتجَتك في لغتَي الشّعر والموسيقى. أيّ لغةٍ من بينهما صاغَت وساهَمت في تحديد ملامح هذه السيرة المتشكّلة؟
الإنسان هو لغته؛ مجمل لغته التي تعبر عن نفسها بكلّ شكل مُتاح. الفكرة تأتي ومعها الشكل: تأتي في هيئة لحنٍ أو نسيجٍ موسيقيّ أو إيقاعٍ أو كل هذا معًا، وتأتي على شكل قصيدة، أو قصّة أو رواية، أو تأتي في رسمٍ أو خربشات على ورق أو سواه… وأحيًانًا تأتي بصمت، لا أعرف إن كان مُترفّعًا عن كل هيئة آلفُها، أو يكون مرتبكًا حائرًا بينها، الى أن يجد هذا الصمتُ منفذه الى إفصاح ما، كما لو قلنا خلف أرسطو: الوجود المتحقّق بالفعل بعد أن كان وجودًا بالقوّة. المسألة تتعلق بالأدوات الّتي نملكها ونتمكّن منها، كما تتعلّق بالهاجس وطبيعته؛ فالفكرةُ (الوحيُ) هو نتاجُ هَجْسٍ مُستديم وجهدٍ عمليّ وتدريب وتجريب وتمرين وإخفاقات… علينا أن نتجهّز للحظة “الوحي”، الّتي لا تنحصر عندي في شكلٍ واحدٍ، أنا المُبعثر بين فنون وأنواعٍ فنيّة ولُغاتٍ… يصعب الحديث عن علاقة تفاضليّة في الجوهر بين الشّاعر/ الأديب وبين المؤلّف الموسيقي اللّذين في داخلي، فالعلاقة تواشُجيّة. لقد دأبت على دراسة التّأليف الأدبي كما درست التّأليف الموسيقي، فإنّ “المبادئ” و”الاليات” هي ذاتها، تختلف الأبجديات، ولا تختلف “اللغة” بمعناها الواسع. في الموسيقى كما في الشعر، اللغة تكتبُنا وتؤلّفنا بقدر ما نكتبها ونؤلّفها، نُملي عليها، وتُملي علينا، نتعاطى مع كينونتها الموروثة ونفككها، وكذلك هي تُصغي الى وجودنا وتُعيد إنتاجه وإنجابه؛ أي بقدر ما نحرفها من مساراتها التقليديّة ونستخرج منها ما يتلاءم مع جديدنا الفكري والشعوري والجمالي، وحتى الشكلي، فهي كذلك، بعبقريتها المتراكمة، قادرة على حرفنا عن مساراتنا التي ألفناها أو تلقّفنا في انسداداتنا وسقطاتنا؛ السرّ يكمن برأيي في مدى قدرتنا على الإصغاء الى اللّغة بوصفها ذاتنا الواحدة المتعدّدة. فالكتابة تانجو دائم التحفّز بين الكاتب واللّغة.
إنّني أكتب الشعّر دون أن أتجرّد من كوني مؤلّف موسيقي، آخذ معي “هذا العالم” الى مساحات الشّعر، أكتب الموسيقى (الموسيقى المحض، والموسيقى بوصفها تفكيرًا نسيجيًّا لا خطيًّا) دون أن أتجرّد تمامًا من “الشّاعر” الّذي في داخلي. ومع ذلك أقول، فاتحًا القوس في هذا القول: إنّ تأثير الموسيقيّ على كتابة الشّعر عندي أكثر وضوحًا من تأثير الشّاعر على كتابة الموسيقى. أعزو هذا، ربّما، إلى قُدرة الموسيقى على إخفاء معناها بطبيعة لغتها الغامضة غير المُفصحة، الّتي تتعاطى مع “اللاّمعنى” أكثر بما لا يُقاس مع تعاطيها مع “المعنى”، وهنا أتحدّث عن الموسيقى المجرّدة؛ الموسيقى المحض (الّتي لا يدخل فيها أي عنصر غير موسيقي مثل الكلام أو البصريات وغيرها).
لو أردنا الحديث عن مقطوعةٍ موسيقيّة ما بوصفها قصيدة، فلنتخيّل إذًا القصيدة الّتي تُكتب بلغةٍ تتكوّن من مفرداتٍ لها معنى مُعجميّ، ولها معنى آخر تستمدّه من خارج المعجم، من القصيدة ذاتها وتوليفاتها الجديدة الّتي تُعيد إنتاج المعنى والشّعور، نعم لنتخيّل أن تذهب القصيدة الى أبعد قليلاً من تجريد الكلمة من معناها المعجمي لصالح معناها الشّعري الجديد نحو تجريدها من المعنى كُلّيًا، بحيث تتسامى الكلمة على توظيفات المعنى لصالح توظيفات الشّعور، لا الشّعور المُباشر في معناه وإيحاءاته، بل الشّعور المركب المراوغ الهلاميّ متعدّد الطّبقات؛ الشّعور الّذي لا يقول شيئًا إلا كي يقول كلّ شيء. هنا، تكون القصيدة قد “ارتقت” الى صفو الموسيقى. هنا تكون “القصيدة” قد تجلّت في هيئتها المتعريّة من معاني اللغة؛ تكون الموسيقى قصيدةً في أكثر حالاتها تجرّدًا من اللّغة وتنزُّهًا عن المعنى. بكلمات أخرى، هنا تكون الموسيقى لغة الصّمت/ الصّمت الّذي يصمت عن اللّغة الكلاميّة.
هكذا أرى إلى العلاقة بين الشّعر والموسيقى في داخلي: قصيدةٌ تطمح لأن تكون موسيقى، وموسيقى تسعى لأن تكون قصيدة.
-هناك وكلاء ساهَموا في تكوين مرحلتك البذريّة، مرحلة الطّفولة والصّبا، من هم هؤلاء الوكلاء، وماذا سقط منكَ طفلاً وأنت في الطّريق إلى المسرح؟
ولدتُ في النّاصرة لأبٍ موسيقيّ وأمّ معلّمة أطفال (في ذلك الوقت). لا أتذكّر دروس الموسيقى الأولى مع والدي الأستاذ منير جبران في سنّ مبكرة، لكنّي في عمر التّاسعة كنت قد حصلت على أوّل جائزة قطريّة في العزف على الكمان وعلى منحة لدراسة البيانو، ثمّ درست الكمان والبيانو عند أساتذة متعدّدين في أرجاء البلاد. بالتّوازي اهتمّت والدتي (نائلة جبران) بموهبتي في الرّسم ورعتها بشكل دؤوب على طريقتها، وحقّقت في طفولتي نجاحاتٍ معتبرة، حتّى أذكر أنّني شاركت في معرض للرّسم في بلغاريا تحت إشراف معلمي حينذاك الفنّان عبد عابدي، وكنت قد تتلمذت على يد فنانين كثر مثل كمال بلاطة وداوود حايك وشريف واكد وغيرهم، لكنّني اخترت الموسيقى فيما بعد واحتفظت بالرّسم كهواية تُلازمني حتّى يومنا هذا وألجأ إليها في بعض الأحيان كملاذٍ روحانيّ ربما، كما أنّ عشقي للفنون البصريّة واهتمامي بها بات أمرًا ضروريًّا لثقافتي الفنية العامة. لقد نشأت في بيئةٍ غنيّةٍ وفرت لي الكثير من الإمكانيات، لكنّها كانت تفتقر إلى البعد العالمي والرؤيوي، بمعنى أنّني نشأت على عالم بصريٍّ محليّ، حيث لا متاحف ولا معارض ولا وسائل انكشافٍ سهلةٍ في ذلك الوقت كما هو مُتاح الآن. هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، فقد نشأت في بيئة أيديولوجيّة من النّاحية الثقافيّة، وكانت الأطر الّتي يوفّرها الحزب الشّيوعي هي الوحيدة الممكنة اجتماعيًّا لمن اختار نشأة لا طائفيّة. وما أعنيه هنا، أنّه رغم توفر الإمكانات، إلاّ أنّ الرّؤى غابت، فكان فوق رأسي أساتذة من النّوع الّذين يقولون لك مثلاً “لا تستخدمي المسطرة أثناء الرسم!”، لكن أحدًا، لا يطرح هذه المسألة بوصفها سؤالاً للتّفكير! هل تفهمين ما أقصده؟
بعد أن تلقيت الكثير من المديح والتّبجيل في مجتمعي ومن عائلتي الّتي حضنتني بإخلاص، تلقيتُ الصّفعةَ الأولى في موسكو، هناك بدأت كمرحلة جديدة في حياتي، وانقلبت الطّاولات فوق رأسي؛ كان هذا العهد هو نهاية الإطراء والتّبجيل في حياتي.
اسمي وسام جبران
-أعود معك تفصيلا إلى هذه المرحلة، النّاصرة: هذا المكان الميكروكوسميّ شديد الخصوصيّة في زمان شديد الخصوصيّة. تخرج من هناك عام 1988 متّجهًا إلى العالَم الواسع، إلى موسكو، البداية الرسميّة. كيف كانت القطيعة مع المكان وربّما “انتحال” أو “ارتداء” ثقافة أخرى لا دخلَ لها بمكانك الرّحميّ الأوّل؟
مرحلة موسكو أعتبرها ولادة ثانية. مرّة واحدة ودون تدرّج وجدت نفسي مع الكبار؛ سلالة تشايكوفسكي وريمسكي كورساكوف من تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم، وفي المعاهد والغرف ذاتها الّتي علموا وتعلّموا فيها، وفي صالات العروض الموسيقيّة (المعروفة عالميًا) الّتي عزفوا فيها وعُزفت موسيقاهم فيها. في هذه البيئة الأكثر نُضجًا وتطوّرًا والأغنى ثقافةً في العالم وجدت نفسي بعد بداياتٍ (في النّاصرة) بدت فجأةً، وعلى نحو صادمٍ، أنّها متواضعة، وأحيانًا كاذبة ومخادعة.
في كونسرفتوار تشايكوفسكي درست التّأليف الموسيقيّ، في الغرفة ذاتها الّتي درّس فيها ديميتري شوستاكوفيتش، وحيث كان مدير قسم التأليف آنذاك هو ألبرت س. ليمان Albert Semionovich Leman (صديق شوستاكوفيتش).
قصدت موسكو لأننّي أردت دراسة التّأليف الموسيقيّ عند المؤلّف الّذي أحببته أكثر من غيره في العالم في ذلك الوقت، وهو ألفرد شنتيكي. لم تكن وسائل التوّاصل وقتها (1989) سهلة كما هي اليوم، ولم أعرف مُسبقًا أنّ شنيتكي قد ترك التّعليم في كونسرفتوار تشايكوفسكي بسبب إصابته بشلل نصفيّ. حزنت حين عرفت ذلك بعد وصولي إلى موسكو. لكنّني قُبلتُ هناك لأدرس التّأليف عن البروفيسور قسطنطين باتاشوف، وهو ممن درسوا التّأليف مع شنيتكي عند نفس الأستاذ (جولوبيف Evgeny Kirillovich Golubev). دراستي مع باتاشوف صقلتني من جديد لا موسيقيًا فقط، بل وثقافيًّا ومعرفيًّا.
بعد مرور عامين تقريبًا، حضر المايسترو الإيطالي كلاوديو أبادوا إلى موسكو مع أوركسترا الشّباب الأوروبي الشّهيرة، ومن ضمن برنامجهم كانت مقطوعة موسيقيّة من تأليف شنيتكي بعنوان “بهدوء شديد” (pianissimo)، في “البالشوي زال” نفذت التّذاكر قبل أن يبدأ بيعها. حاولت بكلّ الوسائل إقناع السّيدة بائعة التّذاكر بأن توفّر لي تذكرة دون فائدة. كدت أبكي من يأسي. إلى جانب بائعة التّذاكر في الخلف وقف رجل أبيض الشّعر لا يتحرّك، يتفرّج بصمت، وفي إحدى يديه شريطٌ من التّذاكر. فجأة، طلب من بائعة التّذاكر أن تقتصّ تذكرة من الشّريط وتعطيها لي. تناولت التّذكرة بفرح. شكرته بإيماءةٍ دون كلام. تبادلنا النّظرات وافترقنا.
ليلة الكونسرت جلست في مقعدي بحسب ترقيم التّذكرة. حضر الرّجل ذو الشّعر الأبيض ذاته يعرج متكئًا على زوجته الّتي أجلسته إلى جانبي. نظر إليّ وابتسم. فهمت للتّو أنّني أجلس الى جانب ألفرد شنيتكي شخصيًّا (وزوجته إيرينا عازفة البيانو). “اسمي وسام جبران، مؤلّف فلسطيني من النّاصرة… جئت إلى موسكو خصيصًا لأدرس على يدك…”. سجّلت “إيرينا” رقم هاتف البيت على ورقة وأعطتني إيّاها. “اتّصل بي غدا” قال شنيتكي. بعدها صرت أذهب إليه سرًّا كلّما انتهيت من كتابة مقطوعةٍ موسيقيّة جديدة لاستمع إلى رأيه وملاحظاته. (كان ممنوعًا أن يدرس طالبٌ عند أستاذين في الوقت نفسه)، وظلّ الموضوع سرّا حتّى أنهيت دراستي في موسكو رسميًّا. استمرّت علاقتي فيما بعد مع شنيتكي الّذي هاجر إلى هامبورغ (ألمانيا)، وفيما كنت أنا أكمل تعليمي في برلين، حتّى وفاته عام 1998.
لم تكن نقلة موسكو مجرّد بداية للمرحلة الأكاديميّة في حياتي، فهي، بالإضافة إلى كونها نقلة حضاريّة لغويّة مكانيّة ومناخيّة، فهي نقلة نوعيّة في فهم ذاتي لا بوصفها شيئًا مكتملاً واضح المعالم والانتماءات، بل بوصفها طاقةً تبحث عن أشكالٍ لتصريفها. فأن تجد نفسك في صالة السينما أمام أفلام تاركوفسكي وساكوروف، أفلامٌ صُنعت بلغة سينما لا بلغة الكلام، وأن تجد نفسك في “البالشوي زال” و”البالشوي تياتر” في حضرة أعظم موسيقيي العصر ليلةً بعد ليلةٍ ودون كلفةٍ ماديّةٍ تُذكر؛ أن تحتار إن كنت ستذهب هذه اللّيلة إلى كونسرت حجرة في صالة راخمانينوف السّاحرة، أو تذهب لمشاهدة مسرحيّة لتشيخوف أو غوغول في مسرح “مْخاط” (مسرح تشيخوف)… كلّ هذا، بوتيرةٍ لا مُتنفّس فيها، إلى جانب دراسة الموسيقى والفلسفة وتاريخ الفنون ولغة الرّوس، ثمّ الانفتاح على مجتمع متنوّع لا يشبه ما عرفته سابقًا في مدينتي الأولى النّاصرة. هي كثافة صارخة إذن من الأحداث والصّدمات والتّحديات، قفزت بي إلى أقصى ما بداخلي من طاقاتٍ ومواهب كامنة، كما هوت بي إلى هاوية الانهيار النّفسي في مرحلةٍ متقدّمة من هذه التّجربة؛ انهيار تجاوزته بسرعة وسهولة، بانتقالي إلى برلين، لكن ندبة موسكو وأثارها على شخصيتي ظلّت وما زالت محفورةً في تكويني حتّى الصّميم.
لا حنين إلى موسكو. لا حنين إلى أيّ زمنٍ مضى. لكن لا شيء الآن كما هو لو لا تلك التّجارب ذات الطّابع الدراماتيكي.
-برلين، بعد موسكو (1995). لا تعود إلى النّاصرة، حضنك الأوّل، وتواصل الارتحال. ما الّذي اكتسبته في برلين وقبل العودة إلى رحمكَ الأوّل؟
من النّاحية الموسيقيّة المهنيّة، منحتني موسكو الأسس الكلاسيكيّة المتينة، حرفيّة امتلاك الأدوات الموسيقيّة؛ أدوات التّأليف الموسيقي تحديدًا، كما ومنحتني فرصة ذهبيّة (في زمن الاتّحاد السوفييتي) لحضور أهمّ الموسيقيين في العالم على مسارح موسكو يوميًّا ومجانًا، هذا بالإضافة إلى عروض السينما والمسرح والانفتاح على المعارض الفنيّة والمتاحف الهائلة في أرجاء موسكو وروسيا عمومًا. بينما منحتني برلين أدوات الحداثة الموسيقيّة والحداثة الفكريّة عمومًا. فبعد اللّغة الروسيّة تعلّمت الألمانيّة، وبعدما قرأت الأدب الروسي بلغة كتابه، بدأت أقرأ علم النّفس والأدب والشّعر والفلسفة بلغة الألمان، ولك أن تتخيّلي كم الكتب الّتي كانت تنتظرني! لكن، من العبث، اختزال تكوّن شخصيّتي العامّة والفنيّة تحديدًا على أساس القراءات، فالحياة في برلين، بكلّ تفاصيلها العميقة والسطحيّة ساهمت في صقل موهبتي وأفكاري وخبرتي. في موسكو، تركّزتُ بالموجود فيها، ولم يكن قليلاً، لكنهّا كانت بلادًا لا تزال مُغلقة أمام الأجنبيّ بالمفهوم الواسع للكلمة، بينما في برلين كنت أجلس في عاصمة ثقافيّة من أهمّ عواصم العالم، وفيها، ومنها انطلقت وتتلمذت على يد أهمّ أساتذة التّأليف الموسيقي فبي العالم، فبالإضافة إلى أستاذي الجامعي الرّسمي البروفيسور بأول هانز ديتريش Paul-Heinz Dittrich، فقد تلقيت دروسًا مع بيير بوليز Pierre Louis Joseph Boulez وجورج ليجيتي György Sándor Ligetiوجورج كورتاخ György Kurtág وكارل هاينز شتوكهاوزن Karlheinz Stockhausen وآخرين كثر، ممّا منحني خبرةً واسعة في أحدث خبرات التّأليف الموسيقي في عصرنا.
في برلين تعرّفت على أستاذي في القيادة الأوركسترالية دانييل بارنبويم Daniel Barenboim، وعلى إدوارد سعيد وأدونيس ومروان قصاب باشي وآخرين من الأشخاص الّذين تركوا بصمتهم على تطوري المهني والفكري والفنّي.
ثلاثة إيقاعات وثلاث بصمات: في حضرة إدوارد سعيد، أدونيس ومروان قصّاب باشي
-معرفتك بإدوارد سعيد، شكّلت نقطة فارقة في تطوّر وعيك، وربّما في شخصك. ماذا يعني لك إدوارد سعيد كموسيقيّ أوّلا، وكفلسطينيّ ثانيًا؟ وكيف صقل المثّقف وعي الفنّان للسنوات المقبلة؟
تعرّفت على إدوارد سعيد الشّخص في مدينة فايمر Weimar الألمانية عام 1999 في أثناء ورشة تأسيس أوركسترا ديوان العربيّة اليهوديّة مع أستاذي المايسترو دانييل بارنبويم. هناك تواجدت على هامش المشروع مُرافقًا أستاذي الّذي قام بقيادة أوبرات فاجنر جميعها في مدينة بايْروث المحاذية حيث دار الأوبرا التي عمل فيها فاجنر شخصيًّا، وكانت هذه فرصة ثمينة لي لم تتكرّر، إدوارد سعيد كان جالسًا إلى جانبي في عرضين وتنازل عن مقعده لي في عرض ثالث، وفي رابعٍ لم تتوفّر تذاكر أبدًا، فدعاني أستاذي (بارنبويم) للجلوس إلى جانبه في فُوّهة الأوركسترا أسفل المسرح (فُوّهة أوبرا بايروث هي الوحيدة المُغلقة في العالم) حيث لا يمكن للجمهور أن يراني؛ في مثل هذه الأجواء وبالتّداخل مع هذه الأحداث كان تعارفي مع إدوارد سعيد.
إدوارد سعيد كان ضمن قائمة كتبي الّتي قرأتها قبل تعرفي الشّخصي عليه، كما أنّني كنت قد ألفت سداسي وتري أهديته له ولم أرسله له، لكن بارنبويم اهتمّ بإرساله الى إدوارد بالنّيابة عنّي، حتّى أنّه وصل الى أوركسترا شيكاجو، وإلى يد المؤلّفة الموسيقيّة أوغستا ريد توماس الّتي أرسلت لي رسالة تقدير على هذا السّداسي أعتزّ بها كثيرا.
- عمّ تحدثت مع إدوارد؟
في ذلك الوقت، حدّثته مثلاً عن هاجسي: “الصّمت”، معناه الموسيقي والفلسفي، أنصت إليّ طويلاً، ثمّ فتح حقيبته الجلديّة وأخرج مقالاً باللّغة الإنجليزيّة لم يكن قد نشره بعد (نُسخة شخصيّة نحيفة بغلافٍ مؤقّت برتقالي، لا أزال أحتفظ بها) بعنوان “من الصّمت إلى الصّوت، عَوْدٌ على بدء: موسيقى، أدب وتاريخ”. بعدها، في العام نفسه، ألفت مقطوعتي للبيانو المُهداة إلى عازف البيانو سليم عبود أشقر “من الصّمت إلى الصّمت”، والّتي سجّلها العازف فادي ديب لاحقًا ضمن أسطوانة شكّلت أوّل أنثولوجيا لموسيقى البيانو، صدرت في ألمانيا، لمؤلّفين موسيقيين فلسطينيين منذ بداية القرن العشرين وحتّى الآن.
لم تقتصر العلاقة مع إدوارد على الأحاديث الفكريّة، بل تفرعت إلى لَعِبِ البينغ بونغ وتناول الوجبات وارتياد الحفلات الموسيقيّة.
إدوارد الشّخص لم يترك أثرًا كبيرًا عليّ بمقدار ما تركته أعماله ومؤلّفاته من بصماتٍ عميقة في وعيي وتطوري الفكري، ومنها كتاباته الهامّة عن الموسيقى، والّتي لم يهتم بها العرب كثيرًا، لا في التّرجمات إلى العربية، ولا في تداولها نقاشًا ونقدًا.
عام 2003 توفّي إدوارد، ولم يتّسع الوقت لعلاقتنا المتباعدة جغرافيًّا. لكنّني قرأته كاملاً مرّاتٍ ومرّات، ولا أعرف أين أثّر بي تحديدًا، لكنّه أثّر فيّ كثيرًا، وربّما يكون قد تسلّل خفيةً إلى أماكن كثيرة في أعمالي الموسيقيّة والأدبيّة دون أن يُفصح عن نفسه.
ثمّة شيء هام تعلمته من إدوارد سعيد، لا أعرف كيف ولماذا. فأنا لا أذكر أنّه علمني شيئًا من هذا القبيل، لكن، ربّما هذا هو أوّل شيء أفكر فيه حين أتذكّر إدوارد هو: “نُكران الذّات”.
–أدونيس. محطّة فنيّة-شعريّة-بحثيّة مركزيّة شكّلت جزءًا من عالمك ومن تكوينك أيضًا في مرحلة التّسعينات. حدّثني عن هذه المصادفة الّتي جمعت الفنّان الشّاب بأدونيس وكيف جسّدتَ حضوره الشّعري صوتًا في دراستك الموسيقيّة؟
في منتصف التّسعينيات تعرّفت إلى أدونيس أثناء زيارة له في برلين، فيما كنت لا أزال طالبًا جامعيًّا هناك، وقُبيْل إصدار كتابي الشّعري الأوّل “إنتـِ _ Anti _ ماءات” (1998). كنت حينها في عشرينياتي، وكان هو في ستينيّاته، وكنت أنا في بداياتي الشعريّة، أكتب لذاتي وأجرّب معها ولا أنشر بعد، وكان هو قد “خلخل المدى” شعريًّا.
كان لقائي الأوّل به خجولاً مُربِكًا، فهو ليس نجمًا وأنا لست معجبًا. لم يكن في تلك اللّحظة ما يبدو مبرّرًا للقاء بيننا سوى مُستقبل هذا اللّقاء الّذي لم يكن في الأفق بعد. بعد شهور أرسلت له ثلاث قصائد لي بالبريد العادي إلى عنوانه في باريس مُرفقًا رقم هاتفي البيتي. فاجأني بالتّواصل، وانتهت محادثتنا بعبارته الّتي لم أنساها يومًا: “… المهمّ أن تملك أفقًا”.
فيما بعد، يحصل أدونيس على منحة في برلين لترجمة “أوفيد” إلى العربيّة. أصبحنا جيرانًا وأصدقاء. في نهاية تعليمي الأكاديمي كمؤلّفٍ موسيقيّ قمت بتسجيل أدونيس (قصائد اخترتها من أغاني مهيار الدمشقيّ) بصوته، وألّفت عملاً موسيقيًّا كبيرًا يتفاعل فيه أدونيس (صوتًا) وقراءةً، مع تدخلاتٍ إلكترونيّة منّي داخل الحاسوب، مع أوركسترا سمفوني كبير. في هذا العمل، جعلتُ من أدونيس الشّاعر، شخصيًّا وعبر صوته المُسجّل، جزءًا لا يتجزّأ من المادة الموسيقيّة داخل العمل الموسيقيّ، لا بوصفه مؤدّيًا أو مادةً صوتيّةً وحسب، بل بوصفه كذلك وثيقة. كان هذا عنصرًا تجديديًّا في حدّ ذاته، لا في الشّكل والتقنيّة وحسب، بل في التّصوّر التأليفيّ وفي صلب الجوهر الموضوعي للموسيقى… بعد أن استمعنا إلى هذا المؤلَّف معًا (أنا وأدونيس وأصدقاء آخرين) شعرت، ربّما، أن ثمّة قيمة “أخلاقيّة” أيضًا لهذا الحضور الأدونيسي داخل العمل، وهنا أقصد أنّني، وبعد عامٍ من العمل وحيدًا داخل “المختبر”، وبعد أن تحوّل أدونيس بالنسبة لي، داخل الانهماك الموسيقي،إالى محض نصٍّ ومحض مادةٍ صوتيّةٍ موسيقيّة، قد اكتشفت فجأةً وقع الحضور الشّخصي للإنسان عينيه في العمل. كان هذا مُربكًا، بل وصاعقًا! هذا سؤالٌ عشت إرهاصاته العمليّة قبل أن أخوض فيه نظريًّا فيما بعد: إلى أي مدى يمكن قتل المؤلّف والتّعامل مع النصّ بتجرّد؟!
علاقتي، موسيقيًّا، بأدونيس لم تتوقّف هنا. بعد سنين طويلة، وفراقٍ جغرافيّ ممتد، قمت بتأليف الموسيقى لعدد من قصائد أدونيس للبيانو والسوبرانو.
– شعرًا… هل تركَ أدونيس، الّذي قرأ بداياتك وحتّى ظهّر لكتابك رتيلاء، بصمةً أو أثرا في تكوينك الشّعري – أو رؤيتك لمفهوم القصيدة؟
دون شكّ وكيف لا؟ كانت دواوين أدونيس موجودة في مكتبة بيتنا منذ كنت صغيرًا، كأنّها كانت تنتظر نضوجي؛ كان عليّ أن أجد مدخلاً لشعر أدونيس، لا أعرف تحديدًا ما هو، لكنّه مجموعة عوامل من النُّضج المعرفي والحسّي، ثمّ، حين نلج إلى عوالم أدونيس نغرق فيها وتخطفنا… لا يمكن ألاّ نتأثّر بعد هذا الخوض، والفرصة الوحيدة للتخلّص من الأثر المباشر لأدونيس هو في امتلاك وبلورة مشروع شخصي إبداعي يعرف خواصه ويعرف كيف يميّز نفسه عن تجارب الآخرين. هذه، بالمناسبة، من الأشياء الّتي “نتعلّمها” من أدونيس الذّي “يمحو وينتظر من يمحوه…”. إضافة الى ذلك، وما دمنا نتحدّث عن تأثير أدونيس على تجربتي، فمن المهمّ بمكان أن أنوّه إلى أنّني لا أقرأ أدونيس ولا أتأثّر به وحده، فأنا أقرأ الشّعر والأدب بخمس لغاتٍ مختلفة، لكن ما من شكّ أنّ أدونيس قامة كبيرة ولها أثرها على كلّ من يهتمّ بالشّعر ونظريّة الشّعر الحديث.
هناك مسألة أرغب في التّأكيد عليها هنا، وهي ما لاحظه أدونيس أيضًا حين كتب في تظهيره لكتابي “رُتيلاء”: “من أفق الموسيقى… يجيء وسام جبران إلى الشّعر…”، بمعنى أنّ مدخلي إلى الشّعر ليس من اللّغة والشّعر بالضّرورة، بل هو من خارجه، وهذا ربّما ما يمنح مشروعي الشّعري والأدبي ميزة مّا وزاوية نظر جديدة.
– جمعتك أيضًا علاقة صداقة وطيدة الرّسام والنّحات السّوري المعروف الفنّان مروان قصّاب باشي تكلّلت بإبداعات موسيقيّة.
ربطتني صداقة عميقة مع الفنّان التّشكيليّ السوريّ والأستاذ في كليّة الفنون في برلين مروان قصّاب باشي، وهو واحد من أهمّ الرسّامين التّعبيريين في عصره. كان مرسمه على مسافة قصيرة من بيتي في برلين، أمرّ عليه صباح كلّ يوم قبل ذهابي إلى التّعليم، نفطر الزّعتر والزيّت ونشرب الشّاي ونتبادل الأحاديث. كان حضوري إلى مرسمه، ومتابعة شُغله على عدد من اللّوحات الهامّة الّتي أنجزها في تلك الفترة أمرًا أضاف إلى حياتي نافذة معرفيّة غنيّة، وأنا الشّغوف بعالم الألوان والرّسم منذ صغري، إلى أن توّجتُ هذه العلاقة بمؤلّفٍ موسيقيٍّ “يُحاكي” لوحات مروان هو “تفكيك” ومؤلّفٍ آخر يحمل عنوان إحدى لوحاته “رأسان”، بالإضافة الى إسطوانتي الأولى “اغتراب” لمؤلّفات العود الخاصّة بي، والّتي أهداني مروان إحدى لوحاته لتكون حاضرة على غلاف الإسطوانة. في “تفكيك” (Deconstruction) حاكيت ثلاث طرقٍ في الرّسم يستخدمها مروان، ومن وحي علاقتي به وبلوحاته، فالقسم الأوّل “زَيْتيّ” في أسلوبه الموسيقيّ، بينما القسم الثّاني يُشبه أسلوب الحفر والطّباعة “Etching”، أمّا الثّالث فهو بأسلوب الألوان المائيّة؛ كلّ هذا بالموسيقى فقط. أمّا مؤلّف “رأسان” فهو لعازفي تشيللو مُختلّيْ الدوزان على نحو محدد وسوبرانو يُغنّي نصّ شعري ليوآخيم سارتوريوس الّذي كان وقتها المدير العالمي لمعهد غوته للّغة الألمانيّة وصديق مروان، وهذه القصيدة أدرجت في كتابٍ هام صدر باللّغتين العربيّة والألمانيّة عام 1998 بعنوان “مروان، إلى أطفال فلسطين”.
علاقتي بمروان وطّدت علاقتي بأشخاص عديدين في برلين والعالم العربيّ، فمن خلاله تعرّفت إلى عبد الرحمن منيف مثلاً، وشاركت معه في ورشاتٍ كان آخرها في دارة الفنون في عمان عام 2000، كما أنّ مروان كان صديقًا مشتركًا لي ولأدونيس، وكانت لقاءاتنا الثلاثيّة في برلين، في مرسم مروان وفي بيته وخارجهما كثيرة وغنيّة.
في مرحلةٍ متأخّرة من علاقتي مع مروان، أجريت معه لقاءًا صوتيًّا مُسجّلاً طويلاً (3 إسطوانات) قام هو بتصميم أغلفتها الثّلاث، وأعددنا نسخًا معدودة أصليّة منها فقط. في هذا الحوار تطرّقنا إلى موضوعاتٍ شتّى في حياة ومسيرة مروان، وهي تشكّل وثيقة هامّة لا مثيل لها برأيي عن مروان وبصوته.
(2)
بين شعرٍ ونثرٍ ثمّة كائن رينيسانيّ المزاج
-ثلاث مراحل في عمرك الشّعريّ، تفصل بين كلّ مرحلة وأخرى ما يزيد على عقد: انت Anti ماء 1991، رُتيلاء 2003، كَونٌ لا زمن 2019. هل يمكن أن أقول إنّ جبران انطلق فيها من التّجريب الغضّ واللّعب بمعماريّة القصائد، أفقيًا، قطريًا، عاموديًا، في اتّجاهات الاضطراب بحثًا عن وجهة… ليدخل بعدها مرحلة الحوار الصّاخب مع الذّات وبركانها في “رُتيلاء”، وينتهي إلى تجريب أكثر نضجًا منفتحًا على معماريّة الزّمن وفضاء الكَون ومحاورته؟
دون أن أخطّط يبدو لي، بعد كلّ هذه السّنين، ومع فارق يُقارب العقد من الزّمن بين إصدار شعري وآخر، أن ثمّة مشروعا شعريا متواصلا يربط بين “إنتـِ _ Anti _ ماءات” و”رُتيْلاء” و”كونٌ لا زمن”. لا شكّ أنّ تجربتي مرّت بمساراتٍ موضوعيّة وشكلانيّة متنوعّة، وأنا أتحفّظ على مصطلح “تطوّر”، لأنّني لا أعتقد، والشّعر من الشّعور، أنّ كلّ ما أكتبه اليوم، هو بالضّرورة أكثر تطوّرًا ممّا كتبته سابقًا؛ مرّة أخرى، ثمّة تغيّرات، وتطوّرات أحيانًا، لكنّ الأهمّ أنّني أكتب بهاجس من أسئلة كبيرة تشغل همّي الشّعري وبالتّالي مشروعي الشّعري، وكأنّني لا أذهب إلى طاولة الشّعر إلّا بدافع من هذه الهموم الكبيرة.
في ديواني الأول “إنتـِ _ Anti _ ماءات”، ربّما أكون، في بداياتي (العشرينيات من عمري) قد اهتممت بالشّكل وعلاقته بالمعنى أو اللاّمعنى في الشّعر. لقد جئت إلى الشّعر من الموسيقى (كما لاحظ أدونيس في تظهيره لرتيلاء)، والموسيقى تعني بالضّرورة (اللاّمعنى) والتّعدديّة الصّوتيّة، والاهتمام بالفونيما الصّائتة المجرّدة من المعنى المُعجمي كمكوّن أساسي في اللّغة. وجئت كذلك إلى الشّعر، من “مقولة الإبداع” بوصفه “تحرّرًا مّا” من قواعد اللّغة وسطوة قانونها ومخزونها الموروث. لم أتخلّ عن “الشّكل” في “رُتيلاء”، وهو عبارة عن قصيدة واحدة ممتدّة على الدّيوان بأكمله، لكنّها معقّدة التّركيب في داخلها، ومُقسّمة إلى سبعة خيوط وثامن خارج النّسيج، وداخل كلّ نسيجٍ ثمّة تقسيماتٍ أخرى متكرّرة. إذن، ثمّة بُنيّة هيكليّة تختلف عن تجربتي الأولى؛ الاهتمام بالشّكل، لم يتوقف، ولا ينبغي أن يتوقّف، لكنّه يأخذ مناحي جديدة. أو ليست الكتابة الشّعريّة لعبة بمعنى مّا؟
في “كون لا زمن” أخذ الشّكل البصري للقصيدة عندي منحى جديد، يختلف عن سابقيه، لكنّ الشّكل في تجربتي الشّعريّة لا يأتي من خارج الفكرة، إنّه دائمًا في خدمة الفكرة يُراقصها لا يقمعها أو يوجهها أو يتجاهلها.
على مستوى الفكر، ربّما لم أجدد كثيرًا، وما زلت على قناعاتي، لكنّني أحفر في العمق وأوسّع أفقي المعرفي. مثلاً، منذ بداياتي الأولى لم أحب لغة اليقين أو لغة الوعظ في الكتابة الشّعريّة وعمومًا. مازلت على هذا المنوال حتّى الآن. هل يُسمّى هذا “عدم تطوّر”؟ لكنّ، سؤال الفنّ ليس دائمًا فيما نقول، ليس في قناعاتنا، بل في كيف نقول. فهل نقول أنّني أُنوّع على ثيماتٍ تتكرّر في شعري؟ نعم، ولم لا… الآن، بعد “كونٌ لا زمن”، سأصمت قليلاً… سأصمت، لأنّني أبحث عن تجربةٍ جديدة تغريني، وإمّا أن أجدها أو أتوقّف عن الكتابة. أنا لا أكتب الشّعر رغمًا عن اللّغة والفكرة واللّحظة الجماليّة؛ لا أكتبه بالقوّة.
–مسكون بفكرة الصّمت، هذه المادّة الهلاميّة، الطّيفيّة، الّتي تسبحُ بحركة ثقيلة في القصائد. لماذا كلّ حمولة الصّمت والسّكون في الشّعر… أليس الصّمت نهاية العالم… بدايّة موت، جمود لا ضجيج له… أم أنّ الصّمت لغة ما قبل التّعبير الّتي تُكملُ نقصان الكلام؟
حتّى الآن، تعاملت مع الصّمت في كتاباتي بوصفه تلك المساحة الّتي لم تنطق بعد. من هنا، يأخذ الصّمت معانيه، فهو المُستقبل مثلاً، الّذي لم يُفصح عن نفسه بعد، وهو بالتّالي مركّب مهم ورؤيوي في تشكيل مفهوم الهُويّة عندي، بمعنى أنّ “الموروث” هو إفصاح قد تمّ، والماضي هو بمكانٍ ما “مُسْتَنْطَق”، أمّا المُستقبل الّذي لم يُفصح عن نفسه، فهو الصّمت الّذي تأتي منه “الهُويّة” بالمعنى الرؤيوي للمعنى، والّذي يُعطي للهُويّة/ الإنسان قيمة إضافيّة ونافذة إبداعيّة لا تُقفل على تعريفات الهُويّة، بل يجعلها مكوّنًا متحوّلاً قابلاً للتّشكّل والنّمو مع الانسان نفسه.
الصّمت إذن، هو خزائن احتمالاتٍ ممكنةٍ لمم تتحقّق بعد في الوجود. والصّمت بالتّالي هو سؤال؛ فما الّذي يُمكن أن يستثير خزائن الصّمت ويستحضر الاحتمالات الممكنة للوجود من حيّز الغياب/ الصّمت، إلى حيّز الوجود الصّائت (الصّوتي/ المنطوق)؟ وهل للصّمتِ، فلسفيًّا، في كتابتي الشّعريّة شحنة ميتافيزيقيّة؟ لا أعرف… ربّما…
–هاملت شَغلك أيضًا على نحو مفاجئ… واشتغلتَ في دراستك حول المسرحيّة على خزائن الصّمت في المأساة… مرّة أخرى تجنح نحو الحفر في الحركيّة والسّكون، الانتماء واللاّانتماء، الحضور والغياب… تدور رحاك حول جدليّة الثّنائيّات، دون القفز إلى مساحات أبعد من هذه الثّنائيّات، أقصد هاملت بصفته الكونيّ المتعدّد، لا الثّنائيّ.
من الجيد أنّك تتطرقين إلى هذا الموضوع. لكن من الصّعب الخوض في كلّ تفاصيل هذه الدّراسة، وأنا أحيل القارئ هنا إلى الكتاب نفسه الّذي صدر عن دار “كلّ شيء” في حيفا. وفيه قمت بدراسة مفهوم الصّمت فلسفيًّا وأنطولوجيا وتوصّلت إلى استنتاجاتٍ مُدهشة، فهذا المدخل مكّنني من قراءة واكتشاف شكسبير من جديد بوصفه كاتبًا وجوديًّا بامتياز. ونعم، طالما أنّك تسألينني عن تعدديّة ذوات هاملت، فهذا محور هام في الدّراسة ومثير للبحث، ويُشكّل مدخلاً هامّا لقراءة من نوع آخر لنصّ شكسبير في هاملت وعمومًا؛ قراءة تلقي بظلالها على كثير من الشّخصيات والأحداث والمواقف على نحو ليس متداولاً في النّقد الأدبيّ الشّكسبيري، وعلى الكثير من “المسكوت عنه” في النّص.
–أعودُ معك إلى مفهوم الصّمت المتعدّد: تعكفُ على كتابة من نوع آخر بعيدا عن الشّعر والموسيقى والبحث. القصّة القصيرة، واليوميّات. ماذا تحمل هذه الكتابة في طيّاتها؟ ولماذا تتجه الآن بالذّات إلى النّثر من بابَين مختلفَين عن دفيئتك الأولى، الشّعر؟
باعتقادي أنّ الفكرة سابقة للنوّع الفنيّ، وهي بالتّالي الّتي تُملي إلى حدٍّ مّا الشّكل، فالفكرة تأتي عادة من طبيعة “الصّمت” أي من طبيعة وجودها الفائق الّذي يسبق تحقّقها بالفعل، وهي حين تتحقّق فهي تتحقّق بلغةٍ مّا وبشكلٍ مّا وبإيقاعٍ مّا، طبعًا لا شيء نهائي، فبين لحظة الانفعال الأولى ومراحل “اكتمال” العمل الفنّي مساراتٌ تتغير فيها عوالم شتّى على مستوى المضمون والشّكل، لكن ثمّة بدء، غالبًا ما يحدّد بطبعه وطبيعته النّوع الفنيّ.
كتابة اليوميات، أو ما أسمّيها “دفاتري اليوميّة”، هي الطّريقة الوحيدة الّتي يُمكن فيها العودة بالزّمن إلى الوراء. هذا النّوع من الكتابة ليس عمليّة استذكار وحسب، بل إعادة مُعايشة وإعادة وعي اللّحظة، بل وإعادة إنتاجها على نحو مّا. أنا لا أكتب “الدّفاتر اليوميّة” في آخر كلّ نهارٍ، لا ليس الأمر وسواسًا، بل أفعل ذلك بين فتراتٍ متباعدة. هذا ما أسمّيه “الزّمن الأخلاقي”، بمعنى أنّنا لا نستطيع العودة إلى الماضي إلاّ بالمعنى الأخلاقي للكلمة. هل من وسيلة أخرى للتّغلب على عدونا الرئيسي: الزّمن؟
بالنّسبة لكتابة القصّة، فمن طبعي وطبيعتي التّنوع والتّعدّد؛ قالها لي أحد الأصدقاء ممازحًا ذات مرّة، إنّني رينسانسيّ (نهضوي) المزاج والطّبيعة. نعم، ربّما هكذا هو حالي، وأعتقد أنّ هناك أكثر من فائدة حين نخرج من ذاتنا الواحدة أحيانًا لنمكث في ذاتٍ أخرى وأخرى، أي الخروج من الذّات الشّعريّة مثلاً إلى تلك الموسيقيّة أو تلك النثريّة أو القصصيّة إلخ… فهذا يمنح الأطباع متّسعًا من التّنفس والتّهوئة من جهة، وإطلالة جديدة من نافذة أخرة على هذه الأطباع عند العودة إليها من جديد. أمّا لماذا القصّة أو لماذا الشّعر أو لماذا الموسيقى، فهذا، كما قلت، يتعلّق بطبيعة الأفكار وما تستدعيه من شكل وأسلوب وإيقاع ولغة.
خطّ واحدٌ لا يصنعُ دلالة
– كيف تتطابق/تتحاور مادّة “علميّة” كالموسيقى، مع الشّعر بصفته مادّة “عاطفيّة”؟ تعال نعرّف معك من جديد هذه العلاقة: نشاز وتناغم، متنٌ وهامش، روح تجاورها روح أخرى؟
ثمّة شروط أوليّة لممارسة أي فنّ في الحدّ الأدنى. امتلاك اللّغة أولاً، ثمّ تأتي فنيّة اللّغة ويأتي الأفق المعرفي والثّقافي والموهبة وغير ذلك… الإنسان، كلّ إنسان، يملك لغة يتحدّث بها، ولو في الحدّ الأدنى، وبها المخزون البسيط يمكن أن نجرّب الكتابة ومنها الكتابة الشّعريّة، من هنا، يكتفي البعض بهذه المعرفة اللّغويّة ويخوض في تجربة الكتابة. نعم، ما زلنا نتحدّث عن الحدود الدّنيا والبدايات المتواضعة، ولكن حتّى هذا غير ممكن موسيقيًّا، لا لشيء سوى أنّ معظمنا لا يتعلّم الموسيقى لغةً منذ طفولته كما نكتسب اللّغات الكلاميّة. فحتّى هذا الشّرط الابتدائي لا يكون في متناول غالبيتنا. لكن، إذا افترضنا أنّ أحدًا يملك هذا العلم البسيط الأوّلي في الموسيقى كما يملك غالبيتنا الحدّ الأدنى من اللّغة الكلاميّة، فعندها، سننتقل إلى الأسئلة ما بعد هذه المرحلة، وهناك ستخضع تجربة التّأليف الموسيقي لشروط يجب أن تخضع لها أي ممارسة فنيّة أخرى. ما أضطرّ إلى قوله لتلاميذي، عادةً هو أكثر ما أتعلّمه بنفسي، وهنا أطلب من تلاميذي أن يتعاملوا مع النّص الموسيقي أو الأدبي كما لو كان عمارة. ففي الهندسة المعماريّة يجب أن تقف العمارة أوّلاً ولا تقع في كلّ الحالات؛ هذه هي نقطة البدء، ثمّ تأتي الجماليات. بمعنى أنّني لا أفهم جماليات قصيدة أو مقطوعة موسيقيّة لا تتوفّر فيها شروط الوقوف على الأقدام أوّلاً، ولا تتوفّر فيها مقوّمات الصّمود “البنيوي”؛ أمّا ما هي هذه المقوّمات، فهذا موضوع لا يُناقش في سطور، بل هذا في صميم تجربة العمر الّتي نكرّسها لتطوير وتهذيب هذه القدرات؛ ففي الهندسة ثمّة فيزياء وأرقام وحسابات قوّة، أمّا في الموسيقى والأدب فالمسألة أعقد. فما معنى أن نؤلّف سمفونيّة؟ هذه مهنة لا يعرفها العرب! لذلك فإنّني بالكاد أجد رواية عربيّة تؤثّر بي، فالرواية هي عمل سيمفوني بامتياز.
-وماذا عن الشّعر؟ أليست هذه المقابلة بين التّأليف الموسيقي والتّأليف الروائي مجحفة وقاسية في حقّ الرواية العربيّة الّتي تؤسّس لمعماريّتها، والرواية أكبر حقل بوليفوني اليوم في الأدب؟
لا أريد أن أعود إلى شرح البديهيات، لكن في تاريخ الشّعر العربيّ والعالميّ عمومًا، ثمّة أشكال ثابتة، أوزان، قوافي، تصميمات، وحتّى موضوعات، تأطّر الشّعر فيها وبها، وشكّلت له قوانينه المعماريّة إن صحّ التّعبير. اليوم، وبعد أن فقد الشّعر كلّ الأطر التقليديّة، وصار يعيش خارج أي إطار أو شكل محدّد سلفًا. في زمن “الحداثة” وما بعدها، إن صحّت هذه المُسمّيات، باعتقادي أنّ القانون المعماري (قانون القوّة) للقصيدة، القصّة، الرواية إلخ… يستمدّ قوانينه ويُشكّلها من داخل الكتابة العينيّة ذاتها، لا من خارجها؛ بمعنى، أنّ ثمّة “متانة” داخليّة، وثمّة “تحديدات/ رصانة” داخليّة، وثمّة “ترابطات/ تشكُّلات/ تواشجات/ عوالم…” يجب أن تتوفّر لتُشكّل معماريّة العمل الفنّي بعينه ولا تتركه في مهبّ ريح الشّطح والتّشتت البنيوي. ما عدا ذلك، يظلُّ ممكنًا، بشرط أن ينجح في “إقناع” المتلقّي… فالقانون الوحيد الثّابت في الفنّ، برأيي، هو “اختراق القوانين”، وإلاّ يُصبح العمل الفنّي، عمومًا، محض تكرار وتنويع على ما سبق.
هناك عبارة للرسّام الفرنسي ديلاكروا يقول فيها: “ثمّة خطوط مسخيّة… إنّ خطّاً لا يصنع وحده دلالة؛ يلزمه خطٌّ آخر ليمنحه تعبيراً…”
وهناك سؤال هامّ أفترض أنّ من الجدير أن نطرحه على أنفسنا دائماً: ما هي نقطة البدء الّتي تسبق تأليف عمل موسيقي أو أدبي، مكتوب أو مسموع، أيًّا كان نوعه؟ والجواب البسيط هو “الصّمت”؛ صمت الورقة البيضاء، وصمت الفضاء الصّوتي. ومن هنا، فإنّ هويّة العمل الفنيّ بوصفه ذلك “الصّائت/ المُفصح” لا يمكن أن تتشكّل دون أن نطرح السّؤال عن هُويّة “الصّمت/ غير المُفصح” الّذي يُشكّل خزانة الاحتمالات لكلّ ما يُمكن أن يتحقّق ويُفصح عن ذاته كتابةً أو صوتًا.
الموسيقى العربيّة ثقافة ارتجال وتذكّر
–في اشتغالك في حقل الموسيقى، أثرٌ واضح لرسالة كَونيّة. الموسيقى تفتّت وتفكّك حضور المعنى الواحد ودلالة المعنى الواحد. مثلها مثل الشّعر والرواية. في رأيك، هل ساهَمت الموسيقى، كحَقل معرفيّ، في رفع الجسد العربيّ بوجه عام والفلسطينيّ بوجه خاصّ الجريح والمحاصر والمحتل والمهزوم، إلى منطقة، ولو حدوديّة تأمليّة على الأقلّ، لفَهم وفتح هذا الجسد على دلالات تتجاوز مفهوم الهزيمة؟
أوّلا لنتّفق على تعريف واضح للموسيقى. بالنّسبة لي أنا أفصل بين الغناء، وخاصّة الشّعبي، وبين الموسيقى المحض. وماذا أعني بذلك؟ ثمّة فارق بين تلحين نصّ شعري أو كلامي، بمعنى تلبيس النّص الكلاميّ لباسًا لحنيًّا خطيًّا تابعًا، وبين الموسيقى بوصفها لغة تفكير خالصّة. فتأليف سوناتا لآلة موسيقيّة أو سمفونيّة لأوركسترا يتطلّب نوع آخر كليًّا من التّفكير والمعرفة والخيال. لا نتحدّث هنا عن شكل أو جانر موسيقي دون غيره بقدر ما نتحدّث عن نوعيّة تفكير ينطلق من اللّغة الموسيقيّة ذاتها وينتهي بها وإليها، ولا يكون خطيًّا سرديًّا بالضّرورة، بل غالبًا ما يكون متعدّد الأصوات ونسيجيًّا، لا بالمعنى التقني فقط، بل بالمعنى الفلسفي الواسع أساسًا.
في الفضاء الثّقافي الموسيقي الفلسطيني هناك تجارب وأسماء محدودة تشتغل في الموسيقى بمعناها الّذي حدّدته هنا. وهذه الأعمال والتّجارب لم تكتسب صيغة تراكميّة بعد؛ بمعنى، لا توجد في الحياة الثّقافيّة العامّة في فلسطين كونسرتات دوريّة تُسمع فيها هذه الأعمال وتؤثّر، ولا تُدرّسُ بشكل منهجي وتراكمي ومؤثّر في المعاهد الموسيقيّة المعنيّة، ولا هي جزء من اهتمام الميديا العامّة، ولا هي موثقّة بشكل مريح لأي باحث أو دارس أو مهتمّ لكي يتناولها بشكل أو آخر. بكلماتٍ بسيطة، هذه اللّغة لا تزال على هامش الثّقافة الّتي هي بالأساس ثقافة كلاميّة فصيحة، وبالتّالي فإنّ تأثيرها لا يزال ضئيلاً جدًّا. ولكن، هذا الحضور الهامشي في اتّساع نسبي، وهذا مؤشّر يمكن أن يُبنى عليه في المستقبل. المهمّ أن تتمأسس الثّقافة الموسيقيّة في المجتمع الفلسطيني ويُرصد لها من الميزانيات ما يمكنها من الحضور الفاعل والمؤثّر كما هي عليه في مجتمعاتٍ أكثر تقدّمًا منّا مؤسّساتيًّا.
الخروج من “الهزيمة” عبر الموسيقى، إذن، هو خروج الموسيقى من اللّغة؛ لغة الهزيمة. فصل الموسيقى عن اللّغة الكلاميّة، بات أمرًا مُلحًّا لتخليص الفكر الفلسطيني من “اللّغة” (النّظام الرمزي) الّتي يتشكّل منها وفيها الخطاب السّياسي والثّقافي والفنيّ عمومًا. فإنّ كتابة “سمفونيّة فلسطينيّة” (وهنا أستخدم هذا المًسمى مجازًا لا بحرفيته بالضّرورة) تتطلّب قراءة من نوع لم يألفه “العقل” الفلسطيني (الكلامي) من قبل؛ قراءة طِباقيّة متواشجة، لا في طبقات الحياة الفلسطينيّة الشّديدة التّعقيد فقط، بل هي متواشجة مع طبقات الحياة البشريّة وثقافات العالم أجمع. للموسيقى القدرة على الولوج المباشر للعقل الإنسانيّ دون وساطات اللّغات والتّرجمات والمحمول الثّقافي الأيديولوجي لكلّ لغة وثقافة وخطاب. إنّها، في ذاتها، فعل تحرّر وانعتاق. بهذا المعنى، تكون الموسيقى فعل مقاومة لكلّ سلطة على العقل.
-دَعني آخذك الآن إلى منطقة تخوميّة بين الموسيقى الغربيّة والموسيقى في الثّقافة العربيّة. لديكَ أطروحة هامّة في هذا الباب تتأسس على قاعدة الحضور والنّسيان، الشّفهيّ والمدوّن. ماذا قدّم الغرب موسيقيًا للعالَم، واضح في مدوّنتهم الهائلة. فماذا قدّم العرب موسيقيًا-في مستوى الممارسة والنظريّة لأنفسهم وللعالَم؟
قُبيل سقوط الدّولة العباسيّة شهد ما كان يُسمّى بالعالم الإسلاميّ العربي بدايات نهضة فكريّة موسيقيّة على أثر ترجمة الأدبيات الإغريقيّة ثمّ تطويرها ثمّ إعادة تصديرها إلى الغرب فيما بعد على نحو جديد ومؤثّر في الثّقافة الغربيّة. هذه المنجزات، (الفارابي، الكندي، ابن سينا، الأرموي الخ) لمن يتمعّن فيها، هي الاثبات على أنّ “العرب” لم تملك نظريّة موسيقيّة وجاءت هذه المحاولات لوضع نظريّة للموسيقى العربيّة لم تسمح الظّروف السّياسة باستكمالها وتطويرها، فتمكّنت الثّقافة الغربيّة فيما بعد من الاستفادة منها والمراكمة فوقها دون العرب. وما كان شائعًا عند العرب بالدّرجة الأولى هو الغناء وتوابع من الموسيقى الشّعبيّة الملحقة بالغناء، أمّا ما يُمكن أن نطلق عليه اسم “مُؤلَّف موسيقي بحت” فلا وثائق أو مدوّنات أو مراكمات تشير إلى وجوده. وبحكم أنّ الموسيقى العربيّة لم تُدوّن يومًا، ولم تكن بطبيعتها وطبعها ثقافة تدوين و”نسيان”، بل ثقافة ارتجال وتذكّر، فهي لم تصل إلينا مباشرة ولم تتراكم معرفيًّا، وظلّت تعيش داخل المجتمعات ضمن وظيفتها ودورها الاجتماعي الطّقوسي أو التّرفيهي لا غير. هذه من الخواص الّتي جعلت للمغني وضعًاً اجتماعيّاً أهمّ من (الملحن) في الممارسة الموسيقيّة عبر الزّمن في الفضاء العربي، وهذه الميزة كانت مُسيطرة كذلك في ثقافة الغرب (في نوع الأوبرا تحديدًا) حتّى زمن غير بعيد (القرن التّاسع عشر، ومع قدوم روسيني في إيطاليا).
في القرن العشرين، حدثت طفرة شكليّة مع تمكين التّكنولوجيا للموسيقيين العرب من توثيق (وليس تدوين) أعمالهم، بمعنى أن البُعد التّوثيقي في التّدوين فقط قد تحقّق بفعل التّسجيلات الصّوتيّة وغيرها، لكنّ “التّدوين” بوصفه أبعد من مجرد تقنيّة توثيق، أي بوصفه عقليّة ماهويّة نوعيّة مختلفة للتّأليف الموسيقي والأداء، هذا لم يتحقّق في الثّقافة الموسيقيّة العربيّة، الّتي لا موروث لها بوصفها “موسيقى” أي بوصفها “فكرة موسيقيّة محض” أو “نظريّة موسيقيّة خاصّة”. ولو أردت أن أتحدّث بلغة العلوم أو الفيزياء تحديدًا (فيزياء الكم خاصةً)، فإنّ التّدوين هو شكل من أشكال “الرّصد” للفكرة، لا يُشاهدها ويراقبها كما هي في الطّبيعة إلّا بقدر ما يُغيّرها ويتدّخل في تكوينها، بفعل هذا “الرّصد” ذاته. “التّدوين” هو حالة وعي مختلفة تُعيد إنتاج موضوعها، لا تحتضنه كما هو في الطبيعة وحسب.
الموسيقي “العربي” اليوم أو “الفلسطيني” الّذي درس الموسيقى والتّدوين عبر سنين من عمره، هو يختلف، بحكم هذا المسار التّرشيدي، جوهريًّا عن “الموسيقي الشّعبي” التّقليدي، وهو ابن العالم، وليس ابن الثّقافة المحليّة. هنا ثمّة مُعضلة، أسوأ ما فيها هو ذاته أجمل ما فيها: وهو أن لا حلّ لهذه المُعضلة في الماضي (غير الموجود)، ولا حلّ لها سوى في المُستقبل عبر الإبداع. بتعبير آخر: الموسيقي العربي/ الفلسطيني اليوم هو بداية سلالة.
-لكنّنا لا نزال في معضلة الرّاهن. دعنا نضع إصبعا على مكامن العطب في المشروع الموسيقيّ الفلسطينيّ اليوم. هل يمكن توطين مشروع موسيقيّ جادّ ضمن حالة الفراغ أو الغياب الراهنين، وهل يمكن أن نقرأ المشروع الموسيقي والثّقافيّ الفلسطينيّ قراءة طباقيّة؟
الواقع الفلسطيني اليوم، سياسيًّا، هو واقع طباقي (متعدّد الأصوات)، والواقع الوجودي الإنساني هو كذلك بطبيعة الحال. أنا لا أستطيع أن أتصوّر واقعًا أحاديّ الصّوت حتّى داخل قطيع من الأغنام، فكم بالحري حين نتحدّث عن مجتمع إنساني حيوي وفاعل ومتحوّل كالمجتمع الفلسطيني! من هنا، لو أردنا أن نكتب “سمفونيّة فلسطينيّة” مجازًا أو حرفيًّا، فمن الصّعب أن نقارب الواقع التّعددي هذا في موسيقى من نوع آخر. هنا أي موسيقى خطيّة ستتحوّل إلى مجرّد حالة ترفيهيّة أو وظيفيّة، كما هو الحال في الموسيقى الشّعبيّة البسيطة، وهذا ليس مجال حديثنا.
لا أعرف ما هو تعريف “المشروع الموسيقي الفلسطيني” في هذه اللّحظة، ثمّة تراكمات جديّة كثيرة ينبغي أن تحدّث من أجل الوصول إلى مقاربات لمفاهيم من هذا النّوع، حتّى الآن من الصّعب بمكان أن نحدّد. قبل عام تقريبًا، ولأوّل مرّة، صدرت إسطوانة في ألمانيا (Deutschlandfunk) بمبادرة من “جدعون بوص”، تحتوي على مؤلّفات للبيانو لمؤلّفين موسيقيين فلسطينيين من بداية القرن العشرين حتّى يومنا هذا (بدءًا من سلفادور عرنيطة، ومرورًا بأمين ناصر، باتريك لاما، حبيب توما، نصري دويري، منير أنسطاس، ووصولا الى سمير التميمي ووسام جبران) وبآداء عازف البيانو الفلسطيني فادي ديب. هذا مثال على وثيقة تراكميّة يُمكن أن تُسمع وتُدرّس ثم يُبنى عليها، تأسيسًا أو نقضًا، ليس مهمًّا كيف، المهمّ أنّها تمثّل سلسلة من الحجارة في بناية موسيقيّة فلسطينيّة ممكنة، لو أخذنا هذا المثال وسواه مأخذ الجدّ. ما أريد قوله، هو أن ليس هناك أي عطب في “المشروع الموسيقي” الفلسطيني، لكن هناك عطب في المشروع السّياسي الّذي يُلقي بظلاله على السّياسات الثّقافيّة وما يتداعى عنها. هنا تكمن المشكلة الحقيقيّة، وهي أزمة مؤسساتيّة لا أزمة أفراد.