عناصر أربعة من أجل الوعي البدائيّ الفتش، الطوطم، النّار، الموت

دراسة أنثروبولوجيّة وسيكولوجيّة

إقبال مرشان

 

(1)

الفتش  والطوطم Fitch & Totem :

إذا كانت القوى هي جواهر الأشياء، فإنّ أشياء الطّبيعة يجري وعيها من خلال نظرة المجتمع، ولكنّ علاقة النّاس بالأشياء في مراحل المجتمع الأوليّة، لها طابع استهلاكي محض. هو طابع امتصاص وتدمير، وبالتّالي فإنّ وجود الجزء يناقضه حالاً الجوهر الكلي له. في اللاّوجود (العدم) وفي هذا تتجلّى حقيقة الموقف الاجتماعيّ من الطبيعة: إنّه نفي وجودها المستقل. وهكذا يكون الفتش Fitch  هو الجزء (الخاصّ) الّذي يحمل ويجسّد قوّة الحياة والموت عموماً، أي هو الخاصّ الّذي يشير مباشرة إلى  مغزى عام، إلى كليّ يقف خلفه، وتكمن هنا العلاقة النموذجيّة الّتي تفضي إلى التّرميز والأنواع الأخرى للصّورة. فالفتش هو صورة نموذجيّة، أي هو هذه الشّجرة، أو هذا الحجر، وفي الوقت نفسه لا هو بهذه ولا هو بذاك. إنّ الفتش كيان متميز، يتكوّن من جسم مادي واحد (جزء-خاص) ومن مغزى كلي يختفي وراءه، هو المضمون الرّوحي الاجتماعي. وهو فعل سحري، إنّه يعيش بفضل عمليّة تقديسه والخضوع له. وهكذا فإنّ الأشياء يصبح لها، لا بذاتها، ولكن بوصفها قوى، إمكانات خفيّة تستطيع أن تؤثّر فيها على الإنسان. لذلك لا تكتسب الأشياء تحديداتها الخاصة، وتتحوّل إلى (فتشات) أي تصبح الأشياء حوامل لقوى سريّة، وهذه القوّة ليست على الإطلاق صفة هذا لشيء، بل الموقف الاجتماعي البشري منه. (1)

وفي الفتش وما يتّصل به من خطوات الوعي الأولى  خصوصاً في التّجسد، يتجلّى أمامنا جوهر الصّورة في طوره الأدنى، تتجلّى بنيتها الأكثر عموميّة، الّتي هي بالتّالي عديمة المضمون. الآن نبدأ بالصعود من هذا الأساس المجرّد الّذي للهرم، نحو البُنى الملموسة المتعاظمة: الغنى والمضمون، لدى تحليلنا للفتش، فإنّ نمط الصّورة سيكون منبثقاً كلّ مرة من نمط العلاقات بين الفرد والكلّ داخل الكيان الاجتماعي المعني. وفي مرحلة الوعي الفتشي كان الوعي مندغماً بأحاسيس سلبيّة، باستجابات غريزيّة، بردود فعل على منبهات آنيّة خارجيّة. لكن ما هي بنية التّصور عند هذه الدرجة؟… عندما أصبح في وسع الإنسان أن يصنع شيئاً، وليكن أبسط أنواع الفؤوس، صار يعرف سلفاً لماذا؟، أي صار يعرف غاية – أو فكرة الشّيء، ومن ثمّ ينتج الشّيء نفسه وفقاً لتصوّر أو تخطيط، والشيء هنا يكتسب وجوداً مزدوجاً: فيزيائي، وآخر يدركه العقل. مع أن الإنسان لم يكن يصنع الشيء كلّه- فهو يعطي الشيء شكلاً فقط، بينما المادة من الطبيعة – إلاّ أنّه أصبح يمتلك جوهر الشّيء، لأنّ الخشبة والحجر مثلاً  ليسا جوهر الفأس المصنوعة منهما، ولكن الجوهر هو الشّكل الّذي أعطي  لهما مجتمعين. هذا الشكل هو تحقيق الهدف من الفأس، أي أنّه هو جوهرها. وهكذا ما إن بدأ إنتاج الأشياء حتّى بدأ إنتاج الأفكار. إذاً فإنّ فعل خلق الشّيء تسبقه كلّ مرّة فكرة الشّيء، أي مخططه (إذ لا توجد في الطبيعة فأس جاهزة). (2)

ويبدأ الأفراد الآن القيام بوظائف مختلفة في العمل فيكتسبون صفات وخصائص، أي مضموناً متميزاً مختلفاً عما عند الآخرين. إنّ ما هو مشترك بينهم لا يعود يتحقّق الآن مباشرة. أي حسب مبدأ (الواحد كالجميع) كما لدى الجماعة البدائيّة، حيث الجميع نسخ بعضهم من بعض. ولذلك كان كلّ واحد منهم يحمل مباشرة كلّ قدرات النّاس الآخرين، وقدرات الجماعة برمتها أيضاً. إنّ تشابههم الآن لم يعد تطابقاً. بل هو وحدة لأنّ المجتمع لم يعد ركاماً بل صار جسداً. والوحدة في الجسد لا تتحقّق من خلال تشابه أجزائه كلّها. بل عبر الصلة المتفردة (الخاصّة) والتّفاعل، وعبر التّبادل بين مختلف الأعضاء. إذ أنّ الأشياء المختلفة وحدها هي الّتي تترابط. وهذه العلاقة بين أجزاء الجسد هي الجوهر، وهي العلاقة الجامعة ونستطيع أن نتعرف عليه بدراسة وظيفته الخاصة. (3)

ويورد أحد الباحثين المدافعين عن مفهوم (سيّد الحيوانات) النّقاش التّالي: “إنّ الثور العظيم الّذي يلعب دوراً بارزاً في التّصورات الميثولوجيّة للصيادين، هو –سيد الحيوانات- والنّموذج الأعلى البدئي لها Archetype. وهنا يمكن لنا استخدام تعبير فلسفي ليس بعيداً جداً عن التّفكير البدائي كما نتصوّر، وهو المثال الأفلاطوني، فالثور العظيم هنا يمثل الفكرة الأفلاطونيّة للنّوع، إنّه يمتلك بعداً لا يملكه بقيّة أفراد القطيع، فهو لا زمني، خالد كفكرة، ولا يمكن القضاء عليه، أمّا البقيّة فمجرّد ظلال خاضعة لمقولات الزّمان والمكان، وبينما يسقط هؤلاء في الشّراك ويقتلون، فإنّه في منجاة عن الأذى، لأنّه تعبير عن الجوهر الّذي تخلق منه بقيّة أفراد نوعه”. (4)

نحن نعلم أنّه تقوم بين الإله والحيوان المقدّس (الطوطم، حيوان التضحيّة) علامات متعدّدة الوجوه: أولاً: كلّ إله يكرس له بصفة عامّة حيوان واحد، وفي بعض الأحيان عدّة حيوانات. ثانياً: في بعض التّضحيات وخاصّة المقدّسة منها، يكون الحيوان المكرّس للإله هو على وجه التّعيين الّذي يقدّم أضحيّة له. ثالثاً: كثيراً ما يعبد الإله أو يُنظر في صورة حيوان، وقد بقيت بعض الحيوانات موضوعاً لعبادة إلهيّة حتّى بعد انقضاء زمن مديد على الطوطميّة. رابعاً: كثيراً ما يتحوّل الإله في الأساطير إلى حيوان، وفي غالب الأحيان إلى الحيوان الّذي كان مكرساً له. يبدو من الطبيعي أنّ الإله نفسه كان هو الحيوان الطوطمي الّذي منه تولد كإله في طور أعلى من تطوّر العاطفة الدينيّة. ولو افترضنا أنّ الطوطم نفسه ليس إلاّ تمثيلاً بديلاً عن الأب. وعلى هذا يكون الطوطم هو الشّكل الأوّل لهذا البديل الّذي سيكون الإله شكله الأكثر تطوراً. والّذي فيه يستعيد الأب معالمه البشريّة. هذا التّخلق الجديد، المتولد من جذر كلّ تكوين ديني بالذّات، أي من حبّ الأب، ما أتيحت له الإمكانيّة، إلاّ بعد أن طرأت بعض التغيرات الجوهريّة في مجرى الأزمان على الموقف إزاء الأب، وربّما أيضاً على الموقف إزاء الحيوان. (5)

ومن علائم التّمييز بين الحيوان الطوطمي وشارته المقدّسة، أنّ الحيوان يمكن لمسه ورؤيته من قبل النّساء وغير البالغين من الذّكور، على عكس الشّارة الطوطميّة، الّتي تحاط بشتّى أنواع (تابو tabo) اللّمس، والنّظر وحتّى على الأدوات الطقسيّة الّتي تخفى بعيداً عن جو العالم الدنيوي، والأسترالي مثلاً يجتمع مع أفراد عشيرته أمام شارة الطوطم في المناسبات الدينيّة فيرقص حولها ويتعبد لها، ولكنّه لا يستبدلها قطّ بالحيوان الطوطمي نفسه، وعندما يقوم بتعديّة الفتيان البالغين إلى طور الرّجولة وتلقينهم أسرار حياتهم الدينيّة، فإنّه يفعل ذلك في الحرم المقدّس حيث تحفظ صور الطوطم لا حيث تسرح جماعات الحيوان الطوطمي. (6)

وكانت أوّل نظريّة سيكولوجيّة في تفسير أصل الطوطميّة قد صاغها (جيمس فريزرJames Fraser) ترتكز إلى الاعتقاد بـ(النّفس الخارجيّة). فالطوطم يمثّل ملجأً أميناً تلوذ بحماه النّفس لتنجو من الأخطار الّتي يمكن أن تتهددها. وحينما يعهد البدائي بنفسه إلى طوطم يغدو هو نفسه غير قابل للأذى، ويمتنع بطبيعة الحال عن التّسبب بأيّ أذى لحامل (نفسه). ولكن بما أنّه لا يعرف أي أفراد النّوع الحيواني هو هذا الحامل. فإنّه كان يلتزم بالامتناع عن المساس بالنّوع كلّه. وفي وقت لاحق أقلع فريزر نفسه عن ربط الطوطميّة بالاعتقاد بالنّفوس. (7)

أمّا النظريّة الّتي تقدّم بها (فونت) فتعتبر الواقعتين التاليتين حاسمتين: أولاهما: أنّ الموضوع الطوطمي الأكثر بدائيّة والأكثر انتشاراً هو الحيوان، وثانيتهما: أنّ الحيوانات الأكثر انتشاراً بين الحيوانات الطوطميّة هي تلك الّتي لها (نفس). فالحيوانات المحبوة بنفس مثل الثّعابين والطّيور والعظايا والفئران، تبدو كأنّها مقدر لها سلفاً بالنّظر إلى قدرتها العظيمة على الحركة وعلى الطيران في الأجواء، وإلى خصائص أخرى تبعث على المفاجأة والرّعب أن تكون حاملة النّفوس الّتي فارقت الأجسام. وعلى هذا يكون الحيوان الطوطمي نتيجة للتّحولات الطارئة على النّفس البشريّة، وهكذا ترتبط الطوطميّة بحسب ما يرى فونت ارتباطاً مباشراً بالاعتقاد بالنّفوس، أو ما يسمّى بالإحيائيّة Animism. (8)

أمّا (ماكس مولر Max Muller ) وفي كتابه المسمّى: مساهمات في تاريخ علم الميثولوجيا contributions to the science of Mythology فالطوطم في نظره: إمّا شعار للعشيرة، أو اسم لعشيرة، أو اسم لسلف العشيرة، أو اسم لشيء توقره العشيرة. وفي سنة 1899 كتب (ج.بكلر) يقول: ” إنّ البشر جماعاتهم وأفرادهم بحاجة إلى اسم دائم يثبت كتابة وهكذا تولدت الطوطميّة – التسميّة – نتيجة لتقنيّة الكتابة البدائيّة. وصفة الطوطم هي صفة العلامات الكتابيّة الّتي يسهل رسمها، لكن منذ أن تسمى البدائيون باسم حيوان مّا، استنبطوا من ذلك فكرة صلة قربى تربطهم بهذا الحيوان “. (9)

لقد كان البدائيون يؤلفون جمعيّة سحريّة إن جاز القول للإنتاج والاستهلاك، وكانت كلّ عشيرة طوطميّة تكلف بتأمين وفرة مادة غذائيّة بعينها. وإذا لم تكن الطواطم ممّا يؤكل، بل حيوانات خطرة أو مطراً أو ريح ..إلخ. كانت العشيرة تكلف بالاهتمام بهذا الضّرب من الظّاهرات لتطرد بعيداً أفاعيلها الضّارة، وبما أنّ العشيرة لا يجوز لها أن تأكل من طوطمها (سنتعرف لاحقاً سبب ذلك)، أو لا يجوز لها أن تطعم منه إلاّ في أدنى الحدود، فقد كانت تعمل على تموين العشائر الأخرى بهذه المادة الثّمينة مقابل مقايضتها بالمواد الّتي كانت تكلف بها هذه القبائل بدورها، وعلى  ضوء هذا التّصور، لاح لفريزر أن تحظير أكل العشيرة طوطمها الخاص قد حجب عن الأنظار الجانب الأهمّ في هذه المؤسّسة، ألا وهو أمر الحرص بقدر الإمكان على ألا تفتقد العشائر الأخرى الطوطم المأكول. إنّ ملاحظة امتناع الحيوان عن أكل لحم سائر حيوانات نوعه، ومن ثمّ خلص البدائيون إلى الاستنتاج أنهم لو فعلوا العكس لأضروا بعمليّة تقمص الطوطم، ممّا يضر بدوره بالسلطان الّذي يطمعون أن يكتسبوه عليه، أو أنّ التّحظير المشار إليه قابل أيضاً للتّفسير بالرّغبة في كسب ود الحيوان عن طريق المحافظة على حياته. (10)

على الرّغم من الخوف الّذي كان يحمي حياة الحيوان المقدس، كما لو أنّه عضو في القبيلة، كانت ضرورة التضحيّة به في احتفال طقسي في حضور الجماعة برمّتها وتوزيع لحمه ودمه على أعضاء القبيلة تفرض نفسها بين الحين والآخر. ونحن نعلم أنّ المأكل المشترك والمشاركة في المادة الدّاخلة إلى الجسم كانا يخلقان بين الآكلين رابطة مقدّسة، لكن هذه الدلالة ما كانت تعزى في الأزمنة الموغلة في القدم إلا إلى الاستهلاك المشترك للحم الحيوان المقدّس. وإذا كان الحيوان مقدساً، كانت حياته لا تمسّ ولا يُحل حذفها إلاّ بمشاركة القبيلة كلّها، وتحت مسئوليتها المشتركة وفي حضرة الإله، كي ما يؤكّد أفراد العشيرة عن طريق تمثلهم مادته المقدّسة، ووحدة هويتهم الماديّة الّتي تشد وثاقهم على ما يعتقدون إلى بعضهم  بعضاً، وإلى الإله وكانت التضحيّة سراً مقدساً، وحيوان التضحيّة عضواً في العشيرة، وفي الواقع كان قتل الحيوان الطوطمي القديم، الإله البدائي نفسه، والتهامه هو الّذي يتيح لأعضاء العشيرة أن يصونوا ويعززوا اتّحادهم الوثيق العرى بإلههم كي يبقوا على شبه به. (11)

إنّنا نستطيع بالاستناد إلى احتفال الوليمة الطوطميّة أن نستنتج التّالي: ذات يوم اجتمع الأخوة المطرودون وقتلوا الأب وأكلوه، ممّا وضع حداً لوجود النقيل الأبوي. فلمّا التأم شملهم دبت فيهم الجرأة والجسارة واستطاعوا أن يحقّقوا ما كان كلّ واحد منهم يعجز بمفرده عن تحقيقه. ومن المحتمل أن تقدماً جديداً للحضارة كاختراع سلاح جديد أيقظ فيهم حسّ تفوقهم، ولئن أكلوا جثة الأب، فليس في ذلك ما يبعث على الدّهشة، ما دام أولئك البدائيون من أكلة لحوم البشر. والحال أنّهم بفعل الالتهام والامتصاص ذاك، يحقّقون تماهيهم معه ويستحوذ كلّ واحد منهم على جزء من قوّته (الأب)، وعلى هذا تكون الوليمة الطوطميّة – وربّما كانت العيد الأوّل للإنسانيّة تكراراً، أو شبه احتفال تذكاري بذلك الفعل المأثور والإجرامي الّذي كان منطلقاً لأشياء كثيرة: التّنظيمات الاجتماعيّة، التقييدات الخلقيّة والديانات. (12)

لقد كان الأخوة يكرهون الأب الّذي كان يعترض بمنتهى العنف سبيل حاجتهم إلى القوّة وسبيل متطلباتهم الجنسيّة، ولكنّهم كانوا علاوة على كرههم له، يحبّونه ويعجبون به، وبعد أن قضوا عليه ورووا غليل حقدهم وحقّقوا تماهيهم معه، صدرت عنهم ولابد إزاءه أمارات وجدانيّة على محبّة مسرفة، وقد فعلوا ذلك في صورة ندم وتوبة  وخالجهم شعور بالذّنب، يصعب تمييزه عن الشّعور بالنّدم الّذي يعتمل في الصدور عادة. وصار الميّت في موته أقوى ممّا كان عليه في حياته، وهذا كلّه لا نزال نلحظه إلى اليوم في المصائر الإنسانيّة، وما كان الأب حرّمه في السّابق بمجرّد وجوده بالذّات، بات الأبناء يحرمونه الآن على أنفسهم بأنفسهم بقوّة تلك (الطّاعة المرجأة) المميّزة لموقف نفسي بات لدينا مألوفاً بفضل التّحليل النفسي، وأنكروا فعلتهم وتنصلوا منها بتحريمهم قتل الطوطم، بديل الأب وعزفوا عن قطف ثمارها بامتناعهم عن إقامة علاقات جنسيّة مع النّساء اللاّئي حرروهنّ، على هذا النّحو يكون (الشّعور بالذّنب) لدى الابن قد ولّد الحرامين الأساسيين في الطوطميّة، وهما الحرامان اللذان لن يلبث أن يختلطا بالرغبتين المقموعتين في (عقدة أوديب)، فمن يسلك مسلكاً مخالفاً لهذين الحرامين يكن قد اقترف الجرمين الوحيدين اللذين يعنيان المجتمع البدائي. (13)

وبوسعنا أن نتصوّر أنّ البدائي والطفل والعصابي أيضاً، الّذي تقود نرجسيته إلى مرحلة ما قبل الولادة، وبالتّالي المرحلة الحيوانيّة، يبحث على وجه الخصوص عن القوة الكليّة في هذه النرجسيّة ويسقط هذه الرّغبة على حيوان فحل أو نبات، قوّته وحيويته يتجاوزان تجاوزاً كبيراً، ويصبح هو وريثه على هذا النّحو، ويبيّن سياق هذه الإسقاطات نفسه (قصص الجنيات)، الأديان، الميثولوجيا، على وجه العموم أنّ هدفها لا يكمن فقط في الاحتفاظ بالحالة الابتهاجيّة، بل في أن يستقر الطفل في عالم يضعه في مأمن من إمكانات حدوث (الحلّ الدّافعي) الّذي يبدو أنّه ينوي استبعاده بوصفه غير مرغوب فيه. والعنصر المدهش الّذي يتمتّع به الطفل له ضرب من التّوحد بالآلهة الذين يستمرون في أن يعيشوا الحياة السحريّة الّتي طرد منها للتّو. فالآلهة والأبطال يعيشون في الواقع في معجزة دائمة، ذلك أنّ حسبهم أن يرغبوا أو يريدوا حتّى يولّدوا واقعاً على قدهم. (14)

-النّار البدائيّة:

في المحلّ الأوّل يجب الاعتراف بأنّ الاحتكاك هو خبرة محملة بصور جنسيّة قويّة. إنّنا لن نواجه أي صعوبة حتّى نقتنع بذلك عندما نتتبع الوثائق النفسيّة الّتي جمعها التّحليل النّفسي الكلاسيكي. في المحلّ الثّاني، إذا أُريد فعلاً ترتيب مؤشرات تحليل نفسي خاص بالانطباعات المتعلّقة بالطّاقة الحراريّة  الداخليّة، نصل إلى الاقتناع بأنّ المحاولة الموضوعيّة لإنتاج النّار عن طريق الاحتكاك هي إيحاء من قبل خبرات شخصيّة حميميّة تماماً. إنّ الحبّ هو الافتراض العلمي الأوّل لإنتاج النّار – إنّ (بروميثيوس) هو عاشق ولهان وهائم أكثر منه فيلسوفاً يحتكم إلى العقل، كما أنّ انتقام الآلهة هو انتقام متسم بالغيرة. النّار هي ابنة لقطعتين من الخشب. لماذا ابنة؟ .. من الّذي يغرم ويولع بهذه الرؤية؟.. من أي جانب تكون مثل هذه الصّورة أكثر وضوحاً؟.. هل هي واضحة موضوعياً أم ذاتياً؟.. أين هي التّجربة الّتي توضحها؟.. هل هي التّجربة الموضوعيّة لاحتكاك قطعتين من الخشب، أم هي التّجربة الذاتيّة الخاصّة لاحتكاك أكثر نعومة، أكثر ملاطفة يؤجج النّار في جسد محبوب؟.. يكفي طرح هذه الأسئلة للكشف عن موقع الاعتقاد الّذي يؤمن بأنّ النّار هي ابنة الخشب. الشّيء الثّاني الّذي رواه ماكس مولر Max Muller عن هذه النّار البدائيّة – كيف أنّها بمجرّد ولادتها قد التهمت أبيها وأمّها، أي  قطعتا الخشب الّتي انبثقت منهما فجأة – لم تكن عقدة أوديب Oedipus complex من قبل أكثر وأفضل وضوحاً من ذلك: إذا أُفتقدت النّار، فإنّ الفشل الحارق سيعذب قلبك، وستظلّ النّار ملتهبة داخلك. إذا أنت ولّدت النّار فإنّ أبا الهول ذاته سيلتهمك. إنّ الحبّ ليس إلا ناراً يجب أن تُنقل إلى الآخر، وهي ليست إلاّ حبّاً مباغتاً. (15)

إنّ الإنسان البدائي لم يكن يستطيع أن ينظر إلى النّار إلّا كشيء مماثل لعاطفة الحبّ أو كرمز لليبيدو Libido. إنّ الدفء الّذي تبعثه النار يثير النّوع نفسه من التّوهج الّذي يصاحب حالة الإثارة الجنسيّة ويوحي شكل اللّهب وحركته بالقضيب في لحظة العمل. ولا يمكن أن يقوم شكّ حول الدلالة الأسطوريّة  لشعلة النّار كقضيب. وحينما نتحدث عن نار العاطفة لدينا (الّتي تلتهم) أو نصف اللهيب بأنّه (يلعق) مقارنين اللّهب باللّسان، لا نكون قد ابتعدنا كثيراً عن تفكير أسلافنا البدائيين. والحقيقة أنّ بياننا عن اكتساب النّار افترض مسبقاً أن محاولة إخماد النّار – بالنسبة للإنسان الأوّل – بواسطة مائه هو – كانت تدل على صراع مثير للذّة مع قضيب آخر. (16)

فضلاً عن ذلك من السّهل جدّاً إثبات أن تناغم الإيقاع في حلّة الاحتكاك النّشط لإيقاد النّار شرط أن يكون ممتداً ولطيفاً بشكل كاف يؤدي إلى حالة من النّشوة. يكفي أن نسمع بأنّ التّسارع الغاضب يتهادى ويهدأ. إنّ الإيقاعات المختلفة تتناغم وتترابط معاً حتى نرى البسمة والسّلام يعودان ببشاشة إلى وجه العامل. هذه البهجة غير قابلة للتّفسير موضوعياً. إنّها دليل على قوّة عاطفيّة خاصّة. (17)

وفي مجال آخر يقول فرويد: “إنّ اكتساب  النّار جريمة. فهو تمّ بالسّرقة أو النّهب، وهذه سمة دائمة في كلّ الأساطير عن اكتساب النّار، ونجدها بين أكثر الشعوب اختلافاً وتباعداً، وليس فقط في أسطورة (بروميثيوس) جالب النّار الإغريقيّة. ولكن لماذا يرتبط اكتساب النّار ارتباطاً لا يمكن فصمه بفكرة الاعتداء؟.. من هو ضحيّة الأذى والخيانة؟.. تعطينا الأسطورة البروميثيوسيّة عند هيزيود إجابة مباشر عن هذا السؤال، ذلك أنّه في قصة أخرى لا ترتبط على هذا النّحو بالنّار، يخبرنا  كيف رتب (بروميثيوس) التّضحيات على نحو يخدع به (آيوس) لكي يخرجه من القسمة لصالح البشر. الآلهة إذن هم ضحايا الخديعة! .. ونحن نعرف أنّ الأساطير تضفي عليهم متعة جميع الشّهوات الّتي يتعيّن على الإنسان أن ينبذها كما في حالة سفاح المحارم المعروفة. وبتعبير تحليلي ينبغي أن نقول إن الحياة الغريزيّة – الهو ID- هي الإله الّذي يُخدع حينما تحرم متعة إخماد النيران، رغبة بشريّة تتحوّل في الأسطورة إلى امتياز إلهي. (18)

لقد اشتهر الشامانيون في العالم أجمع بامتيازات ومكرمات، ويقال: أنّهم أسياد النّار يلتهمون الفحم الملتهب، يلمسون النّار الحمراء، ويمشون فوق النّار، لقد تأكّد العمل بتقنيّة السّيطرة على النّار عند الشامانيين في المجتمعات القديمة الضّاربة في عمق الزّمان. وتعتبر من مكوّنات الشامانيّة مثلها مثل الوجد والصّعود إلى السّماء، والحديث بلغة الحيوانات، وبالنسبة للعالم البدائي وبالنسبة لعموم النّاس. تتميز الأرواح عند البشر بعدم قابليّة احتراقها: نعني قدرتها على مقاومة حرارة الجمر، لهذا يُنظر إلى الشامانيين وكأنّهم تجاوزوا الشّرط البشري، وباتوا من المشاركين بالشّرط الخاصّ بالأرواح. الشامانيون تماماً كما الأرواح يصيرون غير مرئيين وبمقدورهم التّحليق بالأجواء والصّعود إلى السّماء والهبوط إلى الجحيم، ويوصفون بعدم قابليّة الاحتراق فلا تفعل النّيران فعلها في جلودهم.  إنّ السيطرة على النّار تدلّ بحدود محسوسة على تعالي الشّرط البشريّ، وإنّ الشامان  ليبرهن، من خلال هذه التجربة على أنّه كوّن لنفسه الشّرط الخاصّ بالأرواح وأنّه صار، أو يمكنه أن يصير أثناء الحلقة روحاً. وبالنتيجة بوسعنا القول إنّ النّار الشّرط  البشري ولو بصورة مؤقّتة،  تعادل استرداد وضع الإنسان في البدايات،  بتعبير آخر إنّها تعادل إلغاء الزّمان الرّاهن والعودة إلى الوراء بقصد استعادة الزّمان الفردوسيّ. (19)

-إشكاليّة الموت لدى البدائي:

في هذا الموضوع فإنّنا يمكننا ملاحظة جملة من الأمور ذات الصلة بإشكاليّة الموت لدى البدائي:

أوّلاً: هناك معتقد واضح بأنّ الكائن الحيّ يتألّف من جسد مادي وروح لطيفة، وأنّ هذه الرّوح تستقلّ عن جسد الميّت لترحل إلى عالم آخر موازٍ لعالم الأحياء، ويبدو أنّ الرّوح في اعتقاد النياندرتالي كانت تكتسب عند استقلالها قوّة غير عاديّة. تتّخذ شكلاً نافعاً أو ضاراً وفقاً لموقف الأحياء منها، وهذا هو التّفسير الّذي يقود إليه ثني ركبتي الميّت في حيزه الضّيق القصير، لأن هذا الوضع من شأنه منع الجسد من التمدد والخروج إلى عالم الأحياء، إذا عاودته الرّوح الّتي غدت بانفصالها غريبة عن عالم الأحياء، ومحملة بالقوى المؤذية.

ثانياً: يتّخذ الرّأس أهميّة خاصّة في معتقد الرّوح المفارقة والعالم الموازي ويدلّنا على ذلك حماية الرّأس بالألواح الحجريّة وكذلك توجيهه نحو الشّرق الّذي يرمز إلى البعث لأنّه بوابة ميلاد أكبر الأجرام السماويّة، وهما الشّمس والقمر. ويرجح أنّ الإنسان النياندرتالي قد أعتقد بأنّ الرّأس هو مقرّ الرّوح، خصوصاً وأنّ مثل هذا الاعتقاد قد وجد في العصر الحجريّ الحديث اللاّحق.

ثالثاً: يبدو أنّ نثر الأزهار في قبر المتوفى، يؤدّي معنى البعث الّذي يؤديه توجيه رأس الميّت نحو الشّرق، فالأزهار رمز لانبعاث الحياة في الشّجر، كما هو الشّرق رمز لانبعاث الجرمين العظيمين. وقد كان ظهور الأزهار الربيعيّة بشارة سارة للإنسان النياندرتالي لأنّه كان يعتمد في غذائه على جمع ما تجود به الأشجار إضافة إلى حصيلته من لحوم الطرائد.

رابعاً: يبدو أنّ دماء الحيوانات المذبوحة عند الدّفن، كانت في اعتقادهم تطلق طاقة من نوع خاصّ، تعين التوأم الروحي للمتوفى على عبور البرزخ الفاصل بين العالم المادي والعالم الموازي. ولعلّ مما يرجح هذا الافتراض، أنّ الإنسان العاقل في الباليوليت الأعلى (العصر الحجري القديم) اللاّحق، كان يعتقد بوجود قوة حيويّة في الدّم، ويقوم بطلاء أجساد المتوفين وجدران قبورهم بمادة حمراء تشبه لون الدّم للإيحاء رمزياً بطاقة الحياة.

خامساً: لما كانت الأدوات قد وجدت في قبور المواليد الجدد، فإنّ من المستبعد أن تكون لغاية استخدام التّوأم الروحي، لأنّ هؤلاء المواليد الجدد لم يكونوا قد تعلموا بعد استخدام الأدوات، ولذلك نرجح أن يكون لها وظيفة سحريّة ورمزيّة من نوع خاصّ، ولا نستطيع تكوين فرضيّة عنها الآن. أمّا الهدايا الجنائزيّة المؤلفة من العظام الّتي يجري توزيعها حول جسد الميّت، أو يقبض بيده على بعضها، فإنّها مختلفة عن عظام الذّبيحة، وجرى اختيارها بشكل انتقائي لتحمّل قيمة رمزيّة تشير إلى ما ورائها، وهي على الأغلب مقرّ لقوّة من نوع مّا تتّصل بالعالم الموازي الّذي يرحل إليه الميّت. (20)

يرجّح الباحثون أسباب الاعتقاد بالنّفس إلى الانطباعات الّتي يخلفها الموت في الباقين على قيد الحياة. والنّقطة الوحيدة الّتي نختلف- والقول لِـ(فرويد) – بصددها مع هؤلاء الباحثين: “تتمثّل في أنّنا بدلاً من أن نعطي مكانة الصدارة للمشكلة العقليّة الّتي يطرحها الموت على الأحياء، نعتقد بأنّ القوّة الّتي تدفع بالإنسان إلى إعمال فكره بصدد الموت يكمن مصدرها في النّزاع الوجداني الّذي يخلفه هذا الموقف لدى الأحياء. إذن فالخلق النظري الأوّل للبشر، ونعني به خلق الأرواح، ينبع على هذا الأساس من المصدر عينه الّذي تنبع منه التقييدات الأخلاقيّة الأولى الّتي يخضعون أنفسهم لها، أي الأحكام الحرميّة. لكن وحدة الأصل لا تستتبع البتّة تزامن الظّهور، فلئن صحّ أنّ موقف الأحياء من الأموات كان العلّة الأولى الّتي دفعت بالإنسان إلى إعمال الفكر، وإلى التّنازل للأرواح عن جزء من كليّة قدرته، وإلى التضحيّة بجزء من الاعتباطيّة الّتي كان يصدر عنها في أفعاله، فبوسعنا القول أنّ هذه التّشكيلات الاجتماعيّة تمثّل اعترافاً بأنّ البدائي ينحني أمّا حتميّة الموت بالحركة نفسها الّتي يبدو وكأنّه ينكرها بها”. (21)

والسّؤال الّذي يستدعيه الذّهن: ما كانت الأسباب الّتي حدت بالبدائيين إلى أن يعزوا إلى موتاهم بانقلابهم إلى جنّ وعفاريت؟.. يعتقد (وسترماك): أنّه نظراً إلى أنّ الموت هو أفدح مصيبة يمكن أن تنزل بساح الإنسان، يتراءى للنّاس أنّ المتوفين لا يمكن أن يكونوا غير راضين إلى أقصى حدود عدم الرضا عن مصيرهم، وبحسب تصوّر الشّعوب البدائيّة فإنّ الإنسان لا يموت إلاّ ميّتة عنيفة، بيد الإنسان أو من جراء السّحر. ولهذا فإنّ الموت يجعل على الدوام النّفس حانقة ونهمة إلى الانتقام، ويفترضون أنّ النّفس الغيرى من الأحياء والرّاغبة إلى معشر ذويها السّابقين، تسعى إلى إماتتهم باستنزال الأمراض عليهم – وتلك هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق رغبتها في الاتّحاد، وأنّ تفسيراً آخر للأذيّة المنسوبة إلى الأرواح ينبغي البحث عنه في الخوف الغريزي الّذي توحي به، الخوف الّذي ينجم بدوره عن الحصر الّذي يساور النّاس إزاء الموت. (22)

ويلمح فرويد في كتابه (أفكار لأزمنة الحرب والموت): “إذا سلمنا أنّ حياة البدائيين الوجدانيّة إزدواجيّة بدرجة عاليّة جداً، شأنها شأن الحياة الوجدانيّة للمصابين بالعصاب الوسواسي كما يكشف لنا عنها التّحليل النّفسي، فلن يدهشنا أن تأتي استجابة البدائيين على إثر فقد مؤلم مماثلة لاستجابة المرضى بالعصاب الوسواسي وردود أفعالهم ضد العداوة الثّاوية في حالة الكمون في اللاّشعور. غير أنّ هذه العاطفة الّتي يشقّ على النّفس احتمالها تؤول لدى البدائي إلى مصير مغاير لمصيرها الّذي نلحظه لدى العصابيين: فهي تظهر إلى الخارج وتعزى إلى الميّت نفسه، وهذه سيرورة دفاعيّة نسمّيها في الحياة النفسيّة السويّة والمرضيّة على حدٍّ سواء “إسقاطاً”، فالباقي على قيد الحياة ينكر أن ساوره قطّ شعور عدائي حيال العزيز المتوفى، وإنّما نفس هذا المتوفى على ما يتراءى له، هي الّتي تضمر تلك العاطفة، وتسعى إلى إشباعها طوال فترة الحداد. والطّابع العقابي والتبكيتي الّذي تتّسم به هذه الاستجابة الوجدانيّة سيترجم عن نفسه (على الرغم من المجهود الدفاعي عن طريق الإسقاط) بالخوف والحرمانات والتقييدات  الّتي سيفرضها الباقي على قيد الحياة على نفسه، والّتي ستكون خير شاهد على طبيعتها بوصفها تدابير حماية ضدّ الجني المعادي، وهكذا نلاحظ مرّة أخرى أنّ الحرام رأى النّور على أرض ازدواجيّة وجدانيّة، وأنّه حصيلة تضاد بين الألم الشّعوري والرضى اللاّشعوري، المتولدين كليهما عن الموت، وباعتبار هذا الأصل لغضب الأرواح، نستطيع أن نفهم أن يكون أقرب أقارب المتوفى من الباقين على قيد الحياة، أي أولئك الّذين أحبّهم أكثر من سواهم، هم الّذين تتوفّر لهم الدّواعي لكي يخشوا أكثر من سواهم أيضاً كراهيته وحقده”. (23)

وفي مجال آخر يشير فرويد في كتابه (الطّوطم والحرام) قائلاً:” لقد اتّخذ الإنسان البدائي موقفاً متميزاً للغاية تجاه الموت، وكان حقاً موقفاً متناقضاً،  فهو من ناحية كان يأخذ الموت مأخذ الجدّ، ويدركه على اعتبار أنّه ختام الحياة، وكان يستخدمه لهذه الغاية. ومن ناحيّة أخرى فإنّه كان ينكر الموت ويرده إلى عدم. إنّه لم يكن لديه اعتراض على موت الإنسان الآخر. فقد كان يعني فناء مخلوق مكروه، ولم يكن لدى الإنسان البدائي أي تردّد في إحداث هذا الموت. وهذا الموقف يختلف اختلافاً جذرياً عن موقفه إزاء موته هو نفسه”. (24)

أمّا مرسيا إيلياد فإنّه يوضح ثنائية المشاعر تجاه الجنّ والعفاريت المرتبطين بعالم الأموات في كتابه (الأساطير والأحلام والأسرار) قائلاً: “أمّا أنّ الجنّ والعفاريت يتصوّرون على الدّوام على أنّهم أرواح الأشخاص المتوفين حديثاً، فلدينا على ذلك دليل لا يرقى إليه الشّك في التّأثير الّذي يمارسه الحداد على تكوين الاعتقاد بالجنّ والعفاريت. فالمفروض في الحداد أن يضطلع بمهمّة نفسيّة محدودة، تتمثّل في إقامة فاصل بين الأموات من جهة، وبين ذكريات الباقين على قيد الحياة وآمالهم من الجهة الثانية، فإذا ما تمّ تحصيل هذه النتيجة خفّ الألم وخفّ معه التّبكيت والمآخذ الّتي ينحي بها الإنسان على نفسه، وبالتّالي الخوف من الجنّ والعفاريت. وعندئذ تغدو الأرواح الّتي كان يُهاب جانبها باعتبارها من الجنّ والعفاريت، تغدو هي نفسها موضوعاً لعواطف أكثر وداً، وتُعبد باعتبارها أرواح الأسلاف والأجداد الّذين تلتمس معونتهم وتُطلب نجدتهم في المناسبات كافّة”. (25)

********

هوامش البحث:

1-غاتشف غيورغي، الوعي والفن، ترجمة: د. نوفل نيوف، مراجعة: د. سعد مصلوح، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد شباط-فبراير، 1990، ص20-21.

2- غاتشف غيورغي، الوعي والفن، مصدر سابق، ص26-27-28.

3- المصدر السابق، ص37.

4-السواح فراس، دين الإنسان، منشورات دار علاء الدين، دمشق، ط3، 1998، ص134.

5-فرويد سيجموند، الطوطم والحرام، ترجمة : جورج طرابيشي، منشورات دار الطليعة، بيروت، ط2، 1997، ص192-193.

6-المصدر السابق، ص182.

7-المصدر السابق، ص152-153.

8-المصدر السابق، ص156.

9-المصدر السابق، ص144.

10-المصدر السابق، ص151-152.

11-المصدر السابق، ص180-181.

12-المصدر السابق، ص184-185.

13-المصدر السابق، ص187.

14-د. غرانبرغر بيلا، النرجسيّة، ترجمة: وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط1، دمشق، 2000، ص337-338.

15-باشلار  غاستون، النار – التحليل النفسي لأحلام اليقظة، ترجمة وتقديم: درويش الحلوجي، منشورات دار كنعان، ط1، 2005، ص48-49.

16-فرويد سيجموند، أفكار لأزمنة الحرب والموت، ترجمة: سمير كرم، منشورات دار الطليعة، بيروت، ط3، 1986، ص92.

17- باشلار غاستون، النار – التحليل النفسي لأحلام اليقظة، مصدر سابق ، ص56.

18- فرويد سيجموند، أفكار لأزمنة الحرب والموت، مصدر سابق، ص90-91.

19-إيلياد، مرسيا، الأساطير والأحلام والأسرار، ترجمة : حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق، ط1، 2004، ص112-113.

20- السواح  فراس، دين الإنسان ، مصدر سابق، ص127-128-129.

21- فرويد سيجموند، الطوطم والحرام، مصدر سابق، ص122-123.

22- المصدر السابق، ص81-82.

23- فرويد سيجموند، أفكار لأزمنة الحرب والموت، مصدر سابق ، ص31.

24- فرويد سيجموند، الطوطم والحرام، مصدر سابق، ص89.

25- إيلياد، مرسيا، الأساطير والأحلام والأسرار، مصدر سابق، ص16.

المصدر: https://www.alawan.org/2019/09/16/%d8%b9%d9%86%d8%a7%d8%b5%d8%b1-%d8%a3%d8%b1%d8%a8%d8%b9%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%a3%d8%ac%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b9%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%af%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%91-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%aa/

(2)

-الوعي بالمقدّس:

يستطرد مرسيا إيلياد في تبيان دور اللاّشعور على اعتباره حجر الأساس في فكرة المقدّس في كتابه سابق الذّكر (الأساطير والأحلام والأسرار) قائلاً: “لقد أمكن إثبات استمراريّة العلاقة بين عالم الأحلام وعالم  الأساطير، تماماً كما تم العثور على تماثل بين الشّخصيات والأحداث الأسطوريّة، وبين شخصيات الأحلام والأحداث الّتي تجري فيها. وقد تبيّن أيضاً أنّ ثمّة تعديلاً يطرأ على مقولات الزّمان والمكان العاملة في الأحلام، على نحو يذكر ضمن بعض الحدود بإلغاء الزّمان والمكان في عالم الأساطير. بل أكثر من ذلك لاحظ بعض الباحثين أنّ الأحلام وسائر الحالات النفسيّة المقيمة في اللاّشعور لا تقتصر فقط على تقديم جو ديني بنيتها الّتي يمكن مقارنتها مع بنيّة الأساطير، وإنّما تعرض أيضاً حسب رأي علماء نفس الأعماق التّماثل بين تجربة المقدّس الّتي تقتضيها الأسطورة، وبين تجربة تعتمد على محتويات من اللاّشعور، ثمّ خلصوا وربّما ببعض السّرعة إلى أنّ إبداعات اللاّشعور هي المادة الأولى للدين، ولكلّ ما يحمل من رموز وأساطير وطقوس”. (26)

أمّا فرويد  فيعرف المقدّس في كتابه (مستقبل وهم) وفق الآتي: “من جهة أولى هو الآخر المتميز إلى أبعد الحدود. إنّه ذلك التّعالي والتّسامي، وذلك التّجاوز لما هو شخصي. والمقدّس من جهة ثانية هو النّموذجي، بمعنى أنّه يؤلّف طرازاً ومثالاً ويؤسّس نهجاً يجب إتباعه. هنالك إذن التّعالي والنموذجيّة  اللذان يرغمان الإنسان المتدين على الخروج من الأوضاع الشخصيّة، وعلى تخطي ما هو جائز واحتمالي وفردي، من أجل الولوج إلى الكوني وإلى القيم العامة”. (27)

وإذا لم يكن الموت نفسه أمراً عفوياً، وإنّما فعل عنيف ناجم عن إرادة خبيثة، وإذا كنا نحن أنفسنا محاطين في كلّ مكان من الطبيعة بكائنات تضارع وتشبه الآدميين الّذين يحيطون بنا، فإنّنا نتنفس الصعداء عندئذ، ونشعر كأنّنا في بيوتنا، وإن كنّا في جوف ما هو خارق للطبيعة – ونستطيع بالتّالي أن نتهيأ نفسياً لخوفنا الّذي ما كنا لنعرف له معنى من قبل. وإذ يسعنا بالعقل أن نلجأ إلى مواجهة تلك الكائنات العليا العنيفة إلى نفس الطرائق الّتي نستخدمها داخل مجتمعاتنا البشريّة، فنحاول أن نتملقها ونهدئها ونرشوها ونختلس بالتّالي من خلال تأثيرنا هذا عليها جزءاً من سلطانها. وهذه الاستعاضة عن علم طبيعي بعلم نفسي لا توفر لنا سوى انفراج فوري، ولا تدلنا على الطريق الواجب إتباعه للسيطرة على الوضع بإحكام أكبر (فرويد). (28)

وفي موضع آخر يطلعنا فرويد من الكتاب سابق الذّكر على سرّ قوّة وسلطان الأفكار الدينيّة وعلاقتها بالسلطة الأبويّة الحاميّة من غوائل الطبيعة فيقول: “وهذه الأفكار الدينيّة الّتي تطرح نفسها على أنّها معتقدات، ليست خلاصة التّجربة أو النتيجة النهائيّة للتّأمل والتّفكير، وإنّما هي توهمات، تحقيق لأقدم رغبات البشريّة وأقواها وأشدّها إلحاحاً، وسرّ قوّتها هو قوّة هذه الرّغبات. وبالأصل نحن نعلم ذلك: فالإحساس المرعب بالضائقة الطفليّة أيقظ الحاجة للحمايّة – الحماية بالحبّ- وهي حاجة لبّاها الأب. وأدرك الإنسان أن هذه الضائقة تدوم الحياة كلّها جعله يتشبّث بأب، أب أعظم قوّة وأشدّ بأساً هذه المرة. فالقلق الإنساني إزاء أخطار الحياة يسكن ويهدأ لدى التّفكير بالسّلطان الرّفيق العطوف للعنايّة الإلهيّة، كما أنّ إرساء نظام أخلاقي يكفل تلبية مقتضيات العدالة. ومن مقدمات المنظومة الدينيّة تشتق وتتفرّع أجوبة على الأسئلة الّتي يطرحها الفضول البشري على نفسه بصدد الألغاز التاليّة: أصل الكون، العلاقة بين الجسد والرّوح ..إلخ. ولكم يخف العبء على النّفس الفرديّة حين ترى صراعات الطفولة المنبثقة عن المركب الأبوي – وهي صراعات لم تحل قط تمام الحل – وقد أُسقطت عن كاهلها إذا صحّ التّعبير وتلقت لها حلاً يقبل به الجميع”. (29)

وعلى هذا النّحو تتكوّن ذخيرة من الأفكار، وليدة الحاجة إلى تلطيف الضّائقة الإنسانيّة، مبنيّة بالمادّة الّتي تقدمها ذكريات الضّائقة الّتي كان عليها الإنسان في طفولته الأولى كما في طفولة الجنس البشري. ويسير علينا أن ندرك أنّ الإنسان يشعر بفضل هذه المكتسبات بأنّه محمي من جانبين: من جهة أولى من أخطار الطبيعة والقدر، ومن الجهة الثانية من الأضرار الّتي يتسبب بها المجتمع الإنساني. هذا كله يعدل القول بأنّ الحياة في هذه الدنيا، تعمل في خدمة تدبير سامٍ أعلى يصعب التكهن بطبيعته، لكنّه ذو دخل بكل تأكيد بكمال كينونة الإنسان، ولعلّ موضوع هذا التّعظيم والتّمجيد سيكوّن الشّطر الرّوحي من الإنسان، الرّوح الّتي انفصلت على مرّ الزّمن عن الجسد ببطء بالغ وعلى مضض شديد، وكلّ ما يحدث في هذه الدنيا ينبغي أن يعد تنفيذاً لقاصد عقل يسمو على عقلنا، عقل يدير جميع الأمور على أحسن وجه أي لخيرنا، وإن سلك دروباً ومنعرجات يصعب تتبعها. وعلى كلّ منا تسهر عناية إلهيّة رفيقة، غير صارمة إلّا في الظاهر، عنايّة لا تسمح بأن نصير ألعوبة بين يدي الطبيعيّة السّاحقة العادمة الشفقة، وحتّى الموت بالذات ليس إلّا اضمحلالاً، ليس عودة إلى حيث الحياة واللاّحركة، وإنّما هو بداية ضرب جديد من الوجود، مرحلة على طريق تطور أسمى وأرفع. (30)

ومن الناحية الأركيولوجيّة فلقد وجد على سبيل المثال، أن غرس قرون الماعز الجبلي حول جسد الميّت بطريقة خاصّة، هو إجراء يخفي وراءه اعتقاداً باحتواء هذه القرون على قوّة من نوع مّا. ففي جبال الألب تمّ اكتشاف ثلاثة كهوف تتوضع على ارتفاعات تتراوح بين السّبعة آلاف والثمانيّة آلاف قدم. وترجع إلى أواخر الباليوليت الأوسط احتوى كلّ منها على جماجم عظام دببة مغاور تمّ ترتيبها بشكل اصطناعي مقصود، أطلق عليها بعض الباحثين أسم (مقامات الدب) ورأوا فيها دليلاً على عبادة منظمة تدور حول الدّب خصوصاً، وأنّ طقوساً مشابهة مازالت قائمة لدى بعض الشّعوب البدائيّة في الدّائرة القطبيّة الشماليّة. وكلّ ما نستطيع  استنتاجه عن هذه الرحلة من معلوماتنا عن الثقافة النياندرتاليّة، هو أن لتلك التكوينات وظيفة رمزيّة تتصل بالمعتقد الديني وأنّها تتعلّق بالنشاط الهادف إلى إقامة علاقة مع المستوى القدسي للوجود الّذي أحسّ النياندرتالي حضوره بالنّفس والطبيعة *. (31)

إنّ عقيدة تقديس الجماجم هي المؤشر الأول في تاريخ الدين على عبادة الموتى، حيث لا  تظهر وتأخذ أبعادها كاملة إلاّ في وسط قروي مستقر يتمتع بحياة دينيّة منظمة، تحمل وراءها عشرات ألوف السنين من التفاعل ضمن البيئة الاجتماعيّة، فهذه العقيدة الّتي تقوم على الإيمان بقوة الأرواح وقداستها لم تنشأ في فراغ ديني، بل انبثقت عن معتقدات أقدم منها متوارثة عن الباليوليت الأعلى (العصر الحجري القديم)، وتعايشت معها دون أن تحل محلّها. ففي تل المريبط نجد الجماجم المنصوبة على حواملها، قائمة في بيوت النّاس الّذين تعبدوا للقوّة الساريّة من خلال رؤوس الثيران المعروضة على المناصب الطينيّة. وفي شتال هيوك (الأناضول) توضع الجماجم بشكل ظاهر في الهياكل الّتي أقيمت أصلاً لرؤوس الثيران وتمثيلات الألوهة المؤنثة. وفي أريحا ترصف مجموعات الجماجم المشكلة الملامح في البيوت السكنيّة للنّاس الذين بنوا هياكل دينيّة أقاموا فيها الطقوس للتّواصل مع القوّة الكونيّة الوحيدة، الّتي عرفها إنسان ذلك العصر (قوة المجال القدسي). أي أن قدسيّة الأرواح، وبشكل خاص قدسيّة الأسلاف المبجلين، إنّما تستمد من مفهوم سابق، مؤسس وراسخ للقداسة، ومن أفكار دينيّة ناضجة عن المقدّس، وعن الدنيوي، وإنسان العصر النيوليتي (العصر الحجري الحديث) في تقديسه لأرواح السلف  قد نظر إلى جماجمهم باعتبارها مستودعاً لقوى قدسيّة غير محدودة تصدر عن منبع كوني خفي، فإذا كانت أرواح الموتى تكتسب قوّة فوق طبيعيّة بعد مغادرتها أجسادها، فلأنّها انضمت إلى المستوى القدسي للوجود الّذي صدرت عنه أصلاً، واستمدت من قوّته السارية، هذه القوّة الّتي تتكثف بشكل خاصّ في أرواح الأفراد المتميزين، ممّن لعبوا دوراً هاماً في حياتهم. ويبقون بعد مماتهم صلة وصل مع المستوى القدسي كما تبقى جماجمهم بين الأحياء شارة للقداسة، وشيئاً فشيئاً تحلّ الشّارة الإنسانيّة محلّ الشّارة الحيوانيّة رمزاً لعالم اللاّهوت، وتأخذا لقوّة تدريجياً باتّخاذ لملامح الإنسانيّة بعد أن احتجبت طويلاً وراء الهيئة الحيوانيّة، ويترافق هذا التّحول مع إدراك الجنس البشري لتميزه ولدوره على مسرح الكون. (32)

-الخبرة الدينيّة لدى البدائي:

يتحدّث ولتر ستيس عن مفهوم التجربة الدينيّة بأنها أزمة كليّة يسببها الوجود، وهي بالوقت ذاته الحل النموذجي لتلك الأزمة، إنّها الحل المثالي عن عالم مقدّس من فعل الآلهة. عالم لم يعد  خاصاً بفرد ولا غامضاً أو عاتماً، إنّما أخذ يتجاوز ما هو شخصي وراح يحمل الدلالة. إنّ الحلّ الديني يؤسس سلوكاً نموذجياً، وبالتّالي يرغم على أن يكشف لنفسه وبذات الوقت، ما هو واقعي وما هو كليّ وشامل. (33)

ويمكننا تعريف الخبرة الدينيّة كما يقدمها ولتر ستيس في كتابه (الزّمان والأزل):” بأنّها النّزوع نحو قطع العلائق مع الكينونة والوجود معاً، أو هو الرّغبة في تجاوز الوجود نحو ذلك العدم الّذي يكمن فيه النّور الأعظم. إنّه الرّغبة في التّحرر تماماً من أغلال الكينونة، الحقّ أنّ كلّ كينونة إنّما هي قيد، إن لم نقل بأنّ الوجود نفسه هو قيد. فليس وجودك سوى ارتباطك بما أنت كائنه، أو تقيدك بصميم كينونتك، وأمّا الدين فهو التّعطش إلى اللاّوجود والّذي هو مع ذلك موجود”. (34)

ويروي ستيس السّبب نحو إحلال مفهوم الإله:” والإله – الّذي هو القوت الوحيد الكفيل بإشباع نهم النّفس – إنّما هو هذا الموجود الّذي هو في الآن نفسه لا موجود. فهل يكون هذا مجرّد تناقض؟ .. إنّ البشر قد وجدوا في سعيهم نحو الموجود الأقصى، أنّ التناقض والمفارقة يحيطان بهم من كلّ صوب. ولكن من طبيعة الذّهن المتعقل ألاّ يقبل الأمور على هذا النّحو، لأنّه لابدّ أن يجد نفسه مضطراً إلى العمل على كشف النقاب عن السّر النهائي سواءً أكان ذلك بأن يخلع عليه طابعاً منطقياً، أم بأن يحيله إلى مقولتي الـ(هذا) و(ذاك). أو هو على أقل تقدير، قد يحاول التّخفيف من حدة الإشكال، حتّى يبدو الأمر كما لو كان من قبيل الإدراك الفطري، فيكون بالإمكان ابتلاعه دون كبير عناء”. (35)

إنّ المواجهة بين عالم اللاّهوت والإنسان لا تنجم عن تجربة عقليّة، لأنّها في الأساس خبرة وجوديّة، تفرض نفسها عليه بسبب استعداد فطري لتلقي الأثر الدينامي للمجال الآخر، بعيداً عن المفاهيم والصياغات العقليّة، ومن هنا فناتج المواجهة يتحوّل إلى اختبار نفساني لوحدة وتكامل الوجود المدرك وغير المدرك. أمّا التّعبير عن هذا الاختبار النّفسي فإنّه قد تمّ ولا شكّ من خلال صياغات شتّى، فلقد أُستخدم الفنّ وبأقصى مدى من أجل توصيل ذلك الإحساس بالمجال القدسي. أمّا الطقوس الّتي كانت تجري في كاتدرائيات الأعمق تلك، أمّا الصياغة التواصليّة للمعتقدات، فأمور لا يمكن حتّى التّفكير بإعادة بنائها (ستيس). (36)

يمكن تلخيص العواطف الّتي يرى أهل الاتجاه العاطفي وجودها وراء الدين، إلى عاطفتين أساسيتين عند البشر هما الخوف والطمع- وبما أنّ منتهى مخاوف الإنسان هو خوفه من الموت ومنتهى طمعه هو الاستمرار والخلود بعد الممات، فإنّ هاتين العاطفتين تتعاونان على صياغة معتقد يقسم الإنسان إلى كيانين، واحد مادي وآخر روحي. فإذا كان الموت لابدّ مدرك كيانه المادي، كما تعلمنا الخبرة اليوميّة، فإنّ الكيان الروحي سوف يجتاز واقعة الموت ويترك سكنه المؤقت الّذي آل إلى التلف إلى مستوى آخر للوجود يتمتع فيه بالحياة الأبديّة، وبما أنّنا نواجه فكرة الرّوح هذه، إلا ما ندر، في كل ديانة قديمة أو حديثة مما وصل إليه علمنا، كما نواجه في كل منها تصوّراً مّا لحالة الرّوح بعد واقعة الموت الفردي، فقد توصل أهل النظريّة العاطفيّة إلى القول بأنّ الحسّ الديني هو نتاج ثانوي لعاطفة الخوف من الموت وعاطفة الطمع في الخلود، وأنّ مفهوم الألوهة لم يترسّخ إلاّ لكي يضمن الإنسان لنفسه خلاصاً وبقاءً أبدياً (ستيس). (37)

ورغم أنّ مكانة سكان العالم الأسفل في المعتقد التيوتوني (البدائي)  تختلف باختلاف المكانة الّتي كانت لهم بالعالم الأعلى. وأغرب مصير تصير إليه زمرة من الأرواح الهابطة، هو مصير جماعة المحاربين مثلاً الّذين سقطوا في ساح القتال، فهؤلاء يحلون ضيوفاً في قائمة شرف خاصّة بهم، ولهم ما يشتهون من طعام وشراب يطوف به عليهم عذارى حسان، ويلبين لهم كل مطلب، غير أنّ هؤلاء المحاربين  محكومون بخوض قتال لا يهدأ في كل يوم، فمع ابتداء اليوم الجديد يتّخذ الأبطال عدّتهم للحرب وينخرطون في قراع يستمر إلى آخر اليوم حيث يأوون إلى أسرتهم لكي يتابعوا الأمر نفسه باليوم التّالي. (38)

وفي مجال آخر فإنّ (المتوحش الطيب) الّذي اكتشفه الرحالة  والأيديولوجيون من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر كن بدوره على علم بأسطورة المتوحش الطيب، في رأيه هنالك طيب قديم: هو جده الأسطوري القديم الخاصّ، أقام في نفس المكان، وعاش حقيقة حياة فردوسيّة، كانت له كلّ أسباب العيش البهيج الرّغيد وكانت له كلّ الحريات، ولم يطلب منه القيام بأي جهد، غير أنّ ذاك الجد الطيب الأولي، شأنه شأن الجد التوراتي عند الأوروبيين فقد فردوسه الأرضي، وبالنسبة للمتوحش الرّاهن، كانت حالة الكمال موجودة عند جده الأسطوريّ، لكن هنالك فارق أساسي بينهما، إنّ المتوحش الّذي تمّ اكتشافه في القرون الماضية، كان يبذل الجهد حتّى لا ينسى ما جرى في ذلك الزّمان القديم، كان عليه أن يتذكر بصورة دوريّة الأحداث الهامّة الّتي دفعته إلى شرط الإنسان (السّاقط) ويضيف (مرسيا إيلياد): “إنّ الأهميّة الّتي أولاها المتوحش الطيب الرّاهن إلى تذكر الأحداث الأسطوريّة بالدّقة والوضوح لا تقتضي منه بأي حال، إضفاء قيمة إلى الذّاكرة بحّد ذاتها، لأنّ البدايات وحدها تشغل بال البدائي، ولكنّه لم يكترث لما جرى له بالذّات من أحداث، أو لأحد ذويه منذ ومن قريب أو بعيد وليس له أن يتذكرها”. (39)

يتحدّث الأنثروبولوجي هرسكوفيتز عن تجربة الشامان الروحيّة (تجربة الطيران)  بأنّه يستعيد أثناء الوجد، الوضع الفردوسي، ويؤكّد إمكانيّة الاتّصال بين السّماء والأرض، والّتي كانت ميسورة في ذلك الزّمن القديم، وبالنسبة للشامان –الجبل والشّجرة الكونيّة –يغدوان مرّة أخرى وسائل حسّيّة تؤمن الولوج إلى السّماء مثلما كانا قبل السّقوط. إنّ الشامان لا يلغي إلاّ لفترة وجيزة القطيعة بين السّماء والأرض، إنّه يصعد إلى السّماء بالرّوح، ولا صعد أبداً على صعيد الواقع، بلحمه وشحمه مثلما فعل الإنسان الأولي في البدايات، كذلك لا يلغي إطلاقاً الموت، ومن الملاحظ أنّ كلّ المفردات الدّالة على الخلود، والّتي يمكن إحصاؤها عند البدائيين، تستلزم تماماً – كما عند الشّعوب المتحضرة – موتاً تمّ من قبل. ونقول إنّ التّجربة الصوفيّة بامتياز في المجتمعات القديمة والمتمثّلة بالشامانيّة تكشف عن الحنين إلى الفردوس، وعن الرّغبة في استعادة حالة الحريّة والغبطة الّتي كانت قبل السّقوط، وفي تجديد الاتّصال بين السّماء والأرض، وفي إلغاء كلّ ما تمّ من تغيير في بنيّة الكون بالذّات، وفي نمط وجود الإنسان عقب الخطيئة الأوليّة. إنّه يسترد الصداقة والألفة مع الحيوانات (أثناء الجلسة الشامانيّة – حيث يقلد أصوات الحيوانات والطيور)، وهو بتحليقه بالأجواء بالرّوح أو صعوده، يقيم الاتّصال مرّة أخرى بين الأرض والسّماء، وعندما يبلغ السّماء ويدرك الأعالي يجري مقابلة مع الإله السماوي وجهاً لوجه، ويبادله الأحاديث بصورة مباشرة مثلما أتيح للإنسان الأولي أن يفعل في ذلك الزّمان القديم. (40)

ولا يغرب عن البال أنّ الحلول Possession لدى الزّنوج في إفريقيا والهند وفي العالم الجديد، هو أسمى تعبير عن تجربتهم الدينيّة، وما هو إلّا حالة سيكولوجيّة يقع فيها نقل الشخصيّة عندما (يدخل الرّب في رأس) عابده. وعلى ذلك يعتبر الفرد بمثابة الرّب نفسه. إنّ حالات الوجد الهستيريّة الّتي يقوم بها النّاس وهو مغمضو العينين بحركات دون ما هدف أو غاية، أو يتمرغون بالأرض متمتمين بكلمات غير مفهومة، أو يصلون إلى درجة تتصلّب فيها أجسادهم تماماً، يمكن معادلتها دون صعوبة بظواهر الشّذوذ العصابيّة واختلال الشخصيّة في المجتمعات الأورو –أمريكيّة. إذ أنّ تجارب الحلول هذه بالنسبة للإطار الّذي تدور فيه، لا تعتبر أبداً شذوذاً أو ظاهرة سيكولوجيّة، بل هي نماذج ثقافيّة غالباً ما يتلقنها الأفراد بالتّعلم. إنّ رقصات الفرد الّذي حلّ فيه أحد الأرباب وأفعاله الأخرى تتبّع أسلوباً معيناً بحيث أنّ من يعرف ديانة مجتمعه يستطيع تعيين الرّب الّذي حلّ فيه. وأخيراً فإنّ تجربة الحلول في هذه الثّقافة منظمة إلى درجة أنّها تقع لأحد المتعبدين في ظروف خاصّة، ففي إفريقيا الغربيّة والبرازيل يحلّ الأرباب فقط في الشّخص الّذي يعينه الكاهن في الجماعة مسبقاً بأن يضع يديه فوق رأسه (إيلياد). (41)

وعلى حدّ تعبير إيلياد فإنّ الإله السماوي يرى كلّ شيء، وبالتّالي يعلم كلّ شيء، وهذا العلم من مستوى فائق الطبيعة، هو بذاته قوّة. إنّ آيهو Iho عن البولينيز هو الإله المطلق الأبدي وكلي المعرفة، له العظم والجبروت، إنّه أصل كلّ شيء وينبوع المعرفة المقدّسة، ومعرفة الغوامض والخفايا. قل الشّيء ذاته عن الديانات الأكثر تطوراً. فالذّكاء والمعرفة الكليّة والحكمة ليست فقط أوصافاً للآلهة السماويّة. إنّما هي قدرات، يرى الإنسان نفسه ملزماً لأن تكون له ولأن يتحلّى بها. (42)

ويجب الانتباه إلى موضوعة غياب أسطورة الزّواج المقدّس في أقدم الديانات البدائيّة حيث يخلص (مرسيا إيلياد) إلى نتيجة مفادها: “أنّ الأرض – الأم هي آلهة قديمة جداً، تأكد وجودها منذ العصر الحجري القديم، لكن لا يمكننا القول أنّها كانت الألوهة الوحيدة الأوليّة. يعزى هذا الكلام إلى سبب بسيط نعبّر عنه بالقول: لم يدرك الإنسان القديم الأنوثة كنمط من الوجود الأولي، إنّما كانت الأنوثة كما الذّكورة تؤلف نمطاً خاصاً من الوجود مسبوقاً بالضّرورة بالنسبة للفكر الأسطوريّ بنمط من الوجود الكليّ. وعندما يتعلّق الأمر بكائنات خالقة، نرى أنّ التركيز يتناول مقدرتها على خلق يحسّ به المرء وكأنّه صادر عن امتلاء غير متميز من دون محدّدات ومواصفات. وبوسعنا القول عن هذه الحالة الأوليّة: إنّها كليّة ومحايدة ومبدعة. (43)

أيضاً فإنّ البدائيين يعرفون عن الكائنات العظمى أنّها هي الّتي خلقت العالم والحياة والبشر، لكنّها بحسب أساطيرهم، هجرت الأرض بعد مدّة وجيزة وانسحبت إلى أعالي السّماء وأوكلت إلى أبنائها من الآلهة ليحلوا محلّها أو مبعوثين عنها، أو إلى الآلهة التّابعة لها، والّتي استمرّت على نحو ما بالاهتمام بالخليقة وفي الحفاظ عليها والسير بها إلى الأمام. وفي هذه الديانات البدائيّة يفقد الإله الأعظم فعاليته الدينيّة ، إنّه يبتعد عن البشر، ومع ذلك يحتفظ الإنسان بذكراه ويتوسل إليه، ويضرع إليه في الشدّة والأوقات العصيبة، عندما تفشل كلّ المساعي وكلّ الوساطات الموجهة إلى سائر الآلهة وإلى الأبالسة والأجداد. (44)

 -إرهاصات الوعي لدى البدائي:

من الجدير بالذّكر عندما نتساءل عن المراحل المبكرة لتكون الوعي كصورة وخيالات أن نتكلّم عن العفاريت والأرواح والآلهة، وهو الجانب الأكثر إمتاعاً والأعظم جدوى بالنسبة لفهم أقدم أشكال الصورة. ففي البداية  رأينا الفتش شيئاً جاهزاً، واحداً من أشياء الطّبيعة، وعندما ينفصل عفريت الشّيء عن الشّيء ذاته يكون في البداية عديم الشّكل مائعاً. هذا المستوى من الوعي يملأ العالم بغيلان خرافيّة مرعبة لا تخضع لقياس أو معيار سواءً في ضخامتها أو في ضآلتها على السّواء. إنّ هؤلاء العفاريت على درجة من الهشاشة بحيث أنّهم يفتقدون أي مظهر خارجي – مادي محدّد حتّى ولو ما يشبه الوحوش. وهكذا فإنّ تصورنا لهم يظلّ غير مرئي، لا يدركه البصر، إنّهم أشبه بالتّهويمات في الكوابيس. أمّا في ما بعد فتتّخذ الصّورة شكلاً، أي أنّها تتحدّد بآلهة على هيئة وحوش، مثل: الهيدرا، التنين ..إلخ. على أن هؤلاء الآلهة لم يأخذوا معنى الغيلان السلبي إلا في وقت لاحق، حين ارتفع الآلهة والأبطال إلى درجة التّشابه مع البشر. ثمّ في شخصيتي هرقل وإيليا موروميتس (بطل الفلكلور في الأساطير الروسيّة) بدؤوا يقهرون الغيلان والجبابرة. بعدئذ نلتقي بنوع نصفه إنسان والنّصف الآخر حيوان، مثلا ذلك: القنطور وأبو الهول، وأخيراً نلتقي بآلهة تشبه الإنسان من نمط آلهة الأولمب الأغريقي، وقد تميّزت الآلهة في مراحلها الأولى بما لا حدود له من ضخامة وقوّة وجبروت طبيعي، خصوصاً بقدرتها المفرطة على إنجاب الأولاد، لأنّ فضائلها الأساسيّة تكمن في هذه القدرة، إذا منها تحدرت الآلهة وخلق الكون. وبعد ذلك تكتسب الآلهة أحجاماً مرئيّة يدركها البصر (كذلك هم آلهة الأولمب عند هوميروس، ولذلك يستطيعون المشاركة في الحروب بين البشر) على أنّ جبروتهم الروحي يعظم إلى ما لا نهاية متجلياً في العقل وفي معرفة كلّ شيء وإتقانه، ولئن كانت الآلهة الرئيسة مؤنثة في البداية، بحكم أنّ النّشاط الإنساني = الإلهي كان له صفة الطبيعة حينذاك- إنجاب الأولاد، فإنّ اللّوحة تغيّرت في ما بعد، بحيث أنّ المقام الأول أصبح من نصيب الآلهة المذكرة، والأبطال المعلمين الّذين يقيمون نظاماً عاقلاً على الأرض، ويعلمون النّاس المهن والأعراف والقوانين…إلخ. أي أنّ قوّة هذه الآلهة لم تعد طبيعيّة. بل اجتماعيّة، وأنّها العمل والعقل، وليس صعباً أن نرى في هذا التّطور الّذي عرفته صور العفاريت والآلهة نقلاً (اسقاطاً) لطريق  المجتمع البشري من الطبيعة إلى الحضارة. من مرحلة النّظام الأموميّ Matriarchy إلى مرحلة النّظام الأبويّ Patriarchy، من صلات القربى الدمويّة إلى شبه الطبيعيّة داخل المجتمع إلى صلات العمل والصلات الإنتاجيّة. (45)

ولا يغرب عن البال بأنّ أسطورة أوديب تمثّل نوعاً من الأداة المنطقيّة الّتي تربط بين المسألة الأصليّة – ولادة الإنسان من واحد أم من اثنين- والمسألة المتفرّعة منها – ولادة الإنسان من المختلف أم المماثل. ومن خلال هذا الرّبط نجد أنّ الإفراط في تقدير صلات الرّحم يمثّل بالنسبة للـ(استهانة في تقديرها)  ما تمثّله محاولة الفار من التّولد الذّاتيّ من الأرض بالنسبة لاستحالة تحقيق ذلك. ومع أنّ التّجربة تناقض النظريّة، فإنّ الحياة الاجتماعيّة تؤكّد مصداقيّة تصوّر كوني معيّن بما تبديه من تشابه معه في بنيتها، ممّا يعني أنّ التّصور الكوني صحيح. (46)

كذلك وفي مسار مقارب فإنّ كلّ الأساطير تقول الشّيء ذاته، وإنّما في أنّ محصلة ما تقوله كلّ الأساطير معاً لا يُقال بصورة واضحة من قبل أي منها، وأنّ ما تقوله على هذا النّحو مجتمعة هو حقيقة شعريّة تمثل تناقضاً غير مرغوب فيه، ويرى (كلود ليفي شتراوس): أنّ وظيفة الأساطير هي أن تُظهر  للعلن مفارقات لاواعيّة من هذا النّوع، وإن يكن بشكل مموّه. (47)

لكنّ السّؤال الغريب هنا: كيف يعامل الدّماغ الموضوعات الخارجيّة وخصوصاً في الفكر الأسطوريّ؟.. إنّ الدّماغ في النّظام الفكريّ الذّي تشتمل عليه الأسطورة، وما للأشياء الخارجيّة من خصائص محسوسة كما لو كانت رموزاً في معادلة رياضيّة. إنّ ثمرة القرع هي آلة للموسيقى المقدسة تستخدم بالاشتراك مع التبغ الّذي تتصوّره الأساطير بصورة عنصر ثقافي تشتمل عليه الطبيعة، أمّا عند استخدامها لوعاء للماء والطعام، فإنّ هذه الثمرة تكون أداة للطبخ المدنّس، ووعاءً يحتوي منتجات الطبيعة، وبذا يشكّل مثالاً ملائماً لاشتمال الثّقافة على الطبيعة، وينطبق الأمر ذاته على الشّجرة المجوّفة، فهي كطبل أداة موسيقيّة تستخدم في الدّعوة إلى الاجتماع والاستنفار، وكلاهما دور اجتماعي بالدّرجة الأولى، أمّا حين يكون فيها العسل فإنّها ترتبط بالطبيعة، وبالثّقافة عن وضع العسل كي يتخمّر داخل جذع شجرة لم تجوّفها الطبيعة، بل جوفت صنعياً لتحويلها إلى جرن. وإذا كان ليفي شتراوس محقاً باعتقاده أنّ البدائيين يفكّرون على هذا النّحو فلا شكّ عندها أنّ فكرة فريزر – ليفي- برول – سارتر الّتي مفادها أنّ الفكر البدائي ساذج وطفولي وخرافي لن تكون في محلّها. ذلك أنّ بدائيي ليفي شتراوس راقون مثلنا تماماً، ولا يتعدّى الأمر استخدامهم نظاماً مختلفاً في وضع الرّموز والإشارات. (48)

نحن نفصل ما نراه من تلقاء أنفسنا، وذلك أمر يعمل عملاً جيّداً في بعض الحالات، ولكن عندما يقتضي الأمر في فهم العالم الداخلي وتوجيهه فإنّه لا يعمل، سواءً أكان عالمنا الدّاخلي، أم عالم الآخرين، ذلك أنّ كلّ فكر لا يجري طبقاً للمنطق الصوري، تمييزاً كلياً بين ما يتّصف به الشّيء وما لا يتّصف به، فكر غير عقلاني، ولكن كلّ حقل التّعبير الرمزيّ غير عقلاني عندئذ، مادام كلّ ما يميّز الرّمز أنه معاً هو ذاته وشيء آخر. ويجب أن ننظر إلى الفن مثلاً في قدرته على الصهر، أو عدم التّمييز بين الذّات والموضوع، بين الرّائي وبين ما يُرى، وعلى الفصل بينهما في ما بعد، وكونه يخصّب المادة الموضوعيّة للأنا، إذ يمنحها شكلاً، بالأنا – المحتوى النّفسي الذّاتي، فإنّه يجعل اللا-أنا (الواقعيّة) مدركة. (49)

لكنّ (فيغوتسكي) يرى أنّ الوظائف النفسيّة المتخلفة: أي المتبقيّة، شأنها شأن الأعضاء المتخلفة المتبقيّة، هي وثائق عن التّطور، وشهود أحياء على العصور القديمة، إنّ هذه الأعضاء غير الضروريّة، هي بحدّ ذاتها بقايا مثيلتها من الأعضاء الأكثر تطوراً، الّتي قامت بدور مفيد للأسلاف بالإضافة إلى أنّها برهان إضافي على أصله الحيواني. كذلك فإنّ هذه الوظائف النفسيّة المتخلفة المتبقيّة، هي دليل على أصل المنظومات العليا، وعلى صلاتها التاريخيّة بالطّبقات القديمة خلال تطوّر السّلوك، لذلك فإنّ دراستها يمكن أن تضعنا أمام معطيات هامّة من أجل فهم السلوك البشري. (50)

وفي نفس المضمار فإنّ ليفي –برول يقدّم الوظيفة المتخلفة المتبقيّة كانت في غابر الأزمان على جانب كبير من الأهميّة في منظومة سلوك الإنسان البدائيّ. وهذا يوضّح فكرة القرعة مثلاً في موقف للإنسان الحديث – الّتي لا وجود لها في سلوك الحيوان. (51)

تختلف البنية العليا عن البنية الدنيا في المقام الأوّل بأنّ الأجزاء المستقلّة تؤدّي وظائف مختلفة، ويجري توحيد الأجزاء في عمليّة كاملة على أساس العلاقات الوظيفيّة  المزدوجة والعلاقات المتبادلة بين الوظائف، ويسوق (فيرنر) كلمات (غوته) الّذي يقول: إنّ الاختلاف بين الكائنات الحيّة العليا والدنيا يكمن في التّمايز الكبير للكائن الأعلى، فبقدر ما يكون الكائن الحيّ أكثر كمالاً تكون أجزاؤه أقلّ شبهاً بعضها ببعض، بالحالة الأولى يشبه الكلّ والأجزاء قليلاً أو كثيراً بعضها بعضاً، وبالحالة الأخرى يختلف الكلّ عن الأجزاء بصورة أساسيّة، وكلّما كانت الأجزاء يشبه بعضها بعضاً أكثر كان أحدها أقلّ تبعيّة للآخر، فالتبعيّة تعني علاقة أكثر تعقيداً بين أجزاء الجسم، وإلى ذلك يرى (فيرنر) جوهر التّطور في التّمايز المتزايد والتّمركز المرتبط به. (52)

كذلك يكوِّن الرّصيد الغريزي أو الفطري والوراثي من أساليب السّلوك المرحلة الأولى، وترتقي فوقها المرحلة الثانية الّتي يمكن أن نسمّيها: أي (فيغوتسكي) مع (بيولر): مرحلة التّدريب أو التّرويض، أو مرحلة المهارات أو المنعكسات الشرطيّة، أي الاستجابات الشرطيّة الّتي تستظهر وتكتسب من خلال التّجربة الشخصيّة، وأخيراً ثمّة مرحلة ثالثة تعلو البناء أكثر، وهي مرحلة الذّكاء، أو الاستجابات الذكيّة الّتي تؤدّي وظيفة التّكيف مع الشّروط الجديدة، والّتي تمثّل حسب  تعبير (ثورندايك) التّرتيب المنظّم للمهارات الموجّهة نحو حلّ المسائل الجديدة. (53)

*******

-هوامش البحث:

26- المصدر السابق، ص18.

27-فرويد سيجموند، مستقبل وهم، ترجمة: جورج طرابيشي، منشورات دار الطليعة، بيروت، ط4، 1998، ص23-24.

28- المصدر السابق، ص41-42.

29- المصدر السابق، ص26-27.

30- السواح  فراس، دين الإنسان، مصدر سابق، ص132.

31- المصدر السابق، ص218-219.

32- إيلياد مرسيا، الأساطير والأحلام والأسرار، مصدر سابق، ص19.

33-ستيس ولتر، الزمان والأزل – مقال في فلسفة الدين، ترجمة: زكريا إبراهيم، مراجعة: د. أحمد فؤاد الأهواني، منشورات مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر بالتعاون مع المؤسسة الوطنيّة للطباعة والنشر، بيروت، نيويورك، بلا رقم طبعة، 1967، ص41.

34- المصدر السابق، ص47-48.

35- السواح  فراس، دين الإنسان، مصدر سابق، ص152-153.

36- المصدر السابق، ص318.

37- المصدر السابق، ص320-321.

38- إيلياد مرسيا، الأساطير والأحلام والأسرار، مصدر سابق ، ص54.

39- المصدر السابق ، ص107-108.

40-هرسكوفيتز ميلفيل. ج، أسس الأنثروبولوجيا الثقافيّة، ترجمة: د. رباح النفاخ، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، بلا رقم طبعة، 1973، ص69-70.

41- إيلياد مرسيا، الأساطير والأحلام والأسرار، مصدر سابق، ص209-210.

42- المصدر السابق، ص273.

43- إيلياد مرسيا، الأساطير والأحلام والأسرار، مصدر سابق، ص211-212.

44- غاتشف، غيوغي، الوعي والفن، مصدر سابق، ص35-36.

45-ليتش، إدموند، كلود ليفي شتراوس، – دراسة فكريّة، ترجمة: ثائر ديب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 2002، ص83-84.

46- المصدر السابق، ص91.

47- المصدر السابق، ص108-109.

48-انزيو، فرويد، أبراهام، ماري بونابرت، ميلاني كلاين، هانا سيغال، إرنست كريس، فرنسيس باش، وينكوت، ميلنر، غوري، غرين، بيزتسون، شاسيغه سمير جل، التصعيد – دروب الإبداع، ترجمة: وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 1996، ص252-253.

49- ليتش، إدموند، كلود ليفي شتراوس، – دراسة فكريّة، مصدر سابق، ص110.

50-فيغوتسكي، ل. س، تاريخ تطور الوظائف النفسيّة العليا، ترجمة: د. بدر الدين عامود، منشورات الهيئة العامة السوريّة للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق ، ط1، 2009، ص95.

51- المصدر السابق، ص107.

52- المصدر السابق، ص182.

53- المصدر السابق، ص214.

********

-المصادر والمراجع:

-انزيو، فرويد، أبراهام، ماري بونابرت، ميلاني كلاين، هانا سيغال، إرنست كريس، فرنسيس باش، وينكوت، ميلنر، غوري، غرين، بيزتسون، شاسيغه سمير جل، التصعيد – دروب الإبداع، ترجمة: وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق ، ط1 ، 1996.

-إيلياد، مرسيا، الأساطير والأحلام والأسرار، ترجمة: حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 2004.

-باشلار، غاستون، النار – التحليل النفسي لأحلام اليقظة، ترجمة وتقديم: درويش الحلوجي، منشورات دار كنعان، ط1، 2005.

-د. غرانبرغر، بيلا، النرجسيّة، ترجمة: وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط1، دمشق، 2000.

-السواح  فراس، دين الإنسان، منشورات دار علاء الدين، دمشق، ط3، 1998.

-ستيس، ولتر، الزمان والأزل – مقال في فلسفة الدين، ترجمة: زكريا إبراهيم، مراجعة: د. أحمد فؤاد الأهواني، منشورات مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر بالتعاون مع المؤسسة الوطنيّة للطباعة والنشر، بيروت، نيويورك، بلا رقم طبعة، 1967.

-غاتشف، غيورغي، الوعي والفن، ترجمة: د. نوفل نيوف، مراجعة: د. سعد مصلوح، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد شباط-فبراير، 1990.

-فرويد، سيجموند، الطوطم والحرام، ترجمة: جورج طرابيشي، منشورات دار الطليعة، بيروت، ط2، 1997.

-فرويد، سيجموند، أفكار لأزمنة الحرب والموت، ترجمة: سمير كرم، منشورات دار الطليعة، بيروت، ط3، 1986.

-فرويد، سيجموند، مستقبل وهم، ترجمة: جورج طرابيشي، منشورات دار الطليعة، بيروت، ط4، 1998.

-فرويد، سيجموند، مستقبل وهم، ترجمة: جورج طرابيشي، منشورات دار الطليعة، بيروت، ط4، 1998.

-فيغوتسكي، ل. س، تاريخ تطور الوظائف النفسيّة العليا، ترجمة: د. بدر الدين عامود، منشورات الهيئة العامة السوريّة للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق ، ط1، 2009.

-ليتش، إدموند، كلود ليفي شتراوس، – دراسة فكريّة، ترجمة: ثائر ديب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 2002.

-هرسكوفيتز، ميلفيل. ج، أسس الأنثروبولوجيا الثقافيّة، ترجمة: د. رباح النفاخ، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، بلا رقم طبعة، 1973.

المصدر: https://www.alawan.org/2019/09/21/%d8%b9%d9%86%d8%a7%d8%b5%d8%b1-%d8%a3%d8%b1%d8%a8%d8%b9%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%a3%d8%ac%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b9%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%af%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%91-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%aa-2/#prettyPhoto

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك