لماذا نتحاور

د. عبد الله الشيعاني

 

الإنسان مدني بطبعه, يحب الاجتماع مع الآخرين، ولكننا قد نختلف فيما بيننا، ونود دائماً أن نقنع الآخرين بما نؤمن به، وكثيراً ما نهمل ما يعتقده الآخرون، ولذلك فقد نحتاج إلى الحوار احتياجنا للعلاقات الإنسانية.

 

     إن عالمية الإسلام لا تتعارض مع مبدأ الحوار, وإنما تتفق معه بكل جوانبها، لأنها تعني الاعتراف بواقع وجود أتباع الأديان والحضارات والثقافات الأخرى دون أن يقتضي ذلك تسويغ عقائدهم, وهو يمهد الطرق للتعاون بين بني البشر وفق معطيات التفاعل الحضاري، دون أن يفرض طرفٌ ثقافته ومعتقداته على الطرف الآخر، فهو بذلك حوار يحفظ للشعوب هويتها وخصوصيتها الثقافية ويمنع الصدام والتناحر والعدوان، فالحوار إذن أسلوب نستطيع من خلاله _ بإذن الله تعالى _ أن نفتح بوابة عقل الآخر, لنمده بما نعتقده دون أن نجرح مشاعره وكبرياءه.

 

     ويجب على المحاور المسلم أن يدرك أن العقل والمنطق والواقع الملموس, ينص على حتمية الاختلاف, وأن الغريب والمستهجن هو السعي لجعل الناس صوراً متطابقة لبعضهم البعض، والرغبة في جمعهم ضمن منظومة فكرية واحدة، وثقافة أحادية، ومعتقد واحد: يتنافى مع السنن الإلهية التي يجري عليها الكون, فلو أراد الله أن يجعل الناس أمةً واحدة، لكان ذلك، ولكن سنة الله في كونه وخلقه ارتضت هذا التمايز والاختلاف، فكما فرق الله بين البشر في بصمة الإبهام وبصمة العين؛ فرق بينهم في الخبرات والاتجاهات والأفكار، ولذلك خلقهم, ولذلك عندما ندعو إلى الحوار مع الآخر، فإننا نكون قد سرنا على نفس منهجية الدين القائمة على الحوار.

 

     لهذا ينبغي على علماء الإسلام الدخول في حوارات جدية هادفة مع جهات عديدة وعلى مستويات متنوعة, فالإسلام ليس بحاجة إلى من يتعصب له، بل بحاجة إلى تسليط الضوء على جوهره ومبادئه وقيمه الإنسانية التي تفوقت على كل الشرائع الدنيوية, وكانت سابقة لها واستنباط ما في مضامينه من مبادئ أخلاقية واقتصادية واجتماعية وروحية؛ من شأنها أن تسعف البشرية بحلول عجزت الجهود البشرية عن بلوغها.

 

     وإذا كان ( حوار الحضارات ) ضرورة إنسانية أملتها طبيعة الحياة المعاصرة، فإنه في الإسلام واجب شرعي ألزم الله به المسلمين، حرصاً على إشاعة قيم التعاون والتسامح في إطار وحدة الجنس البشري، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة التسليم بالانحرافات الموجودة في بعض الأديان والضلالات، أو السكوت عن المظالم التي تحدث في عالمنا الحاضر من احتلال للدول الضعيفة والتدخل في شأنها، أو تشريد الشعوب وتهجيرهم من أرضهم ، وإنما المطلوب من الجميع أن يقبلوا واقع التعددية البشرية وأن يُقروا حقيقة التنوع الثقافي والحضاري، وأن يجري ذلك على أرضية من الثقة بالذات وبقدراتها على إفادة الآخر أيضاً، بلا استعلاء، علاوة على فرص الاستفادة منه، بلا استغلال.

 

     لقد وقعت التجارب السابقة للحوار الإسلامي _ المسيحي في عدة أخطاء مما حال دون تحقيق أي تقدم إيجابي حقيقي وفعّال ومؤثر في العلاقات الإسلامية _ المسيحية . فمبادرات الحوار مع المسلمين كانت تأتي على الأغلب من الغرب عامة ومن المسيحيين الغربيين خاصة. وكانت تقفز بالتالي من فوق المسيحية العربية. ليس للتقليل من شأنها فقط، أو تصويرها وكأنها مجرد كنيسة تابعة للغرب، وبالتالي تابعة لمفاهيمه ولقيمه ولإستراتيجيته، وهي ليست كذلك حتماً، إنما لاستبعاد القيم الثقافية الإسلامية التي تشكل ركناً من أركان الشخصية المسيحية العربية.

 

     إنّ التعامل الرشيد مع واقع التنوّع الحضاري والثقافي في عالمنا؛ يقتضي الالتفات إلى قيمة " التعارف " الإنساني التي يوجِّهنا القرآن الكريم إليها. فلو حاولنا أن نُمعِنَ النظرَ في هذه القيمة؛ لوجدنا أنها تنطوي على أبعادٍ مركّبة، تشتدُّ حاجتُنا، نحن البشر، إليها في هذا العصرِ على نحو خاص.

 

     وفي ظل متغيرات العصر الذي نعيشه، والذي شهد انعطافات هائلة في جميع أنشطة الحياة، وبطريقة تكاد تكون أحياناً انفجارية، فإن قضية الحوار بين الحضارات قد يكون أقلها جاذبية خصوصاً، وأن عصرنا هو أقرب إلى القضايا المحددة التي تعبر عن شيء محسوس ومباشر.

 

     فعملية التفاعل مع الآخر الحضاري " لا تعني الذوبان أو الانسلاخ من المدى الثقافي الأصيل، والانتقال أو القفز إلى المدى الثقافي المضاد، المهيمن، المسيطر، الغالب، وإنما التفاعل يعني: ما من جسم حضاري إلا وله ركائزه ومقوماته ونقاط قوته، يحاول تعميمها ونشرها في ربوع العالم، لذلك فالتفاعل لا يعني المماثلة، وتقليده في ركائزه وأنماط معيشته، وإنما التفاعل هو عبارة عن حركة داخلية _ ديناميكية _ تجري في عروق المجتمع والأمة متحفزة للبناء والتطوير، وتمتلك الاستعداد النفسي الكافي لتكوين حالة تثاقف أو تفاعل مع الجانب الحضاري الآخر"([1]). كما يمكن أن يكون " حواراً يشمل مجالات حساسة من مختلف الأديان وينسج من نسيج الخبرة الدينية"([2]).

 

     "ولئن كان لكل أمة خصوصيتها ومنظومتها الفكرية والثقافية والحضارية، فإن من السنة الربانية أيضاً أن هذه الأمم والشعوب تلتقي فيما بينها لقاءات حب ومودة، ولقاءات خصام وعداء وتجمعها في الطريق مصالح وحاجات, وتفرق بينها أغلال وأحقاد , وبجميع ذلك تتم مسيرة الحياة وتتجدد طاقات البشر ليتنافسوا فيما بينهم على البقاء والارتقاء " ([3]).

 

     فالحوار بين الحضارات " يجب أن تكون غايته تغطية المساحات التي يمكن أن نشترك ونتفق عليها أكثر من المساحات التي نختلف عليها بكثير، ويجب أن لا يأخذ الحوار شكلاً مظهرياً في صورة يقدمها المتحاورون إلى العالم بأنهم يسعون إلى الحوار لتقليل الفجوة بين المختلفين، ومن هنا نصل إلى إمكانية التعايش المشترك رغم اختلاف أصحاب و أتباع الأديان في تفسيرهم لعقائد الآخرين" ([4]).

 

     وينتج عن الحوار " قيمة (كونية) في العلاقات السياسية بين الدول، كما في المؤسسات الدولية، وفي علاقات الشعوب بعضها ببعض. ويخلق الاحترام والتبادل والتسامح الذي هو صنو اللاعنصرية بين الشعوب، وسعى لفضّ النزاعات سلمياً بين الدول، والاحتكام إلى القانون الدولي في كل صنوف النزاعات"([5]).

 

     وبموجب هذا، يتضح أنه من الضرورة لكي يسير حوارنا مع الآخر في الطريق الصحيح أن " نحل مشاكلنا بالحوار الهادئ والعقلاني الذي يبقى وسيلة مثلى لتجنب الفرقة والفتنة. بحيث يصبح الحوار بمثابة مؤسسة نُثبِّت عبرها مصالحنا ومصالح غيرنا وحقوقنا وحقوق غيرنا، وهذا يستدعي أن يتم الحوار وفق شروط محددة تمتع كل طرف بنفس الحقوق والواجبات. فالاعتراف المتبادل والتسليم بأن للآخر نفس الحقوق ونفس الواجبات هو أولى السبل لتجاوز اختلافاتنا "([6]).

 

      فالعالم الغربي يرى أن العلاقة بينه وبين العالم الإسلامي قد حققت الكثير من التطور في مجال الحوار الحضاري، وتوصل المتحاورون إلى اكتشاف العديد من الأفكار المشتركة التي تدعو إلى التعايش السلمي ففي صيف 1994م نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية تحقيقاً يقع في 18 صفحة تحت عنوان "الإسلام والغرب"، أكدت فيه أنه " خلافاً لما يعتقد كثيرون فإن إيديولوجيات الطرفين ليست غير قابلة للتوفيق، وهي تؤكد أن الوضع الحالي قابل للتغيير، وأن التغيير يتطلب أولاً تفهماً إسلامياً لحقائق الحياة العصرية، وأن هذا التفهم يتطلب من الأوروبيين أن يفتحوا عقولهم على حقيقة مركزية سياسية تدور حول " العلاقة بين المسؤولية الفردية والانتماء الجماعي"، ورأت المجلة أنه إذا تحقق ذلك فإن الإسلام والغرب سوف يكتشفان أنهما زاخران بالأفكار المشتركة، وأنهما يستطيعان أن يعيشا معاً بسلام، بل وأن يعملا معاً من أجل تحقيق أهداف مشتركة"([7]).

 

     ويؤيد بعض المسلمين الذين يعيشون في الغرب هذا الرأي ويؤكدون على أن "المسلمين والمسيحيين يشكون اليوم معاً _ من أن الغرب يعاني منذ ما يزيد على 150 عاماً من الإلحاد، والاغتراب عن الكنيسة، وكذلك الهروب إلى ديانات خاصة غير مفهومة ومتقوقعة على نفسها من فلسفة حب الإنسان إلى الديانات التي تقدس الربات والديانات ذات الصبغة النسائية والبوذية؛ لأن المسيحيين والمسلمين في قارب واحد في خضم هذا البحر الهائل المعاصر من العداء للدين "([8])، بل ويذهب البعض إلى أكثر من ذلك بأن " الإسلام يهدف إلى أن يعيد المسيحية لتقف على قدميها، بدلاً من الوقوف على رأسها، وأن الإسلام يمكن أن يكون ذا نفع هائل لإعادة الصحة إلى الحضارة الغربية"([9]).

 

     ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها، لتحديد الحوار بين الحضارات " وهي أن الحوار وسيلة موصلة للحقيقة، التي تحمل في طياتها، وظيفة ذات أبعاد ودلالات سامية، تنطلق من مفهوم العبودية لله سبحانه وتعالى، فالإسلام يرى فتح مجال الحوار بين البشر، بدل القطيعة والجفاء والتباعد، هدفاً سامياً للحفاظ على مفهوم التعبد، من خلال إشاعة المثل العليا للمجتمع المسلم، لأن في هذه المُثل امتداداً للتاريخ، واستمرار الخير للإنسانية وعلاقات الشعوب والأفراد" ([10]).

 

     إن الحوار بين الحضارات " لمحاولة اكتشاف الآخر في عمقه لتمكينه من أن يسهم بفكره وبتجربته الخاصة وبإيمانه في بلورة الحقيقة وتكاملها، ومن ثم للعمل معه، وكأن العمل له تحقيقاً لحب هو في ذاته أسمى تجليات العلاقة مع الآخر"([11]).

 

     فالإسلام يدعونا للقيام بمبادرة دعوة الآخر" لموائدنا من دون أي تخوف من اختلافنا العقدي أو الثقافي لكن على أن تكون المبادرة مسبوقة بالشجاعة في مواجهة الذات والنقد والتأمل في الذات عنصران مركزيان في أي حوار مع الآخر، وأن يكون هدفها رفع الأغطية وتحطيم الأوهام المتجذرة والمتمثلة بالخوف من الآخر" ([12]).

 

     نستخلص مما سبق أن الاسلام بعالميته يرى فتح مجال الحوار بين البشر، ضرورة للتعايش مع الآخر، والاعتراف به وبديانته، وقد أقر للديانات الأخرى حقها في التعبد، كما أوجب الحوار معها، فمن السنة الربانية أن هذه الامم تلتقي فيما بينها، لتجتمع في طريق المصالح والحاجات، حتى نصل إلى إمكانية التعايش المشترك رغم اختلاف أصحاب الأديان في تفسير عقائدهم وطريقة شعائرهم.

 

 

 

 

([1])آيت أحد ، مريم ، جدلية الحوار قراءة في الخطاب الإسلامي المعاصر ،ص 98، الطبعة الأولى, منشورات مجلة علوم التربية العدد 24، 2011م.

 

)[2]( Massimo Leone : communication : an inter – religious dialogue between Goethe and Hafez ,Islam and Christian – Muslim relations ,24nov 2010_ page 373.

 

([3]) الإبراهيم ، د. موسى إبراهيم ، حوار الحضارات وطبيعة الصراع بين الحق والباطل، ص217، الطبعة الأولى ، رسائل فقه الدعوة الإسلامية 3، دار الأعلام ، الأردن ، عمان ،2003م.

 

([4])جبرائيل ، نجيب ، الحوار في المسيحية ، ص 162_163، المؤتمر العالمي للحوار ، الإدارة العامة للمؤتمرات والمنظمات ، رابطة العالم الإسلامي ، 2008م.

 

([5]) حداد، الأب الايكونومس نبيل ، جهود الدول والمنظمات العالمية في تعزيز الحوار ومواجهة معوقاته ، ص 2_4 بتصرف، المؤتمر العالمي للحوار ، الإدارة العامة للمؤتمرات والمنظمات ، رابطة العالم الإسلامي، 2008م .

 

([6]) الباهي، حسان، الحوار ومنهجية التفكير النقدي، ص6، أفريقيا الشرق، المغرب، الدار البيضاء، 2004م .

 

([7]) السماك، محمد، موقع الإسلام في صراع الحضارات والنظام العالمي الجديد، ص164.

 

([8])  السماك ، محمد ، مصدر سابق ،  ص 209.

 

([9]) المصدر السابق، ص 211.

 

([10]) آيت أحمد، د.مريم، مصدر سابق، ص 42.

 

([11]) السماك، محمد، مقدمة إلى الحوار الإسلامي – المسيحي ،ص92، الطبعة الأولى، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع،لبنان، بيروت : 1998م .

 

([12])آيت أحمد، د.مريم، مصدر سابق، ص 149.

 

المصدر: http://www.azal-dialogue.org/index.php/articles/show/?id=6

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك