"المراجعون الجدد" مدرسة استشراقية جديدة؟

"المراجعون الجدد" مدرسة استشراقية جديدة؟

عبد الرحمن السالمي*

1

حين نشر إدوارد سعيد كتابه (الاستشراق) في نهاية السبعينات من القرن العشرين بعدما سبق أطروحته من دراساتٍ في نقد الاستشراق وخصوصاً في التطبيقات الماركسية على الدراسات الاستشراقية، اعتقد كثير من المفكرين بل المحللين للدراسات الأكاديمية أن الدراسات الاستشراقية أوشكت على الزوال، وأننا نشهد مرحلة (نهاية الاستشراق).

لكن في نفس العام (1978م) أصدر جون وانسبرو (1928-2002) - الأستاذ بـ SAOS لندن والقادم من الولايات المتحدة- كتاباً أطلق عليه (دراسات قرآنية)، (Quranic Studies, Oxford University Press) حيث طبق فيه المنهج الجذريَّ في نقد النص والذي اشتهر تطبيقه منذ القرن التاسع عشر على نصوص العهدين القديم والجديد. وقد خلص إلى أنَّ القرآن لم يُكتب على مرحلة واحدة بل على مراحل متعددة، وأنّ ما في أيدينا من المصحف إنما دوِّن بعد القرن الثامن الميلادي/الثاني الهجري. لكنّ هذه الدراسة ما اشتدت إعلامياً كما اشتدت دراسة إدوارد سعيد، بيد أنه في الدوائر العلمية الأكاديمية الغربية أخذت بعداً آخر من حيث الاهتمام، وذلك لأمرين: الأول من حيث دراسة نشأة الإسلام وجذوره. والثاني للتطبيقات النظرية الحديثة على العلوم الاستشراقية.

فمن حيث المبدأ شكلت الأطروحة صدمةً في مجال الغمز من مناهج الاستشراق الكلاسيكي واعتبار أنها هذه الدراسات قد وقعت في خطأ جسيم في دراسة جذور الإسلام وتاريخه، وأن تحتاج مبدئياً إلى مراجعة كليَّة, ولذلك فهي أخطأت في تقديرهم لفهم نشأة وتكوُّن نصّه المقدَّس.

لقد أحدثت هذه التطورات إرباكاً في الاستشراق الكلاسيكي من جانبين الأول: تحول الدراسات الشرقية الكلاسيكية بسبب الهجمات الماركسية وإدوارد سعيد، والأخرى قادمة من دائرة النقد الاستشراقي.

لم يكن وانسبرو يدعو إلى التوقف في الدراسات الاستشراقية بل إلى المراجعة الكليّة لمناهج تلك الدراسات، وهو تجاوز مراجعة المناهج الفيلولوجية والتاريخانية في المدارس الاستشراقية الكلاسيكية؛ ولذا أطلق على هذا الاتجاه (المراجعون)، لا يبدأ هذا التيار بالمقدمات حول النص بل يتعامل معه مباشرة من نقطة الصفر، منذ جاك دريدا ورولان باتِ حيث أبرزا منهجي ما بعد البنيوية والتفكيك بعد منتصف الستينات، فالبنيويون يعتقدون أن هنالك علاقة ثابتة ومستقرة بين اللفظ والمعنى، لكن أصحاب منهجي (ما بعد البنيوية) والتفكيكية)، قالوا: ليس هنالك علاقة ثابتة بين اللفظ والمعنى، وإنما القراءة هي التي تخلق النص، والقراءات هي التي تخلق العلاقة بين اللفظ والمعنى، وعلى هذا فالنص مفتوح لكل الاحتمالات والمعاني، وتطورت بمقتضى ذلك مفاهيم نقدية أشهرها (موت المؤلف)، باعتبار أن المؤلف عندما يكتب يخرج النص من ملكيته ويصبح النص ملكا للمتلقّي.

بيد أنه لأكثر من قرن ظلت هنالك ثلاثة اتجاهات رئيسة مسيطرة على الدراسات الاستشراقية.

الأول هو التقليدية الوصفية، واستخدمها المؤرخون في وصف التاريخ العام ونقده، وهذه اشتغلت بكتابة التاريخ الإسلامي الشامل مثل كتاب كارل بروكلمان عن تاريخ الشعوب الإسلامية وكتاب (وات) عن النبي بمكة والمدينة.

ولكن التطور الآخر هو الاتجاه الثاني للمؤرخ الألماني فلهاوزن (Wellhausen)، حيث قام بتطبيق عمل مشترك للمصادر الإسلامية المبكرة كما في الكتاب المقدس والافتراض الأساسي في أعمال فلهاوزن. إن المصادر القديمة التي تعتمد المؤلفات المتبقية على مختارات منها كانت مصادر مكتوبة ثابتة يمكن اعتبارها وثائقية، ولذلك سمي اتجاهه في حقل الدراسات النصيَّة الدينية (بالنظرية الوثائقية Documentary hypothesis)، وافتراضه الثاني هو أن لكل هذه المصادر المفقودة شخصية أو سِمَة مميزة تعكس اهتمامات كاتب المصدر الأصلي وميوله، وقد شكلت هذه المفاهيم الأساس لاتجاه نقد المصادر إلى منتصف القرن العشرين.

أما الاتجاه الثالث فكانت من ابتداع المستشرق المجري (جولد زيهر) حيث لاحظ أن الأخبار المتفرقة مملوءة باختلافات في المتن، وهذه الاختلافات تلقي شكوكاً على نظرية فلهاوزن بأن المصادر القديمة المفقودة كانت ثابتة ووثائقية، بل إن هذه أدت إلى طرح إمكانية أن ما لدينا هو مجرد روايات منقولة من راوٍ إلى آخر على مدى زمن طويل وربما أدخل الرواة تغييراً في المتون، ونظريته تفترض أن الروايات نقلت مشافهة وتتطور وتتغير عبر الزمن وتنتشر في فروع مختلفة على أيدي رواة. بيد أن دراسة الأخبار لا تقتضي تعيين مصادر ثابتة بل يقتضي تحليلها، وهذا المنهج يسَّمى (نقد النص والروايات).

2

لقد كانت منهجية وانسبرو تفترض أن النقد ليس موجهاً إلى الخطاب الاستشراقي بصفة عامة؛ إنما كانت مراجعته متجهة نحو إعادة تهيئته وتفكيكه في أسلوب معالجة قضايا الإسلام. بيد أن منهجية واسنبرو المعقدة وأسلوبه الكتابي لم يحظ بقرَّاء كثر أو دعاية إعلامية ولكن حظي باعتمادٍ أكاديمي في الوسط العلمي الغربي، ومقتطفات وإشارات واسعة لمؤلفاته في الكتابة عن الإسلام المبكر وبالأخص في نقد النص الذي اعتبر مظهرا لموجة جديدة في الدراسات الاستشراقية للإسلام. وهذا التنظير صوب بحوثه نحو ثلاثة أركان: أولا: إعادة فهم جذور الإسلام ونشأته، ثم جدليةِ الكتاباتِ الإسلامية المبكرةِ، وثالثاً: وثائقية الموروث الأركيولوجي للإسلام. وعليه فقد استخلصت هذه الدراسة منهجين اثنين من المستشرقين الكلاسيكيين وهما جولدزيهر وجوزيف شاخت دون سواهما، باعتبار أنهما استنتجا أن الإسلام ذو منابع متعددة وليس ذا مرجعية واحدة في نشأته, فجولدزيهر لا تزال تنظيراته عن مصادر التشريع الإسلامي من القرآن والسنة والمراجعات التي أثارها حول موثوقيتها تثير الجدل من حين لآخر، كما أن جوزيف شاخت درس هذه المصادر التشريعية من زاوية أخرى وهي جانب نشأة الفقه الإسلامي وتوثيق السنة كمصدر ثاني في التشريع، وإن الأحكام الموجودة في مرويات أدبيات السنة النبوية لن يتجاوز قدمها بداية القرن الثامن الميلادي بل حدده بعام 718م وهي بداية الصدام والجدال بين الفقهاء والأصوليين في موثوقية السنة كأساس في التشريع، وهنا كانت عملية الخلط بين الرواية والفتوى وتأييد الأحكام، بالرغم من أن آراءَه حول الفقه الإسلامي لا تزال تثير الجدل إلا أن فكرة توثيق أسس التشريع هي النظرية الحافزة في تكوين الإسلام.

وتبع وانسبرو تلميذان من تلامذته وهما باتريشيا كرون (1944-) (الدانمارك) ومايكل كوك (1942-) (بريطانيا) بإصدار كتاب متميز أطلقا عليه اسم (الهاجرية) (Hagrism) والذي وسع أفق هذه الدائرة بل أحدث ردوداً ليس في الدراسات الاستشراقية فحسب بل تجاوزتها إلى الدراسات الدينية والتاريخية على حد سواء، والهاجرية نسبة إلى هاجر-عليها السلام- والمقصود بذلك تأثير القبائل الشمالية في تكوين الإسلام عبر العصور منذ إبراهيم -عليه السلام- وهجراتهم التدريجية نحو الجزيرة العربية. أو بمفهوم مغاير إن المسلمين الغازين في الفتوحات لم يطلق عليهم خلال الفتوحات الإسلامية المبكرة (المسلمون) بل كانوا يسمون الهاجريين، وهو المراد من هذا المفهوم بأن المسلمين انتسبوا بمسمى الإسلام متأخرا وسموا بدل الهاجريين؛ المسلمون. وهذا الكتاب يطرح فكرته بشكل غريب في التخيل بأن الإسلام نشأ كحركة دينية مشتركة بين اليهود والعرب متحدين معاً تهدف لاستعادة بيت المقدس من البيزنطيين، وأن النبي محمداً -صلى الله عليه وسلم- كان يعظ بالمواعظ اليهودية خلال بداية الفتوحات وهذا هو التأسيس الذي انشأ عليه التشريع الإسلامي المتشابه مع الأديان الإبراهيمية. وأن هذه الحركة انقسمت وتخلى العرب عن اليهود، ولم يحدث هذا الانشقاق في المدينة كما هو معلوم في المدينة المنورة بل في القدس بفلسطين وأخفي ذلك الحدث عندما تحول الإسلام إلى دين إمبراطوري متفرد.

فأطروحة الكتاب تتحدث بأن الإسلام في نشأته لم يُفهم من الوحي المحمدي، فالقرآن ذاته كما أشير سابقاً لم يكتمل إلا في نهاية القرن الثاني للهجرة/الثامن الميلادي بحسب نتائج وانسبرو، ومعلوم أن الإسلام نشأ وظهر في الشرق الأدنى حيث ظهرت المسيحية واليهودية؛ ولكن الإشكالية تكمن في مسألة (أين بدأ.....)في الشرق الأدنى تأكيداً حيث لا توجد أدلة أثرية موثقة كما هو متعارف عليه في الحجاز، وإذا كان التبرير بأن الكتب المقدسة الثلاثة هي وحيٌ منزَّلٌ للمؤمنين بها، والمسلمون من جهتهم يؤمنون بنزوله في مكة، بينما يرى بعضهم بأنه ظهر بمنطقة مأهولة باليهود والنصارى, فلابد للمتلقين لهذا الخطاب (الوحي) أن يكونوا ذوي وعي به وهم أكثرية بحيث يمكنهم استيعابه. بل زادوا على ذلك بمخيلة قد تكون غريبة كليا بان النبي محمداً -صلى الله عليه وسلم- كان يعظ الناس بمواعظ يهودية.

والمنهجية التي يدعون لها هو تفكيك فهم الإسلام كوحدة تقليدية معرفية لأجل الاستنتاج بأنَّ الإسلام نشأ غامضاً كلياً؛ ذو بداية مبهمة وتقاليد متشظية ليست متكاملة بحسب الفهم الإسلامي للقرآن والسنة والسيرة، وإنما تمت لملمة هذا التراث المتشظي طوال قرون من الزمن. فكل الإثباتات المادية الأثرية للإسلام لا يوجد منها إلا الشيء اليسير الذي يفصح ويبين ذلك. فالقرآن كنص حسب جدلياتهم نزل أغلبه بمكة, وأهل مكة يفترض أن يكونوا وثنيين، لكن الاطلاع على هذه السور حتى من لديه إلمام بسيط بها يعتقد أنها تتحدث عن مجتمع يهودي- مسيحي بشكل ما أو ذو تقاليد إبراهيمية وليست وثنية. فالمقارنات بين النصوص القرآنية والعهدين الجديد والقديم يتضح من السرد القرآني لبني إسرائيل، أو قصص الأنبياء كقصة يوسف وإبراهيم. فالسرد العام وموثوقيته بهذه المقارنات يشير دائماً إلى التقارب في النصوص للأديان الإبراهيمية. وإذا كانت فرضية التجارة, فالتجار غالباً لا يكتسبون ديانات وثقافات شركائهم إلا في حالة اعتناق دياناتهم, بينما التجار العرب ظلوا وثنيين فكيف إذاً؟

وهذه التنظيرات الاستشراقية في جذورها ترجع إلى التطبيقات في فهم اليهودية والمسيحية خلال القرنين المنصرمين خصوصاً في عصر التنوير التي فرضها العقل النقدي. وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تطورت التقنيات الفيلولوجية وسميت (بالنقد الأعلى) بالرغم من أثر الصدام الكنسي الذي حدث في تلك الفترة. فالتقاليد والأدبيات اليهودية امتدت لقرون منذ إبراهيم إلى ما بعد النبي سليمان، وموسى في هذا السياق ما هو إلا حلقة في تلك السلسلة. وكذلك الموروثات المسيحية تم تدوينها لقرون طوال ما يقارب أربعة قرون منذ المسيح، أي أن الإسلام ووحيه وموروثه لم يتم خلال حياة النبي محمد –صلى الله عليه وسلم-. ولذا كان افتراضهم لثلاثة أمور لحل هذا الإشكال وهي: افتراض أن التقاليد الإسلامية إما أن يكون فيها شيء غامض أو خطأ، وإما الافتراض بوجود نسبة كبيرة من اليهود والنصارى بمكة حيث أن الذين ذكروا في القرآن ليسوا من الجزيرة العربية خصوصاً أن السُّور المكية تُكثِرُ من الذكر القصصي، والحل الأخير أن مكة (مدينة محمد –صلى الله عليه وسلم-) كانت توجد في الحدود ما بين الشام والجزيرة العربية. وأن الإسلام نشأ في مناطق قريبة من الهلال الخصيب.

وهذه الأطروحة في مجملها تجعل من الفتوحات الإسلامية منذ عصر عبد الملك بن مروان وما ترتب عليها أساس في تكوين الثقافة الإسلامية وتقاليدها حيث أن العرب واجهوا متطلبات الحضارة. واعتمدوا في هذا التقييم في نشأة الإسلام على المصادر غير الإسلامية من عبرية وآرامية وبيزنطية وأرمينية، والمقصود بذلك الانتقال بالنص من المرحلة التوثيقية إلى المرحلة الأركيولوجية.

قوبلت هذه النظرية بالرفض دوليا في ذلك الحين بدلالة المنهج الذي استخدم فيها وهو المنهج التجريبي وهو أقرب إلى التخيل مما جعل منها فكرة غير مترابطة ومتناقضة في علاقة العرب باليهود. ومن جانب آخر إنها جعلت المصادر العربية موازية للنصوص الغير العربية في مجال التشكيك ونقد النص، وهو غير مقبول وذلك أن الفحص الأولي للمصادر غير العربية يثبت أنها كتب جدلية، وليست موضوعية تذكر من تشاء وتستبعد من تشاء. وطريقة النقد الأعلى تجعل منهم أشبه بالمحْكمين بالقضايا وليسوا محللين لها.

3

لكن الأمر لم يتوقف على هذا الحال في التلهف لهذه التنظيرات حول جذور الإسلام بل تبعه بعد ذلك مصنفان الأول لمايكل كوك (Early Muslim Dogma) طبع بـ(جامعة كمبردج 1981؛ عقيدة المسلمين المبكرة) حيث انتقد فيه دراسات نقدية سابقة تعاملت مع النص الإسلامي المبكر في علوم الكلام لمستشرقين كلاسيكيين وبشكل أساسي لشيوخ معاصرين في دراسات تاريخ علم الكلام الإسلامي في الغرب وهما يوسف فان آس (Josef Van Ess) وويلفرد مادلونغ (Wilferd Madelung).

وعليه بدأ السجال بين جيلين مختلفين تماماً في مراجعة وثائقية النصوص الإسلامية المبكرة ومدى تاريخيتها وكيفية ربطها مع النصوص الدينية الأخرى في سياق تطور تاريخ الأديان العام.

اختلفت منهجية كوك عما سار عليه أساتذته ومضوا في تقييم النصوص المبكرة، فهي قد لا تكون متأخرة كالذي يدعيه إلى ما بعد القرن 2هـ/8م وليست متقدمة كما يدعي الطرف الآخر، فنقد النص هو تفكيكه وقراءة بنيته بطريقة معاصرة، لقد اعتمد كوك في دراسته بمقارنة البرديَّات الإسلامية المبكرة، وكانت فرضيته أن الرسائل التي تفتح بعد البسملة بـ (أما بعد) أو (الوصية بتقوى الله) ترجع إلى أواخر الفترة الأموية وليست للقرن الأول الهجري، وذلك لعدم احتواء هذه البرديات على التمهيدات، وأضاف إليها كذلك تقييم رسائل القديس يوحنا الدمشقي في الكتابات الإسلامية المبكرة وأسلوبها في نشأة الجدل بين الأنا والأخر وافتراضية المجادلة والرَّد، بالرغم من الدراسات الاستشراقية المبكرة لهذه الرسائل. بيد أن مراجعته المهمة لآراء لجولدزيهر حول نشأة الحديث النبوي ومدى صحته في الكتابات الإسلامية المبكرة وشواهدها, وتعد تطوراً هاماً لآرائه، مما أذهل كلا الطرفين في كيفية التعامل النصي الجامع بين التاريخ والأركيولوجيا والنص، ومنذ ذلك الحين اعتبر هذا الكتاب مرجعاً في الدراسات النقدية ليس في نطاق علوم الكلام فقط بل وفي دراسات النثر العربي المبكر.

لقد سبق أن وجه البرفيسور (فان أس) نقداً موجعاً (لكرون وكوك)، في مراجعته الشهيرة لكتاب (Hagarism) بملحق الأحد الثقافي في جريدة التايمز وكان وصفاً ساخراً لعملهم في سوء فهمهم للإسلام وتقاليده وآثاره، ولذا اعتبر الكتاب الثاني ردًّا من كوك كمناظرة علمية بين الجانبين.

كان تأمل الإسلام الأول من خلال المصادر اللاإسلامية هو المنحى الأكثر جديَّة في هذا الشأن، فقد أثارت رسائل القديس يوحنا الدمشقي منذ اكتشافها أهمية كبرى لمراجعة الإسلام المبكر من المصادر غير العربية، خصوصاً أن القديس يوحنا عاصر بداية الدولة الأموية. كانت فكرة يوحنا الدمشقي أن الإسلام لا يعدو أن منتسبيه أعراب، ودينهم لا يعدو أن يكون يهودية منحرفة أو مسيحية محرَّفة من حيث مفهوم الدين الإبراهيمي التوحيدي ثم اعترافه بالتراث الإسرائيلي وتواصله معه أو نقده ومخالفته. فكان هذا مبعثاً أساسياً لتنظير دراسات تاريخ الأديان عن نشأة الإسلام, ولذلك حاولت مدرسة "المراجعون" وصف الإسلام بأنه أشبه بالفسيفساء بحسب هذا المفهوم أو هو شي مبعثر وأدبياته تنتقل من جيل إلى جيل وتشكلت عبر قرون. لقد أثرت كتابات القديس يوحنا بحيث استقرت في أذهان الكنيسة المسيحية خلال القرون الإسلامية المبكرة، وبذلك حدث هذا التأثير والتفاعل في القضايا الكلامية من خلال هذا الموروث المسيحي في القدر والجبر وقضايا التشبيه والتجسيم للذات الإلهية إلى أن أخذت في التطور نحو الاستقرار الكلي في تاريخ علم الكلام الإسلامي.

أما باتريشيا كرون فأصدرت كتاباً بعنوان (Roman, Provincial and Islamic Law) (Cambridge, 1987) , وهو عملٌ أخر يتمحور حول تكوُّن الشريعة والقوانين الإسلامية من مراجعاتها لآراء جوزيف شاخت، وكانت نتيجة بحثها أنَّ المصادر الأولى لهذه الشريعة هي القوانين الرومانية والتشريعات التلمودية اليهودية التي كانت موجودة في بلاد الشام وعلى حدود الهلال الخصيب وكيفية احتواء الإقليمية الإسلامية لها لأجل هذه الصياغة. وقد طورت نظرية شاخت في إقليمية الفقه من الفقه البصري أو الكوفي أو الحجازي أو الشامي إلى هذا الامتزاج ومؤثراته في القرون الإسلامية المبكرة مع الجذور البيزنطية للقوانين الرومانية, وعليه فليس هنالك واقع محدد لهذه الصياغة الفقهية في التشريعات الإسلامية، وهذا تغليب للإقليمية على المذهبية في هذا التكوين ثم مزجها بالمصدرين القرآن والسنة، وإنما المرجعية المذهبية جاءت متأخرة إلى ما بعد القرن 4هـ/10م, وإن المصدرية للشريعة في التشريعات ممتدة قبل الإسلام.

كل هذا يجعل الدارس في حيرة؛ لأن معلوماتهم تشير إلى أن المذاهب الكلامية لا يمكنها أن تتكون إلا في القرن الثاني الهجري، حيث أن الآراء الكلامية لم تتبلور بمفاهيم علمية يمكن الجدال عنها، وهذا ما عملت عليه كرون وزيمرمان في تحقيقهما ودراستهما لنص سيرة سالم بن ذكوان، وفي إرجاع النص إلى بداية القرن الثاني للهجرة.

4

ومن جانبه تتبع كوك في مراجعته لحياة النبي محمد (ص) في كتابه Muhammad (1983)) لأعمال المستشرق البريطاني المعروف مونتغمري وات, وديفيد مارجليوث (1858-1937م). مثل هذا الكتاب تتبع الكتابة التقليدية الاستشراقية في استخدام المصادر الإسلامية والمدرسة النقدية الحديثة. وقد تبع هذا المنهج المؤرخون الغربيون أمثال أوري روبين (Uri Rubin) في كتابة (حياة محمد)، (The Eye of the beholder: The Life of Muhammad as viewed by Early Muslims) أو (هارالد موتزكي في كتابه)Harold Motzlcki (The Biography of Muhammad: The Issue of the sources) (سيرة محمد: إشكالية المصادر) أو كريج وين (Carig Winn) في كتابه (Prophet Doom).

بيد أن الصدام منذ البداية كان يدور حول موثوقية المراجع الإسلامية المبكرة، وليس نقد المصادر الإسلامية ذاتها في القضايا الموجودة بها واعتمادها للنقد. وهنا كان الفارق بين الجيلين في الاستشراق. فـ(كوك)لم يكن سلبياً كأستاذه (واسنبروا) لكنه لم يكن متقبلاً لتلك السيرة كلها؛ لأن مفهوم الإسلام في ذاته يدعونا إلى مراجعة تلك الأدبيات.

وأنجزت باتريشا كرون عملاً آخر في التنظير وتوثيق النص أركيولوجياً وهو كتاب (Meccm Trade and the rise of Islam)؛ (تجارة مكة ونشوء الإسلام)، جامعة برنستون 1988م، في هذا الكتاب ناقشت الكاتبة موثوقية موقع مكة المكرمة في طريق التجارة الدولية القديمة بقراءة جانبية بين الكتابات البيزنطية والرومانية والخرائط القديمة وكمركز تجاري لم يُذكر مطلقاً في المصادر العلمية القديمة، ومن هنا تبدأ في تساؤلاتها وتشكيكها. وكما تتساءل الكاتبة منذ بداية الكتاب ما الذي يجعل مكة محور التجارة الدولية بين شمال وجنوب الجزيرة العربية وهي ليست ذات مورد مائي أو غذائي ولا إنتاج صناعي كما أنها تبعد عن الخط التجاري المعروف للقوافل ما يقارب المائة ميل. هذه التساؤلات طرحتها في دراسة مطولة وصلت إلى الاستنتاج بأن مكة المكرمة ليست هي مكة القديمة إنها بحسب الإشارات تقع إلى غرب الفرات في الحدود مابين العراق والشام في الهلال الخصيب. وبطبيعة الأمر كانت المراجعة هي مناقشة للمستشرقين في البناء العلمي لهذه القضية, فكتاب مونتجمري وات (محمد في مكة) والذي يعتبر بمثابة مرجعٍ للسيرة النبوية في الدراسات الاستشراقية كان هو الأساس النقدي لتقويض تلك الآراء،. هذه الدراسة تثبيت لجذور النظرية لكتابها السابق (Hagarism)، وبطبيعة الأمر فإن هذا الكتاب أحدث جدلاً بأطروحته، بل أصبح مرجعاً تاريخياً ليس لأطروحته فحسب بل من مبدأ التساؤل التاريخي في منهجية الرؤية والتي تعدت فيها الإطار الاستشراقي إلى حيز الدراسات الأثرية بل وتوسعت في الأقسام الأخرى لتشمل الدراسات الإنسانية سواءً التاريخية منها أو الجغرافية.

أما جيرالد هاوتنج أستاذ التاريخ الإسلامي بـ SAOS فقد كان منذ مطلع الثمانينات يدرس الاهتمام بجزيرة العرب في مرحلة ما قبل الإسلام ومفهوم الوثنية عند العرب. وأصدر دراسات متعددة في هذا المجال وهو ينحي بدراسته إلى اتجاهين: الأول: حاول كسر مفهوم الارتباط بين الإسلام والوثنية العربية، بأن التي ذكرت الوثنية هي مصادرنا حتى الآن؛ ولكن في الواقع هناك احتمال قراءة العبادات الإسلامية وتعاليمها بصورة مشابهة في الجدال الدائر للأديان التوحيدية مع الوثنيين والمشركين. والاتجاه الثاني: القراءة الفيلولوجية الموازية للنصوص الإسلامية سواء من العبرية أو الآرامية أو الأرمينية أو غيرها من اللغات المعاصرة للإسلام المبكر.

وهنا كانت محاولاته المتعددة للربط الإسلامي بالجذور اليهودية، في مقارنة المواقع الإسلامية بمكة المكرمة أو المدينة بالمواقع الشامية خصوصا فلسطين. وجعلت دراسته المقارنة في اعتماد كتاب الأصنام لابن الكلبي الذي يذكر أن الجزيرة العربية في الجاهلية يوجد بها كعبات متعددة يذكر منها كعبة عند الأنباط. وفي الجانب الأخر توسيع دور الأديان الأخرى في الجزيرة العربية، وقد كتب نيوبي (Newby) تاريخ اليهود في جزيرة العرب (A History of Jews in Arabia) (مطابع جامعة ساوث كارولينا 1988). وكذلك عن التقاليد اليهودية ونشوء الإسلام، وهي قد سُبقت بدراسات متعددة من المستشرقين الكلاسيكيين على سبيل المثال كتاب (Bell؟ :The origin of Islam and its Christian Environment, 1932).

5

حظيت بدايات الدولة الإسلامية باهتمام كبير من المستشرقين في مدرسة (المراجعون). ألف فرد دونر كتاب (The Early Islamic Conquests)، (الفتوحات الإسلامية المبكرة)، (جامعة برنستون،1981م) في دراسة تفصيلية للعلاقة بين القبائل البدوية والفتوحات في العراق خلال القرن 1هـ/7م. تبع ذلك مراجعة مهمة لمفهوم الدولة والدين والسلطة في الإسلام بين باتريشيا كرون ومارتن هايندز (M.Hinds) في كتاب (God's Caliph, Cambridge,1986) شرحا فيه تطور مفهوم الخليفة والخلافة في التقاليد الإسلامية وتكوّن السلطة الدينية في بداية الإسلام. واختُتِم الكتاب بنظرية مفادها: صعوبة عرض هذا التطور في المصادر السنية والشيعية بالمفهوم المبسط؛ فمرجعية الكتاب يلتصق بالمفهوم العام حول استبدادية الدولة في مفهوم الخلافة مع أن سلطتها دينية منذ بداية الدولة الإسلامية وهذا له باب واسع في مناقشات الأدب السياسي العربي، لكن البعد الذي ينظر إليه أبعد من ذلك حيث ترجع الجذور الأولى لنشأة السلطة الدينية في الإسلام وتكونها.

ثم كتبت باتريشيا كرون كتابها: Slaves on Horses: The Evolution of the Islamic) Polity (Cambridge, 2003)) حيث قدمت دراسة عن ظاهرة تراجع الجند، ولماذا كان اختيارهم من قبل الحكام المسلمين من بين الأرقّاء (أوراق البَردي، الأوزان، النقود، النقوش)، توصلت في نتائجه إلى أن الدولة الإسلامية بدأت تتضح معالمها الكاملة منذ خلافة عبد الملك بن مروان (65-86) وأن هنالك احتمالية في شكلية الدولة في زمن معاوية بن أبي سفيان (41-60)، أما ما يتعلق بالفترة السابقة عليه فهي غامضة وضئيلة، والوثائق المتوفرة لا تسمح باستنتاجات واضحة، وإن كانت الدلائل تشير إلى وجود الدولة الإسلامية قبل خلافة معاوية.

إذاً ما هي الإشكالية في كل هذا الافتراضات السابقة؟ إن تاريخ نشأة الإسلام معتمد على مصادر أدبية وليس من وثائق، كما أن أساسية هذه المصادر تعتمد على الأخبار المسموعة، وهي متضاربة كلياً في أخبارها عن الصدر الإسلامي الأول ولذا يجعل الأمر صعباً لهذا التحليل الروائي بين الحوادث. ومن الجانب الأخر فإن الوثائق التي عثر عليها حتى الآن من الصدر الإسلامي قطع البردية (أقدمها سنة 22هـ)، النقود بدءًا (من سنة 31 هجرية)، أو الروايات القرآنية في قبة الصخرة، فالمادة الروائية ضخمة للغاية مقابل المادية للوثائق وهنا يبدأ عمل التأريخ التوثيقي الذي يوثق التأريخ المادي.

وقد راجع فرد دونّر هذه المسألة في كتابه الآخر (روايات نشأة الإسلام: وبداية الكتابة الإسلامية؛ Narratives of Islamic origins : The beginnings of Islamic writing ، جامعة برنستون) وقد توجه فيه للتنظير عن كيفية كتابة التاريخ الإسلامي المبكر، فالكتابة العربية من وجهة نظره لم تتأثر بأساليب الكتابة التاريخية التقليدية التي كانت في صدر الإسلام، وإنما تشكلت من مجموعة الروايات والأخبار. بيد أنها لم تتشكل من تلقاء نفسها بل ركبت عملاً من أخبارٍ معينة وأهداف معينة. ومن ثم فإن فحص هذه الروايات كانت مشغولة بقضايا أربعة شكلتها: النبوة، والأمة, والهيمنة والفتوحات، والقيادة (الخلافة).

6

لقد عملت المرحلة ما بعد الكولونالية على تشظي الأقسام الاستشراقية نحو أقسام الدراسات الشرق أوسطية/ الأدنى، الدراسات الأسيوية، أو شبه القارة الهندية، الإفريقية، الإيرانية.....إلخ أو نحو الدراسات الإسلامية ضمن الدراسات الشرق أوسطية. وهذه المرحلة نتيجة التدخل الأمريكي في توسيع هذه الحلقة والتنافس بين الجامعات الأمريكية. بيد أن هذا الإدراج أصبح ذا تراكم علمي في المعلومات والخبرات لثلاثة عقود وأربعة أجيال علمية في المؤسسات العلمية، وهذا التراكم العلمي لمدرسة (المراجعون) لم يعد ظاهرة بل صار منفذا ومحورا لتعليم الإسلام والنقاش حوله جنباً إلى جنب مع التعليم الكلاسيكي.

فطوال عقد مثلت SOAS مركزاً لهذا التوجه الجديد للدراسات الاستشراقية، بينما كانت مطابع جامعتي كمبردج وأكسفورد دوراً للنشر المعرفي لهذا الاتجاه بحيث أصبحت هذه الإصدارات سلسلة علمية متواصلة. وفي منتصف الثمانينات كان لهذه المدرسة التوسع في كبرى المعاهد الاستشراقية فكان ذلك نشراً للجيل الثاني للمدرسة في التوجهات الأكاديمية من أكسفورد، وكمبردج وSOAS. وانتقل مايكل كوك في 1986م لبرنستون ليخلف برنارد لويس في كرسي دراسات الشرق الأدنى، وعلى أثر هذا كان النهوض المستجد بشكل واضح للمدرسة الأنجلو- أمريكية، ولتنطلق من جديد من جامعة برنستون. وفي نهاية التسعينات انتقلت باتريشيا كرون من جامعة كمبردج إلى معهد الدراسات المتقدمة ببرنستون بدلاً من برنارد لويس (وهو الوحيد الذي شغر منصبي الدراسات الإسلامية في الجامعة والمعهد وهما وظيفتان منفصلتين تماماً). وعليه بدأ أساتذة مدرسة المراجعين في التوسع؛ فوانسبرو ومعه جيرالد هاوتنج في SOAS، كما استطاعت باتريشيا كرون خلال عملها بين جامعتي اكسفورد وكمبردج في الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن العشرين العمل على إيجاد جيل ثالث من الأكاديميين يتبنى تنظيراتهم.

لكن كل هذا فإن التساؤل عن مدى تأثير هذه المدرسة إجمالاً على المحيط الدراسي في المدارس الاستشراقية؛ بشكل مبسط يمكن توضيحه أن هذه التنظيرات تدخلت في جوانب شتى ليس في النطاق الاستشراقي بل تعدت إلى الأقسام التاريخية والأديان والآثار واللغات، ويكاد عدم الالتزام بها يؤدي إلى الاستبعاد من قوائم التدريس. فعلى سبيل المثال من ضمن ما وجه إدوارد سعيد نقده في (الاستشراق) إلى برنارد لويس) موسوعة كمبردج لتاريخ الإسلام، والتي حررها لويس مع هولت ولامبتون في أواخر الستينات من القرن الماضي. والتي كانت تعد مرجعاً مهما للطلبة الجامعيين في تلك المرحلة التأسيسية واعتبرها (Text book).

حالياً كلفت مطابع جامعة كمبردج مايكل كوك بإعادة تحريرها في ستة أجزاء من خلال منظور هذه المدرسة، وتم تعيين المساعدين من تلامذتهم وهم الجيل الثالث لهذه المدرسة مثل تشيز روبنسون للاهتمام بالسكان والمدن المبكره، واوري روبن عن القرآن، كيث لفينشتاين حول المذاهب والفرق الإسلامية المبكرة. وهذه الحلقة آخذة في الانتشار كمجال واسع في النقاش.

وأخيرا، تم إصدار (دائرة المعارف القرآنية)، من دار بريل بهولندا، بجهد عظيم بذل في تحريرها بالرغم من أن المحررين ينتمون للاستشراق الكلاسيكي، كما أن إصدارات بريل أغلبها في العادة تمثل الاستشراق الكلاسيكي إلا أن المقالات التي احتوتها كانت متأثرة بشكل أو بآخر بـ(مدرسة المراجعين)، فحتى محمد أركون في مقدمته لهذه الموسوعة توحي خاتمته بأن القرآن دوّن في أواخر القرن 2هـ/8م. ويمكن الاطلاع بشكل إجمالي على آرائها في الكتاب الصادر جونثان بيركري J. Berkery، The Formation of Islam؛ تكوين الإسلام، (مطابع كمبردج، 2003م).

7

ومنذ مطلع التسعينات بدأ الجيل الجديد من المستشرقين الألمان الاهتمام بآراء هذه المدرسة وذلك نتيجة الاهتمام بالدراسات الفيلولوجية من جهة، والتواصل مع مراكز البحث الأمريكية من جهة أخرى مسايرة للمنهجية نفسها. وفي الآونة الأخيرة هناك مشروعان استحوذا على الاهتمام الأكاديمي الأول: بعد إنشاء معهد الدراسات المتقدمة ببرلين وضعت الدراسات الإسلامية ضمن هذا الإطار. ففي عام 2002م، نشر كريستوف لوكسنبرج (Christoph Luxenberg) قراءة سريانية – آرامية للقرآن The Syro- Aramaic Reading of The Koran قدم فيها دراسة نقدية وفيلولوجية في الدراسات القرآنية، حيث بدأ أطروحته بأن الكتابة القرآنية في الأصل لم تنقَّط إلا بعد النصف الثاني من القرن الأول الهجري، والذين وضعوا هذه النقاط لم يعوا المعاني الأصلية للنصّ، ولذا فهي أشكلت حتى على واضعي أكبر المعاجم العربية ككتاب العين وسيبويه، نظراً إلى أن اللغة العربية والآرامية والسريانية هي لغات سامية وعليه فإن القرآن متحدّر من الآرامية السريانية وهي لغة الإنجيل الأبيوني، ولذا فإن الإسلام لم ينشئ ديناً جديداً بل قام على الدين السابق له. وفي هذا العمل اعتمد على الطبرى في تفسيرات مقابلة مع المعاجم العربية ثم ترجمة الألفاظ ومقارنتها بالآرامية، وعلى ضوء إنجاز هذا العمل فقد ترجم من الألمانية إلى عدة لغات عالمية وأقيمت عليه نقاشات وحلقات عمل لدراسته.

أما العمل الآخر فهو مشروع الرقوم اليمنية التي عثر عليها بالجامع الكبير بصنعاء عام 1972م خلال عملية الترميم والتي تبلغ 15000 قطعة تبنت مراكز البحث الألمانية الحفاظ عليها وأدرجت هذا المشروع تحت إشراف البرفيسور جيرد بوين (1940-) وأصبح هذا المشروع محط الأنظار الدولية حيث تمَّ ترقيمه وتصويره وحفظه في 35,000 ميكروفيلم، وكان بوين من حين لآخر ينشر دراسة عن هذا المشروع، وبدأ بالدراسات المقارنة الفلولوجية حيث ذكر أن في القران جزءاً كبيراً من الآثار الأدبية المسيحية مشحونة في النصوص الإسلامية، وحيث أن هذه النصوص تمت في استنتاجه عن طريق التعريب الاستعاري من الكتابات اليهودية والمسيحية المقدسة، وخلال هذا التعريب قد يكون أن المسلمين لم يعوا الترجمة وتم فيها التبديل والتغيير أو تم تحريفها والزيادة عليها خلال تجميع النص.

وفي كل هذه الاستنتاجات فإن بوين أبرز تصريحاً آخر بأن النص القرآني وعلى دراساته للنصوص الصنعانية فإنه من المحتمل أن تكون كتابته بدأت في مرحلة متقدمة قبل نشأة الإسلام بقرون، وأنه في هذه الرقوم يوجد نصان للقرآن أحدهما متقدم عن الآخر في مضمونه.

على كل ما سبق هذا الإنتاج من إثارة للجدل، أصدر مؤخراً مايكل كوك كتاباً مرجعياً مهماً اسمه (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)كما أن باتريشيا كرون أصدرت كتاباً عن الفكر السياسي الإسلامي في القرون الوسطى. والمدهش أن كليهما أعاد الاعتبار للنصوص الإسلامية المبكرة في مرجعيتها وصدقيتها، وكأن ذلك كله كان عبثا.

7

إذاً فالتساؤل يكون دائماً إلى أين تتجه الدراسات الإسلامية في الدوائر الاستشراقية الغربية؟ لاشك أن نقد إدوارد سعيد في كتابيه (الاستشراق)ومن ثم (الثقافة والإمبريالية) نقد للمرحلة الكولونيالية ونتاج ما بعد الحداثة. إلا أن الدراسات الاستشراقية يشغلها اتجاهان: الاتجاه الأول وهو دراسة الإسلام المبكر ونقد النصوص المتوارثة بشأنه وهو يمثله في الأغلب اهتمام مدرسة المراجعين، وهي تلقى رواجاً واسعاً خصوصاً في الدراسات القرآنية، ودراسة تكوين الفكر العربي وتناوله بالنقد لجزئيات الأحداث في الصدر الإسلامي المبكر.

أما الجانب الأخر فهو دراسة الإسلام السياسي المعاصر؛ وهو يكاد يستحوذ على أكثر معاهد ومراكز دراسات الشرق الأوسط، وحقيقة منذ (هاملتون غب) وتبعه بعد ذلك تلميذان (برنارد لويس وألبرت حوراني). ويكاد يكون هذا الجانب أن يحظى باهتمام أغلبية المحللين والدارسين.

وهذا ما أحدث خللاً في الدراسات الاستشراقية للدراسات الإسلامية وتاريخها حيث الفجوة التاريخية لما يقارب اثنا عشر قرناً قلما تجد من يعنى به في فترات معينة إلا ما يمكن استثناؤه نحو الدولة العثمانية بالنسبة للمعاهد الاستشراقية في شرق أوروبا أو الدراسات الأندلسية في إسبانيا، أما غير ذلك فهي تتقلص إلى الانتهاء. بيد أن هذه ليست معاناة المراكز العلمية بل حتى دُور النشر فهي لا تلقى رواجاً في منشوراتها خارج هذين التوجهين، والدراسات العثمانية. وهذا ما يحمل على التساؤل: هل حققت مدرسة المراجعين تحديث الاستشراق وإعادة تثبيته لتتعدى دراساتها وآراؤها خارج الدوائر الاستشراقية نحو الدراسات اللاهوتية، والأديان، والتاريخ، والحضارات والآداب، أو أن الدراسات الفيلولوجية ذات استمرار متواصل لكنها خلطت بنهج جديد للتوثيق النقدي للنصوص ؟

**********************

*) رئيس المجلة.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=391

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك