الفتح الأعظم
أميرة قاسيمي
أُغلق حسابي على الفايسبوك، وأنظر أمامي إلى ما تبقّى من حاضنة الأندلسيّين في الجزائر: "القصبة".. لا أرى سوى أشلاء مدينة عريقة مجيدة، كسُلطانة عظيمة تجعّد وجهها وذبُل شبابها ورُميَت على قارعة الطريق، تُجاهد من أجل الصّمود بكبرياء..
أبكي... أعود إلى صفحات شبكات التّواصل الاجتماعي المكتظّة، إلى المدوّنات الفاخرة، الفيديوهات التي تُصوَّر بين جدران بيتٍ هادئ والخُطب التي تُلقى أمام حشودٍ تهزّ الأرض، أجِد الأندلس تنبض فيها حيّة تُرزق؛ حزنًا داميًا تارة، وأملًا مشرقًا تارة أخرى، نٌرتّلها عندما تُسكِرنا الخيبات، ونختبئ خلف نورها لنُواري ظلمتنا.. و ما إن أغادر الإنترنت إلى الواقع حتّى يبتلع الصّمت والجمود كلّ شيء.. مجدّدًا، دائمًا.
القصبة، لمن لا يعرفها، هي المدينة القديمة في الجزائر العاصمة، تمّ بناؤها في العهد العثماني على أنقاض مدينة "إيكوزيوم" الرّومانيّة الغابرة. كانت مقرّ السّلطان وقبلة الزّوار الذين شغفتهم بأبنيتها البيضاء التي تجعلها تظهر، لمن يُقبل إليها بحرًا، كحمامة من ثلج احتضنت الأرض، أو كسحابة حطّت تٌقبِّل الأمواج.
الموريسكيّون الذين انتشروا في بقاع الأرض، كان لقصبة الجزائر منهم نصيب؛ القصبة التي تملك نهجًا عمرانيّا مشابهًا لما تركوه في بلدانهم من قصبات أندلسيّة بهيجة.
القصبة كانت واحدة من أجمل حُليّ البحر المتوسّط؛ بأزقّتها الضّيقة المتشابكة المتداخلة كأروقة متاهة حجريّة، ودكاكينها الصّغيرة التي تُذكّرك بأرض الأقزام، وبيوتها المتلاحمة ذات الأبواب المقوّسة المزركشة بالأزهار والأشكال الهندسيّة، والمطليّة بألوان الحياة..
قصبة الجزائر احتضنت الموريسكيّين الهاربين من لعنة محاكم التفتيش وأهوال العذاب الذي انهال على المسلمين واليهود من الأندلسيّين بأمرٍ من ملك إسبانيا فيرناندو الثّاني وزوجته إيزابيلا الأولى..الموريسكيّون الذين انتشروا في بقاع الأرض، كان لقصبة الجزائر منهم نصيب؛ القصبة التي تملك نهجًا عمرانيّا مشابهًا لما تركوه في بلدانهم من قصبات أندلسيّة بهيجة، استقبلتهم بحبّ، وطربت بغنائهم، وتأثّرت بعاداتهم كما فعلت شقيقاتها في باقي ربوع الجزائر، تونس والمغرب.
عندما زرت القصبة لأوّل مرّة، كنت أعلم أنّ وضعها متدهور، لكنّ لم يخطر بِبالي أبدًا أن تكون على فراش الموت. كنّا نمشي في أزقّتها وصوت التّاريخ ينطلق ليحدّثنا من حجارة الأبنية، ومن النّوافذ صغيرة الحجم قليلة العدد التي صمّمت بهذا الشكل لتحفظ قدسيّة خصوصيّة الدّار، يحكي التّاريخ من عيون الماء التي تسكن الزّوايا، والمساجد التي نَبَتت بين البيوت..
كلّ من كنّا نلقاه من شيوخ القصبة كان يشكو حالها، ويرثي زمن العزّ الماضي الذي انقضى.. كنت ألفّ بناظري كلّ ما فيها، وذاكرتي تستحضر صور "حيّ البيازين" الذي تشبهه ويشبهها، وأحياء قرطبة المكسوّة بالورد.. وهنا القصبة الكَسيرة تستغيث!
القصبة كانت واحدة من أجمل حُليّ البحر المتوسّط؛ بأزقّتها الضّيقة المتشابكة المتداخلة كأروقة متاهة حجريّة، ودكاكينها الصّغيرة التي تُذكّرك بأرض الأقزام.ا
امتلأ رأسي بصدى سؤال صارخ: ما نفع تدويناتنا وهتافاتنا العاجزة عن شفاء نتانة الواقع الذي نحياه قهرًا على قهر؟ لماذا نُطلق الهاشتاغات ونقود الحملات لنستفيق على رماد جثثنا؟ ما نفع التهام كتب التّاريخ وسرد ملاحم البطولة حين نستمرّ بالوقوف في جنازة حضارتنا بقلب ميّت؟
قصبة الجزائر فضيحة من يبكي على الأندلس، هي العار الذي يرافق أسماءنا كالظّل. قصبة الجزائر تخبرنا بصوت مرير وسخريّة أنّنا لن ننهض حتّى نمسح عن تاريخنا الغبار، حتّى نعيد فتح صناديق هويّتنا الصّدأة، حتّى نبدأ بالبناء بدَل البكاء على مُلك نواصل تضييعه. القصبة تخبرنا أنّ الفتح الأعظم لن يكون إلّا يوم تلبسٌ فستانَ عرسِها الأبيض بدل الكفنِ الذي تختنق فيه.