في معنى الأُسوةِ الحسنة.. هل يكفِي أن نمدح محمّداً؟

نسرين بكارة

 

"لَقدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذكَرَ اللهَ كثِيرًا"، لم يتوقّف معنى هذه الآية الكريمة من سورة الأحزاب على أمر الله سبحانه وتعالى بالتأسّي برسُول الله صلى الله عليه وسلّم والاِقتِداءِ بصبره وحسن ظنّه بالله وثباته ومرابطته في يومِ الأحزاب فحسب، بل كان معنى الأمر أن تَسير خُطى قُلوبِنا وخُطى أفعالِنا على خُطى هذا الرّجلِ العظيم الذي لا تزالُ البشريّة تستنيرُ بنور هُداه إلى اليوم. هل يكفِي أن نمدحَ سيّدنا محمدا ليتحقق صدقا إيماننا به؟

على مرّ التاريخ أبدع الشعراء والأدباء في مدحِ سيد الخلق محمّد فهامتْ بهِ الكلِماتُ وتجمّلتْ بوصفِهِ القصائدُ وخرّ الشّوقُ خاشِعا لِرجُلٍ انْدهَش منه المُؤمن وغير المُؤمِنِ وتعطّر كلّ لِسانٍ بذكرِه وسردِ سيرتِه التي ما قرأها بشرٌ إلا وأقرّ بأنّ هذه الأخلاق ما كان وجُودُها في بشريٍّ إلّا مُعجِزةٌ هدتْ قلوبا مُنكِرةً للإيمانِ وذهبت بعقولٍ لربّما فًدُمَتْ للبحث في سيرة القائد الأعظم فبدأت بها قراءةً وانتهت منها هدايةً واقتداءً وتأسّيا. فأين أمّة محمد من التأسي بمحمدٍ؟ وأين هي أخلاق المسلمين من أخلاق سيّدهم؟
 

  •  
  •  
إنّ أزمتنا الحقيقية الآن هي في الواقع أزمة أخلاقٍ ومصيبتنا العظمى أنّ انحطاط هذه الأخلاق قد نزل بنا إلى ناقصِ صفرٍ وبأسُنا الذي جعلناه بيننا جعلنا الطرف الأوهن والأضعف

لقد كان كافيًا أن نرمي بمِنهاجِه صلى الله عليه وسلّم على رفوف مكتباتنا حتى يُغطّيهُ التراب، لنتآكل بعدها كما تتآكل جثث ُالموتى في قبورها، وأن نُلقّب بالعالمِ الثالث، وأن يقال عنّا أننا أمّة ضحكت من جهلها الأمم، وأن نصطفّ في مؤخرة الأمم، لقد كان كافيا تخلّينا عن طريق الحق الذي جاء به عبدُ الله محمد لجعلِ دمائنا تتشربها كلّ أرضٍ في كُلّ مكانٍ، وأن نَنْحدِر نحْو الرذيلةِ والتفاهة والسماجة وسفاسفِ الأمورِ، وأن يتفشّى الجهلُ فينا كالوباءِ، وأن تنحطّ أخلاق أولادِنا الذين لمْ يحظوا بآباءٍ يُعرّفونهم بمحمدٍ وبأخلاقِ محمد النبي الأميّ اليتيم القائد الأعظم الذي لم يكُن له بيت الأمراءِ بل تمرّ عليه الأشهر فلا توقدُ نار ببيته.

القائد الأعظمِ الذي ربط حجارةً على بطنِهِ من الجوعِ بعد أن نال منه الإجهاد في حفر الخندقِ، الرّجلِ العظيم الذي جلس يواسي طفلا مات عُصفورُه، الرّحيم الذي صبر على من ظلمه ولم يُسئ لمن تجرّأ عليه صلّى الله عليه وسلّم بالسُّبابِ والشّتمِ، والذي رحِم أهل الطائفِ حين أُرسِل إليه ملَكُ الجِبالِ ليُطبقَ عليهِم الأخشبين بعد أن رموه بالحجارة حتّى أدموا عقبه وقال بلْ أرجُو أنْ يُخرِج الله مِنْ أصلابِهِم منْ يعبُدُ الله وحدهُ ولا يُشرِك بِهِ شَيئا، الرّجُلِ الكريمِ الذي كان يسابقُ زوجته عائشة ويتكئ في حِجرها وهي حائض ويشربُ من مكانِ فِيها ويمدحُها فيقولُ إنّ فضلَ عائشةَ على النّساءِ كفضلِ الثريدِ على سائرِ الطعامِ، صاحبِ المروءةِ والقوّةِ التي لا تُسيء لنملة.

لا يكفِي أن نمتدح نبيّنا الكريم ولا يكفي أن نقول أنّنا نُحبّه ولا يكفِي أن نشتاق إليه وهو غائب في أخلاقنا وتعاملنا، لا يكفي أن نقول أننا نحبه وهو غائب في بُيوتنا التي تتحطّم من وراء الجُدران بسبب سوء الأخلاقِ والجهلِ، وغائبٌ في مدارسِنا التي كان الأولى أن تكون المادّةُ التي تتصدّرُ قائمة الموادِ هي مادّة الأخلاقِ التي جاء بها محمد، وغائبٌ في مصانِعنا التي غاب فيها عدلُ محمدٍ، وغائبٌ في أسواقِنا التي تفشّى فيها كلّ ما نهانا عنهُ الحبيب المصطفى، وغائبٌ في شوارعنا التي اغتصبتها الرذيلةُ، وغائبٌ في كلّ طاولةٍ تآمر حولها رهْطٌ من المفسدين على أمّة الإسلامِ كلّها، وغائبٌ في كلّ قلبٍ يستيقظُ كلّ صباحٍ ولا يوقِظُ ضميره معه.

أليس من العارِ أن يقولَ مُلحِدٌ بأنّ محمدا قد جاء برسالةٍ لا يُمكِنُ إِنْكارُها وهي خُلاصة الرّسالاتِ السابقةِ بلْ وتعلُو عليها وأنّ رسالتهُ للعالمِ دُستورٌ ثابتٌ، بينما تتلاشى رسالته في أمّة الإسلام والإيمانِ، أليس من المقيتِ أن تسمع باحثا من غير المسلمين كـ"رِيتِينْ" يقول بأنّه ومُنذُ بُزوغِ بعثةِ محمد صلى الله وعليه وسلّم وسُطُوعِ شمس الإسلامِ أثبت هذا النبيّ أنّ دعوته مُوجهةٌ للعالمينَ وأنّ هذا الدّينَ المُقدّسَ يُناسِبُ كلّ عصرٍ وكلّ عُنصُرٍ وكُلّ قوميّةٍ وأنّ أبناء البشر في كلّ مكانٍ وفِي ظِلّ أيّةِ حضارةٍ لا غِنى لهُم عن هذا الدّينِ الذي تنسجِمُ تعاليمُهُ مع الفِكرِ الإنسانيّ.. بينما يحاربُ من يدّعون أنهم ينصرون الدّين دين النبيّ الأعظم ورِسالته ويتخاذلون في كلّ موقِفِ بنصرةِ الباطلِ لأجلِ عرضٍ من الدّنيا، فتجزأت ديارُ المسلمين بأيدي هؤلاء، ونُهِبت ثروات المسلمين بأيدي هؤلاء، وسفكت دماءُ المسلمين بأيدي هؤلاء مُدّعي التديّن الذين خدعونا لسنوات بنعيقهم الزائف وتديّنهم المغشوش، يذكرني هؤلاء بمقولة الغزالي التي قال فيها بأن التديّن المغشوش قد يكون أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ..

إنّ أزمتنا الحقيقية الآن هي في الواقع أزمة أخلاقٍ ومصيبتنا العظمى أنّ انحطاط هذه الأخلاق قد نزل بنا إلى ناقصِ صفرٍ وبأسُنا الذي جعلناه بيننا جعلنا الطرف الأوهن والأضعف ولا قيام لنا ولا نهضة ما لم نُقِم هذا الدين في أفعالنا وما لم نُخرجهُ من غياباتِ العباداتِ اليوميّة التي جعلناها عاداتٍ كعادات أكلنا وشربنا ونومنا واستيقاظنا ولنقرأ مرّة أخرى ببصيرةٍ إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاقِ.

المصدر: https://blogs.aljazeera.net/blogs/2019/11/11/%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B9%D9%86%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D9%88%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%86%D8%A9-%D9%87%D9%84-%D9%8A%D9%83%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%86-%D9%86%D9%85%D8%AF%D8%AD-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF%D8%A7

الأكثر مشاركة في الفيس بوك