من حضارة الأدب إلى أدب الحضارة
حسن الأمراني
هل أدركت الحيرةُ الأدب حقًّا في عصر العلم -كما يرى عثمان نُوَيه- وهل فقَد الأدب رسالته أمام هذه الثورات العلمية الهائلة التي تكاد تُذهِل الإنسان عن نفسه؟ أم أن الإنسان اليوم صار بحاجة أكثر إلى ظل يأوي إليه من لأواء المدينة وهاجِرتها؟ وهل تَوقّف الأدب عن رسالته في الحضارات السابقة، وهي حضارات بلغت ما بلغت من الرقي الذي يكاد يقف الإنسان اليوم في نهاية القرن العشرين من منجزاته مذهولاً حتى يتوقف عن رسالته اليوم؟ ويحدثنا القرآن الكريم عن حضارات سالفة بلغت من الآثار والقوة والرسوخ ما لم نبلغه، فقال تعالى: -عز وجل-: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(غافر:82).
لقد أوتي داوود -عليه السلام- وذريته من بعده ملكًا عظيمًا، وألان الله له الحديد وصنع حضارة مادية خارقة.. وكذلك حال ولده سليمان -عليه السلام-، بل لقد أوتي سليمان ما لم يؤت أحد من العالمين؛ لقد آتاه الله تعالى ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وبلغت حضارته ما لا يمكن تصوره اليوم على الحقيقة، لا في سرعة الاتصال المسموع والمرئي فحسب، بل العيني أيضًا، وتشهد على ذلك -إن كان الأمر بحاجة إلى شهادة- قصته مع بلقيس ملكة سبأ صاحبة العرش العظيم بالوصف القرآني.
ومع ذلك كانت مزامير داوود -عليه السلام- رمز الروح والأدب والفن وكان إعجازها الباهر، فقال تعالى: -عز وجل-: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)(الأنبياء:79)، -عز وجل: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)(سبأ:10). وبقي على الدهر من عهد سليمان -عليه السلام- نشيد الإنشاد، أو بقي ذكره على الأقل، إذا كانت صورته المتداولة اليوم لا يجوز أن تنسب إلى نبي من أنبياء الله تعالى. وكل ذلك دليل على ضرورة تضافر أشواق الروح وصرامة المادة من أجل بناء حضارة إنسانية متزنة ومتوازنة.
نحن مدعوّون إلى تصحيح مسيرة الأدب، والانتقال من حضارة الأدب إلى أدب الحضارة، من أجل أن نجعل الأدب مساهمًا حقيقيًّا في البناء الحضاري الذي لا يستكمل شروطه الإنسانية إلا بالعناية بالروح، ومن أعظم تجليات تلك العناية الروحية العناية بالأدب والفن.
هذا ويصف “كُولِن ولسن” الواقع الحضاري المعاصر فيقول: “لقد بلغ الإنسان مركزه الحالي الرفيع في هذا العالم بفضل كونه أكثر المخلوقات عدوانية وعشقًا للمغامرة في الأرض. وها هو الآن بعد أن خلق لنفسه حضارة يسرت له الرفاهية، يواجه مشكلة لم يكن يتوقعها. فالحياة المريحة تنقص من قدرته على المقاومة والصمود، وبالتالي يجد نفسه مترديًا في حمأة تنعدم فيها البطولة”.
ويتحدث عن الشعر الذي يمكن أن يكون حلاًّ لهذا الواقع المتردي فيقول: “والشعر يجلب راحة عاطفية في طريق التخييل، وهو يعلّم الإنسان الثناء، لا عن طريق الإشارة إلى عجائب الكون كما يفعل العلم، بل بفضل خلق خيالات تحقق رغباته”.
هذه الرسالة التعليمية هي التي أكدها تراثنا العربي، وقد قال أبو تمام:
ولولا خِلالٌ سَنَّها الشِّعرُ ما دَرَى
بُناةُ العُلا من أين تُؤتَى المَكارمُ
كانت الحضارة العربية قبل الإسلام حضارة أدب، يحتفل العربي بالبيان ويحتفي به احتفاء عظيمًا. يحدثنا ابن رشيق القيرواني عن منزلة الشعر خاصة والبيان بعامة عند العرب فيقول: “العرب أفضل الأمم، وحكمتها أشرف الحكم، لفضل اللسان على اليد”، وقال مبينًا مكانة الشاعر العربي في قومه: “كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك” إلى آخر ما ذكر من مظاهر الاحتفاء. وما ذلك إلا لِما كان يقوم به الشاعر من دفاع عن قبيلته ونشر لمحامدها وتخليد لذكراها في الصالحين. ولكن الشاعر الذي كان يجد من قبيلته جل مظاهر الاحتفاء، قد يتحول فيصبح وبالاً عليها ولعنة يجر عليها من المخازي شيئًا كثيرًا. كما أن قصيدة من شعره قد تشعل حربًا ضروسًا تأتي على الأخضر واليابس. وقد يكون الشعر وبالاً على صاحبه، وقد ذكر ابن رشيق أيضًا عددًا من الشعراء الذين كان شعرهم سببًا في مصرعهم.
ولكون حضارة العرب في الجاهلية حضارة أدب، لم يكن يعنيها الحق بقدر ما كان يعنيها الدهشة وما يحمله الأدب في نفسه من صفات تدعو إلى الإعجاب، فكان بعض ذلك الأدب حاملاً لقيم الباطل والانحراف والشر. وارتبط كثير من البيان بالكهانة والسحر، وكانت زمزمة الكاهن وجهًا من أوجه ذلك… إلخ.
ولما جاء الإسلام صحّح هذه العلاقة؛ علاقة الأدب بالحضارة، فاستنكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سجع الكهان لما يحمله من قيم الباطل وما يسقطه من أهل البيان من الحق، ونعى القرآن الكريم على فئة من أهل البيان زخرف القول، وجعله مرتبطًا بالشياطين، فقال تعالى: -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ)(الأنعام:112-113).
وقد أسس الإسلام قولاً وفعلاً أدب الحضارة، فجعل الأدب رساليًّا ونزّهه عن العبث، وتلك خصيصة من خصائص الإسلام التي تشمل الوجود كله، فكيف إذا تعلق الأمر بالكلمة التي جعلها الإسلام مدار الحياة في الدنيا وبها تتأكد المنـزلة في الأخرى، إذ لا مجال للفوز والنجاة إلا بتكريم الكلمة التي أعلاها كلمة التوحيد.
ولم تكن توجيهات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للشعراء غير تأكيد لهذا التوجه الرسالي للكلمة الجامعة بين الحق والجمال، فلم يعد الجمال نقيضًا للحق، بل مؤازرًا له ومتممًا، فلا جمال أصلاً إلا مع الحق. وكذلك انتهت تلك الثنائية المجحفة النكدة التي تتساءل: أيهما أولى، المتعة أم الفائدة، الحق أم الجمال؟
ولكن الأدب العربي أصابته بعد ذلك -في مراحل معينة من تاريخه- مظاهر من الانحراف، إما بفعل التآكل الداخلي وإما بفعل العوامل الخارجية نتيجة الاستضعاف الحضاري.
واليوم وفي هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر، وفي ظل العولمة وآثارها والتجاذب بين الحوار الحضاري وصراع الحضارات، وما ينتج عن ذلك كله من آثار تنعكس سلبًا وإيجابًا على كياننا الحضاري، نحن مدعوّون إلى تصحيح مسيرة الأدب، والانتقال من حضارة الأدب إلى أدب الحضارة، من أجل أن نجعل الأدب مساهمًا حقيقيًّا في البناء الحضاري الذي لا يستكمل شروطه الإنسانية إلا بالعناية بالروح، ومن أعظم تجليات تلك العناية الروحية العناية بالأدب والفن.
ولا بأس من الاستعانة مرة أخرى بكلام لـ”كولِن ولسن” وهو يتحدث من داخل المدنية الغربية ويرى آثارها المدمرة، ويبحث عن ملاذ في الشعر الذي هو قرين التصوف: “إن الرؤيا الصوفية تتم حين يزاول الإنسان نظرة عصفورية على الحياة؛ أي حين ينسحب منها ولو للحظة واحدة، فيرى منها قدرًا أكبر بدلاً من بقائه محصورًا ضمن البؤرة الضيقة بؤرة نظرته الدودية المعتادة”.
إن التوازن في كل شيء شرط حضاري، فالحياة التي أرادها الله تعالى حياة قويمة تحقق الاستخلاف الإنساني في صورته المثلى، إنما تقوم على الزوجية لا على الثنائية التي تفرض الانتصار لعنصر من العنصرين، الثنائية تضاد والزوجية تكامل، وقد قال تعالى: -عز وجل-: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(الذاريات:49-50). وهذا الإطلاق -عز وجل- (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) خليق بأن يبصرنا بحقائق الأمور المادية والمعنوية على السواء، كما أن من مظاهر ذلك، الفرارُ إلى إقامة سننه. ونحن إنما وقعت نكستنا الأدبية يوم غفلنا عن هذه الحقيقة، وعطّلنا سنن الخالق في الخلق، فجنح بعضنا إلى الثنائية المانوية بدلاً من الاستعانة بقانون الزوجية، ورحم الله أبا الطيب القائل:
وكم لظلام الليل عندك من يد
تخبر أن المانوية تكذب
وعلى أساس تلك المانوية المختفية، ظهرت المفاضلة بين المنظوم والمنثور، والمعنى والمبنى، والشكل والمضمون، والوضوح والغموض، والمتعة والفائدة، والحق والجمال، والذاتية والموضوعية، والفردية والجماعية، والحرية والالتزام… وما إلى ذلك من الثنائيات التي انعكست على الأدب ومجالاته. وهكذا، بدلاً من البحث عن خصائص كل عنصر ووظيفته وضرورته وعلاقته بطبيعة القول الأدبي، جنح الجانحون إلى إثارة المعارك الوهمية التي ألهتهم عن تحديد عناصر المعركة الحقيقية المتمثلة في طبيعة الأدب ورسالته ودوره في البناء الحضاري.