نحو حوار عقلاني عربي مع الغرب في ظل المتغيرات الراهنة: قراءة نقدية

نحو حوار عقلاني عربي مع الغرب في ظل المتغيرات الراهنة: قراءة نقدية

مسعود ضاهر*

يشهد العالم المعاصر متغيرات دولية متسارعة تحمل معها مخاطر سلبية للغاية وتهدد حاضر ومستقبل العرب. وبات من الضروري مواجهة تلك المتغيرات بإصلاحات جذرية حقيقية تستند إلى مقولات نظرية سليمة. ومن أولى واجبات المثقفين العرب إجراء حوار عقلاني مباشر في ما بينهم تمهيدا لحوار عقلاني مع مثقفي الدول الأخرى خاصة الأوروبية منها.

وذلك نظرا للعلاقات التاريخية الطويلة التي تربط العرب بالأوروبيين منذ قرون طويلة. تكمن أهمية البدء أولا بالحوار بين المثقفين العرب في معالجة التردي المستمر الذي تشهده المجتمعات العربية. ومن خلال الحوار الرصين يمكن رصد الطاقات الثقافية العربية والإستفادة في الحوار. هذا بالإضافة إلى ضرورة توظيف قسم من الموارد الاقتصادية والمالية الكبيرة لرسم إستراتيجية عربية جديدة تتلاءم مع تحديات عصر العولمة.

لا بد إذًا من مشاركة المثقف العربي في الحوار بكل جوانبه، داخل الوطن العربي وخارجه. وهو مطالب برفض المقولات الداعية إلى اليأس، والعمل تبني إستراتيجية التحدي الحضاري تبعا لمقولة أرنولد توينبي حول (التحدي والاستجابة).

ورغم السلبيات الكبيرة الناجمة عن نشر ثقافات العولمة، لا يتخوف المثقفون العرب من التواصل والحوار الدائم مع ثقافات العالم انطلاقا من مقولات مشتركة مستقاة من الثقافات الإنسانية الشمولية التي تساهم في تعميق الصلات الحضارية بين الثقافة العربية والثقافات الكونية الأخرى. لكن المأزق الذي يعيشه الفكر الإصلاحي العربي منذ عصر النهضة، أنه بقي في إطار ردود الفعل ضد الهجمة الخارجية الطاغية طوال القرنين التاسع عشر والعشرين. علما أن القوى العربية المسيطرة إستفادت كثيرا، وبصورة انتقائية، من مقولات الفكر الغربي، ووظفتها ضد النخب الثقافية المناهضة للتغريب. فتحول النقاش، ولسنوات طويلة، إلى جدل عقيم حول مادية الغرب العلماني في مواجهة روحانية الشرق المتدين. وصرف معظم النهضويين جهودا مضنية للإجابة على سؤال: من أين نبدأ؟ أو للمصالحة بين الدين كتراث ثابت وبين العلم كمقولات متحركة باستمرار.

إلا أن جوهر المسألة لا يقتصر على كيفية الحفاظ على تراث الماضي بل إبداع تراث عربي عقلاني جديد يتلاءم مع طبيعة عصر العولمة. وذلك يتطلب إدخال العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتطورة إلى المجتمعات العربية وتحويلهما إلى عنصر فاعل في تطويرها. فغاية التحديث هي الوصول إلى حداثة راسخة ومتطورة باستمرار. فالتحديث سيرورة لا تتوقف، في حين تقاس الحداثة السليمة بالمراحل المنجزة وغير القابلة للنكوص أو الإرتداد. نخلص إلى القول بأن الحوار مع الذات يسبق الحوار مع الآخر أو يسيران معا جنبا إلى جنب.

وتواجه الحوار العربي مع الغرب مشكلات سياسية حادة تنبع من رفض المثقفين العرب لكل أشكال التدخل السياسي والعسكري غير المشروع كما هو الحال في العراق، ورفض الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وباقي الأراضي العربية المحتلة. ويصرون على مشاركة العرب في إنشاء تحالف دولي جديد لخلق عالم متعدد الأقطاب في مواجهة العالم الأحادي القطب. وقيام مؤسسات عربية وإسلامية علمية للحوار البناء تضم نخبا ثقافية متميزة ومؤمنة بالحوار بين الشعوب والثقافات. على أن تضم عددا متزايدا من كبار المثقفين والباحثين العرب ومن مختلف مجالات التخصص العلمي، كالسياسة، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والفلسفة وغيرها. وإطلاق حملة إعلامية دائمة، عبر مختلف وسائل الإعلام، وبمشاركة أبرز الإعلاميين والباحثين العرب، لاستكشاف أفضل السبل من أجل حوار متوازن ومثمر مع الغرب. والعمل على توضيح حقيقة المواقف العربية إستنادا إلى المصادر العربية الحقيقية وليس بالتركيز على صور أو مواقف خاطئة ومدانة من جانب العرب أنفسهم.

ويشدد المثقفون العرب أيضا في حوارهم مع الغرب على موضوعات ذات طابع إنساني مشترك، والابتعاد عن القضايا التي تمس مشاعر الآخرين، وثقافاتهم، ومعتقداتهم الدينية، وقيمهم الأخلاقية. وهم، إذ يحترمون خصوصيات الغربيين يطالبونهم باحترام خصوصياتهم، وتراثهم الإنساني، ويتمسكون بالأخلاقيات الموصلة إلى حوار إيجابي وبناء مع مثقفي الغرب وغيرهم من مثقفي عصر العولمة.

ولعل أهم أخلاقيات الحوار العقلاني بين المثقفين:

1- احترام التعددية الثقافية لجميع الشعوب انطلاقا من تمايز البشر أصلا من حيث اللون والعرق والثقافة والتقاليد والسلوكيات. فالاختلاف سنة الحياة، وهي غير قابلة للتغيير ومستعصية على كل أشكال النفي، أو الرفض أو الإلغاء. والعمل على تحويل ذلك التمايز إلى عنصر إيجابي.

2- الاحترام المتبادل بين الأطراف المتحاورة، وتجنب الأفكار المسبقة، وعدم التعرض لخصوصيات كل طرف مما يؤدي إلى قطع الحوار معه. بل البحث عن القضايا المشتركة ذات النفع المتبادل، والاحتكام إلى العقلانية في التحاور، وتغليب الأسلوب العلمي على الأسلوب العاطفي أو الانفعالي، واللجوء إلى النقد الذتي المتبادل من أجل الوصول بالحوار إلى نتائج إيجابية تفيد طرفي الحوار.

3- التقدير السليم لظروف الحوار، وشروطه الموضوعية. وتغليب ما هو قابل للتنفيذ على المشاريع غير الواقعية، وتجنب التوصيات غير القابلة للتنفيذ.

4- يحرص المثقفون العرب في حوارهم مع الغرب المختلف والمتنوع، على تنمية كل ما هو مشترك وإيجابي بين جميع الثقافات. والعمل على تنمية الأسلوب النقدي في الحوار لتلافي السلبيات المتوارثة في النظرة المضخمة للذات، أو المتجاهلة للآخر. وصياغة صورة واقعية للعرب والغرب في إطار من الفهم المعمق والمتبادل، والرغبة المشتركة في الدفاع عن القيم الإنسانية التي تشكل الضامن الآساسي للتفاعل بين الشعوب والثقافات.

5- التأكيد على أن يكون الحوار رصينا وبعيدا عن كل أشكال التشنج والديماغوجية. واعتماد النزاهة الفكرية، وعدم التحيز للذات على حساب الآخر. ونبذ الانتقائية في تطبيق القواعد والمواثيق الدولية، وحقوق الإنسان. ونبذ سياسة الكيل بمكيالين، أو التحدث بأسلوبين مختلفين في الحوار الداخلي وفي الحوار مع الآخر. وعدم توظيف الحوار لخدمة أغراض آنية، وسياسات إقليمية أو دولية ضيقة، وتوازنات دولية ذات طابع مرحلي أو تتسم بالهيمنة والرغبة في التسلط على الشعوب المستضعفة.

6- إبداع قراءة جديدة لمقولات التقدم والتخلف مع والرفض الصارم لربطها بدين معين أو ثقافة معينة. والعمل على تخطي الأحكام المسبقة، والصور النمطية. واعتماد قراءة علمية صحيحة وموثقة للأوضاع السياسية والاقتصادية والإجتماعية لدى العرب والغرب دون ربطها بالموروث الديني.

7- ليس صحيحا أن معايير التقدم والتخلف يجب أن تكون مطابقة لما حققه الغرب ومقتصرا عليه دون سائر الشعوب. فقد أثبتت الدراسات النظرية السابقة التي مجدت دور المركزية الأوروبية الغربية في صياغة تاريخ العالم عجزها الكامل عن كتابة تاريخ حقيقي للعالم.

مرد ذلك إلى أنها أهملت بالكامل، أو تجاهلت تجارب التحديث الأخرى، خاصة تجارب اليابان، والصين، الهند، ودول النمور الآسيوية. وهي تجارب جديرة بالدراسة، وتقدم للعرب دروسا مستفادة في كيفية بناء حداثة ناجحة، ومستمرة من خارج المركزية الأوروبية ومقولاتها.

بقي أن نشير إلى أن الثقافة العربية ذات قابلية تاريخية للحوار مع الثقافات الأخرى. وقد أثبتت انفتاحها عليها والتفاعل الإيجابي معها عبر مختلف الحقب التاريخية. ويظهر مثقفو العرب اليوم استعدادا غير محدود لتعزيز الحوار الإيجابي مع جميع شعوب العالم وثقافاتها، بهدف الاغتناء المتبادل من تجاربها، والتأكيد على احترام خصوصيات كل منها. ولكي يصل حوار العرب مع الغرب إلى نتائج إيجابية وفاعلة لا بد من تنفيذ توصيات مؤتمرات الحوار السابقة التي أكدت جميعها على الاحترام المتبادل، واحترام الخصوصية الثقافية كمدخل أساسي لاستمرار الحوار الإيجابي بين العرب والغرب.

لكن ظروف الحوار في المرحلة الراهنة باتت معقدة جدا. وهي تتطلب منهجية عربية جديدة للحوار مع الغرب انطلاقا من ثقافة عربية عصرية، دون تجاهل الإنجازات التي حققتها الثقافة العربية في مرحلة ازدهارها. لكن مرحلة الازدهار قد انقطعت منذ قرون عدة اصيبت فيها الثقافة العربية بالتكلس والدوران المفرغ ضمن مقولات تراثية لم تعد تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة، ولا تقدم مادة غنية للنقاش أو الحوار مع مثقفي الغرب وغيرهم. ولإنجاح تلك المنهجية لا بد من فتح باب الحوار على مصراعيه ليطول جميع المستويات. على أن تشارك فيه القيادات السياسية، والنخب الثقافية والاقتصادية والإعلامية، وممثلو المنظمات الحزبية، والنقابية، والنسائية والشبابية، والمراكز البحثية وغيرها. فينتقل حوار العرب مع الغرب إلى مرحلة أرقى وأكثر شمولية واتساعا، ليشمل الباحثين، والكتاب، والفنانين، والإعلاميين، ومنظمات المجتمع المدني.

وتتضمن موضوعات الحوار بين العرب والغرب في المرحلة الراهنة ماضي العلاقات بين الجانبين، وحاضرها ومستقبلها. وكيفية الحفاظ على حقوق الإنسان العربي، وحرياته الأساسية، وركائز بناء الديمقراطية السليمة في العالم العربي دون أية ضغوط خارجية. والاعتراف بدور العرب على المستويين الإقليمي والدولي. وتشجيع الغرب على الحوار الإيجابي بين المكونات المجتمعية داخل الوطن العربي، وتنشيط الحوار الإسلامي - المسيحي بالإضافة إلى تشجيع الحوار بين المذاهب الإسلامية من جهة، وبين الطوائف المسيحية من جهة أخرى.

إن لدى العرب نُخباً ثقافية متميزة، وتتمتع بكفاءة عالية في الحوار، وبثقافة أصيلة تمكنها من الحصول على معرفة الغرب من خلال مصادره ولغاته الأصلية. وهي قادرة على تفعيل حوار ثقافي إيجابي مع الغرب، يعالج المشكلات السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية التي تهم الشعوب العرب والشعوب الأوروبية في عصر العولمة. وبمقدور النخب العربية أن تسهم في ولادة عولمة أكثر إنسانية، وفي إجراء حوار دائم مع الغرب، الأوروبي والأميركي، ومع الثقافات الآسيوية، وثقافات أميركا اللاتينية، والثقافات الأفريقية وغيرها. وبإمكان هذه النخب العربية والإسلامية إطلاق مبادرات سياسية واقتصادية وثقافية تساهم في تعميق الحوار بين الشعوب على أساس المصالح المتبادلة وحماية السلام العالمي، ورفض كل أشكال الهيمنة السياسية، والثقافية والسيطرة العسكرية أو الاقتصادية.

في هذا المجال يلعب الإعلام العربي وفي الدول الأوروبية دورا أساسيا في رفع مستوى الحوار، وتطويره، والاستفادة من الكفاءات العربية والأوروبية ذات القدرة على الحوار الإيجابي بين الجانبين. لكن نجاح الإعلام العربي والغربي في تحقيق هذه المهمة رهن بتشكيل فرق بحثية متخصصة للقيام بحوار متكافيء وشامل وبدون أفكار مسبقة.

وهناك آفاق واسعة لصياغة مبادرات عربية وأوروبية للحوار، ذات مضمون إنساني للحد من مخاطر عصر العولمة والتفرد الأميركي بالقرارات الدولية. وذلك يتطلب إطلاق مبادرات حوارية بي العرب وأوروبا للتمييز بين المقاومة والإرهاب، ورفض التدخل الخارجي على مختلف الصعد. ومشاركة العرب في إصلاح مؤسسات الأمم المتحدة بحيث تصبح قادرة على لجم كل أشكال التدخل من خارج ومؤسساتها ونظمها. وإصدار تشريعات دولية تمنع الأعمال العنصرية ضد الأقليات أو الجماعات في أي دولة من دول العالم، ودون التغطية على جرائم إسرائيل في فلسطين. ووضع ضوابط عقلانية لمبدأ حرية التجارة الدولية الذي ألحق أضرارا فادحة بالدول الفقيرة والنامية بشكل خاص. والمشاركة الفاعلة في الحركة الثقافية العالمية المناهضة للعولمة الراهنة التي يقودها القطب الأميركي المتفرد بقيادة عصر العولمة.

بقي أن نشير إلى هاجس ثابت لدى المثقفين العرب في حوارهم مع الغرب وغيره من دول العالم. ويكمن ذلك الهاجس في التأكيد على دور العرب المستقبلي في قيام عولمة أكثر إنسانية، والتعاون الوثيق مع المثقفين الليبراليين والديموقراطيين في الغرب وباقي دول العالم من أجل وقف النزعة المتزايدة نحو سباق التسلح، والتهديد بتفجير بؤرة نزاع جديدة في العالم، وبشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط.

كما أن الحوار المثمر بين المثقفين العرب ومثقفي الغرب يتطلب توليد أجيال متعاقبة من المتنورين العرب الشباب، وتوليد أجيال متعاقبة من النخب الثقافية الشابة المؤمنة بالحوار الإيجابي مع الغرب وغيره من الشعوب. وذلك يتطلب إطلاق حملة واسعة لنشر المصادر الأساسية، الموضوعة والمترجمة، والتي تساعد على تعميق الوعي لدى الشباب العربي بأهمية الحوار مع الشعوب الأخرى، وضرورة مشاركة الشباب العربي في بناء عالم آمن، منزوع السلاح، ومنفتح على كل أشكال التفاعل البناء بين شباب العالم.

نحو ثقافة عربية عقلانية قادرة على الحوار مع ثقافات الغرب

في السنوات القليلة الماضية، نشرت دراسات كثيرة تحدد موضوعات الإصلاح الملحة ورسم خطوات تنفيذية أو مقترحات عملية جرت مناقشتها بين النخب الثقافية العربية. وكان الهدف منها توليد ثقافة عربية عقلانية مشتركة تأخذ بعين الإعتبار خصوصية تطور المجتمع في كل دولة عربية، واختيار أفضل السبل لتطوير عملية التنمية المستدامة فيها، وتأهيل مثقفيها لمبادئ وأخلاقيات الحوار الإيجابي مع الغرب. ولعل أكثر المقولات السجالية التي يتم تداولها في جميع الأوساط الثقافية العربية تتمحور حول أهمية التداول الديموقراطي للسلطة ودوره في تعزيز ركائز الإصلاح في جميع الدول العربية، وجدلية الداخل والخارج في الإصلاح وضرورة فك الإرتباط التبعي للعرب بالقوى الخارجية، ونسق الحكم المطلوب لقيام أنظمة عربية متقاربة وقادرة على التعاطي الإيجابي في ما بينها، وتطوير البنى المجتمعية العربية لضمان الحريات الأساسية للمواطن العربي، وضرورة التحرر من الإحتلال الأجنبي وجميع مظاهره المادية والذهنية في المجتمعات العربية.

وأشارت دراسات أخرى إلى ضرورة مشاركة العرب في إصلاح المنظومة الدولية، وفي قيام عولمة الديمقراطية وأكثر إنسانية. والإعداد لرؤى إستراتيجية عربية تعالج الخلل الكامن في البنى السياسية والإدارية والعسكرية والتربوية العربية وفي مؤسسات المجتمع المدني. والتركيز على الحرية بإعتبارها شرط ضروري وحيوي لا غنى عنه لقيام نهضة عربية جديدة. والتأكيد على أن قدرة العالم العربي على النهوض ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية رهن بمدى إنحسار أنظمة الإستبداد أولا، وعلى أن نجاح التغيير الديموقراطي في العالم العربي رهن بقدرة القوى الالديمقراطية فيه على تنظيم صفوفها لضمان حقوق الأفراد والجماعات في العالم العربي وممارسة الحريات الأساسية بصورة طبيعية.

لقد نبه المثقفون العرب، بصورة ثابتة ودائمة، إلى أن مفهوم الحرية لا يقتصر فقط على ممارسة الحقوق والحريات المدنية والسياسية بل يتعداه إلى التحرر من القهر وكل أشكال الاستيلاب والتبعية، ومن المعوقات الاجتماعية التي تسيء إلى كرامة الإنسان كالجوع والمرض والجهل والفقر والقهر والإستغلال والبطالة. كما ان الحرية بحاجة إلى مؤسسات مجتمعية تصونها، وتضمن سلامة ممارستها وتطورها دون معوقات من أي نوع كان. ولا بد من صيانة الحريات المفضية إلى الحكم الصالح من طريق توسيع خيارات الناس التي تشكل جوهر التنمية البشرية المستدامة، وتشجيع المشاركة الشعبية الفاعلة المبنية على التمثيل السليم للناس وليس التمثيل نيابة عنهم أو التمثيل عليهم من طريق الديمقراطية معلبة، شكلية ومزيفة.

وشدد المثقفون العرب على أن عمل المؤسسات هو النقيض للتسلط الفردي. وعلى العرب تجاوز إطار العمل الفردي إلى تنظيم مؤسسات الحكم والإدارة بكفاءة وشفافية كاملة، وإخضاعهما للمساءلة الفعالة. ودعوا إلى اعتماد مبدأ فصل السلطات والتوازن في ما بينها، واحترام إرادة الشعب من خلال الاختيار الدوري الحر والنزيه لممثليه، على مختلف الصعد. واحترام النظام الدستوري، وسيادة القانون الذي يجب أن يطبق على الجميع دون استثناء. وسهر القضاء النزيه والمستقل تماما عن السياسة على حسن تطبيق القوانين وتنفيذ أحكام القضاء من جانب السلطة التنفيذية. والتركيز الدائم على التربية المدنية التي تنمي حب الحرية لدى المواطن والشعور بالمسؤولية. إذ ليس بمقدور الفرد أن يكون حرا إلا في مجتمع حر ووطن حر. ومع بناء المواطن لحر تبدأ مسيرة الإصلاح، وتشاد ركائز الحكم الصالح على إمتداد الوطن العربي.

بقي أن نشير إلى أن جميع المثقفين العرب قد أولوا أهمية إستثنائية لتشجيع وتنشيط منظمات المجتمع المدني في مختلف المجالات، بدءا بمقاومة الاحتلال الأجنبي لأراض عربية وصولا إلى الدفاع عن حقوق الانسان العربي، والمشاركة في عمليات الاغاثة وتقديم المساعدات الإنسانية، والقيام بالمظاهرات الشعبية للمطالبة بالاصلاحات الشاملة. فمؤسسات المجتمع المدني الحرة قادرة على إستنباط افضل السبل للدفاع عن الوطن والمواطن، وعلى مجابهة مخاطر التغيير المفروض من الخارج. وقد نبهت حكام العرب مرارا إلى ضرورة القيام بعملية إصلاح شاملة نابعة من داخل الوطن العربي حتى لا يفرض التغيير من الخارج، وبالقوة العسكرية.

كما دعت إلى تنمية الطاقات البشرية العربية، وإطلاق المبادرات الإيجابية لخلق منظمات عصرية فاعلة وتتلاءم مع طبييعة عصر العولمة. وشددت على تمكين المرأة العربية من ممارسة دورها الطبيعي في الإصلاح والتغيير، وإزالة كل المعوقات وأشكال التمييز القانونية والسياسية من أمامها، وإعلان المساواة التامة بينها وبين الرجل. وأعلنت إيمانها الراسخ بقدرات الشباب العربي وما يمتلك من طاقات إبداعية وفنية وعلمية وإدارية. وطالبت بإعطاء الشباب دورا مركزيا وفاعلا في جميع مشاريع الإصلاح الجذرية، والتنمية البشرية والمادية المستدامة.

بعبارة موجزة، إن مكامن العلل التي تشد العرب إلى الوراء كثيرة، وهي تمنع نجاح الحوار العربي - الأوروبي أو بناءه على أسس سليمة. فالعرب بحاجة ماسة إلى ثقة كبيرة بالنفس وبالمستقبل. ومصدر العلة أن المجتمعات لا تنعم بالحرية الكافية. ويخشى المثقفون العرب ألا تستطيع الأنظمة العربية الحفاظ على المنجزات الاقتصادية والتنموية التي تحققت في السابق. وهي عاجزة عن مواجهة تحديات العولمة بثقافة عصرية قادرة على توليد جيل عربي جديد يحاور الغرب وباقي شعوب العالم من موقع الندية. وهنا تكمن أهمية الحرية وبناء الحكم الصالح في الدول العربية، لأن الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي لم يعد يحتمل الإبطاء أو التباطؤ في ظل التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة.

صحيح أن الدول العربية قد أنجزت خلال القرن العشرين خطوات مهمة على طريق التحديث، والتنمية البشرية والاقتصادية، والإصلاحات الإدارية والتربوية والإجتماعية المتنوعة. إلا أن المعوقات السياسية في الداخل، والضغوط الأجنبية من الخارج منعت تحول تلك المنجزات إلى نهج عربي متكامل يضع العرب في موقع القادر على إجراء حوار عقلاني متكافئ مع ثقافات عصر العولمة.

لذا يعيش عرب اليوم مرحلة مصيرية. فهم يواجهون ضغوطا داخلية وخارجية للقيام بإصلاحات جذرية تؤسس لأنظمة الديمقراطية تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة. لكن طبيعة الأنظمة السياسية السائدة لديهم تشكل عاملا معوقا لقيام الديمقراطية سليمة في العالم العربي. وهنا تكمن أهمية الحوار الإيجابي الذي ييقوم به المثقفون العرب مع مثقفي الغرب وغيرهم في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ العرب المعاصر. فالتردي المستمر في المجتمعات العربية تحت وطأة الضغوط الخارجية المتزايدة في عصر العولمة، لن يقود فقط إلى التلاعب بمسقبل شعوبها بل يهدد أيضا مصير حكامها، وثرواتها الطبيعية، ومدخراتها المالية، وخطط التنمية المجزأة التي يجري الإعداد لها في كل دولة عربية. وغياب القرار العربي المستقل والموحد هو مصدر كثير من العلل، لأنه يفقد العرب القدرة على مواجهة التحديات بقرارات جماعية صلبة، ونابعة من الحرص على الذات، وحماية التراث والحاضر والمستقبل. والمجتمع الحر هو الوحيد القادر على ممارسة الديمقراطية السليمة وتحقيق تنمية بشرية مستدامة.

إن الحوار العقلاني بين العرب وباقي شعوب العالم خاصة الغرب الأوروبي القريب من بلاد العرب، ضروري جدا لتنمية الطاقات الثقافية العربية وجعلها قادرة على التفاعل الإيجابي مع متطلبات عصر العولمة، ومواجهة تحديات الوحدات الجغرافية والسياسية الكبيرة، ومخاطر الثقافة الكونية التي تهدد الثقافات المحلية، ومنها الثقافة العربية، في عقر دارها. ويتطلب الحوار العربي العقلاني مع ثقافات الغرب إنجاز بعض الخطوات العملية، منها:

1- أن يقوم المثقفون العرب بحوار عقلاني في ما بينهم من أجل تقديم رؤى بديلة لما هو سائد الآن على الساحة العربية. كما أن العمل على تجاوز الحاضر المتردي إلى مستقبل مشرق، يفترض بالضرورة أن ينظم المثقفون العرب صفوفهم ضمن نخب ثقافية عربية فاعلة، وذات استقلالية واضحة في صياغة مقولات علمية سليمة، ورسم خطط عملية لتنفيذها.

ومن موقعها المستقل هذا، تستطيع النخب الثقافية العربية دعوة جميع المتنورين العرب، داخل السلطة وفي مؤسسات المجتمع المدني، إلى الاستفادة العقلانية من الموارد البشرية والاقتصادية المتوفرة لديهم، لكي يلعب العرب دورا فاعلا في عصر العولمة. وبقدر ما تنجح تلك النخب في إثبات صدقيتها، وموضوعيتها، يتقدم الحوار العقلاني المثمر بين الثقافة العربية وثقافات الشعوب الأخرى.

2- أن يطرح المثقفون العرب رؤى إستراتيجية شمولية لمعالجة مشكلات التردي المستمر في الأوضاع العربية. وتشكل مسألة الحرية والحكم الصالح في الوطن العربي القضية الأكثر حضوراً في النقاش الدائر بين أصحاب القرار السياسي والرؤى الثقافية العربية، داخل الوطن العربي وخارجه. ولا بد من تقديم رؤى إستراتيجية جديدة تساعد على تحصين المجتمعات العربية في مواجهة تحديات عصر العولمة. وذلك يتطلب فتح حوار مكثف مع المتنورين العرب، في جميع مواقع تواجدهم، داخل الوطن العربي وخارجه، من أجل تشكيل جبهة ثقافية عربية عمادها قوى التغيير الديموقراطي، وتوظف كامل طاقاتها من أجل تحقيقه على أرض الواقع.

3- أن يتبنى المثقفون العرب شعار تطبيق الديمقراطية السليمة في الوطن العربي وبناء حكم صالح يتلاءم مع طبيعة عصر العولمة. إلا أن الديمقراطية تبقى شعارا نظريا ما لم تنجح في تجميع القوى الاجتماعية القادرة على فرض مقولات الإصلاح الجذري إذا تمنعت القوى السلطوية العربية عن القيام به. وقد طرحت مشاريع إصلاح لا حصر لها في السابق، من جهات رسمية ومن منظمات المجتمع المدني. لكنها بقيت جميعها حبرا على ورق.

4- أن يدرك المثقفون العرب أن بناء نهضة شاملة في المنطقة العربية يحتاج إلى تكاتف جميع القوى الفاعلة فيها. وأن القيد السياسي على التنمية البشرية المستدامة في الدول العربية هو المعوق الأكثر تأثيرا على تطور الشعوب العربية، ومنعها من توحيد طاقاتها البشرية. وأن الهدر المستمر لمواردها الطبيعية الكبيرة أدى إلى حرمان الأجيال العربية القادمة من ثروات هائلة كان يمكن توظيفها في توليد مشروع نهضوي يفسح في المجال أمام بروز دور فاعل للعرب على المستويين الإقليمي والدولي. لذلك يعيش المثقفون العرب اليوم هاجس التأثيرات السلبية المتوقعة لثقافة العولمة التي تنشر مقولات إيديولوجية خطيرة حول صراع الحضارات بدل التفاعل المثمر في ما بينها عبر الحوار الإيجابي.

بعض الملاحظات الختامية

إن نجاح الحوار العقلاني بين المثقفين العرب ومثقفي أوروبا وغيرهم من مثقفي عصر العولمة رهن بتوليد مقولات عقلانية للحوار بما يخدم المصالح المشتركة للشعوب العربية والأوروبية.

ومن أولى واجبات المثقفين العرب أن يحسنوا التعبير عن الجانب العقلاني في ثقافتهم ،وأن يظهروا حرصا أكيدا على اللحاق بركب الحضارة العالمية من موقع الفاعل فيها وليس الخائف منها. وهذا ما نصح به عبدالله العروي حين قال:(نحن بحاجة إلى إستعادة روح رجال النهضة وما تميزوا به من جرأة وصدق وتفاؤل).

لقد إزداد مأزق التردي العربي عمقا بسبب أزمة الحرية وغياب الحكم الصالح، وغياب المؤسسات العلمية، ومراكز الأبحاث، وانصراف معظم الجامعات العربية إلى أسلوب التلقين، زادت نسبة الأمية في جميع الدول العربية، وتراجع الاهتمام بالكتاب، والمسرح، والفنون، ومختلف أشكال الإبداع.

وهناك ميل متزايد لتجاهل الإنتاج الثقافي العربي في أوساط الجيل الجديد من الشباب العربي. يضاف إلى ذلك غياب واضح للثقافة النقدية مقابل حضور كثيف لثقافة الترفيه، مع ميل متزايد للتنظير والتعميم والتسطيح في مختلف المجالات. وأدى غياب العمل الجماعي، ومعه غياب التفكير النقدي عن الجامعات والمؤسسات الثقافية والإعلامية العربية إلى كارثة حقيقية على مستوى الإبداع الثقافي. وتبرز لوحة المشهد الثقافي العربي في المرحلة الراهنة أن الجيل الجديد من المثقفين العرب منصرف عن الإنتاج العلمي في مختلف المجالات كالرياضيات والكيمياء والفيزياء. كما إن غالبية ما يكتب في التاريخ والرواية والمسرح والشعر والفنون والآداب يفتقر إلى الدقة، والموضوعية، والإبداع. وتتقلص مساحة الرأي النقدي بصورة ملحوظة. مع العلم أن ممارسة الحرية، وبناء الحكم الصالح، وإقامة الحوار المثمر مع الثقافات الأخر لا تستقيم إلا بحضور فاعل للرأي النقدي الذي يحتضن كل أشكال الإجتهاد والإبداع والتنوع. فحماية الناقد أمر ضروري جدا في الحياة السياسية والثقافية، وبه تبدأ مسرة الحكم الصالح. كما أن دعم المؤسسات الثقافية التي ترعى الإبداع الثقافي على إمتداد الوطن العربي أمر في غاية الأهمية، ولا تستقيم بناء المجتمعات الحرة بدونها.

أخيرا، يعيش الفكر العربي مرحلة صعبة شعارها مراجعة نقدية صارمة للسياسة الثقافية العربية من أجل بناء تصور إستراتيجي جديد يقدم معرفة عقلانية وليس عاطفية أو انفعالية حول قدرة المجتمعات العربية على مواجهة تحديات العولمة من خلال أنظمة سياسية فاقدة للشرعية بالمفهوم الفيبري للشرعية. لذلك انتقد المثقفون العرب بشدة مقولات(نهاية التاريخ)، و(صراع الحضارات)، و(الثقافة الكونية الواحدة)، التي تعبر عن ثقافة إيديولوجية ملحقة بالعولمة الأميركية، دون أن تحمل أي تجديد ثقافي. فهذه المقولات لا تهدد الثقافة العربية فحسب بل جميع الثقافات التي ما زالت تتغنى بأمجادها الماضية في عصر يشهد ثورات متلاحقة وتحولات سريعة على مختلف الصعد.

*********************

*) باحث من لبنان.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=447

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك