في عالم الحوار
فاطمة الصمادي
"الإصغاء بداية الحوار".. فكرة فلسفية يقوم عليها كتاب "في عالم الحوار" لمؤلفه الدكتور هادي خانيكي مستشار الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي ومدير المؤسسة العالمية لحوار الحضارات في طهران.
والكتاب الصادر باللغة الفارسية بحث يرصد التحولات التي أصابت خطاب حوار الحضارات في نهايات القرن العشرين، وهو مساهمة نظرية وعلمية في مجال الحديث عن حوار الثقافات والحضارات، ويتضمن بعدا عمليا من خلال تحليل خطاب عدد من الشخصيات الفاعلة في هذا السياق.
|
وخرج الكتاب للنشر بعد ست سنوات من البحث ليتضمن فصولا ستة تبحث الحوار كنموذج ومظهر، والأخذ والتلقي المعاصر له، والحوار في المدارس الفلسفية والاجتماعية ، ورد فكرة الغير وصناعة العدو، والحوار في عصر الاتصالات.
ويبين الكتاب مستعينا بمقولة جلال الدين الرومي "الإنسان ينمو عن طريق السمع، والحيوانات تنمو عن طريق الحلق"، معنى وماهية الحوار وضرورته، ويجادل في كون حوار الثقافات -وإن كان عالميا- ضرورة للعالم الإسلامي، ويقدم تحليلا مفصلا لذلك في خطابات خاتمي التي طرحت تساؤلات في مقدمتها: "إن كانت الثقافات أداة التعارف والتفاهم، فكيف يحاولون محوها؟ لماذا نركز على التصادم بينما بوسعنا المحادثة والحوار في ظل ثقافاتنا؟ إننا نحترم أدياننا ونعلم أن اختلاف الثقافات لا يؤدي بالضرورة إلى التخاصم والتصادم.. وغياب ثقافة حوار الثقافات يعطي البلاد التي تتمتع بقوة اقتصادية وتفوق في مجال التقنية العسكرية الحق في فرض إرادتها وآرائها على الشعوب الأخرى.. ونظرية الحوار تريد تغيير هذه القاعدة الجائرة".
أسس الحوار وطروحات خاتمي
ووفقا لما يتبناه خاتمي ويبينه الكتاب، فالحوار يقوم على أسس أهمها: أن كل الشعوب تتمتع بالاحترام والسيادة على نفسها وكلها متساوية على الصعيدين البشري والقانوني، وهو ما يقود إلى ديمقراطية دولية تتضمن الصلح والسلام الدوليين. وبهذه القاعدة سيكون الحوار أداة التواصل، وبذلك تشارك كل الشعوب والأمم في تطوير العالم، وبمشاركة الكل فقط يمكن أن يستقر السلام.
ويورد خانيكي أن نظرية حوار الحضارات طرحها خاتمي عندما كان رئيسا للجمهورية في سبتمبر/أيلول 1997 خلال كلمة ألقاها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يرى أن فكرة حوار الثقافات محاولة من أجل التفاهم بغية دحض التصادم.
المهم من وجهة نظر خانيكي أن هذا الطرح جاء متزامنا مع طروحات عدد من المفكرين والفلاسفة في الميادين الأكاديمية والبحثية في إيران وفي العالم، وهو ما أوجد نظرية جعلت الحوار موضوعا يقبل على تناوله الأكاديميون، وتوجها قاد أهل السياسة ومخططيها نحو فكرة حوار الحضارات والثقافات، وهو أمر جرى على الصعد الإقليمية والدولية، وشاركت فيه مؤسسات دولية معروفة كالأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها وفي مقدمتها اليونسكو، وكذلك منظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها.
وطرح العنوان ذاته بشكل واسع في أوروبا باحثا مسألة التعايش وأسلوب معاملة المهاجرين الذين يسكنون هناك، وهي قضية من أهم قضايا المسلمين هناك. والنقطة المهمة كما يحددها خانيكي، هي أنه على الرغم من أن فكرة حوار الثقافات والحضارات لم تقف مقابل صدام الحضارات الذي طرحه صاموئيل هنتنغتن، فإنها فهمت وتم إدراكها بمقابلتها مع مقولة هنتنغتن الذي كان في النهاية منظٌرا سياسيا تعامل مع مسألة سياسية معاصرة، ومع ذلك فإن هناك مشتركا لا يمكن إغفاله بين الفكرتين المتناقضتين، وهو أن كلتيهما تركز على دور الثقافة المؤثر في تحولات عالم اليوم. ويؤكد خانيكي أن تزامن الطرحين مكن من إسماع صوت الحوار، خاصة أن الطرح جاء من مفكر دخل معترك السياسة.
"نظرية حوار الحضارات طرحها خاتمي عندما كان رئيسا للجمهورية عام 1997، حيث يرى أن فكرة حوار الثقافات محاولة من أجل التفاهم بغية دحض التصادم, وهو ما أوجد توجها قاد أهل السياسة ومخططيها نحو فكرة حوار الحضارات والثقافات"
وفي أرضية كهذه يمكن فهم الفكرة نظريا وعمليا، وامتلاك مقومات تدخل المفهوم في مباحث ثقافية وفلسفية وتاريخية.
ويشير خانيكي إلى أن مقولة الحوار بحد ذاتها مقولة قديمة للغاية، بدءا من اليونان القديم وصولا إلى الصين والهند وإيران ومصر وهي التي تشكل مراكز التمدن القديم الخمسة، وهو الحوار الذي اتخذ شكلا ماديا ومعنويا انطلاقا من طريق الحرير إلى انتقال الفلسفة اليونانية، ووصول الفلسفة والعرفان الهندي إلى الشرق الأوسط وأوروبا وغيرهما. لكن هذا لا ينفى كونها ظاهرة حديثة وجدت لنفسها معنى جديدا في العالم المتمدن والفلسفات الجديدة، وإذا أردنا تعريف الحوار كناتج من نتائج التحول التقني، فعلينا أن نقبل أننا دخلنا في عصر يختلف عن العصر السابق وأن معنى الحوار أيضا يختلف عن سابقه.
الحوار ومقولات العقل الأداتي
ويناقش مؤلف الكتاب نتائج مقولات العقل الأداتي التي قدمها عدد من الفلاسفة الغربيين، وهو العقل الذي يقوم بصورة أساسية على المنفعة المادية الفردية أو الجمعية، وهذا العقل ينظر إلى الأمور كوسيلة للوصول إلى الهدف، وهو نموذج يقوم على الاستيلاء، وحكم علاقة الإنسان مع الطبيعة.
ويرى علماء اجتماع من أمثال ماكس فيبر ويورغان هابرماس أن توسيع هذه التجربة لتنتقل من علاقة الإنسان بالطبيعة إلى ميدان التواصل بين الإنسان والإنسان كان له نتائج مأساوية على الصعد كافة وخاصة الاجتماعية، ولذلك يذهب الدكتور خانيكي إلى التأكيد على دور الحوار في نفي نموذج العقل الأداتي، لأن نقطة شروع الحوار تقوم على رؤية الطرف المقابل لا كوسيلة وإنما كطرف حر ومستقل، وبالالتزام بالاستقلال والحرية يمكن البدء بالحوار.
ويناقش خانيكي المعاني اللغوية المختلفة التي تحملها الكلمات الخاصة بالحوار تبعا لمراحل تاريخية مختلفة، إيجابية أحيانا وسلبية أحيانا أخرى، لأنها تأتي متأثرة بالتحولات السياسية والثقافية بصورة كبيرة. وفي هذا الاتجاه يسعى الكتاب إلى تبيان الحوار بمعناه الحديث باحثا في علم اللغة والدلالة والاتصالات والسياسة وعلم الاجتماع والفلسفة، خاصة أن حوار الثقافات لم يأت في زمن واحد، ولم يأخذ شكله في مكان واحد.
ويتناول الكتاب في بحث آخر تعريفات الثقافة والحضارة، لأنهما يقومان بدور كبير في توضيح الموضوع، وهو ما يصفه الكتاب بالصعب، بسبب وجود تعريفات عديدة ومتناثرة وأحيانا بصورة متضادة. وللوصول إلى مفهوم محدد لحوار الحضارات، لابد من العبور من هذه الدائرة الواسعة من التعريفات، وفي هذا السياق تتداخل كلمة "ثقافة" وكلمة "تمدن" في الوقت الذي تحمل كل كلمة فيه مصاديق نظرية وعملية تميزها وتجعلها مختلفة عن الأخرى.
ولأن الثقافة ترد عند الحديث عن الحوار بين الحضارات، بات من الضروري بيان الحدود الوصفية للكلمتين. وكلمة ثقافة (Culture) في الفارسية هي "فرهنگ" وتتكون من مقطعين "فر" وتعني التقدم والارتفاع و"هنگ" وأصلها اللغوي "tang" و"tanga" وتشعب من اللغة البهلوية والأوستايية (الفارسية القديمة)، وتعني البسط والبناء العالي. وهذه الكلمة تجد جذورها في الأدب الفارسي القديم، وهي عند جلال الدين الرومي ترد بمعنى الآداب والرسوم، وتأتي في شاهنامة المنصوري حاملة معنى العظمة والأبهة، وفي شاهنامة الفردوسي وعند الشاعرين ناصر خسرو وسعدي بمعنى "المعرفة والعلم والحرفية والتعليم والتربية والتعقل".
"معظم تعريفات الثقافة تركز على جانبين: العناصر المکونة لها سواء کانت عادات اجتماعية أو أسلوب حياة، والتأثيرات المحرضة في هذه العناصر على سلوك الفرد"
وأصل كلمة ثقافة مشتق من الفعل اللاتيني "Colere" وتعني الزراعة، ورغم أنها في أوروبا حملت في البداية معاني خاصة بالزراعة، فإن ما يمكن ملاحظته بوضوح أنها منذ بدايات القرن السادس عشر بدأت تحمل أبعادا تتعلق بتنمية الإنسان، وأصبحت الكلمة تستخدم لتعبر عن زراعة الأفكار والقيم، وتبع هذا المعنى التجريدي تحولات معقدة أوجدتها الكلمة في مجال العلوم الاجتماعية. وظل المفهوم إلى اليوم يحمل تفسيرات مختلفة خاصة مع الثورة الهائلة في علم الاتصال وطرق التعليم.
ويتطرق الكتاب إلى الفكر كمنتج ثقافي سواء كان شفهيا أو مكتوبا أو بصورة تصويرية، وفي الوقت الحاضر يتم تقييم الفكر من خلال الحياة الفردية والجماعية للإنسان التي تجري بتأثير ذلك الفكر، وفي هذا الاتجاه يقول فريدريك تنبروك (1919-1994): بالمعنى الواسع للكلمة فكل ما يقوم به الإنسان وكل ما يرتبه من أعباء يقع في مجال الثقافة، لأن الفكر في نظره جوهر الثقافة، وهو الذي يمنح المفتاح لتفسير الواقع.
ووفقا للتعريف الكلاسيكي فالثقافة "تشمل كل عادات المجتمع"، وبذلك فهي تعني أسلوب الحياة. ويكتب تسودي باربو في كتاب "الثقافة والشخصية" أن معظم تعريفات الثقافة تركز على جانبين: أولهما العناصر المکونة لها سواء کانت عادات اجتماعية أو أسلوب حياة، وثانيهما التأثيرات المحرضة في هذه العناصر على سلوك الفرد.
ومن التعاريف المهمة أيضا ما أورده عالم الإنسان الإنجليزي إدوارد بارنت تايلور، حيث عرفها في كتابه "الثقافة الابتدائية" بأنها "تأليف يشمل المعرفة والاعتقاد والفن والأخلاق والقانون والأدب وكل الاستعدادات والعادات المكتسبة للإنسان كواحد من أعضاء المجتمع".
ومع بداية القرن العشرين -خاصة مع الطروحات النسبية- فقدت طروحات القرن التاسع عشر رونقها واتجهت التعاريف الجديدة نحو التجريد والكثرة. ومن أهم الأعمال في هذا السياق، العمل المشترك الذي قام به فيلسوفان أميركيان هما کروبر وکلوکون، حيث قاما في كتابهما "المرور النقدي على مفاهيم وتعاريف الثقافة" عام 1952 بجمع وتصنيف قرابة 164 تعريفا.
ويشير الكتاب إلى أنه مع بداية العقد السابع من القرن العشرين اتجه الحوار بشكل أعمق ليرتكز على المصالح، متخذا شكلين: أحدها بين الدول الكبرى حاملا شعار منع الحرب، ومثال ذلك المحادثات الأميركية الروسية فيما يتعلق بالصواريخ الإستراتيجية. والآخر بين دول العالم الثالث بهدف تشكيل جبهة واحدة في مواجهة الدول المقتدرة، ومن ذلك محادثات دول عدم الانحياز. ولكن وبالتدريج استطاع ممثلو المجتمعات ونشطاء الثقافات المختلفة أن يوجدوا أشكالا جديدة ومتنوعة من الحوار.
"رغم سيطرة أجواء عدم الحوار على السياسة الدولية فإن خانيكي يأمل أن تجد فكرة الحوار -سواء من الناحية النظرية أو التطبيقية- مكانا لها في بناء العالم"
ورغم أن المنافع الاقتصادية شكلت عنوانا محوريا لغايات الحوار، فإن الميدان شهد أيضا حوارات أخلاقية وفكرية مغايرة.
وفي الفصل المتعلق بتحليل الخطاب يحقق الكتاب في نصوص خطابات رؤساء منظمة اليونسكو لمراحل زمنية مختلفة، ويصف بناء النصوص ويستخرج المصطلحات القيمية الغالبة في كل متن، ويحاول إسقاطها على المجريات والأحداث السياسية لكل مرحلة، ومدى التغيير الذي لحق بهذه المفاهيم نتيجة لتأثير السياسة.
ورغم سيطرة أجواء عدم الحوار على السياسة الدولية فإن خانيكي يأمل من خلال تقديم تعريف لحوار الثقافات بكونه يساعد في تشكيل "المجتمع المدني العالمي" في مواجهة "النظام العالمي"، أن تجد فكرة الحوار -سواء من الناحية النظرية أو التطبيقية- مكانا لها في بناء العالم.