كيف تدهور واقعنا بعد الانتقال من الوحدة الجامعة إلى التجزئة المجهرية

محمد شعبان صوان

 

الفروق الحاسمة في: أولويات الصراع، ومصدر الشرعية، والسياسة الخارجية، والسياسة الداخلية، والهجرة، والمكانة التاريخية

●الفرق بين أولويات الصراع عند العثمانيين وعند حكام التجزئة

يلاحظ المتتبع سير الفتوحات العثمانية أنها كانت موجهة دائماً ضد الخارج الأوروبي، هكذا بدأت الإمارة على الحدود البيزنطية و استمرت متوسعة في أوروبا و لم يكن يشغلها عن ذلك إلا خطر يبدأها بالهجوم من الشرق مثل تيمورلنك (1402)، و حتى عندما التفت السلطان سليم و ابنه سليمان إلى الشرق (الصفويون و المماليك) كان ذلك جزءاً من عملية الالتفاف على الخطر الغربي (إسبانيا في شمال إفريقيا و البرتغال في المحيط الهندي و البحر الأحمر و خليج البصرة)، و مما يؤكد ذلك عدم دخول الخلافة العثمانية في صراع وجود ضد عُمان رغم اختلافها المذهبي مع الإمامة الأباضية، و بعد زمن من الصراع ضد البرتغاليين في سواحل بحر العرب، لم نر الدولة توقف صراعاتها الأوروبية لتشغل نفسها مع صراع قد يكون أقل حدة و أكثر يسراً ضد عمان، و السر في ذلك هو قيام أهل عمان بواجب الجهاد ضد الوجود البرتغالي على أكمل وجه قادهم في النهاية إلى تأسيس دولة واسعة لم يبخل عليها كثير من المؤرخين بصفة الإمبراطورية الممتدة من بلوشستان إلى شرق إفريقيا، و لو كانت عقلية العثمانيين كعقليات قادة التجزئة في زمننا، لأوقفوا مواجهتهم مع الغرب الأوروبي و كرسوا جهودهم للصراع الإسلامي الداخلي ضد الإمامة في عُمان، و لن يعدموا حينئذ المبررات كالخلاف المذهبي و الخروج عن طاعة ولي الأمر و غير ذلك من حجج أرباب التجزئة، بل لقد وجدنا العثمانيين يجعلون عُمان ضمن دولتهم و ليست عدوة لهم على الخرائط رغم أن سيادتهم لم تمتد فعلياً إليها، و من سلاطين عمان بدورهم كالسيد تركي بن سعيد (1863-1888) من يصرف شيوخ العرب عن تولي الإنجليز رغم أنهم ساعدوه ضد أخيه، و ذلك مثل قوله "نحن إذا احتجنا إلى حماية فإننا نطلبها من جارتنا و إخوتنا في الدين، الخلافة السَّنِية"[1].

و يمكننا كذلك القول إن وقف الصراع مع المغرب الأقصى كان بسبب الانشغال بالصراع مع أوروبا التي كانت سترحب كثيراً لو اقترح عليها العثمانيون تركها تفسد في الأرض للانشغال بإخوتهم، و كان العداء الصفوي-العثماني كالعداء المغربي-العثماني مستمداً من العداء العثماني الرئيس تجاه الغرب الأوروبي و ليس صراعاً طائفياً كما يحلو للبعض تصويره، فقد تصدى العثمانيون لتحالف الصفويين الشيعة مع أوروبا كما تصدوا لتحالف حكام المغرب السنة مع الإسبان، و تركوا حكام عمان الإباضيين يتصدون بأنفسهم للغزوات الأوروبية على المحيط الهندي و خليج البصرة، و ظل هذا هو الميراث العثماني حتى في زمن الضعف ثم التراجع فالهزيمة، و ذلك عندما نادت فكرة الجامعة الإسلامية في القرن التاسع عشر بمواجهة الهيمنة الغربية بجمع كل المسلمين أدناهم و أقصاهم تحت لواء الخلافة الإسلامية.

●الفرق بين مصدر شرعية الوحدة و عدم شرعية التجزئة

بينما قامت شرعية الخلافة العثمانية على الجهاد و مقاومة الغزو الأجنبي الصليبي و حماية ديار المسلمين، قامت "شرعية" دولة التجزئة على الاستسلام للأجنبي أو التآمر معه للاستقلال عن الكيان الإسلامي الجامع، و في كتاب مدرسي عربي يدرس للأجيال و يتباهى بلحظة تأسيس إحدى دول التجزئة يقول مؤلفوه من كبار الأساتذة و الدكاترة بعد سرد "الأخطار" التي أحاطت بهذا الكيان و من ضمنها "الخطر" العثماني الذي دفع الحاكم للجوء لبريطانيا طلباً للحماية و لأن يتعهد "عن نفسه و ورثته من بعده بأن لا يقبل وكيلاً من جانب دولة أو حكومة في أية قطعة من بلاده بغير موافقة الحكومة البريطانية، و لا يبيع، و لا يؤجر، و لا يرهن، و لا يعطي للتنازل، قطعة من أراضيه إلى دولة أو أحد رعايا دولة من الدول، بغير موافقة الحكومة البريطانية، و تعهدت الحكومة البريطانية في مقابل ذلك بما يأتي:

1-حماية الكيان من الأخطار التي يتعرض لها

-2-اعتباره إمارة مستقلة في شئونها الداخلية

-3-تثبيت النظام القائم"، و بعد هذه الصفقة "الرابحة" يعطي الكتاب للأجيال درساً عملية في طريقة تطوير العلاقة الخارجية ببريطانيا و ذلك برهن موارد البلاد تحت تصرفها، فقد أخذت علاقة الحاكم "تتوثق" مع الإنجليز، فعينت بريطانيا أول معتمد سياسي لها لديه، ثم تعهد ذلك الحاكم "بألا يمنح امتياز صيد اللؤلؤ في مياهه الإقليمية إلا لمن توافق عليه الحكومة البريطانية، كما تعهد بألا يمنح امتيازاً بشأن النفط في بلاده لأي شخص بخلاف الشخص الذي تعينه الحكومة البريطانية"[2]، و من الواضح كيف قلب المنهج مفاهيم الخطر و الاستقلال و العلاقات الخارجية، فأصبح الأخ خطراً، و الاستسلام استقلالاً ، و النهب علاقة وثيقة، و الهيمنة حماية، فصدق علينا المثل القائل: حاميها حراميها.

إنه من الظلم أن نحصر هذا الاستسلام بحاكم واحد، لأن هذا التسلسل في الأحداث لم يكن مقصوراً على بلد واحد أو حاكم واحد، جميع دول التجزئة قامت بطرق مشابهة من الاستسلام للخارج أو التآمر معه، و ليس ما سبق سوى مثل من أمثلة عديدة، فشتان ما بين عزة التأسيس على الجهاد و المقاومة في زمن الخلافة، و مذلة التأسيس على الاستسلام و التآمر في زمن الاستقلال الوهمي و التجزئة المجهرية.

●الفرق بين الضعف الطارئ في زمن الوحدة و الضعف الدائم في زمن التجزئة (السياسة الخارجية نموذجاً)

و كانت الدولة العثمانية تقوم بما يمكنها لحماية المسلمين في خارج حدودها كما تمليه عليها سياستها الخارجية العليا الممثلة في الجامعة الإسلامية ، و في ذلك يقول المؤرخان ستانفورد و إيزل شو "إن السلطان عبد الحميد سعى للقيام بدور خليفة كل المسلمين، و بدأ باستعمال حقه القديم في تعيين الموظفين الدينيين في الأقاليم العثمانية السابقة التي أصبحت تحت الحكم الأجنبي، و ذلك ليحافظ على نفوذه بين المسلمين في تلك الأقاليم، و هكذا كان يقوم شخصياً بتعيين القضاة و المدرسين و العلماء الآخرين المرسلين إلى مصر و قبرص و القرم و البوسنة و الهرسك و بلغاريا، و كان الحكومة العثمانية تحتج و تتدخل رسمياً متى سمعت أخباراً عن جور أو اضطهاد للمسلمين أينما كانوا، و قد استدعي القادة المسلمون المؤثرون من جميع أنحاء العالم إلى اسطنبول في زيارات مطولة لمد جسور التواصل و هو ما يمكن استخدامه و ما استخدم فعلاً لدعم مكانة السلطان-الخليفة، و قد وُجهت تحذيرات شديدة للبريطانيين و الروس و الفرنسيين أن أي عدوان على الدولة العثمانية أو على المسلمين الواقعين تحت حكم الأوروبيين يمكن أن يؤدي إلى انتفاضة إسلامية موحدة ضدهم بدعم كامل من العثمانيين، و قد أصبحت سياسة الجامعة الإسلامية سلاحاً استخدمه السلطان لمواجهة إمبريالية الدول الغربية الكبرى و الحركات القومية للأقليات التي تهدد الدولة"[3].

 فأين كل هذا من تخاذل و صمت السياسة الخارجية لدولة التجزئة و ضعفها و تبعيتها و تفريطها في حقوقها الضيقة فضلاً عن عجزها عن تمثيل و حماية إخوتها خارج حدودها الاستعمارية؟ أين هذا من تواطؤ دولة التجزئة الذي كان سرياً فأصبح اليوم علنياً، لا أقول مع الدول الكبرى التي كان الحصول على رضاها هي أمنية الأماني، و غاية الغايات عند الجميع أن تقبل بوكالة هذا الزعيم أو ذاك على مصالحها في بلادنا، بل أقول إن التواطؤ أصبح مع كيان حقير معاد لنا عداوة مباشرة هو الكيان الصهيوني الذي لا أستثني سلطة و لا حتى ثائراً لم يسع للانبطاح أمامه على حساب المقدسات و الشعوب و الإخوة و الجيران، و نجد الجميع يتنافسون في تمويل الحملات على غزة المحاصرة و إغراقها و خنقها، و في التآمر على ثورة القدس و الضفة و بقية فلسطين و يتداعون لإنقاذ الصهاينة من ورطتهم، أين هذا من ذاك؟ و الضد يظهر حسنه الضد.

●الضعف النسبي طارئ في زمن الوحدة و القوة النسبية طارئة في زمن التجزئة (العراق نموذجاً)

هناك فكرة تعترض على الحنين إلى الدولة العثمانية مقارنة بين وضع بلد كالعراق كان في زمن العثمانيين معرضاً للتخلف و الجهل و المرض و بين وضعه حين حصل على الاستقلال فأصبح متقدماً في نواح عدة أبرزها الصناعة ، و لولا الحصار و الحروب لظل صاعداً في تقدمه.

هذه الفكرة تعتمد على مقارنة وضع طارئ على حالة الوحدة الشاملة حيث الأصل هو القوة و التقدم كما يحكي تاريخ العثمانيين نفسه، بوضع طارئ على حالة التجزئة حيث الأصل هو الشرذمة و الضعف و التبعية، فالشذوذ لا يقاس عليه، و مع ذلك فالقوة المزعومة هنا هي أيضاً قوة نسبية لأن ما حققه العراق و مصر في القرن الماضي كان هو الذروة التي يمكن أن تصل إليها دولة التجزئة، و مع ذلك لم يكن في إمكان العراق التصدي للكارثة الدولية (1991-2003) لقلة الإمكانات المتاحة أمام دولة التجزئة لاسيما في ظل تكالب الإخوة والجيران الذين كانوا جزءاً من الكيان الواحد فيما مضى، ونفس الكلام ينطبق على عدم قدرة الحكم الناصري على درء نكسة 1967، فكيف يمكننا أن نقول إن عجز التجزئة في أزهى أحوالها هو المنقذ من حالة الوحدة التي لم تُعط في هذا القياس حقها كما كانت فعلاً لا كما تصورها الإشاعات و المسلسلات، و الدليل على أن الدولة العثمانية التي جسدت حالة الوحدة لم تستسلم للضعف الناشئ عن عمرها الطويل أنها قامت بمشاريع التطوير في العراق في عهد ضعفها في القرن التاسع عشر و هو تطور تحدث عنه كثير من المؤرخين و من يحب الاطلاع على شذرات منه عليه مراجعة كتاب ""داود باشا والي بغداد" (1817-1831) للدكتور عبد العزيز سليمان نوار، و كتاب "الإدارة العثمانية في ولاية بغداد من عهد الوالي مدحت باشا إلى نهاية الحكم العثماني 1869-1917" للدكتور جميل موسى النجار، مع وجوب الالتفات إلى أنه إذا كان مدحت باشا سياسياً فاشلاً فقد كان إدارياً ماهراً كما ذكر ذلك السلطان عبد الحميد.

و من لا يريد مراجعة التاريخ عليه أن يتذكر أن دولة فكرت و أنجزت مشروعاً عملاقاً كسكة حديد بغداد لم تكن مستسلمة لأعراض الشيخوخة و الزمن أو لعدوان الغرب عليها، كما لم تكن مهملة لوضع العراق و لا حتى جزيرة العرب حيث أنجزت سكة الحجاز أيضاً، و لولا التآمر الاستعماري مع العملاء العرب في الحالين لحصلنا على مشروعين عظيمين، و مع ذلك لم تتمكن دولة التجزئة من مجرد العودة لما تم إنجازه عثمانياً بالفعل، و تعطلت هذه المشاريع و دخلت عالم المتاحف و الأحلام، و هنا يمكن القول إن الضعف الطارئ على الوحدة يختلف جذرياً عن الضعف الملازم لحالة التجزئة.

خلاصة الحديث أن الضعف كان فترة طارئة في حياة الوحدة العثمانية المليئة بالقوة و الاستقلال و الاكتفاء لجميع أقطار الدولة، أما التجزئة فالأصل فيها الضعف و التبعية و الحاجة كما نشاهد في جميع دولنا اليوم ، و ما حققته قلة من الدول فيظل قاصراً عن مواجهة عوادي الغرب الذي لن يسكت على أية نهضة و لن يكون في مقدور أية دولة من دولنا مواجهته منفردة كما أثبتت حروب 1967 و 1991 و 2003 و من ثم لا يمكننا أن نجعل من أية طفرة حققتها التجزئة حالة طبيعية يمكن الاتكال عليها، فهي غير قابلة للاستمرار و سيتم قصفها عند أول فرصة ممكنة و لن تتمكن من الحفاظ على نفسها، خلافاً للوحدة التي نريدها و يمكننا بها أن نواجه كل قوى الظلام و العدوان كما أثبت التاريخ العثماني نفسه عندما كانت الدولة تحارب على أكثر من جبهة دون أن يمس جوهرها، و ما حنيننا إلى العثمانيين إلا حنيناً لوحدة جسدوا أفضل مزاياها زمناً طويلاً.

إن مشروع سكة بغداد الذي أنجزه الضعف العثماني لم تتمكن التجزئة العربية في أزهى أيامها من مجرد العودة إليه فضلاً عن التفوق عليه، و هو ما ينطبق على سكة الحجاز و غيرها من المشاريع الصناعية لاسيما العسكرية منها و التي جاهدت لتكون بمستوى عصرها فصنعت البنادق و المسدسات و المدافع و البرق الكهربائي (التلغراف) وسيلة الاتصالات في ذلك الزمن، و جمعت الغواصات و خططت لصناعة الطائرات و كادت تنجح لولا عقبة الحرب الكبرى، فأين كل هذا، لا من إنجازات التجزئة، بل من مجرد أحلامها التي لا تجرؤ على ملامسة هذه التخوم؟

●الجاذبية التاريخية للهجرة إلى بلاد الخلافة الإسلامية 

1-عندما كانت الدولة العثمانية و شمال إفريقيا مقصداً لهجرة الإنجليز

يقول الأستاذ نبيل مطر إن طاقة عصر النهضة في أوروبا دفعت الإنجليز نحو الاستكشاف شرقاً باتجاه الدولة العثمانية و غرباً باتجاه أمريكا، و قد أهمل المؤرخون علاقتهم المثلثة بشمال إفريقيا و أمريكا رغم أهميتها و تفوقها على بقية العلاقات في بداية الاستيطان في أمريكا، و كان هناك منذ منح الإمتيازات الأجنبية لإنجلترا سنة1580 عدد من الإنجليز يسكنون المشرق العثماني و شمال إفريقيا أكثر من عدد الإنجليز المهاجرين إلى أمريكا، و كانت دوافع عبور "الإنجليز التعساء القلقين"البحر المتوسط إلى شمال إفريقيا هي نفسها دوافع عبور الأطلسي إلى أمريكا، أي البحث عن الفرص و الثراء السريع، و كان القراصنة و التجار يجدون أن الفرص في شمال إفريقيا أكثر من الفرص في أمريكا، و كان كثير من الإنجليز "يهاجرون" إلى المسلمين و يعتنقون الإسلام، و ظلت أعداد الإنجليز الموجودين في شمال إفريقيا أكبر من عددهم في أي مكان في العالم حتى أمريكا برحابتها إلى ما بعد منتصف القرن السابع عشر، و رغم أن الإنجليز وحدوا في نظرتهم بين الهندي و المسلم فإنهم فضلوا العبور من لندن إلى اسطنبول أو الجزائر على العبور من مستعمرة فرجينيا في أمريكا إلى الأراضي الهندية، و تمكنوا من فرض أنفسهم الثقيلة على الهنود و لكنهم اضطروا لتعديل أنفسهم مع المسلمين بما يناسب شروط المسلمين "الكافرة"، و كانت الأفكار الاستعمارية الإنجليزية تنجح في قمع الهنود و لكنها لم تنجح في قمع المسلمين إذ يمكن للسلطان العثماني أن يقابل كل جرائم الإنجليز بمثلها كما فعل عندما أمر بذبح التجار الإنجليز و مصادرة أملاكهم انتقاماً من هجوم الأسطول الإنجليزي على تونس[4].

2-اللجوء إلى العثمانيين زمن ضعفهم

حتى في زمن الضعف و التراجع، كانت بلاد المسلمين هي الملجأ الذي يتطلع إليه الهاربون من ظروف بلادهم السياسية و الدينية رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت الدولة تعيشها في آخر أيامها، و على عكس الفكرة التي تصنعها أحداث اليوم، كانت الخلافة هي الحضن الذي يؤوي الجميع، و في هذا يقول المؤرخ دونالد كواترت المتخصص في التاريخ العثماني في حديثه عن الهجرة إلى الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر:"أما المهاجرون غير الطوعيين، أي المهاجرون اللاجئون، فكان من ضمنهم مسيحيو البلقان الباحثون عن ملاذ ديني، و الذين استقروا بأعداد صغيرة في كل من الرومللي (أي أوروبا العثمانية) و الأناضول، و هرب عدة مئات من المؤمنين القدامى (طائفة مسيحية أرثوذكسية اعترضت على إصلاح الكنيسة في روسيا في القرن السابع عشر) الذين كانوا قد هربوا من روسيا إلى مناطق الدانوب أثناء القرن الثامن عشر مرة أخرى إلى الأناضول سنة 1878 حين صارت تلك الأقاليم جزءاً من دولة رومانيا (أي أن المسيحي هرب من المسيحي و لجأ إلى المسلم)، و في منتصف القرن توطنت مجموعات من البولنديين و المجريين و القوزاق بالقرب من استانبول و في الأقاليم الأوروبية و مناطق غربي الأناضول، غالباً بعد إخفاق الثورات في بلادهم، و بينما كانت هجرات هؤلاء المسيحيين إلى الدولة العثمانية مدهشة، إلا أن أهميتها تخفت أمام الهجرات المسلمة الكبرى في فترة ما بعد سنة 1850 (أي أن الخلافة كانت ملجأ يتسابق الناس إليه و يتضاءل المدهش فيه إلى جانب الأكثر إدهاشاً)"[5].

3-اعتدال الهجرة من الدولة العثمانية في أضعف حالاتها

و عندما تراجع اقتصاد الدولة في قرنها الأخير اختار كثير من رعايا الدولة الهجرة إلى الولايات المتحدة كما يقول المؤرخ دونالد كواترت، ففي الفترة الواقعة بين 1860-1914 هاجر 1.2 مليون عثماني إلى أمريكا، و لكن الدولة العثمانية لم تكن فريدة في هذا الوضع لأنه في كل مكان في عالم البحر المتوسط و شمال أوروبا كانت الهجرة مزدهرة بحثاً عن حياة أفضل، و في تسعينيات القرن التاسع عشر هاجر أكثر من أربعة ملايين شخص من أوروبا، و في العقد التالي هاجر 7.5 مليون شخص، و كانت نسبة الهجرة العثمانية قليلة مقارنة بغيرها، ففي نفس الفترة السابقة هاجر من إيطايا وحدها ستة ملايين شخص يؤلفون 18% من السكان مقابل 5% فقط من الدولة العثمانية، و كانت الهجرة العثمانية في معظمها لأسباب اقتصادية و ما لبث ثلث المهاجرين أن عادوا إلى بلادهم (400 ألف) بعد الحصول على ثروات مناسبة و قاموا باستثمار خبراتهم و أموالهم في مشاريع محلية، ثم قفز عدد المهاجرين بشكل حاد في زمن الاتحاد و الترقي[6].

و يقول الدكتور زين نور الدين زين نقلاً عن تقرير بريطاني سنة 1894 جاء فيه حديث عن مظاهر التطور في الحياة اللبنانية و ارتفاع أجور العمال "و يبدو أيضاً أن مظاهر هذا الغنى و الازدهار مرده إلى رجوع عدد غفير من الذين كانوا قد هاجروا إلى البرازيل و الولايات المتحدة و أوستراليا لسنوات خلت، و بعد أن جمعوا ثروات عظيمة بشتى الطرق عادوا إلى أوطانهم ليتمتعوا بالعيش الهانئ ما دام عندهم المال الكافي"[7].

و السؤال الآن: كم هي نسبة الراغبين في الهجرة من البلاد العربية و اللجوء إلى دول الغرب في عصر التجزئة؟ و لعل الأسهل هو السؤال عن نسبة الراغبين في البقاء في بلادهم.

4-الانضمام للخلافة بين الحلم و القسر

قرأت عمن يريد أن يثبت وجوب قتال الممتنعين عن الانضمام إلى الخلافة، فلماذا لا يكون البحث أولاً عن جعل الانضمام إليها حلماً عند الآخرين كما كان قديماً و حديثاً وفقاً لما سبق؟ الغرب يبني جنة حصرية يحلم الناس بالوصول إليها و الحياة فيها و لو صاروا خدماً، فلماذا لا نبني بقدراتنا الهائلة و المبعثرة جنة يحلم الناس أن تصلهم كراماً لا أن يصلوها خدماً؟ إن تسخير قدراتنا الهائلة في هذا المشروع لبناء الأمة النموذج بدل رميها تحت أقدام الاستعمار و الاستهلاك لهو أفضل استثمار، و بدلاً من أن تكون ثرواتنا الهائلة مسخرة لبناء جنة الغرب للغربيين وحدهم، يجب أن تكون مسخّرة لبناء مشروع أمتنا للعالمين جميعاً، و لماذا لا نجعل الناس يقاتلون الظالمين للانضمام إلينا بدلاً من أن يقاتلوننا معهم، و أن يهاجروا للانضمام إلينا على الرحب و السعة بدلاً من الموت بين أمواج البحار، و أنا أتحدث هنا عن واقع كان قائماً بالفعل حتى في زمن الضعف و التراجع فضلاً عن زمن القوة و العز و ليس حلماً خيالياً.

●عن مكانة الدولة العثمانية في التاريخ

1-في التاريخ العام: "إن المواقف منقسمة تجاه فكرة الإمبراطورية ، و قد نُظر تقليدياً إلى الامبراطوريات الرومانية و الصينية و العثمانية بصفتها علامات بارزة للتقدم في التاريخ البشري، و كان يُنظر للإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة بنفس المنظار، و لكنها شُجبت بقوة أيضاً كونها عند التأمل فيها افتقدت أية شرعية أخلاقية" كما يقول المؤرخ البلجيكي جان لوك فالوت[8].

2-في تاريخ المسلمين: عندما ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية ذهل كثير من المسلمين و علمائهم، و كتبوا يعتذرون عن إعجابهم السابق ببطولاته و يشنعون عليه فعله و يطرون المآثر التاريخية للخلافة، و مما كتبه عنها الشيخ محمد شاكر (من أبرز علماء الأزهر و والد المحدث أحمد شاكر و الأديب محمود شاكر) في المقطم:"و هي البقية الباقية من مجد الإسلام و عهد النبوة الأولى، و هي العزاء الوحيد الذي كنا نتعزى به في نكبات الأيام و صروف الليالي"[9].

و في المعنى نفسه قال أمير الشعراء شوقي:

حَسَب أتى طول الليالي دونه****قد طاح بين عشية وصباح

3-في رؤية الأعداء: عندما أرادت بريطانيا الهيمنة على الهند قضت على منصب الإمبراطور المغولي (1857) و انتحلت الملكة فكتوريا لقب إمبراطورة الهند بدلاً منه لتحويل ولاء الهنود إليها، و عندما أرادت الدول الكبرى الهيمنة على المشرق العربي الإسلامي و تحطيم الكتلة الإسلامية قضت على منصب الخلافة الإسلامية لتقتسم البلاد العربية و تمنح فلسطين للصهيونية، أما عندما أرادت أمريكا بناء اليابان بعد هزيمة الحرب الكبرى الثانية لتكون معقلاً رأسمالياً ضد المد الشيوعي في شرق آسيا أبقت على منصب الإمبراطور و حافظت عليه ليكون مرجعية لليابانيين.

النتيجة: الدول الكبرى تعرف ما الذي يبني الأمم أو يحطمها، و هي تتصرف على هذا الأساس وفقاً لمصالحها المتقلبة، و الخلاف بيننا و بينها ليس مجرد سوء تفاهم بل تناقض من الجذور.

●تقويم الدكتور عبد الوهاب المسيري لدور الدولة العثمانية و موقعها من الحضارة الغربية

رغم أن المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري لم يكن متخصصاً في التاريخ العثماني، فقد قاده الاهتمام بالحضارة الغربية و علاقتنا بها و سعيه لبناء مشروع حضاري بديل إلى وضع يده على جروح غائرة في تعامل أجيالنا مع هذا التاريخ ضمن عملية استلابها التي تحتاج إلى تقويم، و من هذه العيوب الانحياز الأعمى للتاريخ الغربي على حساب التاريخ العثماني، و قراءة تاريخنا بعيون غربية، و دعا إلى إعادة التوازن لأنظارنا و إنصاف إنجازات العثمانيين، فقد قال في حديثه عن العلمنة الشاملة و الفكر إن علمنة التاريخ في العالم الثالث تأخذ شكل تزايد الاهتمام بالتاريخ الغربي و تفاصيله و افتراض المركزية الأوروبية فينشأ المرء و هو يعرف كل شيء عن التاريخ "المشرف" للثورة الفرنسية و لكنه لا يعرف شيئاً عن إنجازات الدولة العثمانية[10]، و يقول أيضاً في حواراته:"و حينما ظهرت الدولة العثمانية كان الغرب ينظر إلى الشرق الإسلامي في رهبة و خوف و احترام، فقد كانت دولة قوية لها رموزها و أسلحتها، و عندها من الحضارة و التقدم و التكنولوجيا ما يجعلها قادرة على أن تعطي بمقدار ما تأخذ"[11]، و عن مرحلة ضعفها يقول منتقداً مصطلح "الرجل المريض" الذي يصف فيه الغرب الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر و اقتبسناه من الغربيين دون نقد:"الصورة التي يجسدها المصطلح تجعلنا ننظر بكثير من الاشمئزاز على أسوأ تقدير و بكثير من الشفقة دون أي احترام على أحسنه، و ننسى تماماً أن الدولة العثمانية كانت تحمي شعوبها، رغم ضعفها و استبدادها، من الهجمة الاستعمارية الغربية التي عصفت بالعالم بأسره"[12].

●الهوامش

 


[1]- الدكتور سهيل صابان، الجزيرة العربية، الرياض، 2005، ص414.

[2] - دكتور نور الدين حاطوم و دكتور شاكر مصطفى و دكتور جمال زكريا قاسم و محمد عبد الفتاح عليان، تاريخ العرب الحديث و المعاصر للصف الرابع المتوسط، وزارة التربية، الكويت، 1977-1978، ص83-89.

[3]- Stanford J. Shaw & Ezel Kural Shaw, History of the Ottoman Empire and Modern Turkey, Cambridge University Press, 2002, Vol. II, p. 260.

[4]-نبيل مطر، الأتراك و الإنكليز و المغاربة في عصر الاستكشاف، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، 2012، ترجمة: د. محمد عصفور، ص 163-217.

[5]– خليل إينالجيك (تحرير)، التاريخ الاقتصادي و الاجتماعي للدولة العثمانية، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2007، ترجمة الدكتور قاسم عبده قاسم، ج 2ص 537.

[6]-نفس المرجع، ص 533-535.

[7]-زين نور الدين زين، نشوء القومية العربية مع دراسة تاريخية في العلاقات العربية التركية، دار النهار للنشر، بيروت، 1986، ص 50.

[8]- Robert Aldrich (Ed), The Age of Empires, Thames & Hudson, London, 2007, p. 220.

[9]-الدكتور محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مكتبة الآداب، 1962، ج 2 ص 38.

[10]-د. عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة، 2002، ج2 ص132.

[11]-الدكتور عبد الوهاب المسيري، حوارات (3): الهوية و الحركية الإسلامية، دار الفكر، دمشق، 2009، تحرير: سوزان حرفي، ص 20.

[12]-الدكتور عبد الوهاب المسيري، حوارات (1): الثقافة و المنهج، دار الفكر، دمشق، 2009، تحرير: سوزان حرفي، ص 344-345.

 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك