لماذا يبدو الإنسان المعاصر أقلّ رحمة ومروءة من أسلافِهِ؟

هبة الشرع

 

على الرغم ممّا تُقدِّمُهُ لنا التِقَنيّة الرائدة من وسائلَ للراحة بما أضْفَتْهُ من تسهيلاتٍ رائجة على نمطِ الحياة الحديثة مُقارنةً بحياةِ أجدادِنا، إلاّ أنّها خلّفَتْ آثاراً سلبيّة لا يُمكنُ التغاضي عنها في سُلوكيّات الإنسان المُعاصِر وعلاقاتِه الاجتماعية ومنظومَتِه الفِكريّة والقِيَميّة. نحنُ نعيشُ اليوم برفاهيّةٍ حَضَريّة لرُبّما كانت كحُلُمِ العصا السحريّة لأسلافِنا تجعلُنا نقومُ بمَهامِّنا اليوميّة بسرعةٍ وجيزة وبأقلِّ جُهدٍ ممكن بما تَوفَّرَ لنا في زماننا من صناعات واختراعات وأجهزة كهربائية وإلكترونية ذكيّة تمْلأُ منازِلَنا ومُجتمعَنا المُحيط وتوفّرُ لنا الوقتَ الثمين في ظلِّ عصْرِ السُّرعة والعَوْلَمة الذي وجدْنا أنْفُسَنا به تائهين.

وأيٌّ منّا يستطيعُ أن يلتمسَ هذا التغيُّرَ الهائل في نوعيّةِ الحياة -وتحديداً الذي حصلَ في غُضونِ ثلاثةِ إلى أربعةِ عُقودٍ ماضية- بمُجرّدِ جُلوسِهِ مع أحدِ أجداده أو أقاربه من كِبارِ السنّ الذين عاصروا تعاقُبَ هذا التطوّر تدريجياً والذي لربّما جعلَ هذا العالمَ غريباً جداً وثقيلاً عليهم لاختلافِه الكُلّي عن ظروفِ نشْأتِهم وذُروةِ شبابِهم. لكَ أن تتخيّلَ ما كان يُكابِدُه الرّجالُ قديماً وحجمَ الجُهدِ البدنيّ الذي كانوا يبذُلونَهُ في المِهَن والأعمال اليومية كالزراعة والحصاد والبِناء والنّقل بمعدّاتٍ أوليّة بسيطة، أو ما كانت تقومُ به النساء من أعمال المنزل التي تبدأ بالاستيقاظ من طلوعِ الفجر لبدءِ العَجْن والخَبْز لإطعامِ أفواهٍ جائعة لأُسَرٍ مُكَوَّنة من ضِعْفَي أو ثلاثةِ أضعافِ عدد أفرادِ الأُسرة الحديثة حاليّاً، يليهِ غسيلُ الملابس اليدَويّ وطهيُ الطعام بأبسط المُكوِّنات وممّا قُمْنَ بزراعتِه في فناء المنزل أو ممّا تمّ تخزينه وحِفظُه بِطُرُقٍ تقليديّة لا تعتمدُ على التبريد لقلّةِ أو عدم توافُرِ الثلّاجات في زمانهم؛ ففي حينِ كانت مثلُ هذه الأجهزة كماليّات تقتنيها الطبقة الغنيّة في ذلك الزمن أصبحت أساسيّات لا يُمكنُ الاستغناء عنها أو العيشُ بدونِها حاليّاً، ولِنَقُل أنّنا لا نستطيعُ الاستغناءَ عنها بالمعنى الحرفيّ كضروراتٍ عَصريّة فهي ليست ضرورات بيولوجيّة كالماء والهواء والغذاء والدواء.
 

  •  
  •  
أكثرُ ما هو محزِن ومشين في أثرِ هذه التكنولوجيا على النسيج الأُسَريّ هو اعتيادُ رؤيةِ الأبناء لوالديْهم يقومون بالأعمال المنزليّة دون أدنى إحساسٍ بالمسؤولية للمُبادرة بالمُساعدة رأفةً ورحمةً وبِرّاً بوالديْهم

إنّ هذه التسهيلات التي وفّرتْها ثورةُ التِقَنيّات الحديثة واقتضتْ حياتُنا المَدنيّة مُواكَبَتَها واستخدامَها لتلبيةِ احتياجاتِنا وقضاء أعمالنا اليوميّة يُفْتَرَضُ منطقيّاً أنْ تجعلَنا أكثرَ سعادةً وراحة ورخاء مُقارنةً بالأعباء البدَنيّة والنفسيّة الأقسى في حياة الأجيال السابقة، فهل هذا ما حدث؟ أعتقدُ أنّ الإجابةَ أكثرُ تعقيداً من نَعَمٍ أو لا، فما وفّرتْهُ التكنولوجيا من تسهيلات وجودةٍ في نوعيّة الحياة قابَلَتْهُ بمُعضلاتٍ مُستحدَثة على الصعيد النفسيّ والسلوكيّ والاجتماعيّ للأجيال المُعاصِرة، وفي مقالي هذا أودُّ أن أناقشَ بعضَ هذه الظواهر السُلوكيّة الناتِجة عن صدمة الحضارة والتطوّر في مجتمعاتِنا:
 

عُبوديّة المادّة

لقد ساهمَ التقدُّم التِقَنيّ في جعلِ الإنسان المُعاصر يلهثُ بتخبُّطٍ أهوج ساعياً لاكتساب المال الذي يُمَكِّنُهُ من اقتناء كلَّ جديدٍ تطرَحُهُ التكنولوجيا يوميّاً من أجهزة وبضائع وسيّارات في الأسواق والمعارض وواجهات المحلّات، فيدخلُ في حلَبةِ سباقٍ لا تنتهي لحرصِهِ على امتلاكِ كلّ ما هو جديد حتى وإنْ لم يمضِ على شرائِهِ لهاتفِه المحمول أو ساعتِه الذكيّة أو سيّارتِه أو شاشة تلفازه بعضَ الأشهُرِ أو السنوات والتي لا زالت صالحة وتقومُ بالوظيفة المنوطة بها، إلّا أنّه لا يستطيعُ مُقاومةَ إغراءِ التّحديث مُحاوِلاً اللحاقَ بركْبِ التطوّر الذي يصُبُّ في جدولِ أرباحِ الشركات الكبرى، ويصبحُ عبداً للمادّة أقرَّ بذلك أم لم يفعل وينشغلُ عن كونِ الغاية من هذه الوسائل الحديثة هي خدمةُ الإنسان وتسهيلُ حياتِه ممّا يُتيحُ له الوقتَ الكافي للتأمُّل والتفكُّر وإثراءِ مدارِكِه بالمعرفة وصقلِ العقليّةِ الإبداعيّة لديه، فيقُعُ في شركِ سطْوةِ المال والقوى المادّية والتي وصفها الدكتور مصطفى محمود رحمه الله بأنّها "المسيح الدجّال" الذي افتُتِنَ الناسُ به وعبَدُوه في هذا الزمان. ولا شكّ أنّ هذه العبوديّة أثّرتْ على الأنماط السُّلوكيّة للأفراد وقادتْ عمليّةَ التحوُّل من مجتمعات مُنتِجة ومُكتَفِية ذاتيّاً إلى مُجتمعات مُستهلِكة وفوضويّة تجتاحُها آفةُ النّهَم نحو الاكتناز والإفراط في الشّراء واقتناء الأشياء المادّية، فخلّفتْ إنساناً لا يقنَع وما عادَ يُشبِعُهُ ما بين يديْه فقد أَلِفَ النِّعَم وانغمسَ في تَوْقِه المُستمرّ لمزيدٍ من الترَف الماديّ والحياتيّ.
 

التأثير على النّطاق الأُسَريّ والعلاقات الاجتماعيّة

إنّ دُخولَ الأنظمة الرقميّة إلى غُرَفِ منازِلنا وتدخُّلِها في شتّى أمور حياتِنا واختراقِها لخصوصيّاتنا أنشأَ ثُقوباً غيرَ مرئيّة في بُنية الأسرة العربيّة وزعزعَ مفاهيم التواصل والتآصر بين أفرادِها، فأصبحنا -كباراً وصغاراً- لا نستطيع التوقّفَ عن تفقّد الهاتف المحمول أو التحكّم في هوس متابعة وسائل التواصل الاجتماعيّ أو إدمان الألعاب الإلكترونية، وهي أوجهٌ على سبيل المثال لا الحصر تسلّلتْ بِدَهاء إلى جلساتِنا العائليّة حتى جعلَتْ الأُسرة مُتّحدة شكليّاً ومُفكّكة ضمنيّاً لإحلال الشاشات على مساحة الحِوار والنقاش الفعليّ وما يقتضيه التفاعل البشريّ البديهيّ من تواصلٍ بصَريّ وآداب الاستماع وأخلاقيّات الحديث، فنرى الأطفال غيرَ قادرين على الانتباه لما يقولُه والديهم وكأنّهم في عالمٍ آخر يستحوذُ على حواسِّهم ويجعلُهم صمّاً بُكماً لشدّة انجذابهم لمحتوى الشاشات، ونرى الكِبار يُسوّفون رغبتَهم في الحديث مع أبنائِهم لانشغالهم بمحادثة أو متابعة الأخبار في الفضاء الافتراضيّ، وقد يكونُ كلٌّ منهم في غرفةٍ منفصلة ممّا يجعلُ الفجوة بين الأجيال تزداد اتّساعاً وتنافراً وتخلقُ عزلةً اجتماعية بين أفراد المنزل الواحد.

وأكثرُ ما هو محزِن ومشين في أثرِ هذه التكنولوجيا على النسيج الأُسَريّ هو اعتيادُ رؤيةِ الأبناء لوالديْهم يقومون بالأعمال المنزليّة دون أدنى إحساسٍ بالمسؤولية للمُبادرة بالمُساعدة رأفةً ورحمةً وبِرّاً بوالديْهم، بل على العكس أصبحنا نرى أجيالاً مُتطلِّبة ومتذمِّرة وغير مسؤولة تُنادي بحقوقِها التي تشمل انعدام الواجبات بالأساس مع نيلِهم لكافّةِ احتياجاتهم ودون إبداءِ التقدير والاحترام لمجهودِ وكَدِّ الوالِدَيْن في توفيرِها. ولذا يكمُنُ التحدّي الأكبر الذي يواجِهُ أربابَ الأُسَر في المُوازنة ما بين جذبِ الأبناء لتفعيل روابط الأُسرة من خلال الحوار والتواصل والحثِّ على التمسُّكِ بالقِيَم الاجتماعيّة المحمودة وبينَ تقويضِ ورقابة ما تفرِضُهُ الحداثة على أبنائهم من أنماطٍ سُلوكيّة دخيلة على ثقافاتنا وموروثاتِنا الأصيلة.
 

الجاهزيّة للصراع والعُنف

تُشيرُ الإحصائيّاتُ العالميّة مُمَثَّلةً بمنظمة الصحة العالميّة إلى ازدياد مستويات العُنف المجتمعي ومعدّلات الجريمة بشكلٍ لافت على مستوى الأفراد والمجتمعات والدُّوَل، ولابدَّ لنا أن نتساءلَ هنا إنْ كان لهذا المنحنى التِقَنيّ يدٌ في جعلِ الإنسان المُعاصر أقلّ صبراً وقدرةً على التسامح وتحمُّل وتقبُّلِ الآخر، فهل كان لاعتيادِ تلقّي محتوى العُنف والمشاهد الدمويّة كموادٍّ إعلاميّة وترفيهية كالأفلام والمسلسلات والألعاب الإلكترونية وأخبار القتل والظلم والدمار حول العالم أثرٌ في الكيان النفسيّ والسلوكيّ للمتلقّي يجعَلُه بليدَ المشاعر تجاه الآخرين، قليلَ الرحمة والإحساس بمن حولَه، متعصّباً لرأيه وعلى جاهزيّة فوريّة لتحويل النقاش إلى خلافٍ وشِجار أبسطُهُ سلاطةُ اللسان وزمجرةُ الغضب وقد يمتدُّ إلى تعنيفٍ جسديّ ولربّما يؤولُ به المطاف إلى جريمةٍ بشعة على إثرِ اختلافٍ في وجهات النظر أو في تضاربِ المصالح الشخصيّة؟

أصبحنا فعلاً نسمعُ بمثلِ هذه الأخبار ولا يمكنُ أن نعولَ ذلك إلى التقنيّة الحديثة بشكلٍ مُطلق بالتأكيد، فضغوطاتُ الحياة وأوضاعُ المعيشة وظروفُ النشأة وطُقوسُ بناءِ الشخصية ووجود المشاكل النفسيّة والأُسريّة والفشل في بناء الذّات وخيبات الأمل المتكرّرة والخواء الرُّوحي والوجدانيّ قد يجعل الإنسان يقوم بتفريغ ضغطِه النفسيّ بطُرُقٍ سلبيّة هدّامة على الرغم من كون ذلك لا يُعطيهِ أيّ حقّ في اتّخاذِ هذه الظروف كمُبرِّر للتعدّي على غيره، ولكنّ ما يجعلُنا نتساءل إنْ كان للتطوّر التكنولوجيّ دورٌ في تقنينِ قِيَم الرحمة والتسامح والحِلم والتعايش والإنسانيّة هو تنامي خصائص الشخصيّة النرجسيّة في الإنسان المُعاصر المُحِبّ للوصول والاكتناز والتباهي بالمُمتلكات والمُقتَنيات والإنجازات والمناصِب التي تجعلهُ يستميتُ لإظهار الأفضليّة وفي نيل الأحقّية وإنْ كانت على حِساب الغير، فنرى مُشاهداتٍ في الأسواق وفي الشوارع وفي أماكن العمل وفي المؤسسات الخَدَميّة تُومئ بوجود أزمة أخلاق في التعامُلات أساسُها يتبلور في خِصال الأنانيّة وتقديم المصلحة والمنفعة الشخصيّة في حقٍّ وباطل على الجميع تجعلُ الإنسان مُتأهِّباً للصراع والشِّقاق مع غيره من أجل انتزاع مُرادِه، وقد أدّى ذلك إلى اضمحلال بعض القِيَم المُجتمعيّة المتمثِّلة بمبادئ الرأفة والمُروءة والعطاء بلا مُقابل وحبّ الخير للغير واللّين والعطف في المُعاملة مُقارنةً بالجيل القديم.

ولا يسَعُنا إغفالُ النواحي الإيجابية الكثيرة للتِقَنيّة الحديثة فهي واعِدة ورائدة وقادرة على جعلِ عالَمِنا أفضل وأكثرَ استدامةً للموارد البيئيّة والبشريّة في كافّة المجالات، ولكنْ علينا أن لا ننسى أهميةَ اقترانِ القِيَم المُجتمعيّة العريقة والمنظومة الأخلاقيّة والدّينيّة في أُطُرِ حياتنا وتفاعلاتنا وتعاملاتِنا اليوميّة وإلّا أصبحَ هذا العالم غابةً من الوُحوش البشريّة تتنافسُ من أجل إثباتِ التفوّق الطبَقيّ أو العِرقيّ أو المادّي أو التكنولوجيّ على حِساب الإنسانيّة

المصدر: https://blogs.aljazeera.net/blogs/2019/11/10/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D8%A8%D8%AF%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D8%B1-%D8%A3%D9%82%D9%84-%D8%B1%D8%AD%D9%85%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%B1%D9%88%D8%A1%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%81%D9%87

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك