في الطريق لـ: الحِوار
علي القاسمي
لا أرى مرحلة تحتاج لحراك حقيقي ومزيد من الأفكار ومشاريع التطبيق لا التنظير كما هي هذه المرحلة، إذ تمثل مرحلة نتفاعل فيها مع الآخر بشكل سريع مدهش، ونرسم صورة لافتة من التعايش والتقارب، ولو تأملنا عنوان «الحوار» أياً كانت الكلمات المرافقة له لوجدنا أنه واحد من العناوين الخاطفة الشهية التي اعتدنا سحبها والاستعراض بها وقت السعة، فيما هي وبكل صدق تتربع في إطار شائك إذا أمعنا النظر فيها وأخذناها على محمل الجد لا التنظير، ثقافة الحوار تحمل مشروعاً ثقافياً هائلاً لتفكيك العصي من المماحكات والتصفيات والصراعات ودوائر الخلاف الموسمية المتكررة، ويحتضن الحوار ثقافة لافتة تقود لمجتمعات قادرة على السير بتوازن تحت أي ظرف والتعاطي مع أي تهديد بذكاء بالغ وهدوء مثير.
مضغنا على عجل بضعاً من الجمل الطازجة كـ«الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية»، وأن «الحوار طريقنا للسلام والتعايش»، لكن في ساعة الجد تصبح مثل هذه الجمل رماداً نذرّه أمام الأعين، ونستعير عنه ما تيسر من العنف والسخرية والكراهية والعنصرية والعصبية، ومن يصر أننا لم نعانِ من الخماسي السابق فلا حاجة لأن يمضي برفقة الأسطر القادمة، بل ولينم مطمئناً بعيداً عن صراع الحوار والثقافة المصاحبة له منذ سنوات طويلة، من دون أن نرى هذه الثقافة سوى في عناوين ورش العمل وأوراقها البرّاقة وبرفقة إجابات باردة مخدرة لأسئلة ساخنة عن الحوار وأهله وأين نحن منه، والعبور الدائم نحو أفعال تنظيرية تفضحها مسرحيات الشد الاجتماعي الجاهزة على طول الخط.
لسنا على الإطلاق بمقربة من الحوار، إلا إن كان الحديث عن حوار شكلي لا يعكس المضمون ويأخذنا في الوقت ذاته للخيال ومدن التنظير والإشباع الوقتي، لنقرأ الجدل المستمر في قضايانا كافة، وما إذا كان يدل على توافر الثقافة «الحلم» أم أنه يزيد الأمور تعقيداً وينثر الملح على الجراح الناشئة، لست بالطبع متشائماً من انعدام هذه الثقافة، لكنها بقدرٍ منخفض من التفاؤل الذي نعيشه حين نجلس على منصة التخطيط والتنظير.
لن أحدد وسطاً مجتمعياً كي أقول لكم اذهبوا واحسبوا المسافة الدقيقة بينه وبين أن يكون على مقربة من ثقافة الحوار، صحيح أن كلمة الثقافة وحدها جالبة لحزمة من الخلافات والوجع والتوتر خصوصاً في ميداننا المحلي، لكن الحوار أيضاً يعيش على الأمل والتوقع والرغبة وكثير من الأحلام، دون أن نلمس بوادر للجهد الذي يبذل في ساحته بواسطة أكثر من منبر ومركز. الحوار لدينا يعاني ربما لأننا قفزنا إلى ميدانه من دون أن نعرف أن قبله مربعات لم نبعثرها جيداً ونهيئها لتقبل ما هو أثقل وأكثر امتحاناً للمجتمع المتعطش للاختلاف والثراء لا الاختلاف والصراع، لن تخلق بيننا ثقافة حوار رفيعة المستوى وبيننا من إن لم يعجبه حضورك استعداك، ومن إذا قلت رأياً لا يتوافق ورأيه صنَّفك، ومن إن ناقشته في خطئه ناصبك العداء، هي بكل صدقية مرحلة لا بد من تجاوزها بعيداً عن ورطة وخيبة التنظير.