الجسد الجهادي: آليات السيطرة والتنميط

صالح محمّد علي أبو طويلة

 

مقدمة

تحاول هذه الورقة الكشف عن الآليات والممارسات التي تنتهجها التنظيمات الجهادية، للسيطرة على جسد العنصر المستهدف خلال مرحلة التجنيد، والتي تهدف إلى إعادة تشكيله وتنميطه بما يخدم أهدافها السياسية والإيديولوجية والعسكرية، ويتطلب ذلك منا محاولة أخرى في البحث عن طبيعة الرؤية الجهادية تجاه الجسد، فمن خلال تلك الرؤية تنبثق مختلف تمثلات الجهاديين نحو الجسد.

تدرك تلك التنظيمات أهمية الجسد ككيان يؤكد وجود الإنسان، ويحدد خياراته في الحياة؛ هذه الخيارات تسعى الرؤية الجهادية لتحديدها وتنميطها ضمن الرؤية الطائفية، والإنسان من خلال حواسّه المتفاعلة مع الواقع يستطيع تحديد مصالحه وخياراته، ويتمكن من التواصل مع العالم، لذا تسعى تلك التنظيمات إلى السيطرة على الجسد من خلال تقنين تفاعلاته مع البيئات المحيطة؛ وتقييد حواسه ومدركاته بما يقرب من مفهوم الحرمان الحسّي، والذي يقصد منه السيطرة على جسد وعقل المستهدَف، وإفراغه من حسه الإنساني الموجه للتفاعل مع جماليات الحياة ومعطياتها، وتهيئته لعملية التلقين الإيديولوجي، ويجب التنويه إلى أن تلك الإجراءات والتدخلات؛ لا تحيل بالضرورة إلى العزل الذي ينتج جسدا ضعيفا وهزيلا، كما جرت العادة لدى الرهبان المتقشفين والمنعزلين في أعالي الجبال، بل تعني مزيدا من التحكم والسيطرة وتنمية الجسد وضبطه واستثماره في مجال محدد هو مجال العنف والقتال.

يشكل هذا الجسد رأسمال ديني وثروة عسكرية؛ من خلاله يتم تنفيذ مبدأ العنف المقدس (الجهاد)؛ سواء بإفناء الآخر (المخالف)، أو إفناء الذات والآخر معا، ومن خلال هذا الإفناء تُحقق تلك التنظيمات أهدافها الدينية والسياسية؛ فالسلطات الدينية التي تُمارس على الجسد، وتعيد تشكيله واستثماره؛ تهدف إلى جعله جسر عبور نحو تنفيذ الأعمال الإرهابية، وحيازة السلطة المركزية والمتمثلة بإقامة دولة الخلافة في نهاية المطاف.

ومن هنا تتولد لدينا الإشكاليات الآتية: كيف تنظر التنظيمات الجهادية إلى الجسد؟ وكيف تمارس سلطتها على جسد المستهدَف خلال مرحلة التجنيد؟ وما هي الآليات والممارسات التي تتَبعها وصولا لتنميط الجسد وفق الرؤية الجهادية وأهدافها؟

وفي ذات السياق، نفترض أن التنظيمات الجهادية وفي سياق عملية التجنيد والوصول جسد فتيَ مقاتل يحقق الأهداف والتطلعات؛ فإنها تلجأ إلى استخدام آليات وتقنيات نفسية ومادية وفكرية للسيطرة على عقل وجسد المستهدف، وصولا إلى تنميطه وفق الرؤية الجهادية.

أولا: مفهوم الجسد بين الموروث الإسلامي والرؤية الجهادية

لقد ظل مفهوم الجسد في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة حبيس النص الفقهي التشريعي منه والسجالي، ولم يكن ثمة تصور فعلي للجسد؛ من حيث هو كيان له استقلاله الذاتي، وكانت الرؤية نحوه تحصره في وظائفه وارتباطه الميتافيزيقية أو السلوكية. كما اعتُبر ظاهرة توسطية تعتبر أحيانا وعاء للروح المحركة، وتشكل في حالة أخرى موطن نوازع غريبة وطبيعية يلزم ضبطها وإعادة تشكيلها[1]. وبقيت تلك الثقافة أسيرة النظرة اللاهوتية للجسد المخلوق من التراب والعائد إلى التراب، ولم تصل إلى الفكرة التي ترى أن أهمية فهم الجسد تكمن في كونها المفتاح الضروري لفهم الذات، لفهم الأنا لفهم الإنسان نفسه[2]. ومن الثابت أن الخطاب الفقهي الإسلامي يصوغ تصوراته ومواقفه ورؤاه للجسد، انطلاقا من كونه شبكة خطابية تعبر عن مصادر التشريع لكل الأحكام التي تتصل بحياة المسلم، والتي لا تخرج عادة عن مصطلحات الأحكام التكليفية، وفي الغالب يستمد هذا الخطاب سلطته من اعتماده على مصادر دينية مقدسة تحظى بإجماع المسلمين، وقوامها شواهد النصوص التأسيسية للإسلام[3].

تتمثل أهم وظائف الخطاب الفقهي الإسلامي القديم الاجتماعية والسياسية في ممارسة الرقابة الذاتية والطوعية للأفراد والجماعات على أنفسهم، انطلاقا من رسم صورة معينة للجسد المنضبط في الوعي والضمير، تكون معبرا لإخضاع السلوك لمعايير أخلاقية واجتماعية موحدة، وتيسر - من ثم - عملية إخضاع الكيان الاجتماعي لكل أنماط السلطة السائدة (دينية، سياسية، أخلاقية، قبلية، ...)[4].

ويشير مالك شبيل إلى مفهوم الجسد الإسلامي بأنه؛ مفهوم جامع للعناصر النصية والواقعية المتخيلة والتاريخية التي بلورتها الثقافة الإسلامية في ذاكرتها المكتوبة والشفوية بصدد الجسد، وبهذا يكون الجسد الإسلامي نتاجا لمختلف مكونات هذه الثقافة، لا فرق في ذلك بين التصورات السائدة والهامشية، ولا بين الفقهي والكلامي والتصوفي والفلسفي والشعبي والعالم[5].

إن الجسد السلفي الجهادي الذي تعمل التنظيمات الجهادية على تشكيله وتنميطه؛ ليس جسدا معزولا عن السياق التاريخي الذي تشكل فيه؛ ما يمكن أن نسميه بالجسد الإسلامي، ولكنه جسد مضاف إليه تنميطات جديدة فرضتها طبيعة تلك التنظيمات وأهدافها ورؤاها اللاهوتية، إلى جانب انتقاءات من الموروث الإسلامي؛ بهدف إعادة تشكليه وتنميطه واستثماره ضمن الرؤية الجهادية التي تتبنّى العنف والمفاصلة مع المجتمعات المعاصرة. فالجسد الجهادي هو جسد إسلامي أعيد تشكيله واستثماره، لتحقيق أهداف التنظيمات الجهادية العنيفة. ومن هنا، فإن الرؤية الجهادية تجاه الجسد تنبثق من عدة مرتكزات أبرزها:

1. ثنائية الروح والجسد

كانت مسألة ثنائية الروح والجسد مسألة قديمة مترسخة في الديانات السماوية عموما ضمن ثنائيات أخرى مثل؛ الجنة والنار والخير والشر...إلخ، وترى ويزة غالاز ((Ouiza Galleze بأن الميتافيزيقا تفسر علاقة الجسد بالروح على مبدأ الثنائية، على غرار العلاقات التأسيسية للفكر كتقابل الخير والشر أو الجنة والنار أو السماء والأرض أو الليل والنهار[6]. والنظرة الثنائية (جسد/روح)، (نفس/روح)، (عقل/ روح) كانت سائدة في الديانات والفلسفات القديمة.

عززت الثقافة العربية الإسلامية ثنائية الجسد والروح، ولأن الإسلام دين تنزيه، فإنه قد عضد في جميع المجالات حظوة الروح والروحاني. بالرغم من أنه قد ترك فجوات كبرى وفسحات مهمة للجسدي والدنيوي والشهواني، وكنتيجة لانغراس هذه التراتبية القدسية في نسيج الثقافة الإسلامية، حيث غدت تراتبية مؤسسة ومحددة للتصور الإسلامي للخلق والحياة، ظل الجسد مجال الغرائز والصبوات التي يلزم كبحها ومنحها صورة تتناغم مع العمل الإيماني للمسلم[7]. تبعا لذلك، يكون الجسد معبرا للوظائف الدينية والدنيوية؛ حيث ظل خادما للمقدس الإسلامي وسندا له. أما النصوص الفقهية التي منحت أهمية معينة لبعض قضايا الجسد كالحب والنكاح ...إلخ، فقد ظلت خاضعة للتصور الطبي أو الفقهي، بالرغم من الأهمية التي تكتسبها في بلورة تصور عربي إسلامي للجسد[8].

عبر ثنائية الجسد والروح، يتم انتزاع الجسد وتحويله إلى وسيلة - يتم إخضاعها والتحكم بها واستثمارها - لا غاية بحد ذاتها؛ ويبدو أن تلك الرؤية تبيح للجهاديين استثمار الجسد وتحويله إلى آلة قتل وتدمير، كما أنها تمنح المزيد من السلطة وفق هذا التقسيم؛ فالروح أسمى من الجسد، وهي خالدة بطبيعة الحال، والجسد عرضي يتعرض للفناء، وخلود النفس يكون بتحررها من الجسد.

يشير الباحث محمد الحاج سالم إلى مرحلة العزل الحسي أثناء عملية التجنيد لدى التيارات الجهادية وهي؛ تعطيل الحواس عن أداء عملها التي كانت تؤديها قبل الانتماء إلى الجماعة

كان أفلاطون يرى ضمن ثنائية (نفس/جسد) أن سبب كل الرذائل هو الجسد، لذا على النفس الحرة السيطرة عليه، ومن يملكون النفس الحرة هم الفلاسفة، فيجب أن يسيطروا سياسيا على العامة الدهماء المرتبطة بجسدها الذي لا يحمل إلا الغرائز[9].

تصبح هذه الثنائية مصدر خلخلة لوحدة الكائن البشري، تتيح لمدراء النفوس أو الأرواح التسلل والسيطرة على بشر منقسمين على أنفسهم، وعلى هذا النحو يفتح التقابل بين (الجسد والنفس) ثغرة واسعة يدخل منها مدراء الشريعة، بأوامرهم ونواهيهم ومشروعهم لهندسة الأجساد وللمجتمع[10].

ولذا، فإن النزعة التدميرية القائمة لدى التنظيمات المتطرفة تنبثق في جزء كبير منها، من هذه الثنائية، فالجسد له رسالة ومهمة واضحة ومحددة – وبما هو عبارة عن كتلة مادية زائلة وزائفة - هي إفناء الآخر المخالف، أو إفناء الذات (الشهادة)، وبالتالي تحرر الروح وانعتاقها، والتحاقها ببارئها، وتحقيق وعد الله، إن التقسيم الثنائي يحيل إلى التمييز والاستغلال للجسد، والتفنن بأساليب العنف والقتل والذبح والإرهاب.

2. الجسد الجهادي ككيان ثقافي يعبر عن الهوية الجهادية

الهوية الجهادية مركب يحوي عناصر فكرية وتمظهرات جسدية وأنماطا سلوكية عديدة متمايزة عن الهويات الأخرى، سواء أكانت تلك الهويات مرتبطة بالتيارات الدينية الأخرى داخل الحقل الإسلامي، أو الهويات الثقافية الأخرى داخل المجتمع الواحد.

لا يعقل تحديد هوية الذات خارج إطار الجسد وأدائه لفعالياته العضوية الفيسيولوجية والبيولوجية والنفسية؛ فالهوية الذاتية تقتضي الوعي بالذات والشعور باستقلالها بإرادة وغائية متعينتين، وشكلَ وجود مقترح، وآليات فعل ممكن، وأفقاً واقعياً للتفاعل الاجتماعي، وتلك فعاليات ومظاهر أداء مصدرها العضوي دماغ الإنسان وجهازه العصبي كما يؤكد العلم الحديث[11]. يشير لوبروتون (Le Breton, David) إلى أنّ الشرط الإنساني جسدي، حيث الجسد مادة الهوية على المستوى الفردي والجماعي، والفضاء الذي يمنح نفسه للنظر والقراءة وتقدير الآخرين، فبفضله نحن معنيون بانتماء اجتماعي، بجنس، بسنّ، بلون الجلد، وبخصلة فريدة في الإغراء[12].

ثمة تأكيد سوسيولوجي على أهمية موضوع الجسد في تحديد العلاقات الاجتماعية وهوية الجماعة، فالذات الفاعلة في المجتمع هي روح وجسد متكاملين؛ إذ لا يمكن تفسير الظواهر الاجتماعية دون الالتفات إلى ما يمكن أن يلعبه الجسد من دور حاسم في صياغة أنماط الفعل الاجتماعي، كما أن الجسد على حد تعبير بيير بورديو (Pierre Bourdieu)؛ هو تشييء لذوق الطبقة دون أدنى شك، وهو (الهابيتوس) الجسداني، فللجسد استعمالات اجتماعية من خلاله نعبر عن ثقافة ومعتقدات الشريحة أو الطبقة التي ننتمي إليها[13].

يشكل الجسد بمختلف تمظهراته وسلوكياته أحد أركان الهوية الجهادية، وعنصر مهم في الاحتفاظ بمخزون الثقافة الجهادية، ولذا فإن مسألة بناء وتشكيل الهوية لدى الجهاديين تأخذ مسارات عديدة، وترتكز إلى آليات وتقنيات تعمل على تنميط هذا الجسد وتمييزه، وإحداث انقلاب جذري في سلوكيات وعادات وعلاقات وتفاعلات جسد المستهدف مع محيطه ومجتمعه، فالجسد الجهادي يعمل على إنتاج وإعادة إنتاج المنظومة الدينية والثقافية للتيارات الجهادية العنيفة، ويرى الجهاديون أن مسألة الهوية مهمة وضرورية في سياق التمايز القائم على ثنائية المجتمع المسلم والمجتمع الجاهلي من جهة، وثنائية الجماعة المسلمة (الطائفة)، وباقي الجماعات، أو التمايزات والتمفصلات الناتجة عن مفهوم الولاء والبراء الذي يحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية للجماعة وسياقاتها، ويدرك السلفيون أن الجسد هو ركن الهوية الدينية الأساس، وهو الكيان الفيزيقي الذي تتجسد فيه تفاصيل الشريعة، والذي من المفترض أن يتم تشكيله وفق نموذج الجسد النبوي المنزّه. فقد اعتبر جسد النبي جسدا مرجعيا نموذجيا يتطلب الاحتذاء والمحاكاة[14].

في المجتمعات التي تقوم على الجماعة الواحدة لا يوجد الجسد بصفته عنصر تفرد، لأن الفرد بحد ذاته لا يتميز عن المجموعة ولا يعد إلا جزءا من الانسجام التفاضلي للمجموعة[15]. وفي تلك المجتمعات، لا يُسمح للأفراد بالتميّز إلا في حدود ضيقة، تكون الجماعة البشرية مصدر هوية الأفراد. وفي الغالب، يشبه أيُّ فرد أيَّ فرد آخر، فهو رقم في ضمن مجموع، المجموع هو ما يهم وليس الفرد؛ إذن من الطبيعي ألا تكون قيمة عليا للفرد ولا يُعامل جسده إلا كأداة ووسيلة في العمل الاجتماعي، وفي حالات الصراع والحرب مع الآخرين؛ كل فرد يغدو صورة للمجموع يعكس خصائصه وطبيعته التي اكتسبها منه في البدء، وفي المجتمعات البدائية، وما قبل الدولتية، تكون لهذا الواقع ضروراته ومسوِّغاته للحفاظ على حياة الجماعة[16].

لذا، فإن الجماعات الدينية عموما ومنها الجماعات الجهادية؛ تسعى لدمج جسد الفرد في المجموع، وعزله عن فرديته قدر المستطاع، هذه الرؤية لا تختص بها السلفية، أو الجماعات الدينية فقط، بل تختص بها المجتمعات التقليدية ما قبل الرأسمالية؛ والتي تعتبر أن الجسد جزء من الجماعة والبيئة المحيطة.

تبدو الشريعة نفْساً جمعية، تلغي اختلافات الأفراد، وتصبو إلى أن يكونوا متماثلين تماماً، لكن مجتمعا قائما على التناسب والتشاكل والموافقة والمشابهة هو مجتمع متماثل الأفراد، كأنما هم نسخ لأصل واحد، ما الفائدة من كثرتهم إذن؟ هذا التشابه مشروع سلطة في واقع الأمر، ولا يتماثل الناس إلا بفعل سلطة ضبط خارجية تفرض عليهم التماثل، وتنتج هذا التماثل وتعممه[17].

تنتج التنظيمات الجهادية الحديثة، رموزها وتطبع علاماتها على الجسد ليشكل روح الخطاب الجهادي، كما وتشتغل على إضافات جديدة على عموم الجسد الإسلامي، حيث تمنح المزيد من التمييز من جهة؛ وذلك في سياق إنجاز الهوية والثقافة الجهادية، كما وتشكل الجسد المعياري المقاتل عسكريا من جهة أخرى، والثقافة الجهادية - والجسد جزء منها - ذات أهمية كبيرة لدى التنظيمات؛ فهي تسعى إلى تشكيلها وتمييزها وتوسعة نطاق تفاصيلها لتغدو بناء متكاملا يضع نفسه مقابل الثقافات الأخرى، وبالتالي فإن كل ما يجري من قولبة وتنميطات تجاه الجسد الجهادي يعكس طبيعة المتغيرات التي طالت حركات الإسلام السياسي. فالجسد بكل تمفصلاته وتمظهراته يدخل في صلب الماهية الثقافية للمجتمع، وهو يضمر أشكالا لا حصر لها من التجارب الحياتية التي تمتد في الزمان والمكان[18]. ولذا، فإن إعداد جسد مقاتل قابل لتنفيذ العمليات العسكرية والانتحارية على حد سواء، هو أحد أهم استراتيجيات التنظيمات الجهادية.

3. الجسد الجهادي وسيلة لا غاية

في سبيل ترسيخ مسألة إفناء الذات وصولا للأهداف المرسومة؛ فإن الرؤية الجهادية تعمل على تحقير هذا الجسد والتقليل من قيمته المادية، وإلى تحويله كأداة لإفناء الآخر (الكافر أو المشرك). كما أن مسألة تحقير الجسد تلك؛ أخذت حيزا واسعا لدى بعض الديانات والثقافات المختلفة، وقد كافح نتشه Friedrich Nietzsche)) ضد من احتقر الجسد من المتدينين والفلاسفة؛ فيقول: "وأنا أقول لكم أيها المستهزئون بالجسد إن ذاتكم نفسها تريد أن تموت، وقد تحولت عن الحياة؛ لأنها عجزت عن القيام بما كانت تطمح إليه، وما أقصى رغباتها إلا إبداع من يتفوق عليها ولقد مضى زمن تحقيق هذه الرغبة، لذلك تطمح ذاتكم إلى الزوال أيها المستهزئون بالأجساد، إن ذاتكم أصبحت تتوق إلى الزوال، وهذا ما يدفع بكم إلى الاستهزاء بالأجساد؛ إذ قد امتنع عليكم أن تخلقوا من هو أفضل منكم، إن هذا العجز قد ولَّد فيكم النقمة على الحياة والأرض، وها هي ذي تتجلى شهوة في لحظاتكم المنحرفة دون أن تعلموا"[19]. ومن جهة أخرى، تظهر مسألة الرغبة في الانتقام من جسد الآخر المخالف لدى تلك التنظيمات، فلا يُكتفى بالقتل، بل يتم التفنن بالتعذيب والقتل وسفك الدماء باستخدام أحدث الأساليب المادية والتكنولوجية، ويظهر هذا الأمر لدى تنظيم داعش تحديدا. تتركز فلسفة داعش الجسدية بالأساس على تعذيب وإفناء جسد الآخر المختلف عنهم "الكافر" من وجهة نظرهم، يتم إعدام الجسد بطرق مختلفة يمكن حصرها بعدة طرق منها: قطع الرؤوس وصلب الجسد وفصل الرأس عن الجسد وإحراق الجسد وإغراق الجسد وتفجير الجسد. تلك هي التكنيكات الداعشية لاستهداف جسد الآخر المختلف[20].

هناك تخريجات فقهية سلفية ووهابية، ترى في الجسد قذارة دنيوية وغرائزية قميئة، وهو ما يجعله موضوعاً منبوذاً وجديراً بالإفناء، هذا التصور الأخلاقي لا ينتهي دونما ترسب للعنف المعكوس داخل عواطف المتطرفين؛ نتيجة تكفير المجتمع من ناحية، وبفعل حياة الانعزال الشعوري والجسدي من ناحيةٍ أخرى، كما أنَّ الحرمان الحسي والعاطفي الذي يرونه ضرورياً لإحياء الدين؛ كان شحناً مكتوماً للتخلص من أي جسد إن ظفروا به تحت طائلة السيف[21].

4. تنمية الجسد المقاتل

في إطار اهتمام تلك التنظيمات بالجسد المقاتل، فإنه يجري التركيز على صحة وسلامة جسد المستهدف وخلوه من الأمراض، وتبدي الرؤية الجهادية اهتماما كبيرا في تنمية الجسد غذائيا، والحفاظ على صحته من خلال الابتعاد عن العادات الصحية المضرة؛ كالتدخين والمشروبات الكحولية، والإسراف في الطعام، ويشمل التشريط الجسدي التدريبات الرياضية من خلال المراكز الرياضية والقتالية المغلقة، وحصل توجه كبير من قبل السلفيين الجهاديين على سبيل المثال في الأردن نحو الالتحاق بمراكز اللياقة البدنية وتخفيف الوزن وبناء الأجسام والرياضات القتالية، فالجسد الجهادي ينبغي أن يتميز بالقوة والمتانة والتحمل واكتسابه للمهارات البدنية والقتالية، ويرافق ذلك عملية اختيار لنوعية الأغذية التي تتوافق مع تلك الرؤية التي ذكرناها سابقا، ورغم ذلك وفي سياق التعود على التقشف؛ يتم تعويد الجسد على تحمل الجوع والعطش سواء من خلال الصوم المتكرر، أو من خلال مخيمات التدريب التي تعقد في نواحي الأرياف والمناطق الصحراوية والجبلية.

تشير ماني كرون (Manni Crone, 2016) إلى أن عمليات التطرف تنطوي - إضافة إلى الجانب الفكري الإيديولوجي - على تحول في القدرات البدنية واكتساب مهارات العنف، ليست المسألة أن العمليات التي تؤدي في النهاية إلى هجوم إرهابي تخلو تمامًا من الإدراك وتهتم بالقدرات المادية فقط، ولكن ارتكاب أي هجوم إرهابي يفترض مسبقًا معرفة متجسدة، أو نوع من المعرفة العملية حول كيفية التصرف، إنها تفترض مسبقًا "تقنية الجسد" التي تمكّن من ارتكاب العنف، ولا يتم اكتساب مثل هذه المعرفة حول كيفية استخدام جسد الشخص لأعمال العنف من خلال عملية فكرية فقط، بل من خلال الممارسة الجسدية والتدريب والاختلاط في الثقافات الفرعية العنيفة والبيئات الإجرامية[22].

يشير نتشه إلى أن الدين مثله مثل الفلسفة يعبران عن حالة الجسد من حيث قوته وضعفه، فإن كان الجسد فائضا من القوة والمقدرة؛ فإن الديانة تكون (أنثروبومورفية) تبرر أو تطبع الحرب والقتل والسرقة...إلخ، وعلى العكس، فإن الدين الذي يُنمذج السكون والفضائل الروحية والمحبة المفرطة، هو تعبير عن مرض الجسد وضعف طاقة قوته[23].

ثانيا: السلطة السلفية وآليات تنميط الجسد

انبثقت السلطة، في البدء، ونمت حول مادة الجسد، فصار موضوعتها الرئيسة، وحيثما وجد الجسد الحيّ الفاعل تحضر السلطة؛ فالسلطة هي كيفية نسج شبكة العلاقة بين مؤسسة السلطة والأجساد/ الذوات..، [24] ما يهمّ السلطة/ أية سلطة؛ هو الجسد؛ أن تستحوذ عليه، في النهاية، وأن تُخضعه وتستعمله وتستغله؛ الجسد الإنساني هو الجسد القابل لإعادة إنتاج ذاته/ طاقته في العمل والخدمة، في القتال...إلخ[25].

يشير فوكو (Michel Foucault) إلى أن الجسد هو موطن الاستثمار، وحلبة الصراع، وموقع المفاعيل المتكاثرة. إنه غارق مباشرة في ميدان سياسي، فعلاقات السلطة تمارس عليه تأثيرا مباشرا، إنها تستثمره، توسمه تروضه وتعذبه، تفرض عليه أعمالا تلزمه باستعراضات وتطالبه بإشارات، فالجسد لا يصبح قوة نافعة إلا إذا كان في نفس الوقت جسدا منتجا وجسدا خاضعا[26].

ويبدو أن السلطات التي تمارس إكراهاتها على الجسد الإنساني في كل زمان ومكان؛ تتغير وتتبدل بحسب الظروف والسياقات وطبيعة دوائر المقدس والمدنس. يتعرض الجسد لتمظهرات السلطة عليه، إذ تُمارس عليه من قبل الفرد نفسه، أو من أسرته، أو من أفراد المجتمع عدة سلطات؛ إما لتقويمه وبالتالي تطوير الجسد وبنائه، أو عقابه وإلحاق الضرر به، وهو في كل هذه الأحوال يظهر بوضعيات تلائم كل ما أجبر أو أريد منه القيام به[27].

إن التنظيمات الجهادية تعد أحد الحقول الاجتماعية التي تتعامل مع أفرادها بأنماط معينة من الإكراهات والتنميطات والترويض، وكل جماعة دينية تختلف في طبيعة هذه الإكراهات الممارسة، غير أنه لا يجب أن ننظر إلى تلك السلطات التي تُمارس على الجسد الجهادي بأنها تتم بشكل إكراهات مباشرة، وبطرق قهرية مباشرة معنوية ومادية، بل إنها تُمارس في الغالب بطرق دقيقة ومعقدة تقوم على الإغراء والإقناع والإيحاء، ومن خلال مبدأ الرقابة الذاتية المنبثقة عن روح الالتزام بالشريعة، ومبدأ المراقبة الخارجية المرتبطة بروح الطاعة والانقياد نحو المرجعية الدينية أو التنظيم. إن السلطة صنع وإعادة صنع جسدي، ولنكن أكثر وضوحا حين نقول بأن السلطة هي فن صناعة الأجساد[28].

1. آليات السيطرة والتحكم في العقل والجسد

الفكر السلفي يستهدف العقل والفكر أولا، فالعقل توضع له حدود وضوابط وإغلاقات معرفية، حيث يغدو عاجزا ومكبلا عن إحداث أية حركة في التفكير النقدي، ويصبح بذلك عقلا جامدا مغلقا على جملة من العقائد الدوغمائية غير القابلة للنقاش والنقد، فيما يتم الاشتغال على الجسد، حيث يغدو جاهزا لتنفيذ أهداف التنظيم، كما يغدو هذا الجسد مؤشرا إلى الهوية الطائفية، ويتم إخضاع المستهدف إلى تنميط وتشريط نفسي وجسدي مستمر لتحديد حركته في الفضاء العام، وتوجيه مدركاته الحسية للتعامل مع الواقع والحياة بطريقة ميكانيكية محددة سلفا؛ مرتبطة بدوائر المحرمات، وبذلك تكون إحدى مهام التنظيمات الجهادية هي؛ إعادة تنظيم حركة أجساد المستهدفين في الفضاء العام. إن ضبط أجساد الرجال، هو أحد ميادين التحكم المفضلة لدى الإسلام الحربي المعني بالمعارك والحرب؛ بقدر ما هو حريص على التحكم بالحياة اليومية للسكان وحركتهم في الفضاءات العامة. هذان وجهان لا ينفكان للظاهرة الإسلامية الحربية[29].

وفي ذات السياق، يرى فوكو بأن كل ما يكبل الجسد ويقيده ويعمل على إخضاعه؛ يقود إلى تكبيل العقل، ففك أغلال الجسد من آليات التوجيه والنفي والترويض؛ هو إطلاق سراح العقول من سراديب الحجر والزيف والإثارة والحاجيات المزيفة[30].

يستهدف الجهاديون في الغالب فئات اليافعين والشبان، وتلك الفئات تمتاز بالقابلية للتجنيد والتلقين، كما تمتاز بالهشاشة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية

2. تطبيق مبدأ الحرمان الحسي

يستهدف الجهاديون في الغالب فئات اليافعين والشبان، وتلك الفئات تمتاز بالقابلية للتجنيد والتلقين، كما تمتاز بالهشاشة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، غير أن تلك الفئات تمتاز أيضا بامتلاكها لأجساد فتيَّة قادرة على العمل والقتال وتنفيذ العمليات الإرهابية التي تتطلب مهارات جسدية عالية، ويدرك الدعاة الجهاديون المختصون بالتجنيد؛ أن الحرمان الحسي يمكّن من السيطرة على المستهدف وتفريغه من مختلف الأفكار والتطلعات، وتوجيهه نحو التلقين الإيديولوجي والتشبع بالأفكار الطائفية، وصولا إلى تجنيده وتدريبه وإعداده للمهمات القتالية، ويكون ذلك من خلال حرمان الحواس من القيام بوظائفها الطبيعية، أو تخفيض مستوى نشاطها وتفاعلها مع الذات والآخر والمحيط، ويتم تخفيض مستوى الأفكار الأخرى لدى المستهدف، وإبقائه ضمن منظومة معرفية محددة ومغلقة يتم تكرارها وتأكيدها، ويكون قابلا للإيحاء والتوجيه بشكل كبير.

لا يمكن الحديث عن الحياة نفسها إلا من خلال الحديث عن الجسد في نشاطه المستمر وحيويته الحواسّية الكاملة التي لا يقيدها قيد أو يمنعها مانع، باعتبار الحياة في نهاية المطاف هي عناق هذا الجسد للعالم، بيد أن حياة الجسد ترتبط في العمق بطبيعته البيولوجية، وبشكل أساسي بطبيعته نسقه الثقافي، لأن تعطيل اشتغال الحيوية الحواسّية ثقافيا واجتماعيا يمنع في العمق من هذا العناق، ويضر بحياة الجسد في نهاية المطاف؛ فالجسد كنسق تواصلي منذور للكشف لا للحجب، والا انتفى شرط التواصل، وبالتالي تضرر الاجتماع والعمران البشري، عاطفيا وحضاريا وجماليا بشكل عام[31].

ويمكن تقريب المفهوم المطبّق لدى المجنَدين الجهاديين بكونه عزلا جزئيا عن المحيط ومختلف المؤثرات، وليس حرمانا أو عزلا قهريا كاملا كما يحصل لدى السجناء والمعتقلين الذين يتعرضون لعزل مكثف عن الزمان والمكان؛ فالجهاديون لا يستخدمون الحرمان الحسي بتلك الطريقة القاسية، بل يوظفونها بطرق ناعمة لكنها قهرية، فعزل الإنسان عن حواسه وتقنين استخدامها في ظروف معينة وتحديد أنشطتها بالتخفيض أو رفع مستواها لدى المستهدَف؛ يتم من خلال آليات الرقابة الذاتية والغيرية المرتبطة بالنصوص الدينية ومحرماتها، والمرجعيات الدينية ومسؤولي التنظيم؛ وذلك يؤدي إلى أن يفقد المستهدف وجوده وشخصيته وكينونته، وبالتالي من الممكن تحويله إلى شخص آخر تماما، يكون قابلا للإيحاء وتنفيذ الأوامر بكل أريحية، وهذا ما يحصل لدى الانتحاريين الجهاديين.

يبين المستشار النفسي أحمد عكاشة أن عملية صناعة الانتحاري، تقوم بشكل أساس على ما يسمى بـغسيل المخ، ويشير إلى أن الدراسات النفسية تشير إلي أن الحرمان الحسي هو أفضل الوسائل من أجل الحصول علي غسيل مخ وصولا للإيمان بفكرة معينة، حيث يبدأ القيادي بتدريب المستهدَف، وإبعاده عن أية أفكار أخرى أو منبهات قد تؤثر على المخ، وعدم قراءة أي شيء بعيدا عن الدين، وهنا تكون لديه الجاهزية تماما للسمع والطاعة، والنظر في أفق واحد نهايته الشهادة في سبيل الله، فيما يشبه الحصان عندما توضع الغمامة على جانبي عينيه رافضا الاستسلام أو المناقشة، وكأنه في نفق لا يؤدي إلا للانتحار[32].

إذن ينبغي التفريق بين آليات مختلفة تمارسها التيارات المتشددة للسيطرة على الجسد والعقل، الآليات الأولى؛ وهي الآليات الدائمة والمستمرة والمستقاة من الموروث الإسلامي السلفي للسيطرة على الجسد وتطويعه وسلبه إرادته، وإخضاعه للمراقبة الذاتية والغيرية، والآلية الثانية، وهي الحرمان الحسي الكامل ضمن حالات مخصوصة تتعلق بالجهاديين الانتحاريين، والذي يتم من خلاله تهيئة المجنَّد لتنفيذ العملية الانتحارية.

يشير الباحث محمد الحاج سالم إلى مرحلة العزل الحسي أثناء عملية التجنيد لدى التيارات الجهادية وهي؛ تعطيل الحواس عن أداء عملها التي كانت تؤديها قبل الانتماء إلى الجماعة، فالعزل يشمل الصورة (مقاطعة التلفاز والصحافة ...إلخ)، ويشمل الصوت (الأغاني والإذاعة ...إلخ)، والرائحة (يتم استبدال العطور بعطور زيتية)، والذوق (تحديد المشروبات المباحة)، واللمس، كما يتم استبدال الزمن الفيزيائي بالزمن الديني، واستبدال التاريخ الموضوعي الخطي بتاريخ أسطوري دائري (زمن السلف)، كما توجد مرحلة تسمى التشريط الجسدي، وتتضمن اعتماد الرياضات القتالية والتدرب على السلاح الأبيض والاتوماتيكي، والتعود على الحرمان من الغذاء من خلال الصوم، والحرمان من النوم من خلال التهجد إلى جانب الأعمال الشاقة (التطوعية)، ويتم استخدام العزل أيضا من خلال تطبيق مبدأ الولاء والبراء[33].

3. تقنين عمل الحواس

إن السوسيوأنثروبولوجيا تذكرنا بأن أفعال الإنسان الناسجة لخيوط الحياة اليومية، سواء البديهي منها والأقل إدراكا، أو ما يجري في الحياة العامة، والتي تستدعي كلها تداخل وتفاعل ما يسمى بالجسدية، حيث إن النشاط الإدراكي الذي يجعل الإنسان في كل لحظة يرى ويسمع ويتذوق ويشم ويلمس..؛ يدفعه إلى تعيين إشارات وعلامات خاصة به، ومدققة للعالم الذي يحيط به، إنها تذكرنا أيضا بأن هذا الجسد الذي صنعه السياق الاجتماعي والثقافي الذي يخوض فيه الفاعل الإنسان، ما هو إلا ذلك الجانب الدلالي الذي من خلاله تتجلى واقعية علاقته بالعالم الخارجي والمكونة من الأنشطة الإدراكية والتعبير عن المشاعر، والخضوع لطقوس التفاعل مع الآخر، على مستوى الحركيات والإيماءات، صيانة المظهر، التفاعلات الحميمية، التقنيات الجسدية، صيانة الجسم، العلاقة بالألم ...إلخ، إذن الوجود هو أولا جسدي؛ ولذلك كل تضييق على الجسد أو حجب حواسه هو تضييق على التواصل والإبداع البشري[34].

وعلى الرغم من أن الرؤية السلفية التقليدية وأطرها الإيديولوجية تحفل عموما بعمليات تقنين فعالية الحَواس من خلال تكريس ذهنية التحريم التي تعمل على فصل الجسد عن وظائفه الطبيعية وفاعليته الأصيلة، وربطه بالمنظومة الإيديولوجية التي تحكم السيطرة عليه وتعزله عن ممارسة تفاعله وتواصله مع العالم والمحيط، إلا أن التنظيمات الجهادية تمكنت من إجراء تعديلات فيما يتعلق بحاستي البصر والسمع؛ للإفادة من التطورات التكنولوجية بطرق براغماتية. لقد شكلت مسألة التعامل مع التكنولوجيا البصرية والسمعية إشكالية كبيرة لدى الجماعات السلفية ما قبل ظهور القاعدة، وجاء الحسم لصالح التيارات الجهادية فيما بعد، والتي وجدت بأن التكنولوجيا أداة مهمة في الدعاية والترويج والعمل السياسي، وتطورت فيما بعد لتصبح سمة خاصة لمختلف التيارات الجهادية خصوصا تنظيم داعش، إذ اعتبرت الإثارة البصرية عبر الميديا ومقاطع الفيديو ذات المضامين الإيديولوجية الحالمة؛ إحدى وسائلها المهمة في الدعاية والاستقطاب، وتشكيل المتخيل الديني على الفضاء الافتراضي، ويمكننا القول بأن تركيز التيارات الجهادية خصوصا تنظيم "داعش"؛ جاء موجها نحو حاستي السمع والبصر بالدرجة الأولى، من حيث تقنين استعمالها في مجالات محددة، وتحفيزها في المجالات التي تخدم التنظيم، كالتكنولوجيا البصرية (ثلاثية الأبعاد)، والصوتية المتمثلة بالأناشيد الإسلامية ذات الإيقاع المؤثر والمضامين الطوباوية الحالمة، إذن مقابل حركة الإطفاء والمنع التي مارسها الجهاديون تجاه حاسة السمع؛ تم إيجاد بدائل سمعية أخرى ذات جودة عالية لكي يبقى المستهدف في سياق الجماعة وضمن رؤيتها، وتمثلت تلك البدائل بالشعر والأناشيد الجهادية، ومن هنا يتم تكثيف حضور الخطاب الصوتي المتمثل بالأناشيد الإسلامية والأشعار، لضمان الحضور الدائم للثقافة والإيديولوجية الجهادية، ولتثبيت دعائم تلك الثقافة، والترويج لها.

تلعب الممارسات دوراً أكثر أهمية وتأثيراً في جذب الجماهير العربية إلى الأيديولوجية الجهادية، وبالتالي فإن إعادة الانتشار الانتقائي للتراث الشعري الكلاسيكي له أثر في إثارة الروابط الثقافية العميقة، وإثارة العواطف، وحسم الحجج، والتغلب على الفجوات في المنطق، والاحتفال بالموت، وتمجيد المعركة، وبناء هوية جهادية، وتبسيط الحقائق المعقدة، ومعالجة الذاكرة الجماعية[35]... فموضوع النشيد هو أكثر من مجرد الاستماع. إنه أصل ثقافي مشترك يربط الناس في جميع أنحاء العالم، وبالتالي فهو أداة قيمة في خلق مجتمع جهادي عالمي.[36]

إن التلقين العقائدي والإعداد الروحي يجب أن يكون لهما الأسبقية على التدريب العسكري. بالنسبة إلى الجهاديين المتشددين، الشِّعر هو المفتاح لتحقيق ذلك، من خلال الوظائف العملية والإيديولوجية والعاطفية، وبالنظر إلى أن المجندين على مستوى القواعد الشعبية يميلون إلى أن يتشكلوا بقدر من العاطفة كما في الإيديولوجية، ويمكن للشعر أن يحقن الأفكار بعمق داخل الإنسان، من خلال مجموعة من التقنيات: الصور القوية، التلميحات التاريخية والمتوازيات، الجمال اللغوي، القافية أو الإيقاع والمقياس. يتم تأطير جميعها في إطار الصراع المروع الأوسع بين الخير والشر[37].

بالإضافة إلى دور الأناشيد في تنشيط الأيديولوجية بالعاطفة، فإن القدرة المميزة للموسيقى على تكوين روابط اجتماعية بين الأعضاء تجعلها جزءًا لا غنى عنه من استراتيجية الدعاية لجماعة راديكالية، كما أن الالتزام الإيديولوجي يمكن في بعض الأحيان أن يتماشى مع شعور الإرهابي بالترابط الاجتماعي؛ بمعنى آخر، يجد العديد من الأعضاء قيمة هائلة في الصداقات التي يشكلونها، وتعمل التجارب الموسيقية المشتركة كوسيلة لتعزيز تلك الروابط[38].

خاتمة

تتبنى السلفية الجهادية وفي إطار مشروعها الإيديولوجي العديد من الآليات التي من شأنها إحكام السيطرة على جسد الشخص المستهدف خلال مرحلة التجنيد لأجل إدماجه في التنظيم، كما تعمل على تنميطه ليتساوق مع الرؤية الجهادية، وصولا لاستثمار هذا الجسد لتحقيق الأهداف السياسية والدينية، والتي تتمثل برفد خزانها البشري من جهة، وتنفيذ العمليات الإرهابية، وتسعى السلطة السلفية من خلال استهدافها للجسد إلى جعله جسر عبور نحو تثبيت مبادئها المتطرفة، وتنفيذ أعمال العنف وحيازة السلطة المركزية.

 


 

[1] فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الإسلام، منشورات إفريقيا الشرق، المغرب، 1999، ص 19

[2] قاسم المحبشي، حينما يكون الجسد أكثر إدهاشا من الروح، موقع الحوار المتمدن، مقالة نشرت بتاريخ 2 كانون أول 2013، استرجعت بتاريخ 2 نيسان 2019 من الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=389439

[3] سامي الرياحي، الجسد في ثقافة الاسلام بين الفقه والبيان، بحث منشور على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المغرب، 2016، ص5، استرجع من الرابط: https://www.mominoun.com/pdf1/2016-02/BAYANE.pdf

[4] المرجع السابق ص2

[5] فريد الزاهي، مرجع سابق، ص 21

[6] ويزة غالاز، مفهوم الجسد عند هايدغر بين الثنائية وفلسفة الكينونة، بحث منشور في مجلة الاستغراب، 2016، ص 121، استرجع من الرابط: http://istighrab.iicss.iq/files/investigations/4m26oeqh.pdf

[7] فريد الزاهي، مرجع سابق، ص 25

[8] فريد الزاهي، مرجع سابق، ص 26

[9] حليمة مرزوقي، الجسد والسلطة في فلسفة ميشال فوكو، رسالة ماجستير منشورة، جامعة السانية، وهران، الجزائر، 2013، ص 16

[10] ياسين الحاج صالح، الجسد المختوم أو عبء المرأة المسلمة، موقع الجمهورية الالكتروني، مقالة منشورة بتاريخ 12 نيسان 2016، استرجعت بتاريخ 10 أيار 2019 من الرابط: https://www.aljumhuriya.net/ar/34786

[11] سعد محمد رحيم، بلاغة الجسد؛ السلطة، الثقافة، والعنف، مقالة علمية منشورة على موقع الحوار المتمدن، العدد: 4796، بتاريخ 2015، استرجعت بتاريخ 11 كانون ثاني 2019 من الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=466672

[12] خولة الفرشيشي، الجســـــــد كدرس سوسيولوجي، أجسادنا، ذواتنا، الأجساد خرائط السلطة والهوية، مقالة منشورة في مجلة ميم بتاريخ 21 نيسان 2018، استرجعت بتاريخ 5 كانون ثاني 2019 من الرابط: https://meemmagazine.net/2018/04/21/

[13] لبنى لطيف، علم اجتماع الجسد: علم الاجتماع الجديد، نحو الجسدانية، مقالة منشورة على موقع مقال كلاود بتاريخ 29 تشرين الثاني 2016، استرجعت بتاريخ 3 آذار 2019 من الرابط: https://www.makalcloud.com/post/67p31j520

[14] نور الدين الزاهي، مرجع سابق، ص 38

[15] دافيد لو بروتون، انثروبولوجيا الجسد والحداثة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر (مجد)، بيروت، الطبعة الثانية، 1997، ص 21

[16] سعد محمد رحيم، بلاغة الجسد، 2015، مرجع سابق

[17] ياسين الحاج صالح، 2016، مرجع سابق

[18] محمد الحامدي، مقدمة في سوسيولوجيا الجسد: تقاطع الثقافات وتنازع الهويات، بحث منشور، مجلة إضافات العدد 40، خريف 2017، ص 113

[19] فريديرك نتشه، هكذا تكلم زرادشت، كتاب للكل ولا لأحد، ترجمة فيلكس فارس، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، 2014، ص 62

[20] مريم وحيد، الادرينالين والحرق: الجسد في الفكر الداعشي، مقالة منشورة على موقع المركز العربي للبحوث والدراسات، بتاريخ 23 آب 2015، استرجعت بتاريخ 2 كانون ثاني 2019 من الرابط: http://www.acrseg.org/39302

[21] سامي عبد العال، الجسد في سينما داعش، مقالة منشورة على موقع الحوار المتمدن بتاريخ 29 أيار 2016، استرجعت بتاريخ 15 أيار 2019 من الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=518691&r=0

[22] Manni Crone, (2016). Radicalization revisited: violence, politics and the skills of the body. International Affairs, Volume 92, Issue 3, May 2016, Pages 587–604, https://doi.org/10.1111/1468. See link: https://academic.oup.com/ia/article/92/3/587/2326978

[23] عبد الكريم عنيات، الجسد كدالة على الصيرورة: محاولة في نتشه، مجلة العلوم الاجتماعية، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ألمانيا، برلين، العدد الثامن، مارس 2019، ص 215

[24] سعد محمد رحيم، بلاغة الجسد، 2015، مصدر سابق

[25] سعد محمد رحيم، السلطة، هوية الجسد، والاغتراب، الفاشية والجسد، مقالة منشورة على موقع الحوار المتمدن بتاريخ 7 أيار 2014، استرجعت بتاريخ 13 أيار 2019 من الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=413860&nm=1

[26] ميشال فوكو، المعرفة والسلطة، ترجمة عبد العزيز العيادي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، 1994، ص87

[27] مازن محمد مرسول، حفريات في الجسد المقموع، مقاربة سوسيولوجية ثقافية، منشورات ضفاف، دار الأمان، الطبعة الأولى، ، الرباط، 2015، ص 11

[28] محمد علي الكبسي، ميشال فوكو، تكنولوجيا الخطاب، تكنولوجيا السلطة، تكنولوجيا السيطرة على الجسد، دار سراس للنشر، تونس، 1993، ص59

[29] ياسين الحاج صالح، 2016، مرجع سابق

[30] حسني إبراهيم حسني، ميشيل فوكو وتأسيس سوسيولوجيا الجسد، مقالة منشورة على موقع الحوار المتمدن بتاريخ 5 نيسان 2011، استرجعت في 2 أيار 2019 من الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=257661&r=0

[31] عياد إبلال، العسل والسم الجسد كآلية للانتقام في المجتمعات العربية، بحث محكم منشور على موقع مؤمنون بلا حدود بتاريخ 29 نيسان 2019، ص (5، 21) استرجع من الرابط: https://www.mominoun.com/pdf1/2019-03/alasal%20wa%20som.pdf

[32] رياض توفيق، التوحد الوجداني والحرمان النفسي أبرز وسائل الجماعات الإرهابية لصناعة الانتحاري، تقرير صحفي، صحيفة الأهرام المصرية العدد 46336، 17 تشوين أول 2013

[33] محمد الحاج سالم، ندوة فكرية حول الظاهرة السلفية- الجزء الثاني، موقع يوتيوب، نشرت بتاريخ 29 آذار 2013، استرجعت في 19 تشرين ثاني 2018 من الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=A5q9PltEUV0&t=23s

[34] عياد إبلال، مرجع سابق، ص 22

[35] Elisabeth, Kendall, (2016). Jihadist Propaganda and its Exploitation of the Arab Poetic Tradition. page number 240,. See link: file:///D:/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D9%86%D9%8A%D8%AF/Kendall-Jihadist_Propaganda___Arab_Poetic_Tradition_2016.pdf.

[36] Thomas,Seymat.(2014). How nasheeds became the soundtrack of jihad. www.euronews.com

See link: https://www.euronews.com/2014/10/08/nasheeds-the-soundtrack-of-jihad

[37] Elisabeth, Kendall,(2016). Jihadist Propaganda and its Exploitation of the Arab Poetic Tradition. page number 262, .see link: file:///D:/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D9%86%D9%8A%D8%AF/Kendall-Jihadist_Propaganda___Arab_Poetic_Tradition_2016.pdf.

[38] Jonathan, Pieslak,(2016). For the Islamic State, music is the ‘alcohol of the soul., see link: http://theconversation.com/for-the-islamic-state-music-is-the-alcohol-of...

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A2%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B7%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%85%D9%8A%D8%B7-6689#

الأكثر مشاركة في الفيس بوك