فنُّ التجرُّد..

شذى الطيار

 

التراجع قليلاً لا يقل أهمية عن المضي قدما لماذا؟

من بين كل ما أذكره عن حياتي حتى الآن، هناك شيءٌ واحد يمكنني قوله بمنتهى اليقين، لقد كنت دائماً شغوفةً للغاية. شغوفة حيال كل شيء، الحياة والعمل والصداقات والعلاقات. كنت مفعمةً بالنشاط وما توانيتُ يوماً عن وهب قلبي وروحي وعقلي وطاقتي لأجل كل ما يُمثل أهميةً لي. أثب وأخوض غِمار كل شيءٍ بلا هوادة. ودائما ما كان يبدو أن كل ذلك يناسبني. كنت في أقصى حالات نشاطي، فأُنهي أعمالي كاملةً وأُبقي على أسعد العلاقات ولطالما خامرني يقينٌ بقدرتي على تحقيق أي شيء، حتى جاء اليوم الذي رأيت فيه كلّ ما يُهمني على شفا الانهيار الذي طالني أيضاً.

وفي هذا السياق قصتي ليست فريدةً من نوعها، فلقد بات التعب والإنهاك وبائين متفشيين في هذا العصر. ولقد عانى بعض أذكى الأشخاص المفعمين بالنشاط والشغف من هذه المرحلة شديدة الاستنزاف التي تستمر لأشهر وقد تصل لسنوات. وهذا كله ناجمٌ عن أحد الجوانب المظلمة لكون المرء شديد الشغف. فباختصار، حين تغلو في ربط سعادتك ووجودك ومعنى حياتك بعملك وعلاقاتك أو كل ما له علاقةٌ بهم، فأنت بذلك تُعرّض حياتك للخطر.

مالسبب إذن؟

لأن رغبةً جامحةً بالتحكم بالظروف تأتي مُصاحبةً لهذا الارتباط. وحين تُمارس حداً من التحكم بما يحدث في حياتك فأنت بذلك لا تستبعد احتمالية خروج الأمور عن السيطرة أو احتمالية ألا ترى خُططك وطموحاتك النور. تُعرّض نفسك للخطر لأنك تنغمس جداً فيما تُحب رافضاً تصديق فكرة أن الأمور قد لا تسير كما خططت لها. ولا تُنكر أن هذا النوع من الاعتداد بالنفس ضروري. بل ربما كان اعتدادك بنفسك هو سبب قدراتك الكبيرة على المُخاطرة وتحقيق الإنجازت فيما بعد.ولذلك فإن المشكلة ليست متعلقة تماماً بكونك شغوفاً فقط، ففي النهاية، الشغف هو الحياة. ولقد وُصف بأنه «الرغبة الجامحة التي يكاد يكون التحكم بها مستحيلاً» ثم إن شغفك هو ما يُبقيك على قيد الحياة.

لقد اتضح أن المشكلة متمثلةٌ في التفكير الوهمي.

هل تذكر قول الناس بأن «الحُبَّ أعمى؟» حسناً، إن جوهر قصدهم هو أن الغُلوّ في الشغف والتعلّق بأمر ما يمكن أن يُشوه إحساسنا تجاهه. فهما يجعلاننا غير قادرين على تقبّل احتمالية سير ما نريده على نحوٍ خاطئ، وغير مستعدين لرؤية أوجه القصور في خُططنا فنغفل عن الحقيقة المتجلّية أمامنا في أعمالنا وعلاقاتنا وكل ما يُمثل لنا شغفا كبيراً. لدينا جميعاً تلك النزعة لرؤيتهم بطريقةٍ مُشوّهة. 

يقول سيمون ويل: «إن التعلّق هو أعظم مُلفّق للوهم فالحقيقة لا يبلغها إلا من كان مُتجرّدا» 

ولذلك إن انهار سقف توقعاتك وسارت الأمور بما لا تشتهي -لأن هذا ما يحدث أحياناً على الرغم من جهودك الحثيثة- فقد تجد نفسك تكافح ما استطعت للتعامل مع ما حدث. 

ولكن هل يعني هذا أن الشغف سيء؟ هل يتعين ألا تهب نفسك أبداً لأي شيء؟ هل يجب ألا تحب حباً غير مشروط ومن صميم قلبك؟ هل يجب ألا تعيش بحماس في الحياة بكل تفاصيلها وألا تكون مستعداً للمخاطرة؟ لا أظن ذلك.

لكن يجب عليك دائماً وأبداً أن تتمسك بفكرة (الأنا) المستقلة عن أي شيء آخر في حياتك. يقول أوشو في كتابه سر الأسرار: «عش في العالم، تعامل مع العالم، قم بكل ما هو مفيد، لكن ظل مبهماً، نائياً بنفسك ومتجرداً، كزهرة لوتس في بركة مياه.»

هل سيبقى شيء إن عرّيتُ حياتك من العمل ومن أعمق علاقاتك للحظات؟ هل هناك جوهر منفصل ومتجرد وينعم بالسلام في داخلك بصرف النظر عما يجري في حياتك؟ أم أن حالك في تقلب مستمر بناءً على ما يحدث؟ مبتهجٌ لأن الأمور تجري بشكل رائع في العمل، بائسٌ لأن آخر دفعة من الطلبات لم تُسلم في وقتها المحدد فترك العملاء نقداً سيئا. مبتهجُ لأن علاقتك تسير على ما يرام، بائسٌ لأن فلان أو فلانة توقف عن إعطائك قدرا كافياً من الوقت؟ 

حين تسمح لما أنت شغوف به بأن يفرض عليك حالتك المزاجية ومستويات طاقتك ومدى حماسك تجاه الحياة فهذا أمر مُضر؛ لأنك تعتمد على شيء خارجي لا يمكنك التحكم به، في أن يملي عليك كيف تعيش حياتك. إن الفرق الوحيد بين من ينهار بعد الفشل أو الخسارة وذلك الذي يستجمع قواه ليبدأ سريعاً مجدداً، هو أن الأخير عرف كيف يمارس فن التجرد.

لكن ما هو تحديداً فن التجرد؟

هو فن انتزاع الرغبة مما لا يمثل أهمية كبرى لك وتتركه ليتساقط، من أجل أن تُسخر قوته لبلوغ ذروة ما يمكن للإنسان أن يحققه. قد تبدو فكرة متناقضة، فهي تشير إلى أن بإمكانك بلوغ الثريا بتجريد نفسك مما يهمك بدرجة معينة وبالتراجع خطوة إلى الوراء فقط. وهذا لا يعني أنه يجب عليك أن تشعر دائماً بتجردك مما حولك، إنما يعني أن تكون قادراً على فعله عند الحاجة. إن التعلق يعني العيش في حالة خوف من أنك لن تبلغ ما تصبو إليه وأنه سيحاصرك في حالة شرَه دائمة. ومن خلال تجربتي وجدت أنه من المجدي التجرد في الحالات التالية:

1-- التجرد من الأهداف المادية

ولفهم هذا الشكل من أشكال التجرد فإن أفضل مثال هو قصة جوشوا ورايان اللذين وضعا هذا المفهوم. «حين كنا على مشارف الثلاثين، كنا قد حققنا كل ما من شأنه أن يُشعرنا بالسعادة، وظائف برواتب من ستة أرقام وسياراتٌ فارهة ومنازل كبيرة وكل ما يمكن أن يتراكم في كل زاوية من زوايا حياتنا التي يتحكم فيها المستهلك. ولكن على الرغم من وجود كل ذلك لم نكن راضين عن حياتنا ولم نكن سعداء. لقد كان هناك فراغ هائلٌ وعمل لسبعين وثمانين ساعة في الأسبوع فقط لنتمكن من دفع قيمة تلك الأغراض التي لم تملأ ذلك الفراغ، بل أثقلت كواهلنا بالديون والضغط والقلق والخوف والوحدة والذنب والإرهاق والاكتئاب.»

هناك الكثير من الأشخاص شديدو التعلق بحاجياتهم وشديدوا الإدمان على شراء وتكديس المزيد والمزيد من الحاجيات دون أن يطرحوا على أنفسهم سؤالاً بسيطاً واحداً: هل هذا مهم بما يكفي؟ حين تحرر نفسك من من الإكراه على امتلاك الحاجيات لمجرد الامتلاك فأنت تبدأ بالشعور بالتجرد الحقيقي والتمتع بما يهمك فعلا. «لا يعني التجرد عدم امتلاكك لأي شيء بل يعني ألا تسمح لأي شيء بامتلاكك.»

وتذكّر، الكثير في القليل. 

تراجع خطوة لتفهم ماهية القيمة التي تضيفها هذه الحاجيات إلى حياتك. وحين نُزيل الفوضى من طريق الحياة فإننا بذلك نُفسح المجال لأهم جوانبها بما في ذلك الصحة والعلاقات والشغف والتطور والمشاركة.

2- التجرد في العلاقات

يُعاني معظم الأشخاص أكثر ما يعانون في هذا الجانب من التجرد وهو أمر طبيعي. فنحن نُسيء فهم معنى الحب باعتباره مقتصراً على التعلق بالآخر ومحاولة إصلاحه والعناية به بكل الوسائل الممكنة، حتى إن كان ذلك على حساب تجاهل صحتنا. ويزداد الأمر سوءاً حين نجعل حياتنا تتمحور حول علاقات معينة. وقد تكون علاقة بوالديك أو بزوجك أو أعز أصدقائك أو أي شخص له تأثير كبير في حياتك. وفي كل العلاقات هناك حاجة لشيء من التجرد.

قد نتساءل، لماذا؟

تتعدد الإجابات عن هذا السؤال. فنحن بحاجة للتجرد حتى لا نأخذ كل شيء على محمل شخصي لأننا لا نتحكم بتصرفاتهم. نحن بحاجة للتجرد حتى لا نطلب آراءهم إلى الحد الذي تتلاشى معه آراؤنا. نحن بحاجة للتجرد حتى نفهم أن الحُبَّ يعني تقبل الآخر وليس التحكم به. نحن بحاجة للتجرد حتى نفهم أننا وحدنا المسؤولون عن حياتنا وأننا يجب أن نرسم لها حدوداً لمنع الآخرين من التحكم بها. 

إن التجرد في الحُبِّ ضروري للحفاظ على المسافة المثالية التي تعد أهم عنصر في نموه. ولا يوجد حديثٌ يمكن أن يختصر الفكرة حول التجرد في الحُبِّ أكثر من هذه الأسطر من قصيدة جبران خليل جبران:«لكن فليكن بين وجودكم معاً فسحات تفصلكم عن بعضكم حتى ترقص الرياح فيما بينكم، أحبُّوا بعضكم بعضاً لكن لا تُقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحراً متموجاً بين شطآن نفوسكم.»

3- التجرد في التجارب الشخصية

كانت لنا الحياة لنعيشها لا لنُبالغ في تمحيصها. لكننا من وقت لآخر نجدنا عالقين داخل رؤوسنا نعيد سرد تجاربنا، وفي معظم الأحيان لا نختار إلا التعيس منها ولا نكف حتى تُطيح بنا. ولا يتقصر الأمر على ذلك وحسب بل إننا نميل إلى حملهم معنا في كل مكان كالطّقس السيء. كل تلك التجارب تُشكل أحكامنا وآراءنا وتحيزاتنا إزاء نظرتنا للعالم. نميل للمغالاة في التعميم وتكهن الأمور حين نتشبث بشدة بتجاربنا السالفة. 

إن أخذ العبرة من تجربةٍ ما والمضي قُدُماً في الحياة مع حكمةٍ جديدة وجهان لعملة واحدة، لكنه شيء مختلف تماماً أن تحمل على كاهلك المرارة والذنب والندم على تجاربك السابقة والسماح لها بتشويه حاضرك. وهذا يحدث عادة حين نفشل فشلاً ذريعاً في تقبل تجارنا السيئة ونسيانها. وإن حدث أمر سيء فأطلق العنان لنفسك لتشعر بالألم والحزن ثم انس أمره. فمن خلال التقبُّل وحده يمكنك تحرير نفسك مما يُثقل كاهلك وأن تُجرد نفسك منه.

4- التجرد من العمل

يقول تشاك بالاثنويك في كتابه Fight Club: «أنت لست عملك، أنت لست المال المُودَع في المصرف، أنت لست مركبتك التي تقودها، أنت لست محتوى محفظتك، أنت لست بنطالك الذي ترتديه. بل أنت كل حماقات العالم المُغنِّية والراقصة.» 

وفي استطلاع أجراه والاس إنمين لصالح مجلة Global and Mail بعنوان (فقدان وظيفتك يعني فقدان هويتك) والذي أجاب عليه 12.000 مشارك اتضح أن نسبة 30% منهم يعرفون أنفسهم بناءً على وظائفهم.

إذن هل يصفك التالي؟لديك بعض الاهتمامات خارج إطار العمل، تشعر بالقلق حين لا تعمل، لا تستطيع إجراء محادثةٍ مع شخص ما دون الإشارة إلى شيء ما في العمل، تتفرغ لزملائك في العمل لسبع ساعات في اليوم وحين تعود إلى المنزل وتكون برفقة عائلتك فإن عقلك لا يزال محتجزاً في العمل. إن كان يصفك فإنك قد بالغت في تحديد ما هيتك من خلال عملك. وهذا أمرٌ سيء لصحتك الجسدية والعقلية. فالتجرد من العمل يعني أنك ما إن تغادر مكان عملك حتى تترك كل الهموم المتعلقة به حيث كنت. التجرُّد من العمل يعني ألا تبالغ في تحديد قيمتك الشخصية بناءً على الاعتمادات التي تتلقاها في عملك أو حتى أدائك فيه. التجرُّد من العمل يعني ألا تعتمد عليه ليهبك الشعور بالكمال ويضفي معنىً على حياتك. وفي الحقيقة، التجرّد من العمل يمكن أن يُزيح عنك عبء أن تكون مثالياً طيلة الوقت، ويتيح لك أن ترجع خطوةً إلى الوراء وتستريح وأن تركز على ما أنت بصدد القيام به دون أي مخاوف. وهذا من شأنه أن يُحسن من أدائك ومزاجك بشكل عام بل ولربما دفعك إلى التفكير بأفكار أكثر إبداعاً.

5- التجرد من أفكارك الشخصية

من بين كل أشكال التجرد الأخرى وجدت أن التجرُّد من الأفكار الشخصية كان أكثرها تأثيراً في مساعدتي على النضج. فمعظمنا شديدو التمسك بأفكارهم وبأنماط تفكيرهم المهووسة. وثُلة قليلة منا قادرون على التريث قليلاً وممارسة قدر من السيطرة على أفكارنا. كما تحول تركيزنا على أفكارنا ومشارعنا إلى مشكلة لينتهي بنا المطاف إلى القيام بأفعال بدوافع غريزية. ونخلُص بطريقة ما إلى أن كل فكرة بحاجة إلى فعل شيء حيالها ولكن ذلك لا يأتي بخير. 

عادة ما يمكن الوصول للتجرد من الأفكار بممارسة التأمل حتى يستحيل ممارسة دائمة تتيح لك فرصة إمعان النظر في أفكارك وكأنك شخص غريب ومن ثم تسمح لها بالغدو والرَّواح دون أن تحرك ساكناً بشأنها. وهذا يمنحك ممارسة نوع معين من التجرد لتلاحظ حينها أنه ليست جميع الأفكار بتلك الأهمية. ستدرك أن معظمها لا يعدو كونه سحابةً تعكّر صفو رأسك وأنه من الأفضل لو حررت نفسك منها. 

إن التجرد من أفكارك يتطلب منك فهماً لحقيقة أن (أفكارنا مجرد أفكار) وليست حقيقةً مطلقةً ولا واقعاً. ستدخل حالة ذهنية حيث تشهد كل شيء بهدوء ووضوح وبحُسن نية، مهما كان ما تراه أو تسمعه أو تفكر به أو تستمع به أو تعاني منه. تُشاهد مشاكلك ومخاوفك وتحدياتك بلا قيود أو قلق بشأنها. لكنك ترى كل ذلك أمامك كشاهد فقط.

ستفقد كل أفكارك المضطربة ومشاعرك السلبية سيطرتها على عقلك ما إن تبدأ بممارسة التجرد، ولن تتمكن من التحكم بك بعد الآن أوإحداث خلل في قدراتك الذاتية وصحتك. 

يقول كابيرا في كتابهBirthplace of Happiness: «يمكن لعقلك أن يكون أعز أصدقائك أو أسوأ أعدائك.»

6- التجرّد من الإحساس بالوقت

«وحده الإنسان من يستطيع دق أجراس الساعة، ولذلك، فإنه يُعاني من خوف يشل أركانه لا يستطيع أي كائنٍ آخر احتماله. إنه الخوف من نفاذ الوقت.» هكذا كتب ماتش آلبوم في كتابه Time Keeper

الكثير من مخاوفنا سببها أفكارنا حول عدم وجود وقت كافٍ لكل ما نريد فعله. فنحن لدينا خطط كبيرة لأشهر وربما لسنوات باتت تُصعّب علينا أن نعيش اللحظة كما ينبغي. ذلك الوقت الذي نتأكد حقيقةً أننا نملكه. فالتجرد من الإحساس بالوقت من شأنه أن يجعلك أكثر إدراكاً لطيبعة حياتنا المتغيرة ويساعدك في أن تغدو أكثر هدوءاً طالما أبقيت في حسبانك أن الوقت الوحيد الذي تملك التحكم به هو اللحظة الحالية. فكل ما مضى وكل ما هو آتٍ، لا قيمة له.

خلاصة القول هي أن السلام الذهني غير المشروط بنبغي أن يكون الثابت الوحيد في الحياة، وممارسة التجرد هو جسر بلوغه.

 

المصدر: https://medium.com/@shatha/%D9%81%D9%86%D9%91%D9%8F-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D9%91%D9%8F%D8%AF-e596797f0fbf

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك