الزيادة السكانية.. بين الشريعة الإسلامية ومطالب المؤتمرات الدولية
من خلال النظر إلى ما جاء في مقررات مؤتمرات المرأة والسكان العالمية، نلاحظ بدون عناء دوافع الحملة المسعورة التي تتبناها مؤتمرات المرأة والسكان العالمية، والتي تلح فيها على دول العالم الثالث بقطع نسله وتقليل سكانه، وأهم هذه الدوافع هو خوف الدول الغربية التي تقف خلف هذه المؤتمرات من استمرار اتساع الفجوة في القوة البشرية بينها وبين الدول النامية ذات معدلات المواليد المرتفعة، فإن شبح الانقراض والانكماش هو الهاجس المخيف الذي أصبح يسيطر على العديد من دول الغرب.
هذا الأمر دفع هذه الدول إلى اللجوء إلى استيراد القوى البشرية لتعويض تراجع تعداد سكانها وانخفاض معدلات الإنجاب بها؛ بسبب الانحلال الأخلاقي المستشري فيها، وعدم قبول فكرة الزواج والالتزام بالنظام الأسري الطبيعي.
مقررات مؤتمرات المرأة والسكان التي تدعو إلى تحديد النسل
جاء في الفقرة الأولى من الفصل السادس من مقررات مؤتمر السكان والتنمية الذي عقد في القاهرة سنة 1994م ما يشير إلى التخوف من الزيادة السكانية، والترهيب من زيادة معدلاتها في المستقبل القريب، كتمهيد لقبول تنفيذ السياسات والتوصيات الواردة في برنامج مقررات هذه المؤتمرات التي تدعو إلى خفض معدلات النمو السكاني في الدول النامية، فكان مما ورد فيها:
– ما جاء في البند ( 6-1 ) ( وصل نمو سكان العالم إلى مستوى أعلى مما كان عليه في أي وقت مضى بالأرقام المطلقة، حيث تتجاوز الزيادات الحالية 90 مليون نسمة سنوياً، واستناداً إلى إسقاطات الأمم المتحدة، يرجح أن تبقى الزيادات السكانية السنوية فوق 90 مليون إلى غاية 2015م، وبينما استغرق تزايد سكان العالم من بليون إلى بليونين 123 سنة، استغرقت زيادة السكان بليون نسمة أخرى فيما بعد 33 سنة و14 سنة و13 سنة على التوالي.
ويتوقع ألا يستغرق الانتقال الجاري حالياً من البليون الخامس إلى البليون السادس سوى 11 سنة، وأن يكتمل بحلول عام 1998م، وزاد سكان العالم بمعدل 1,7% في السنة خلال الفترة 1985م-1990م، غير أن من المتوقع أن ينخفض خلال العقود التالية ليصل إلى 1% في السنة بحلول الفترة 2020م– 2025م، ومع ذلك فإن تحقيق استقرار في نمو السكان خلال القرن الحادي والعشرين سيتطلب تنفيذ جميع السياسات والتوصيات الواردة في برنامج العمل هذا ).
ثم تكشف البنود التالية ما أشرنا إليه من أن الهدف الحقيقي من وراء الدعوة إلى خفض معدلات السكان في البلدان ذات معدلات المواليد المرتفعة، هو التخوف من بطء النمو السكاني في الدول الغربية المتقدمة أمام سرعته في الدول النامية، فقد جاء في الفِقرة الثانية من الفصل السادس من وثيقة مؤتمر السكان بالقاهرة:
– البند (6-2) ( تلتقي غالبية البلدان في العالم في نمط من المعدلات المنخفضة للمواليد والوفيـات، ولكن نظراً لأنها تسير بمعدلات سرعة مختلفة، فإن الصورة الناشئة هي صورة عالم يواجه حالات ديموغرافية متنوعة تنوعاً متزايداً. ومن حيث المعدلات الوطنية، تراوحت الخصوبة خلال الفترة 1985م-1990م بين 8,5 أطفال لكل امرأة..
وخلال الفترة 1985م-1990م كان 44% من سكان العالم يعيشون في 114 بلداً تجاوزت معدلات النمو فيها 2% سنوياً، وتشمل هذه تقريباً جميع البلدان في أفريقيا التي يبلغ متوسط فترة تضاعف سكانها حوالي 24 سنة. وثلثي بلدان آسيا وثلث بلدان أمريكا اللاتينية، ومن جهة أخرى، قلت معدلات النمو عن 1% سنوياً في 66 بلداً يمثل 23%من سكان العالم ( معظمها في أوروبا )، وسيستغرق سكان أوروبا ما يزيد على 380 سنة لمضاعفة عددهم بالمعدلات الحالية.
ولهذه المستويات والفوارق المتفاوتة آثار على الحجم النهائي والتوزيع الإقليمي لسكان العالم واحتمالات التنمية المستدامة: ففي الفترة بين عام 1995م وعام 2015م يتوقع أن يتزايد سكان المناطق الأكثر نمواً بما يقرب 120 مليون نسمة، بينما سيتزايد سكان المناطق الأقل نمواً بما قدره 1,727 مليون نسمة ).
ويتضح الأمر أكثر من خلال النظر فيما ورد ضمن بنود وثيقة مؤتمر المرأة العالمي ببكين، حيث جاء فيها:
– البند (40) ( وتقل أعمار نصف سكان العالم عن 25 سنة، ويعيش معظم شباب العالم – أكثر من 85% – في البلدان النامية، ويجب أن يقر واضعوا السياسات بالآثار المترتبة على هذه العوامل الديمغرافية ).
وتشير بنود وثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية إلى أن حملات تنظيم الأسرة التي دعت إليها الأمم المتحدة قد آتت أُكلها، حيث انخفضت معدلات الخصوبة بالفعل، وأن هذا الانخفاض الحاصل كان انخفاض في معدلات النمو البشري في الدول النامية وليس الدول الغربية، وهذا هو المطلوب .
– ففي البند (7-11) ( وقد أسهمت برامج تنظيم الأسرة بصورة كبيرة في انخفاض المعدلات المتوسطة للخصوبة في البلدان النامية من حوالي ستة إلى سبعة أطفال لكل أسرة في الستينيات إلى حوالي ثلاثة إلى أربعة أطفال في الوقت الحاضر ).
ومع هذا التقدم والنتائج الملموسة التي تسعى إليها هذه المؤتمرات، تدعوا الوثيقة إلى المزيد والمزيد من التوسع في برامجها التي تهدف إلى خفض نسبة الخصوبة والإنجاب في هذه الدول، فقد ورد في نفس البند: (7-11) ( وخلال عقد التسعينيات، سيزيد عدد الأزواج الذين في سن الإنجاب بحوالي 18 مليون زوج في السنة، ولتلبية احتياجاتهم وسد الثغرات الكبيرة القائمة في مجال الخدمات، سوف يلزم توسيع تنظيم الأسرة وإمدادات وسائل منع الحمل بصورة كبيرة خلال السنوات المقبلة ).
المؤتمرات الدولية تقصد خفض معدلات الخصوبة وتحديد النسل لا تنظيمه
فرغم أن مقررات هذه المؤتمرات تستخدم لفظ ” تنظيم الأسرة ” عندما تتحدث عن رغبتها في خفض عدد السكان، إلا أنه بتأمل تلك النصوص جيداً نرى أنها تقصد تحديد النسل وليس تنظيمه، ونلاحظ هذا من خلال استخدامها للعبارات ( تحديد عدد أطفالهم )، ( حجم الأسرة المفضل )، ( عدد أطفالهم )، ( بلوغ حجم الأسرة المرغوب فيه )..
– فمما جاء في مؤتمر السكان والتنمية بالقاهرة على سبيل المثال: في (المبدأ 7) ( .. إتاحة الفرصة الشاملة للحصول على خدمات الرعاية الصحية، بما في ذلك الخدمات المتصلة برعاية الصحة الجنسية والتناسلية وتنظيم الأسرة. ويتمتع جميع الأزواج بحق أساسي في القيام بكل حرية ومسؤولية بتحديد عدد أطفالهم والمباعدة بينهم، وفي الحصول على المعلومات والتثقيف والوسائل اللازمة للقيام بذلك).
– وفي البند (7-10) ( يجب أن يكون هدف برامج تنظيم الأسرة تمكين الأزواج والأفراد من أن يقرروا بحرية وبروح من المسئولية عدد أطفالهم.. وتوجد في كل مجتمع عوامل حافزة وأخرى مثبطة اجتماعية واقتصادية، تؤثر في قرارات الأفراد بشأن حمل الأطفال وحجم الأسرة. وطوال القرن الماضي، لجأت حكومات كثيرة إلى تجارب تتعلق ببرامج من هذا القبيل بما في ذلك توفير حوافز ومثبطات محددة، من أجل خفض معدل الخصوبة ).
– وفي البند (11-15) (د) ( زيادة مقدرة الأزواج والأفراد على ممارسة حقهم الأساسي في البت بحرية وبإحساس من المسئولية في عدد أطفالهم والمباعدة بين المواليد، وفي أن تتاح لهم المعلومات والتثقيف والوسائل اللازمة للقيام بذلك ) .
– وفي البند (7-21) ( وفي السنوات المقبلة، يجب أن تُبذل في جميع برامج تنظيم الأسرة جهود كبيرة لتحسين نوعية الرعاية، وينبغي للبرامج أن تحقق ما يلي في جملة تدابير أخرى: (أ) ( الإقرار بأن الطرق المناسبة للأزواج والأفراد تتباين حسب الأعمال، وعدد المواليد، وحجم الأسرة المفضل ).
– وفي البند (13-13) ( واستناداً إلى الطلبات الحالية الكثيرة غير الملبَّاة على خدمات الصحة التناسلية بما فيها تنظيم الأسرة، والنمو المتوقع في عدد النساء والرجال ممن هم في سن الإنجاب، فإن الطلب على هذه الخدمات سيزداد زيادة سريعة جداً خلال العقدين المقبلين، وسيتسارع هذا الطلب نتيجة للاهتمام المتزايد في تأخير الإنجاب، وتحسين فترة المباعدة بين الأطفال، وبلوغ حجم الأسرة المرغوب فيه في وقت مبكر).
ويستمر التأكيد على هذا من خلال بنود التقرير الخاص باللجنة المُخَصَّصَة للدورة الاستثنائية الثالثة والعشرين للجمعية العامة المنعقدة بنيويورك سنة 2000م لمتابعة تنفيذ مقررات مؤتمر بكين، فمما جاء فيه:
– البند (72) (ي) ( وتشمل الحقوق الإنجابية بعض حقوق الإنسان المعترف بها فعلاً في القوانين الوطنية والوثائق الدولية لحقوق الإنسان وغيرها من الوثائق التي تظهر توافقاً دولياً في الآراء، وتستند هذه الحقوق إلى الاعتراف بالحق الأساسي لجميع الأزواج والأفراد في أن يقرروا بحرية ومسؤولية عدد أولادهم وفترة التباعد فيما بينهم ).
مقررات المؤتمرات تدعو الدول لإقرار تشريعات لتحديد النسل
وجاء ضمن مقررات هذه المؤتمرات ما يدعو إلى حث الزعماء السياسيين وقادة المجتمعات إلى ( شرعنة ) تنظيم النسل وحث الناس عليه، كما تدعو إلى تسخير الإعلام لخدمة هذا الهدف، وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن مدى شرعية أن تكون حملات تنظيم النسل جماعية تتبناها الحكومات وتدفع الناس إليها ؟ – وهذا ما سنتناوله لاحقاً بإذنه تعالى عند تناول موضوع تحديد النسل من الناحية الشرعية – فمما جاء في وثيقة مؤتمر السكان والتنمية بالقاهرة على سبيل المثال:
– في البند (7-19) ( ويُحث جميع الزعماء السياسيين وقادة المجتمعات على القيام بدور قوي ومتواصل وشديد الوضوح في تشجيع توفير واستخدام خدمات تنظيم الأسرة والخدمات الصحية التناسلية، وإضفاء الشرعية عليها.. وعلى القادة والمشرعين على جميع المستويات أن يترجموا تأييدهم العام والصحة التناسلية، بما في ذلك تنظيم الأسرة، إلى مخصصات كافية في مواد الميزانية والموارد البشرية والإدارية للمساعدة على تلبية احتياجات جميع من لا يستطيعون دفع التكلفة الكاملة لهذه الخدمات ).
– وفي البند (11-19) ( ومن الأهمية بصفة خاصة أن تُربط استراتيجيات الإعلام والتثقيف والاتصال بالسياسات والاستراتيجيات السكانية والإنمائية الوطنية وبمجموعة كاملة من الخدمات في مجال الصحة الجنسية والتناسلية وتنظيم الأسرة ).
هكذا جاءت بنود مؤتمرات المرأة والسكان العالمية تصرح بتخوفها من زيادة سكان الدول النامية أمام انخفاض معدلات النمو السكاني بالدول الغربية المتقدمة، وهكذا جاءت بمطلب تحديد النسل وخفض معدلات الخصوبة.
المصدر: https://islamonline.net/30608
موقف الإسلام من قضية الزيادة السكانية وتحديد النسـل
لما كانت الأمة الإسلامية هي صاحبة الرسالة الخالدة، كان عليها أن تنظر إلى نصوص كتابها وسنة نبيها، حيث الدعوة إلى التكاثر والتناسل، لتدوم وتستمر وتظل قادرة على القيام برسالتها حتى قيام الساعة، فدعوة الإسلام إلى التكاثر وزيادة النسل أمر طبيعي يتناسب مع الدعوة لنشر رسالته وتعمير الأرض.
والقوى البشرية تَعد واحدة من أهم عناصر الإنتاج والتقدم والازدهار، ولذا فإن كل الحضارات التي أرادت لنفسها المكانة والقوة والعزة بين الأمم الأخرى؛ كان أول اهتماماتها زيادة نسلها واستغلال هذه الثروة وهذا العنصر الإنتاجي أفضل استغلال، ومن هنا يرى المؤرخ العالمي ” توينبي ” أن القوى البشرية من أهم التحديات التي يتوقف عليها تقدم أي حضارة إنسانية. كما يقول المفكر السياسي ” أورجانسكي ” : إن أحسن أقطار العالم وأكثرها رفاهية؛ هو القطر الذي فيه زيادة السكان، وأنه أرفه ما يكون أيام يتجه عدد سكانه إلى الزيادة المطردة.”([1])
ولقد أدرك الغرب كيف أن زيادة النسل عنصر من أهم عناصر القوة التي تعتمد عليها الحضارات، وكانت حملته الشعواء على عالمنا الإسلامي من أجل إضعاف هذا العنصر وتحديد نطاقه ووقف مده على قدر المستطاع، ” فالدعوة لتحديد النسل ترتفع في الدول الإسلامية، وعلى العكس منها ترتفع دعوى زيادة النسل وفتح أبواب الهجرة أمام العقول والأيدي العاملة الماهرة في كثير من الدول المتقدمة.”([2])
ففي الوقت الذي تدعونا وتدفعنا هذه الدول الغربية إلى تحديد نسلنا، نجدها تحث شعوبها على التكاثر، بل وتمنح من يُقّدِم على الإنجاب مزيداً من المكافآت والمعونات، وفي دول أخرى مثل أمريكا وكندا واستراليا.. نرى كيف أنها تستجلب إليها سنوياً عن طريق إعلانات الهجرة المغرية آلاف البشر لزيادة سكانها وتكثير شعبها واستخدامه لمزيد من التنمية والقوة والنفوذ والتوسع.
وقد ذُكر في كتاب نُشِر مؤخراً بعنون ” الانخفاض في عدد سكان أوروبا ” (Population Decline in Europe) أن جميع الدول الأوروبية تهتم برفع نسبة المواليد عندها وتستخدم الوسائل الأربع التالية لهذا الغرض:
– علاوة الأمومة.
– التخفيف من الضرائب بعد إنجاب الأطفال.
– بَدَل الأطفال.
– العلاوات الأخرى.”([3])
” ومن بين الدول المتقدمة فإن الحكومة الفرنسية هي الأكثر نشاطاً في تشجيع الإنجاب، حتى أنها تنشر إعلانات تحمل صورة طفل كتب تحتها ” فرنسا تحتاج إلى أطفال “. ([4])
أما بلادنا فقد أصبحت مرتعاً خصباً لكل المؤامرات والمخططات التي تهدف إلى تقويض أركانها وحصار نموها وقتل نسلها، فما أن تسير في أحد شوارعها، أو تفتح قناة من قنواتها الإعلامية، إلا وتجد الدعوة إلى تحديد النسل والتحذير من القنبلة السكانية والانفجار السكاني !!
ولم يتوقف الأمر على هذا؛ بل جاءت هذه الدول الغربية بمؤامراتها ومؤتمراتها لإرغام بلادنا على تحديد النسل وتقنينه وتشريعه، وجعله مساراً إلزامياً لنا، لعلها بذلك تحد من خطر قلة نسلها على حساب أمتنا ونسلنا وقوتنا البشرية.
يقول الدكتور عبد الرب نواب الدين:” وفي مضمار الحضارة والمعترك الحضاري المعاصر فإن الدول الصناعية صاحبة الحضارة المادية المعاصرة وصاحبة القرار في توجيه الأحداث وتصريف الأمور بحسب ما يخدم مصالحها، تحرص كل الحرص على تكثير النسل في شعوبها ومجتمعاتها، وتعمل جاهدة بكل ما أوتيت من خبرة وحيلة على توسيع دائرة الموارد البشرية، حتى تظل محافظة على مكانتها القيادية ومكتسباتها الريادية، وفي الوقت نفسه تعمل جاهدة لإضعاف الصف الإسلامي بإضعاف النسل في المجتمعات الإسلامية، ووسمها بالمجتمعات النامية أو مجتمعات العالم الثالث عن طريق حملات تنظيم النسل وتنظيم الأسرة، وتحبيذ الاكتفاء بطفل واحد، ونشر موانع الحمل وتوفيرها بأزهد الأثمان.. فالنسل في كثرته ونموه وقوته أحد الأسس الكبرى والركائز الأمهات لنهضة المسلمين في ظروفهم الراهنة، ولا يقل هذا الأساس الاجتماعي الأصيل أهمية عن أساس العقيدة القائم على تحقيق مبدأ التوحيد في العبودية لله رب العالمين.”([5])
وقبل تناول موضوع قضية المشكلة السكانية وتحديد النسل من جوانبه المختلفة؛ أود أن أبين أن مقررات مؤتمرات المرأة والسكان العالمية، وكذلك تلك الحملات التي نراها في بلادنا والتي تدعو إلى تنظيم النسل، لا تقصد تنظيم النسل كتنظيم أسري للإنجاب، بل تقصد تقليله وتحديده كما سبق بيانه عند تناول بنود مؤتمرات المرأة والسكان بالمقال السابق، أي المطالبة بأن تتقيد الأسرة بعدد محدد من الأطفال لا تزيد عنه، وليكن طفلاً واحداً أو اثنين لكل أسرة.
فهناك فرق كبير بين تحديد النسل وتنظيم النسل، فالتنظيم أمر محمود لا ترفضه الشريعة الإسلامية بل تُرَغِّب فيه، أما تحديد النسل فأمر مذموم يتعارض مع مبادئ الإسلام، حيث الدعوة إلى التكاثر وزيادة النسل، ولذلك نرى هذه الحملات تلبس على الناس وتخدعهم باستخدام لفظ التنظيم، وهي في الحقيقة تدعو إلى تحجيم نسل الأمة ووقف نمو سكانها المتصاعد.
يقول الإمام أبو زهرة رحمه الله:” وتنظيم النسل أو ضبط النسل أو تحديد النسل ألفاظ مترادفة مؤداها تقليل النسل كما يقصد الكُتَّاب فيها، وكما يقصد الذين يقومون بالعمل في تنفيذها بوزارة الشئون الاجتماعية ووزارة الصحة في مصر، فإن الذين يفعلون ذلك والذين يروجون له يرددون أن النسل يتزايد ويتكاثر، وقد ضاقت الموارد الطبيعية وأصبح ما تنتجه تلك الموارد لا يتكافأ مع زيادة السكان المستمرة بنسبة عالية، فلابد من وقف ذلك النمو المتزايد، وذلك بجعل النسل يكون على قدر ما يجيء من الموارد الطبيعية، ذلك قولهم بأفواههم ومقالاتهم بأقلامهم، ولاشك أن كلمة تحديد النسل تكون أدل على المراد، ولكنهم بدلوا بها غيرها، ليخففوا على المسلمين المتدينين وقعها، ولكن تغيير اللفظ لا يجعل الحلال حراماً، ولا الممنوع مطلوباً.”([6])
لذا وجب على الأمة الإسلامية الانتباه لمثل هذه الأساليب الخبيثة الماكرة التي تُوقِعهم فريسة سهلة وأدوات طيعة لهذه المؤامرات والمخططات التي تستهدف حصار تمدد الأمة ووقف نموها والقضاء على عنصر من أهم عناصر قوتها وإنتاجها.
وفيما يلي بيان وتحرير لمعاني أهم الألفاظ والمصطلحات المستخدمة في هذا المجال، والفرق بينها:-
أ – تنظيم النسل: هو التوقف المؤقت عن الحمل بوسيلة أو بأخرى لأسباب معتبرة شرعاً، كالمباعدة بين المواليد بقصد إتمام الرضاعة الطبيعية للطفل، وليتمكن والداه من توفير الرعاية المطلوبة له خلال هذه الفترة، أو مراعاة لصحة المرأة في الحالات التي يضر بها الحمل المتكرر المتقارب وفق رأي الثقة من أهل الطب، أو لاعتبارات أسرية تراعي القدرة على تربية الأولاد في ظروف معينة تستدعي ذلك، وتكون فيها المباعدة بين الولادات مناسبة للتمكن من العناية بهم وتوفير الرعاية اللازمة لهم.. ثم العودة للإنجاب بعد زوال السبب الذي توقف الحمل بسببه.
مع التأكيد مرة أخرى على أن حملات تنظيم النسل التي تتبناها حكومات بلادنا العربية والإسلامية تحت ضغط ومطالب مؤتمرات المرأة والسكان؛ إنما تعني التحديد لا التنظيم، بحيث تتقيد الأسرة بعدد محدد من الأطفال لا يزيد عن طفل أو طفلين أو ثلاثة على أكثر تقدير، سواء كانت ظروف المرأة الصحية مناسبة، أو كان دخل الأسرة كبير، أو كانت الإمكانات متوفرة لرعاية عدد أكبر من الأولاد.
ب – تحديد النسل: هو قطع النسل والتوقف عن الإنجاب عند وصول الأولاد لعدد محدد، وذلك عن طريق استخدام أساليب طبيعية كاستدامة العزل، أو تجنب الجماع طوال فترات الإخصاب للمرأة، أو باستخدام الحقن والعقاقير الطبية، أو استعمال أي وسيلة من وسائل منع الحمل، أو عن طريق التدخل الجراحي كعمليات الإجهاض، أو التعقيم، أو ربط المبايض، أو استئصال الرحم، أو استخدام أي طريقة أخرى تؤدي إلى إحداث العقم ومنع الحمل.
وباختصار وكما يقول الشيخ عطية سالم، فإن التحديد ” هو وضع حد ينتهي إليه المحدود، كتحديد الأرض ونحوها، وتحديد النسل وضع حد ينتهي إليه عدد الأولاد لا يتجاوزه الأبوان بالإنجاب ولا الدولة بالتعداد.” ([7])
جـ – منع الحمل: هو الحيلولة دون وصول الحيوان المنوي للرجل إلى بويضات المرأة بهدف منع الإخصاب، ويتم ذلك بوسائل عديدة، منها وسائل طبيعية كالعزل – وهو قذف ماء الرجل خارج فرج المرأة عند الإنزال – أو تجنب الجماع في فترات إخصاب بويضة المرأة، ومنها وسائل طبية، كاستخدام بعض العقاقير، أو الحقن، أو أقراص منع الحمل، أو اللبوس، أو اللولب، أو استخدام العازل المطاطي الذكري، أو غير ذلك من الوسائل الطبية الأخرى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن معنى منع الحمل يتداخل بمقاصده ووسائله مع النوعين السابقين – تنظيم النسل، وتحديد النسل – فقد يكون الباعث على استخدام وسائل منع الحمل هو تنظيم النسل بالتوقف المؤقت عن الحمل، ثم تركها والعودة للإنجاب بعد انتهاء أسباب التوقف كما بينا، وقد يكون الباعث والمقصد من استخدامها بصفة مستمرة هو تحديد النسل والمنع الدائم للحمل عند الوصول لعدد معين من الأطفال.
ومما سبق يتبين لنا أن هناك فرقاً شاسعاً بين معنى تنظيم النسل الذي تقبله وتسمح به الشريعة الإسلامية وفق الاعتبارات السابق ذكرها، وبين تحديد النسل أو المنع الدائم للحمل الذي يتعارض مع نصوص ومبادئ الدين الإسلامي، وهذا ما سنتناوله بشيء من التفصيل في المقالات التالية – بإذن الله – من خلال تناول نصوص الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء، والرد على حجج وأدلة المنادين والمجيزين لتحديد النسل، ومدى شرعية تبني الحكومات لحملات تنظيم النسل الجماعية ودفع الناس إليها وإجبارهم عليها، كما سنتناول جوانب هذه القضية من خلال أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
([1]) حركة تحديد النسل – أبو الأعلى المودودي – ص179.
([2]) سمات المجتمع المسلم – محب المحجري – ص 82.
([3]) التدابير الواقية من الزنا في الفقه الإسلامي – د. فضل إلهي – ص 71.
([4]) المرأة والأسرة المسلمة من منظور غربي – د. عماد الدين خليل – ص 23.
([5]) تأخر سن الزواج.. أسبابه وأخطاره وطرق علاجه على ضوء القرآن العظيم والسنة المطهرة – د. عبد الرب نواب الدين آل نواب – ص213 – 214 – باختصار.
([6]) تنظيم الأسرة وتنظيم النسل – الإمام محمد أبو زهرة – ص 93.
([7]) تعدد الزوجات وتحديد النسل – الشيخ عطية محمد سالم – ص 132.
المصدر: https://islamonline.net/31265