الأمانة العلميّة: بين احتراف التّرجمة وتحريفها
د. أماني العيد
أمام ما يجري اليوم من قمع لحريّة التعبير في العالم “العربي” على جميع الأصعدة بما فيها الفنّ، أتذكّرُ مُفكّري وفلاسفة عصر التنوير أمثال جون جاك روسو وفولتير الذين كانوا نِبراساً للشعوب في زمنٍ عاثتْ فيه المَلكيّة والكنيسة فساداً واستبداداً. وأمام ما تتعرّض له اليوم فرقة مشروع ليلى الفرقة الموسيقية الحداثويّة من اضطهاد وكمّ للأفواه وتهديد بالقتل لأنّهم خرجوا عن المَألوف وكسروا حاجز الصّمت بما يتناولوه من موضوعات وتابوهات، أودُّ أن أسلّط الضوء على واقع لا يقلُّ خطورة وأهميّة وهو واقع الترجمة السّمعيّة-البصريّة على السّاحة العربيّة. انطلاقاً من أقوال المفكّر والفيلسوف الفرنسي فولتير “إنّي أخالفكَ الرّأي، لكنّي مُستعدٌ للدفاع حتى الموت عن حقّكَ في إبدائه”، يقعُ اليوم على كاهل الباحث والمُفكّر دوراً رئيسياً في نشر الوعي والدّفاع عن المُهمّشين والمُضطّهدين. يؤسفني القول إنّ التلوّث السّمعي-البصري في السّينما والتلفاز أصبحَ واقعاً لا يخفى على أحد حيثُ غدت شيطنة الآخر القاعدة بل أصبحَت مَدْعاةً للفخر لدى الكثيرين مِمن اختاروا الدّفاع عن الله إلى أن وصل الأمر إلى عُقرِ دارنا ألا وهي أكاديمياتنا وجامعاتنا. وسطَ هذه المَعمَعة لابُدَّ لنا كأكاديمين وقُرّاء ونُقّاد أن نطرحَ السّؤال التالي: مَنْ هو المُترجِم وما هي حدوده؟ ما سأقوله في هذا المقال هو من البديهيات في عِلم الترجمة إلا أنّه وللأسف يغفلُ على الكثيرين مِمّن يُمارِسون هذه الحِرفة.
في كتابه فنّ الترجمة يُعرّف الدكتور محمد عناني المُترجِم بوصفه “كاتب، أي أنّ عمله هو صوغ الأفكار في كلمات موجّهة إلى قارئ. والفارق بينه وبين الكاتب الأصيل هو أن الأفكار التي يصوغها ليست أفكاره، بل أفكار سواه” (1). يصدمني واقع العديد من الأفلام المُترجمة إلى العربية حيث يقوم بعض المترجمين بحشر أفكارهم وآرائهم في الترجمة دون مراعاة منهم للخصوصيّة الثقافيّة للنص الأصل وذلك عندما يتعلّق الأمر بالدّين والإلحاد والجّنس والمشروبات الكحوليّة. هذا الإسقاط projection الذي يتكرّر باستمرار في العديد من الأفلام المُترجمة يدفعنا أن نتساءل عن الحدود التي ينبغي أن يقف عندها المُترجِم وعن دوره ومسؤولياته. يوضّح الدكتور عناني قائلاً إنّ المُترجم على عكس الكاتب ” محروم من (…) الحريّة الإبداعيّة أو الحريّة الفكريّة، لأنّه مُقيّد بنص تمتّع به صاحبه بهذا الحقّ من قبل، وهو مُكلّف الآن بنقل هذا السّجل الحيّ للفكر من لغة لها أعرافُها وتقاليدها وثقافتها وحضارتها إلى لغة ربّما اختلفت في كل ذلك.” (2) وهنا أودّ أن أسأل القارئ والمُشاهد والمُترجِم في هذه البقعة من الأرض: ما الذي يستدعي المُترجم أن يخلِط بين ما هو خاصّ – إيمانه الشخصي – وما هو عام ومِهني – فنّ الترجمة؟ ولماذا يقوم بعض المُترجمين بلعب دور الدّاعية أثناء ترجمتهم للأفلام الأجنبية؟ ومن أعطاهم الحقّ لكي يخترقوا خُلوتي/ مُشاهدتي بخطابِهم القروسطي وتحريف النّص السينمائي؟ من قال لهم إنّ الله يحتاجُ لمن يُدافعَ عنه؟ وكيف للمحدود والفاني أن يدافع عن اللامحدود واللامتناهي؟ ولماذا انحدرَ الفكر إلى هذه الدّرجة من السُّخف والانحطاط؟ وما سبب هذه الحساسيّة المُفرطة لدى المُترجِم وهذا الخوف من الشكّ بالمُسلّمات والغيبيات؟ ما هي جذور الخوف السّائد من الآخر المُختلِف ولماذا يعتقدُ البعض إنّ الآخر هو الجّحيم؟ ومَنْ أذِنَ للمُترجِم أن يلعبَ دورَ الرّقيب ويُمارِسَ الوصاية على فِكر المُشاهِد؟ إنّ هذا الخلط والضياع يضعُنا وجهاً لوجه أمام المَسؤوليّة المُلقاة على عاتِق كلّ من الأكاديميين من جهة وشركات الأفلام من جهة أخرى. ففي غياب حريّة التعبير في العالم “العربي” حيث يمارسُ الكلّ دور الرّقيب على الكلّ يحصل ما يحصل من تشويه للترجمة وتحجيم للفنّ لأنّ أكاديمياتنا وجامعاتنا لم تعد مَعنيّة بتمكين الطالب من المُسائلة والشكّ بل أصبحَتْ دوراً للعِبادة والتلقين السّلبي بدلاً من مُختبرات للبحث العِلمي والتّحفيز الفِكري. وهكذا أصبحنا نُساهم في صِناعة العقل الدّيني المُتطرّف بدلاً من صِياغة وتشكيل عقل المُترجم والنّاقد والمُفكّر. من خلال مُتابعتي للأفلام السينمائيّة المُترجَمة يُمكنني القول إنّ العديد من المُترجمين يفتقرون للموضوعيّة الأكاديميّة ويُصرّون على زجّ انتماءاتهم الدّينية وقيمهم الاجتماعية الموروثة أثناء ترجمتهم للأفلام. هذه القيم التي لا يتمّ مُسائلتها أصبحت أصنام اليوم وعَين الرّقيب على حُرّية التعبير والتفكير في اللامُفكّر به، والأخطرُ من هذا إنّها تجتاح بيوتنا ومُجتمعاتنا عبرَ شاشات التلفزة أو السّينما أو الحواسيب المَحمولة.
إنّ مرض هذا العصر لا يقتصرُ على التطرّف الدّيني الوَبائي وحسب بل ثمّة أيضاً حالة من التشتّت الزّمني فمِن جهة نحنُ في عصر الانترنت والسّموات المفتوحة والتكنولوجيا مُستفيدون من شتّى أنماط الحداثة في منازلنا وشوارعنا ومؤسّساتنا ومن جِهة ثانية هناك من يدفعنا إلى مُستنقعات القرون الوسطى الآسِنة ويُدخلنا في بوّابات أو دوّامات كانَ ينبغي علينا أن نغلقها ونردِمها قبل أن تبتلعنا. ومن هُنا باتَ من السّهل على أشباح القرون الوسطى أن تنسلّ إلى عُمق مُجتمعاتنا فلو كنّا بنينا أسساً متينة للحَداثة بأشكالها لما كنّا وقعنا ضحيّة لرواسِب الماضي السّحيق. وإذا أردنا حقّاً كشفَ النقاب عن الحقيقة لوجدنا أنّ مُخلّفات التخلّف والتطرّف والديكتاتورية قابعة في بيوتنا ومَدارِسنا وجامعاتنا. في ضوء هذا التخبّط أو التذبذب الزّمني والفكري، لابُدّ أن نضع عمليّة الترجمة في إطارها الزّماني والمكاني لكي لا يُصبح النص المُترجَم ورقة لَعِب في يد المُترجِم:
فبالأمس كان النّاس يُطلقون بعض الأسماء على بعض الأشياء، واليوم يُطلقون عليها أسماء مُختلفة. وبالأمس كانت تشيعُ تراكيب مُعيّنة، وغداً ستأتي تراكيبُ جديدة؛ فالحياة التي تتطوّر تؤثّر في الترجمة بالقدر الذي تؤثر به في اللغة. ومن غير المعقول أن نتصوّر أن يحاول المُترجم ترجمة نص حديث يتضمّن معاني جديدة دون أن يستخدم اللغة المُعاصرة التي استُحدثت فيها الكلمات والتراكيب الجديدة للدّلالة على هذه المعاني الجديدة. ولذا أقول أنه من حق كل جيل أن يترجم بلغته هو لا بلغة الأسلاف، وقد يطول عمر الجيل الذي أعنيه فيمتد قروناً (مثلما حدث في التاريخ العربي) وقد يقصر فلا يتجاوز عقداً واحداً في عمر الحضارة الحديثة التي تلهث من أمامنا مُسرعة لا تتوقف (عناني 3).
تستوقفني هنا العديد من الأفلام المُترجمة – من بينها فيلمي Otherhood 2019 و The Divorce Party 2019 – حيث يستخدمُ المترجِم مِراراً وتكراراً كلمة “شاذ” بدلاً من “مِثلي gay أو homosexual” وهذا برأيي انعكاس لمُخلّفات ورواسب تفاسير دينيّة قديمة وقيم اجتماعية متوارثة لا تُحاكي روح العصر الذي وردت فيه كلمة “مِثلي” ولا تحترم خصوصيّة النص السّينمائي. أي إنّ المترجِم يتمسّك بـ”ثوابت” لا تُمثّل بالضرورة لغة الأسلاف حيث تغنّى العديد من الشعراء والأدباء والمفكّرين العرب بالمِثليّة منذ القرن الثامن للميلاد إلى القرن السادس عشر (بن سلامه 18-19). وأرى في اختيار المُترجمين المتكّرر لكلمة “شاذ” شيئاً من الأذى المقصود والعنف البصَري والتهميش المُمنهج لشريحة كبيرة من الطّيف الإنساني. بالطّبع لا تقتصر هذه الأخطاء القاتلة على موضوع الهُويّة الجنسية أو الميل الجنسي sexual orientation بل يتجاوزها ليشمل المُلحدين واللادينيين وشاربي الكحول. كثيرة هي الأفلام التي يستبدل فيها المُترجم كلمة “خمر” أو “بيرة” بكلمة “عصير” لأنّ العصير “حلال” في عُرفه وحسب منظومته الدّينية. أما إذا كان هناك عبارات تهكّم وسُخرية تخص الذات الإلهيّة فنرى المُترجم يقحمُ نفسه في النص بإضافة عبارات دينية طالباً المغفرة والصّفح لما اقترفت يداه أثناء الترجمة. باختصار إنّ هذه الترجمات تفتقد للأمانة العِلميّة والموضوعيّة الأكاديميّة لأنّ المُترجم يعتبر أنّ هناك حقيقة واحدة وهي حقيقته الدينيّة التي نشأ عليها منذ طفولته فيخرج بالتّالي عن دوره كمترجِم ويتحوّل إلى واعِظ ناسِفاً عرضَ الحائط القواعد الأساسيّة لهذا العِلم أي عِلم الترجمة. مِن الواضح إنّ هناك شرخ كبير بين حضارة وثقافة البلد الذي عملَ على صناعة وإنتاج الأفلام الأجنبية وبين بيئة المُترجِم الثقافيّة والاجتماعيّة والدّينية ولردمِ هذا الشرخ وتجاوز هذه الهُوّة يقع على المترجِم دور كبير وهام جداً ألا وهو بناء جسور التواصل الفكري والثقافي بين الحضارات المختلفة بدلاً من شيطنتها وشطبها تحت مُسمّيات مُختلفة. وهذا الأمر لن يتمّ طالما أنّ العديد من المُترجمين غارقون في الجهل والوعظ وإطلاق الأحكام. وبالعودة لما قاله الدكتور عناني سابقاً، أؤكّد إنّ لكلّ زمان تراكيبه ومفرداته الخاصّة ولذا تقع على المترجمين مسؤوليّة الإنفتاح على الحضارات والثقافات الأخرى لكي يتعرّفوا على كل جديد فهم سُفراء ومن واجبهم الحِفاظ على السّجل الفكري الحي أي الإرث الثقافي الخاص بالفيلم أثناء نقله للغة الهدَف (العربية). أرجو مِمّن يزاولوا حِرفة الترجمة أن يتّصفوا بالموضوعيّة والحِياد والأمانة ولا يتمّ هذا إلا بفصل العِلم عن الدّين والعام عن الخاصّ لأنَّ ما تراه “حلال” قد يكون “حرام” في عُرف الآخر وما تعتبره “شذوذاً” أصبحَ “طبيعيّاً” وفقاً للأمم المتحدة واستناداً إلى الدّراسات النفسيّة والجنسيّة الحديثة.
*****
المراجع
بن سلامة رجاء: بنيان الفحولة، أبحاث في المُذكّر والمؤنّث، دمشق، بترا، 2005.
عناني محمد: فنّ الترجمة، القاهرة، دار نوبار، 2000.