هل تصلح السببيّة برهانا على وجود الله؟
رسلان جاد الله عامر
بما أنّ لكلّ شيء في الوجود الكونيّ سبب، فالمؤمنون بوجود الله يرون أنّ الكون لا يمكنه أن يكون موجودا دون سبب، وهذا السّبب برأيهم هو “الله”، فهو من أوجد الكون!
لكن عند سؤالهم عمن أوجد الله نفسه- وإن كان له موجد أو خالق فهو بالتّالي يصبح بدوره مخلوقا ولا يعود إلها، وهكذا دواليك..- فهم يقولون أنّ الله هو من أوجد قانون السببيّة، أو نظام السببيّة، ولكنّ هذا النّظام لا ينطبق على الله نفسه، فلو أنّ الله أراد ألاّ تكون هناك سببيّة، لما كان هناك سببيّة، ولأمكن للأمور أن تجري على غير هذا، أي على نظام آخر غير السببيّة!
هذا الكلام فيه مطاعن منطقيّة عديدة!
لكن أولا: لا بدّ لنا من تذكّر بعض القواعد المنطقيّة الأساسيّة في عمليّة البرهان:
أولاها أنّ أي قضيّة تكون موضع جدل لا يمكن البناء عليها قبل انتهاء الجدل فيها، وهذا يعني أنّه لا يمكن البناء على فكرة وجود الله قبل الانتهاء من الجدل فيها.
وثانيها: أنّ أيّة خلاصة برهانيّة لا يمكن اعتبارها “حقيقة” إلّا إذا كانت هي نفسها غير قابلة للطّعن، فإن وجد عليها أي مطعن، فهي لا تعود صالحة كحقيقة إلّا بعد تفنيد هذا المطعن، وبالتّالي فعند استخدام قانون السببيّة لإثبات وجود الله، ما يعني أن هذا الوجود هو منطقيا خلاصة قائمة على هذا القانون، فهذه الخلاصة لا تكون مقبولة إلّا إذا كانت غير قابلة للطّعن.
وثالثهما: أنّ البناء على ما هو نسبي لا يعطي نتائج مطلقة، بل يعطي نتائج نسبيّة، ما يعني أنّه لا يمكن قبول أن تكون فكرة الوجود الإلهيّ، الّتي لا يمكنها أن تكون نسبيّة، قائمة على أساس نسبيّ.
فإذا نظرنا إلى الطرح الدينيّ في إطار هذه القواعد، فسنجد فيه تناقضا معها كلّها!
فالقول بوجود الله بناء على قانون النسبيّة كسبب عللي أو كعلّة أولى للوجود الكونيّ، يقودنا حكما وحتما إلى السّؤال عن علّة أو سبب وجود الله نفسه، ما يعني أنّه حتّى هذه اللّحظة ثمّة مطعن في الخلاصة المبنيّة على السببيّة القائلة بوجود الله، ويعني أنّ البرهان لم يقم بعد على وجود الله بسبب وجود مطعن في حجّة هذا الوجود، ما يعني بدوره أنّه لا يمكن استخدام قضيّة “وجود الله” نفسها، غير المبرهنة بعد لنفي المطعن المنطقيّ الّذي ما يزال موجّها إليها كخلاصة افتراضيّة قائمة على قانون السببيّة، والمطعن هنا هو الوجوب المنطقي لوجود علّة سببيّة لله نفسه بناء على قانون السبييّة نفسه عند اعتماده حجّة للقول بوجوب وجود الله كعلّة سببيّة للكون.
ولو جاز استخدام أيّة خلاصة مستنتجة نفسها كحجّة ضدّ المطاعن الموجّهة إليها، لفتحنا عندها بابا لا حدّ لسعته للمغالطة، لأنّ هذا يجيز أن تدخل كلّ قضيّة شكيّة في برهان نفسها بنفسها، ما يعطي الإمكانيّة بالتّالي لأي قضيّة مهما كانت شكيّة أن تكون صحيحة، وهذا يقودنا إلى الكلام عن مغالطة سنسميها مغالطة “الحجج المتصالبة”.
هذه المغالطة تعني أنّه في حال وجود قضيتين مرتبطتين هما “أ” و”ب”، فالقضيّة (أ) تستخدم لإثبات صحة القضيّة (ب)، والقضيّة (ب) نفسها تستخدم لإثبات صحة القضيّة (أ)، أو لنفي إشكاليات النتيجة المبنيّة على (أ) للوصول إلى (ب).
وفي الحالة الّتي نناقشها، قانون السببيّة هو القضيّة “أ” ووجود الله هو القضيّة “ب”، والمغالطة هنا هي في أنّ القضيّة “ب” تبنى على القضيّة “أ”، ولكن هذا البناء ليس بلا مطاعن، لأنّ السببيّة الّتي اقتضت وجود الله كعلّة لوجود الكون مازلت تقتضي وجود علّة لوجود الله نفسه، ولإبطال هذا المطعن تستخدم القضيّة “ب” نفسها، أي وجود الله، رغم أنّها ما تزال “غير مثبتة وارتيابيّة”، وهذا يشبه حالة أن يشهد علي لأحمد بأنّه صادق، ويشهد أحمد بدوره لعلي بأنّه صادق، فيعتبر أحمد صادقا لأنّ علي شهد له بالصدق، ويعتبر علي صادقا لأنّ أحمد شهد له بالصدق، ما يعني أنّه ليس لدينا منطقيا أيّة حجّة موضوعيّة محايدة على “صدق أحمد وعلي معا”!
إنّ ما تقدّم يرينا مدى التّناقض الموجود مع القاعدتين البرهانيتين الأولى والثانية!
لكن عدا عن ذلك فثمّة تناقض من نفس المستوى يقوم مع القاعدة الثّالثة، فعند القول أنّ السببيّة تقتضي وجود علّة أولى للكون، فهذا الكلام لا يقبل منطقيا إلّا إذا تعاملنا مع السببيّة أو قانون السببيّة “كقانون مطلق”، وهذه “المطلقيّة” تقتضي بدورها الاستمرار في التّسلسل السببي الّذي يفرض حتميّة السّؤال عن “علّة الوجود الإلهيّ”، الّتي تنفي في حال وجودها إلهيّة هذا الوجود، كونه عندها يصبح هو نفسه معلولا لعلّة أخرى، ولذا تلجأ الذهنيّة الدينيّة إلى مخرج “عدم انطباق قانون السببيّة نفسه على الله”، وتجعل السببيّة قانونا خاصّا بـ “خلق الله” فقط، وتقول بأنّه قانون “كيفي” أو “ارتيائي” بالنسبة لله، وهو موجود ليس لأنّه مطلق بطبيعته، بل لأنّ الله قرره وأراده على هذا الشّكل، وهذا فعليا يجعل قانون السببيّة قانونا نسبيا على أقل تقدير، فإذا نفينا الإطلاق عن هذا القانون، وجعلناه نسبيا، فكلّ ما يبنى عليه لا يعود بالتّالي مطلقا، ولا حتميا، وهذا عندها ينفي “الإطلاق والحتميّة” عن قضيّة الوجود الإلهي كنتيجة قائمة على قانون السببيّة النسبيّ.
ذاك ما سنصل إليه فيما لو اعتمدنا الأسلوب المنطقي في التّعامل مع الأطروحة الدينيّة، أمّا لو استخدمنا الأسلوب الجدالي، فيمكننا الرّد على الدعوى بأنّ قانون النسبيّة لا ينطبق على الله، بأن عدم الانطباق هذا يقتضي عدم صلاحيّة التّطبيق على العلاقة بين الله والكون، ما يعني عدم صلاحيته لإثبات وجود الله، فإن كانت السببيّة توجب أن يكون الله سببا لسواه، فهي لا تمنع أن يكون هو نفسه نتيجة لسبب سواه، ولكن إذا كانت هذه السببيّة غير منطبقة على الله، فهي يجب أن تكون كذلك عليه في كلّ الاتّجاهات، وبصفته افتراضيا سببا أو نتيجة لسواه.
وبإيجاز: إذا كان قانون السببيّة لا ينطبق على الله، فهو يجب ألّا ينطبق عليه علّة أو معلولا، ما يعني إسقاط حجّة أن الله هو علّة الوجود، وبالتّالي زوال حجّة الوجود الإلهيّ معها.
كما أنّ القول بأنّ قانون السببيّة موجود فقط لأنّ الله أراد له أن يكون موجودا، وكان بإمكانه أن يستبدله بقانون آخر، يرمينا في المجهول، فحتّى بفرض أنّ الله موجود، فهل ثمّة أي دليل على أنّ أمر السببيّة هو كذلك؟ وما أدرانا ما هي إرادة الله؟ ولماذا أراد الله أن يكون الأمر على هذه الشّاكلة دون سواه؟ وما هو “سبب” قرار واعتماد قانون السببيّة من قبل الله؟ وكلّ هذه الأسئلة وما يشبهها لن تجد لها أي جواب منطقي، ولن يكون أمام الذهنيّة الدينيّة في التّعامل معها إلّا سبيلا واحدا وهو “إخراس العقل” وبالأدق”تكفير العقل”.
إنّ الاستخدام المنطقي لقانون السببيّة في المسألة الإلهيّة لا يمكن إجراؤه على “مبدأ العلّة الأولى”، فالقول بأنّ الله هو العلّة الأم للكون سيقدودنا إلى سلسلة لامنتهيّة بدورها من العلل العالـّة لما بعدها والمعلولة لما قبلها، وهذا أمر لا يقبله العقل المنطقي، الّذي يحتم علينا القول بوجود “علّة أولى” عالة لسواها وغير معلولة لسواها، وفي حالة الكون، لن تحيجنا السببيّة لفرض علّة عالة للوجود في ما وراء الوجود هي “الله”، فلسنا بجاجة لافتراض علّة أولى غائبة، ويكفينا أن نقول بأنّ الكون الشّاهد هو علّة نفسه بنفسه.
بمعنى آخر، سببيا نحن نحتاج إلى علّة أولى واحدة فقط، ولا حاجة لأيّة علّة أخرى بتاتا، وعندها سيكون أمامنا فرضيتان لا ثالث لهما، وهما أنّ هذه العلّة الأولى هي “الله أو هي “المادة”، وهنا سترجح كفّة المادة بشكل تامّ، فالمادة مثبّتة الوجود، ولا شكّ في وجودها، ولا تحتاج إلى أي برهان على هذا الوجود، وهذا وحده يكفي لإسقاط الفرضيّة الأخرى كليا، فهو يسقط تماما الحاجة إلى وجود العلّة الإلهيّة.
ما يعني أن على من يريد البرهان على وجود الله عدم اللّجوء إلى السببيّة، لأنّها ليست قطعا في صالحه!