تجديد الدين في تونس: 200 عام من التفكير
ضياء بوسالمي
نشرت الصفحة الرسمية لدار الإفتاء في تونس بيانا بعنوان «هنيئًا للمرأة التونسية في عيدها الوطني»، تعلن فيه تأيدها لمقترح الرئيس الباجي قايد السبسي بخصوص مساواة المرأة بالرجل في المواريث.
يرى البيان أن مقترحات السبسي أتت لتدعيم مكانة المرأة، وتفعيل مبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات التي نادى بها الإسلام في قوله تعالى «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف»، فضلًا عن المواثيق الدولية التي صادقت عليها تونس، والتي تعمل على إزالة الفوارق في الحقوق بين الجنسين.
تفتخر دار الإفتاء بأن تونس نموذج للحداثة ومواكبة العصر، وأن نساءها رمز للمرأة العصرية، التي تعتز بمكانتها وبما حققته من إنجازات لفائدتها ولأسرتها ولمجتمعها.
هذا البيان جاء عطفًا على إعلان السبسي أن بلاده ستمضي في إقرار المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، بما في ذلك المساواة في الإرث، ومطالبته بتغيير القانون الذي يمنع زواج المرأة التونسية من أجنبي غير مسلم، نظرًا للمتغيرات التي يشهدها المجتمع وسفر المرأة إلى الخارج للعمل أو الإقامة.
لكن هذه القرارات والاقتراحات، والدعم الذي نالته من دار الإفتاء التونسية، ليست وليدة اللحظة، بل لها جذر تاريخي كبير، إذ نشأت في تونس منذ عقود طويلة حركة كان هدفها الأساسي تجديد الفكر الديني وتقديم رؤية معاصرة للنصوص الدينية المؤسسة (قرآن وسنة).
تأتي هذه الحركة كنتيجة لمجموعة من التراكمات التاريخية، التي أسهمت في تغيير الرؤى والانفتاح على ثقافات أخرى، ممَّا ساعد المفكرين والباحثين في تقديم وجهات نظر جديدة، قوامها التعامل مع الموروث كوسيلة/مطية للنظر إلى المستقبل.
مناقشة عن فكر الطاهر الحداد والسُّلطة الدينية
يحتل الدين مكانة مهمة في تونس، يمكن أن نستشفها بسهولة إذا دققنا النظر في عادات وتقاليد المجتمعات العربية عمومًا والمجتمع التونسي بصفة خاصة. انعكس التدين على النسيج المجتمعي، فأفرز تيارات متصارعة فكريًّا يسعى كلٌّ منها إلى فرض تصوراتها،انطلاقًا من قراءة ذاتية للنص المؤسس للدين الإسلامي: القرآن.
لعل أبرز أعلام حركة تجديد الفكر الديني في تونس الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1879 - 1973)، الذي درس في جامعة الزيتونة، وعمِد في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» إلى تحديد مجموعة من النقاط التي تعتبر ركائز أساسية في عملية التأويل. أي أن الاجتهاد يتحول إلى نطاق أوسع إذا أخذنا بعين الاعتبار حفظ المال والنفس، وغيرها من العوامل التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
هذه القراءات تخفف من سلطة بعض النصوص، مثلما يشير المفكر المصري في كتابه نصر حامد أبو زيد في كتابه «النص والسُّلطة والحقيقة»، ذلك أنها تمكِّن المجتهد من فتح باب التأويل مع مراعاة مصلحة الفرد.
هذا المنهج الذي اتبعه بن عاشور يعتبر مواصلة للنهج التحديثي الذي شهدنا بوادره في أواخر القرن الثامن عشر. فقد تصدى علماء تونسيون، على رأسهم العلَّامة محمد محجوب، إلى دعوة محمد بن عبد الوهاب، وهو ما يعكس اختلافًا جوهريًّا بين القراءة الوهابية والقراءة التونسية، فالأولى تهدر العقل وتعلي النقل (ما أُخذ عن الرسول)، أما الثانية فتراوح بينهما.
أرسى علماء الدين في تونس مجموعة من الآليات الفقهية التأويلية، التي تخول لهم التعامل بأريحية مع ما يشكُل عليهم من النص القرآني،ويظهر الانفتاح ورفض المنهج الوهابي في هذا الجزء من رد الشيخ محجوب:
«وقد زعمتَ أن الناس ابتدعوا في الإسلام أمورًا، وأشركوا بالله من الأموات جمهورًا في توسلهم بمَشاهد الأولياء عند الأزمات، وتشفعهم بهم في قضاء الحاجات. ولعمر الله إنك قد ضللت وأضللت، وركبت مراكب الطغيان بما استحللت، وشنَّعت وهوَّلت، وعلى تكفير السلف والخلف عوَّلت، وها نحن نحاكمك إلى كتاب الله المحكَم، وإلى السنن الثابتة عن النبي».
ما نلاحظه هو هذا الثبات على مستوى النص/الأصل الذي يكون مركز انطلاق للجانبين، لكن القراءة تختلف باختلاف البيئات والعوامل المؤثرة في كل مجتهد. فالشيخ محجوب متأثر بالمدرسة الأشعرية في قراءة التراث، التي تخالف المنهج الحنبلي المعتَمَد لدى الوهابية في استنباط الأحكام.
قد يهمك أيضًا: لماذا يعود بعض الملحدين إلى الدين؟
أبرز ما يميز حركة تجديد الفكر الديني في تونس هو التواصل المعرفي بين أجيال من الشيوخ والمفكرين،نقصد هنا تلك المعارف المكتسبة والمناهج المتبعة منذ عقود طويلة. فتونس لم تكن في معزل عمَّا يحيط بها، وتأثر علماؤها بحركة التنوير التي قادها محمد عبده في مصر.
الصدمة الإيجابية التي شهدتها تونس بعد الاستقلال كانت نتيجة تراكمات منذ القرن الثامن عشر.
القيم الكونية التي آمن بها مفكرون مثل الطاهر الحداد (1899 - 1935) جعلتنا نقف أمام موروث فكري حداثي سابق لعصره. فالحداد، الذي تلقى تعليمًا تقليديًّا، كان خير جامع بين القيم الكونية والإسلام، ولم يرَ بينهما أي تناقض أو تعارض،ونادى بتجاوز كل القراءات السطحية الرجعية، وهو ما دوَّنه في كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» عام 1930، الذي دافع فيه عن حقوق المرأة وطالب بمساواتها بالرجل.
هذا الطرح كان ثورة فكرية في ثلاثينيات القرن الماضي، حين كانت تسود نظرة دونية إلى المرأة، مدعمة بمجموعة من الحجج والمعتقدات الرجعية. كان الطاهر الحداد مثالًا حيًّ على ما بلغته حركة تجديد الفكر الديني في تونس منذ أواخر القرن الثامن عشر.
يعتبر الحداد أحد أشجع المفكرين في طرحه مواضيع كانت تعتبر من المحرمات، وإصراره على تغيير الأوضاع. ورغم أنه مات منبوذًا وكُفِّر، فإن إرثه الفكري أسهم في ظهور مجلة الأحوال الشخصية التونسية عام 1956، التي تعتبر ثورة تشريعية لا مثيل لها في بلدان العالم العربي، بما أنها جرَّمت تعدد الزوجات وأعطت مجموعة من الحقوق للمرأة، وسمحت لها بالتمتع بمكانة مهمة في المجتمع.
لعل هذه الصدمة الإيجابية التي شهدها المجتمع التونسي بعد الاستقلال كانت نتيجة تراكمات متعددة وإصلاحات بدأت تتدرج في أهميتها منذ القرن الثامن عشر، مرورًا بعشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وصولًا إلى مجلة الأحوال الشخصية. رُسِّخت مجموعة من القيم الكونية في لاوعي المواطن التونسي، الذي حسم أمره مع تعدد الزوجات وغيرها من الأحكام التي لا تتماشى مع واقع التطور المجتمعي.
كل هذا، إضافةً إلى مجانية التعليم، سيفرز لاحقًا مجموعة من المفكرين المعاصرين، يسعون اليوم إلى اكتساب مزيد من الحقوق ويطمحون إلى نشر فكر ديني مستنيروترسيخ ثقافة المواطنة، فما أهم ملامح خطابهم؟ وما الآليات التي يعتمدونها لتجديد الفكر الديني في تونس؟
كيف يرى المفكر محمد الطالبي تجديد الفكر الديني في تونس؟
«ديني هو الحرية»، هذه العبارة كانت المحور الذي يدور حوله فكر محمد الطالبي، لكن أفكاره النقدية لم تصل إلى الدين بسبب الرقابة.
في مسيرة أكثر من 60 سنة من التحديث وتطوير مجال التعليم، ومنذ الاستقلال وصولًا إلى ما بعد الثورة، ظهرت مجموعة من المفكرين الذين درس أغلبهم في فرنسا واطلعوا على مختلف التيارات الفكرية والمناهج النقدية. هذا الرصيد المكتسب من المعارف كان قاعدة لبناء منظومة فكرية صلبة في مواجهة خطاب ديني أصولي متطرف.
محمد الطالبي (1921 - 2017) كان أول الذين اشتغلوا على التراث وسعوا إلى تنقيته من الشوائب. في كتابه «ليطمئن قلبي» عام 2010، يُظهر الطالبي جوانب خفية من النص ويسلط عليها الضوء، ويدافع عن فكرة كونية القيم التي جاء بها القرآن، ويؤكد أنها لا تتعارض مع حقوق الإنسان.
«ديني هو الحرية»، هذه العبارة كانت المحور الذي يدور حوله فكر كتاب «مفكر حر في الإسلام»، الصادر عام 2002.
تعرض الطالبي لعديد من المضايقات من السُّلطة بسبب مقالات المنشورة في مجلة «جون أفريك» الفرنسية، التي ضمَّن فيها نقده للفكر الديني وموقفه من السُّلطة السياسية، فلم يتمكن من الوصول إلى عدد كبير من القراء في تونس، ولم تصل أفكاره النقدية في ظل نظام ديكتاتوري يفرض الرقابة على المفكرين.
قد يعجبك أيضًا: الإجابة تونس؟ نعم.. ربما.. ليس دائمًا
أسماء أخرى كان لها تأثير كبير في حركة تجديد الفكر الديني في تونس خلال العقدين الأخيرين، منهم ألفة يوسف، أول امرأة تونسية تدافع علنًا وبجرأة عن جوهر الحرية في الإسلام وحقوق المرأة.
في كتابها «تعدد المعنى في القرآن» عام 2003، الذي كان في الأصل أطروحة نالت بها درجة دكتوراه دولة، لم تحْدُ ألفة يوسف عمَّا كان يدافع عنه الطالبي، بل عززت هذا الموقف عن طريق التركيز على إحياء تراث لطالما كان مغيبًا، وبسَّطت الحجج التي اعتدناها في الموروث الإسلامي، وأماطت اللثام عن آراء فقهية غُيِّبت عبر التاريخ لأسباب سياسية.
وضعت يوسف قضية المرأة في صلب كتابها «حيرة مسلمة» في 2010، وطرحت مجموعة من الأسئلة عن موقف الإسلام منها، ثم أجابت بطريقة مبسطة.
على عكس عديد من المفكرين، سعت ألفة يوسف إلى استغلال الفرص المتاحة في الإعلام لنشر الفكر الديني المستنير، وتجديد الخطاب الذي اعتدناه منذ عقود. ففي برنامج «على هامش السيرة»، الذي بُثَّ عام 2007 على قناة «حنبعل»، كسرت ألفة يوسف تلك الصورة النمطية للشيخ الذي يحتكر الحديث في الدين في وسائل الإعلام، وكان محتوى البرنامج مهمًّا بما تضمنه من تبسيط في شرح النقاط المعقدة.
ألفة يوسف، وآمال قرامي، ومحمد الطالبي، ويوسف الصديق، مثقفين اختاروا خوض مهمة تجديد الخطاب الديني في تونس.
أسلوب التبسيط في الشرح لمواجهة الخطاب المتطرف وتجديد الفكر الديني هو ما تسعى إليه كذلك الدكتورة آمال قرامي، التي تهتم بمسألة الحريات في الدين، وشرحت ذلك بالتفصيل في أطروحتها «الاختلاف في الحضارة العربية الإسلامية» عام 2004، تناولت مسألة الردة في الفكر الإسلامي الحديث، وشرحت أن جوهر الإسلام هو الحرية، وأن التدين في الأساس مسألة شخصية لا يحق لأحد أن يتدخل فيها.
يوسف الصديق ثائرًا: لم تعجبهم ترجمتي القرآن للفرنسية لأني حليق اللحية
يمكن أن نقول إن المنع والرقابة هما العدوان اللدودان أيضًا للمفكر والأنثروبولوجي التونسي يوسف الصديق.
واجه مؤلف «هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها» عام 2004 مشاكل كثيرة بعد أن ترجم القرآن إلى اللغة الفرنسية، وأراد أن ينجز مجموعة من القصص المصورة تروي قصص القرآن، لكنه حوكم في 1992 ومُنع من إتمام المشروع.
لا يتوانى الصديق في التعبير عن آرائه بكل شجاعة، فهو يرى أن علينا أن نتعامل مع القرآن بصفته نصًّا تاريخيًّا، وأن نزع القدسية هو السبيل الوحيد الذي يمكننا من التنبه إلى حقيقة معانيه.
ألفة يوسف، آمال قرامي، محمد الطالبي، يوسف الصديق، وغيرهم كثير، هم مجموعة من المثقفين الذين اختاروا خوض مهمة تجديد الخطاب الديني في تونس، وكرسوا حياتهم للبحث في هذا المجال، رغم أنهم يعانون مجموعة من العوائق أبرزها موجة التكفير التي ازدادت بعد الثورة.
اقرأ أيضًا: الإسلام الوسطي مجرد أسطورة: الشعرواي نموذجًا
حلقة من برنامج «مغربنا في التحرير والتنوير»
تبدو تجربة الدكتور عبد الحليم المسعودي، مقدم برنامج «مغربنا في التحرير والتنوير» على قناة «نسمة»، تجربة مهمة على تشجيع حركة تجديد الفكر الديني ونشر ثقافة الفكر النقدي.
انطلقت الفكرة عام 2012 وتواصلت لخمس مواسم، استضاف خلالها البرنامج كثير من الأكاديميين والكُتَّاب، وناقش مسائل ثقافية، وفتح المجال أمام الجامعيين والمفكرين لبسط سُبُل تطوير الخطاب الديني. هذه التجربة رغم تفرُّدها لم تكن ناجحة، لأن اللغة المستعملة كانت بعيدة عن متناول العامة ويصعب على المتلقي فهمها إن لم يكن من المتخصصين، لذلك فإن البرنامج، رغم سعيه إلى كسر مجموعة من الأفكار الخاطئة، سقط في فخ النخبوية.
آمال قرامي تتحدث عن المرأة التونسية بعد الثورة
لا أحد يستطيع أن يشكك في أهمية ومركزية دور المثقف في تجديد الفكر الديني، وتقويض أي فكر يقوم على التطرف وإقصاء الآخر. وما يحصل اليوم في تونس، من تصاعد لقوى الإسلام السياسي التي تكرس خطابًا دينيًّا متطرفًا، خير دليل على عدم نجاعة الطرق التي يتبعها الجانب الذي يدافع عن الحرية.
يحدث تجديد الفكر الديني عن طريق قراءة إنسانية للتراث (قرآنًا وسنة)، ومحاولة تقديم آراء نقدية بناءة، بعيدًا عن الحساسية التي تنتج عن التقديس المبالغ فيه للنص. وبما أن الشعب التونسي شعب لا يقرأ (كأغلب الشعوب العربية)، فإنه من الضروري تطويع المؤلفات والبحوث الأكاديمية لتكون مفيدة ومتكاملة مع وسائل التواصل الاجتماعي، للخروج من الدوائر النخبوية الضيقة وتبسيط المفاهيم المعقدة وخلق تيار فكري مستنير يصل إلى العامة، يكون مضادًا للخطاب المتطرف الذي يحتل المساجد.
المصدر: https://manshoor.com/life/revolutionizing-islam-in-tunisia/