هَل يَكون العِلمُ عَربياً؟
ياسر نحيل
ن أبرز محدد لانتشار لغة ما وكونها لغة العلم هو سؤال الإنتاج العلمي، أي كمية الأبحاث والدراسات العلمية الجادة التي ينتجها المتحدثون بلغة ما، وقد بلغَنا من التاريخ كيف كانت اللغات تتبادل الأدوار في كل حقبة، وكيف كانت لغة ما تتقدم الركب ثم تنطفئ تاركة مكانها للغة قادمة وهكذا دواليك. لكن كيف يحدث هذا الانتقال؟ ألم تلعب الترجمة دورا رئيسا في هذه العملية؟
إذا عدنا قليلا لتاريخ التطور العلمي، فسنجد أن كل اهتمام بالترجمة يليه مباشرة أو يزامنه تقدم في العلوم بل إنتاجات علمية كثيرة في مختلف المجالات. منذ أول حركاتٍ للترجمة في العصر العباسي حيث ترجم العرب علوم الطب والفلك والرياضيات والموسيقى والفلسفة والنقد عن اليونانية، وصولا إلى حركات الترجمة اللاتينية في القرن الثاني عشر. لقد واكبت الترجمة إذن تطور العلوم وساهمت في احتلال اللغات مراكز متقدمة.
استرعى انتباهي مقال يعالج هذه القضية المهمة، جاء بعنوان: تعريب العلوم. ويبدو أنه تطرق لمجموعة من النقاط من بينها مسألة كون تدريس العلوم بلغة أجنبية رضوخا للدول القوية، والحال أن الأمر يكون في أغلب الأحيان احتراما لمتطلبات العمل الأكاديمي وتجنبا لثغرة فقر الترجمات العربية. كما يمكن أن يكون- كما أشار المقال- خضوعا لضغوط خارجية في بعض الحالات فقط، كنموذج المغرب مع اللوبي الفرنكوفوني الذي يفرض اللغة الفرنسية التي لم تعد لغة علم، فتكون المهزلة أن يدرس الطالب العلوم باللغة العربية في المرحلة الثانوية، ثم باللغة الفرنسية في الجامعة ثم باللغة الإنجليزية في حال استكماله الدراسات العليا خارج البلد، وفي جميع الحالات لن يجد الباحث ما ينفعه من وثائق ومراجع ومصادر علمية سوى باللغة الإنجليزية. لذا فالأفضل في هذه الظروف هو الاشتغال باللغة الأصلية.
حالة التيه هذه يجب تجاوزها عن طريق توحيد العمل في مؤسسات للترجمة يشارك فيها جميع الفاعلين، كما يفترض من كل الباحثين والمهتمين الاضطلاع بمهمة الترجمة العلمية بدلا من انتظار السياسات.
إن العودة للغة العربية في تدريس العلوم دون تحقيق مجموعة من الشروط ستكون لا محال ظلما كبيرا للعِلم وانتصارا مؤقتا للغة العربية، إذ يتطلب الأمر عملا بحثيا قبليا منظما ومتواصلا، ومقاربة تشاركية يُعمَل من خلالها على ترجمة مختلف العلوم للغة العربية بمشاركة مترجمين، باحثين، متخصصين، طلاب... ولعل العائق الأكبر الذي يواجه عمليات الترجمة هذه هو عدم القدرة على مسايرة التطورالعلمي من خلال إنتاج المصطلحات، حيث يصعب هذا الأمر على لغة غير منتجة للعلم. وحتى في بعض حالات الاجتهاد، فإن المترجم يقترح ترجمة لمصطلح ما مع الإبقاء على المصطلح الأجنبي الكفيل وحده بتحديد المعنى بدقة، خاصة في العلوم الإنسانية، كما حدث في نموذج الكلمات الفرنسية: Mœurs، Morale، Ethique التي ترجمت كلها بكلمة أخلاق، علما أن لكل منها معنى مختلف. فيضطر الكاتب لذكر المصطلح الأجنبي رفعا للبس.
والواقع أن ضعف مستوى المترجمين أو قلة اجتهادهم سبب رئيس في هذه الأزمة، ينتج عنه حالة من التشظي وتعدد الترجمات التي لا طائل منها، كمثال الاسم العلمي لطائر تمت ترجمته بما يقارب 7 مصطلحات عربية، فتجد في كل كتاب اسما مختلفا لنفس الطائر. إن حالة التيه هذه يجب تجاوزها عن طريق توحيد العمل في مؤسسات للترجمة يشارك فيها جميع الفاعلين، كما يفترض من كل الباحثين والمهتمين الاضطلاع بمهمة الترجمة العلمية بدلا من انتظار السياسات.