المنهاج النبوي والقضايا الاجتماعية الكبرى
علي جمعة
إن الروابط الإنسانية ركن أساسي من أركان أي مجتمع بشري. فالاجتماع الإنساني كالبناء بحاجة إلى ما يربط وحداته بعضها ببعض، ويجعل منها جسمًا واحدًا. وهذه الروابط التي يستدعيها الاجتماع الإنساني، هي روابط أدبية بين أفراده في نواح عدة تجمع بينهم وتسير بهم نحو غرض واحد، وبهذا فقط يصلح المجتمع للحياة المشتركة.
وقد تطورت هذه الروابط من البساطة التي وجدت عليها في المجتمع الإنسان البدائي، حتى استقرت في المدينة الحديثة فصارت أكثر تعقيدًا وتشعبًا، وتطورت روابط المجتمع إلى علاقات متداخلة احتاجت إلى علوم جديدة، وعمليات اجتماعية واقتصادية، زادت من التعقيد والتشعب في المجتمع الإنساني.
وفي خضم هذا كله، ظهرت مشكلات اجتماعية كان لها أكبر الأثر في حياة الإنسان، كمشكلة الأمية، ومشكلات الأسرة عامة، والعلاقة بين الرجل والمرأة خاصة، ومشكلة التربية والقيم، وكذا سوء توزيع الثورة وغيرها من المشكلات التي تمثل القضايا الاجتماعية الكبرى.
هذه بعض القضايا الكبرى التي تمس مجتمعاتنا، بما لها من تبعات جسيمة تجعل لها أولوية في اهتماماتنا… وحيث إن الإسلام نسق مفتوح ودين واسع، فقد وضع جوابًا لكل سؤال وفي كل عصر وكل شأن من شؤون الأمة. وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن فقال: “وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه” (رواه ابن حبان)، وهي قاعدة في السعي لابد أن نعيها ونعي كيف نعمل بها.
والمتأمل في المنهاج النبوي، يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع الأسس الجامعة التي تصلح في القضاء على الأمراض المجتمعية المختلفة، ومعالجة هذه القضايا، وجعل العالم كله أمة واحدة في ظل أرقى الأصول الاجتماعية.
فهذا المنهج حوّل الروابط الإنسانية من القيام على المصالح المادية والاعتبارات العصبية، إلى روابط مستمدة من المبادئ الإنسانية والأصول العامة، التي تتفرع عنها قوانين ضابطة لتصرفات الناس في معاملاتهم.
فالمسلم الحق، يشعر بمدى جمال وكمال الروابط الإسلامية مع أفراد مجتمعه، وتتمتع روحه بالقيام بواجباته الاجتماعية، وتجده يدافع عن وشائج ارتباطه بهذا المجتمع… فهو لا يقوم بهذه الارتباطات المجتمعية طلبًا للدنيا ولا رغبة في الذكر، بل يقوم بها مدفوعًا بطلبه أكمل الغايات الاجتماعية والوصول لأرفع الكمالات الوجودية. وهذا الاجتماع هو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى” (رواه البخاري).
أسس المنهاج النبوي في علاج المشكلات
لقد قام المنهاج النبوي على أسس عدة في علاج القضايا الاجتماعية الكبرى. وهذه الأسس هي:
1- الاهتمام بالعلم: ولا غرو فقد كانت “القراءة” أول ما نزل من القرآن الكريم، وفاض الكتاب الحكيم بآيات عدة تبين مكانة ومنزلة العلم والتعلم في شريعة الإسلام… وبيّن سبحانه وتعالى أن المسلم لا يرتفع بفضيلة كما يرتفع بفضيلة العلم فقال:
﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(المجادلة:11)، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾(فاطر:28).
والعلم الذي ندب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وحث على النهل منه هو كل علم؛ قوامه التفكير والتأمل بالعقل للاهتداء إلى آيات الكون إلى خالقه. هو العلم الذي يجعل الآدمي جديرًا بأن يستخلف في الأرض، وينهض برسالة الله، ويدرك إدراكًا حقيقيًّا شاكرًا -من واقع علمه وفهمه- أن الخالق سبحانه، قد سخر له هذا الكون في أرضه وسمائه وكواكبه وأجرامه وشمسه وقمره ومائه وهوائه… لحكمة عميقة سامية تعبر تعبيرًا ناطقًا حيًّا عن جلاله سبحانه وجماله وأفضاله… وتدفع الآدمي عرفانًا وفهمًا وتقديرًا أن يكون جديرًا بهذا الاستخلاف، بالعلم والفهم والحكمة، والنشاط والسعي لعمار الأرض لا لخرابها، ولإثراء الحياة لا لإفقارها، يقول تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(الأنعام:165).
إن العلم المندوب إليه في سنة الهادي البشير صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على مجال دون مجال، فقد حض المسلم على أن يضرب في الآفاق طلبًا للعلم أيًّا كان، يقول عليه الصلاة والسلام للمسلمين: “العلم خزائن ومفتاحها السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل والمعلم والمستمع والمجيب لهم” (حلية الأولياء:3/192)، وقال صلى الله عليه وسلم: “من خرج في طلب العلم، فهو في سبيل الله حتى يرجع” (رواه الترمذي).
2- العمل: من أسس علاج القضايا الاجتماعية كما يظهر في المنهج النبوي، هو العمل. فلم يقتصر المنهج النبوي على الحث على العلم فقط، بل قرر أنه لا علم بلا عمل، ولا نجاح لغاية الاستخلاف في الأرض وحكمته إلا به، ولا مقياس لإخفاق الآدمي أو فلاحه إلا بعمله وسعيه وكدّه وبذله محوطًا مدفوعًا بالعقل والفهم والعلم.
ولذلك حض صلى الله عليه وسلم على العمل بما نعلم، وربى أصحابه على تزكية أرواحهم وبناء شخصياتهم، وتحمل مسؤولياتهم الدينية والدنيوية، وأرشدهم إلى الطريق التي تساعدهم على تحقيق ذلك. ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بالحث على العبادات الظاهرة، بل ربى أصحابه -كذلك- على مكارم الأخلاق بأساليب متنوعة… وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض الأخلاق مع العبادة والعقائد في وقت واحد، لأن العلاقة بين الأخلاق والعقيدة واضحة في كتاب الله تعالى.
ولأن العمل من لوازم تعمير الدنيا والآخرة، وذلك لأنه من لوازم الحياة وبقاء النوع ومقتضى الفطرة، وضع صلى الله عليه وسلم نظامًا خاصًّا للعمل فربطه بالنية، فصلاحه بصلاحها وفساده بفسادها، فقال: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” (رواه البخاري). وتحقيقًا لمبدأ تكافؤ الفرص الذي يعد صورة من العدالة الاجتماعية، جعل النبي صلى الله عليه وسلم العمل حقًّا للفرد واجبًا على الدولة توفيره، فلا يجوز للدولة أن تتقاعس عن أداء هذا الواجب الاجتماعي الخطير حتى لا تتعطل طاقات الأفراد ونشاطاتهم، وتحرم الأمة من جهودهم ومواهبهم. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعين من لا عمل له بتأمين العمل، كما قرر صلى الله عليه وسلم أنه لا امتياز لأحد في نوع معين من العمل بالنظر لغناه أو ثراء أسرته أو نفوذها، إنما فرص العمل يجب أن تكون مهيأة للجميع كل على حسب كفاءته وقدرته وموهبته… ومن هنا وجب على الدولة أن تختار للقيام بوظائفها الأصلح والأكفأ، قال صلى الله عليه وسلم: “من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولَّى رجلاً وفي الأمة من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله” (رواه البيهقي). ولذلك كان لابد من التزام مبدأ التخصص، لتتم الكفاءة والإتقان فيما تقتضيه كل وظيفة بحسب طبيعتها.
3- التوازن: ويتمثل في أمور عدة، منها المساواة بين الأفراد لا التساوي. فالشرع الإسلامي إذ يقول بالمساواة بين الرجل والمرأة مثلاً في الحقوق والواجبات، فإنه لا يقول بالتساوي بينهما في الصفات الخِلقية والفطرة الربانية والوظائف التكليفية… فهذا لا يقول به عاقل. وعلى هذا فإن الدعوة إلى التساوي بينهما، نوع من أنواع الظلم، والزج بكل منهما في طريق مظلم لا يتفق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ويكلف كلاًّ منهما شططًا لا يطيقه، أما ما يتفق والتوازن الذي أسسه المنهج النبوي فهو المساواة.
فالمساواة في الإسلام، لا تعني أبدًا القضاء على الاختلاف أو التمايز بين الناس، إذ الاختلاف سنة كونية من سنن الله في خلقه، وهو حقيقة واقعة في الخلق، ولا يمكن محوها أو التغافل عنها، ولكن المساواة تعني العدالة، والعدالة تكون في عدم التفرقة بين الإنسان فيما يخرج عن فعله واختياره، ولذا يجب أن تطبق مفاهيم المساواة الإنسانية في إطار من احترام الاختلاف والتمايز بين الناس، وعدم الاعتداء على هويتهم الذاتية أو محاولة مسحها أو محوها.
وقد قرر صلى الله عليه وسلم المساواة كمبدأ عام بين الناس جميعًا، وجعله مهيمنًا تسري روحه كدعامة لجميع ما سنه وقضى به من نظم وأحكام تضبط علاقات الأفراد رجالاً ونساء. وكان من تقديره لقيمة الإنسان المشتركة بين الجميع، تكريم الجنس البشري بنوعيه دون تمييز بين رجل وامرأة.
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن أنسابكم هذه ليست بسِباب على أحد، وإنما أنتم ولَدُ آدم، طَفُّ الصاع لم تملؤوه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالدين أو عملٍ صالح، حسْبُ الرجل أن يكون فاحشًا بذِيًّا، بخيلاً جبانًا” (رواه الإمام أحمد).
والمساواة بين الناس لا معنى لها إذا لم تعززها عدالة اقتصادية واجتماعية تضمن لكل فرد حقه إزاء ما يقدمه لمجتمعه، وتكفل ألا يستغل أحدٌ أحدًا أو يبخسه حقه… فالتفاوت الفاحش في الدخول والثروات، الذي نراه اليوم منتشرًا في كل الدول الإسلامية ينافي جوهر الإسلام، لأن فيه قضاء محتمًا على مشاعر الأخوة التي يريد الإسلام بثها بين المسلمين.
إن عدالة التوزيع للثروة بين المواطنين، من شأنها أن توفر لكل فرد مستوى من المعيشة تهيئه لأن يحيا حياة تليق بكرامة الإنسان، ويتوجب على النخبة من علماء الأمة بعد ذلك، أن تعمل على تأمين العمل لمن يبحث عنه، وإثابة العاملين بالأجر العادل، والتفكير في آليات لتفعيل النظام الاقتصادي الإسلامي الذي تمثل الزكاة والصدقات والوقوف فيه، ركنًا ركينًا لإعادة توزيع الدخل على الفقراء الذين لا يستطيعون ضربًا في الأرض، أو يعانون من معوقات عقلية أو جسمية، أو يرزحون تحت وطأة ظروف خارجة عن إرادتهم.
4- العدل: وهو قضية عظمى عليها قام الملك، وخلق إسلامي رفيع حث عليه الله سبحانه وتعالى في الكتاب العزيز، وفي سنة النبي الكريم صلوات الله عليه وسلامه، يقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾(النحل:90)، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الظلم في أكثر من حديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: “الظلم ظلمات يوم القيامة” (رواه البخاري)، وفيما يرويه نبينا صلى الله عليه وسلم عن رب العزة أنه قال: “يا عبادي إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا فلا تَظالَمُوا” (رواه مسلم).
ومن مظاهر تمام العدل بين الناس، إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الشيء المناسب والشخص المناسب في المكان المناسب، ومثال ذلك أن وجود نخبة من الناس تتصدر لحل المشكلات، ورسم طريق الخروج من الأزمات من قوانين الله وسننه الثابتة في كونه. ومفهوم النخبة نراه بارزًا في الكتاب والسنة، ومرتبطًا بتاريخ البشر وواقعهم، بل هو واضح في سنة الله تعالى في كونه. فقد فضّل سبحانه بعض الأزمان على بعض، وفضّل بعض الأماكن على بعض، وفضّل بعض الأشخاص على بعض، وفضّل بعض الأحوال على بعض، وجعل من هذا التباين سببًا لدفع الناس وتعارفهم وحراكهم عبر حركة التاريخ، قال تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾(الزخرف:32)، وقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(المجادلة:11)، ويقول: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾(البقرة:253)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(النساء:59). فجعل الله للناس رؤوسًا، وجعل ذلك طبقًا لكفاءاتهم، ورغبتهم في الإصلاح دون الإفساد، ونعى على ذلك التصور الذي يكون فيه جميع الناس في تساوٍ مطلق.
وعدم التساوي لا يعني أبدًا عدم المساواة كما سبق وبينَّا، ولكن وجود النخبة والصفوة يؤدي إلى حل المشكلات، وإلى الأمن والاستقرار بين الناس. وعلى المسلمين جميعًا أن يحافظوا على هذه النخبة ويدافعوا عنها ويعينوها على تحقيق الدور الذي كلفت به… وهذا لا يعني أن هذه النخبة فوق القانون، ولكن عند توجيه الاتهامات، يجب أن تبنى على حقائق ثابتة، وليس على أحداث مختلفة أو خيالات مريضة. فوجود هؤلاء الحكماء والمحافظة عليهم، بل وإقالة عثرتهم إذا عثروا، أمر واجب على الناس جميعًا، وهو مثال للعدل بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، الذي يمثل أساسًا من أسس المنهج النبوي في علاج القضايا الاجتماعية.
5- الرحمة واستعمال الرفق لا العنف: فالرحمة من الأخلاق التي مدحها الله ورسوله في الكتاب والسنة، وهي من الأخلاق التي يترتب عليها كثير من الخير في الحياة الدنيا بمجالاتها المختلفة، كما يترتب عليها كثير من الثواب في الآخرة.
ولأن هذه الأمة هي أمة الرحمة والهداية، دأب المحدثون في تبليغهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلبة العلم على أن يستفتحوا بحديث الرحمة المسلسل بالأولية: “الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا أهل الأرض يرحمُكم مَن في السماء” (رواه أبو داود)، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تحث المسلمين على التخلق بالرحمة فيما بينهم ومع جميع الخلق… وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، بأن ترك هذه الصفة الحميدة قد يستوجب غضب الله يوم القيامة حيث قال: “لا يرحم الله من لا يرحم الناس” (رواه البخاري)، وقال الصادق صلى الله عليه وسلم: “لا تُنـزع الرحمة إلا من شقي” (رواه أبو داود).
6- مراعاة الأعراف السائدة في المجتمع: يقول سبحانه وتعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾(الأعراف:199)، فكل ما شهدت به العادة والعرف مما لم يتصادم مع ثوابت الإسلام، قضي به لظاهر هذه الآية إلا أن تكون هناك بينة تمنع من هذا… وقد ورد في الخبر أن “ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن”، والمعنى: أن كل ما رآه المسلمون بعقولهم من العادات وغيرها مستحسنًا، فهو حسن عند الله يقبله ويعتد به، ووجه الأخذ لاعتبار العرف من هذا الخبر، أنه إذا كان كل ما رآه المسلمون مستحسنًا قد حُكم بحسنه عند الله واعتباره، فكذلك إذا كان العرف مما استحسن المسلمون في المجتمع كان محكومًا باعتباره.
7- التدرج في التشريع: فلم يكن صلى الله عليه وسلم يحمل الناس على الأحكام جملة واحدة، إنما كان مبدؤه التدرج… فهو القائل: “يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا” (رواه البخاري). وقد كان التدرج في عهد النبوة يعتمد على محورَين أساسيَّين:
الأول: بيان الأحكام الشرعية بالتدرج حسب نزولها من السماء، وتفسيرها وبيانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكامل الدين وتم بناؤه. وقد انتهى هذا الجانب بانقطاع الوحي، ولكنه يبقى نموذجًا وأساسًا أمام العلماء في الاجتهاد في المستجدات والوقائع الجديدة.
الثاني: هو التطبيق العملي للأحكام الشرعية التي كانت تنـزل وتُفسر وتُبين، وكان هذا التطبيق بالتدريج أيضًا.
وقد ورد في السنة الشريفة أحاديث كثيرة تصرح بالتدرج في التشريع، من أشهرها حديث إرسال معاذ إلى اليمن؛ فقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى منهج التدرج في التنفيذ والتطبيق بقوله له: “إنك تَقدَم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوقّ كرائم أموالهم” (رواه مسلم)، فرسم أمامه الهدف الأول في تقدير الإيمان الصحيح بالشهادتين وترسيخ أصوله في النفوس، فإن تحقق ذلك انتقل إلى تكليفهم بركن الإسلام وعموده وهو الصلاة، فإن تحقق ذلك كلفهم بالفريضة المتعلقة بأموالهم.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلف الناس بالدين كله مرة واحدة، سواء في العقيدة أو في الشريعة، بل بدأ بالأهم فالمهم، وتدرج معهم في تفصيل العقائد والأحكام طوال فترة البعثة على أساس ترتيب الأولويات، فاعتمد على تثبيت العقيدة أولاً، ثم تدرج معهم إلى بيان القيم الدينية والأحكام العامة التي نزلت على الأنبياء السابقين، ثم تدرج معهم إلى التكليف بالأوامر النواهي، وقدم في كل ذلك الضروريات الخمس وهي المحافظة على النفس والعقل والدين والنسل والمال.
8- مراعاة الحال: سواء حال الإنسان وحال الجماعة وحال الأمة، بل حال العالم أجمع، فقد راعى صلى الله عليه وسلم أحوال الناس في تطبيق الأحكام الشرعية والأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان تعامله مع الفرد مخالفًا لتعامله مع الجماعة من حيث كونهم جماعة، أو الأمة كذلك أو جميع الأمم، فلم يكن التعامل متماثلاً مع الجميع. ومن أكثر دلائل مراعاته صلى الله عليه وسلم للأحوال ما ورد في عدم هدمه الكعبة، وإعادة بنائها على أساس إبراهيم؛ فإن قريشًا لما بنتها اقتصرت بها، يقول صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها: “يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين” (رواه مسلم).
إن الجمود على رأي واحد، وحكم واحد، وموقف واحد وإن تغيرت الأحوال، لم يكن من منهجه صلى الله عليه وسلم. وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة في مكة من أن يحملوا السلاح ليقاتلوا دفاعًا عن أنفسهم وهم يأتون إليه بين مضروب ومشجوج، ويأمرهم بالصبر وكف اليد، حتى إذا هاجر إلى المدينة وأصبح لهم دار ودولة، أذِن الله أن يقاتلوا.
وروى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن القُبلة للصائم، فرخص لسائل ونهى سائلاً آخر عن القُبلة أثناء الصيام… وبالبحث تبين أن أحد السائلين كان شيخًا فرخص له أن يُقبّل، وكان الآخر شابًّا فنهاه عن التقبيل. وقد كانت إجابات النبي صلى الله عليه وسلم تختلف من شخص لآخر عن السؤال الواحد، لأنه كان يراعي أحوال السائلين، فيعطي الإجابة لكل منهم بما يلائم حاله.
إن سعة الشريعة ومرونتها في مراعاة مستجدات الأمور، وصلت إلى إقامة الحدود التي تعتبر أصلاً من أصول التشريع. فلقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نراعي الأحوال التي تنشأ، والظروف التي تستجد مما يستدعي تغيير الحكم إذا كان اجتهاديًّا، أو تأخير تنفيذه، أو إسقاط أثره عن صاحبه إذا كان قطعيًّا. ومن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تقطع الأيدي في الغزو كما روى أبو داود، وهو حد من حدود الله تعالى. وقد نهى عن إقامة الحد في هذه الحالة، خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض من تعطيله أو تأخيره، وهو لحوق صاحبه بالأعداء حمية أو غضبًا. وها هو لا يعاقب المنافقين رغم ما بلغه عنهم، ويقول لـ”عمر” رضي الله عنه لما أراد أن يقتل عبد الله بن أبي بن سلول: “دعْه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه” (رواه البخاري). وفي هذا أعظم دليل على سعة هذا المنهج النبوي ومراعاته للأحوال والظروف والمستجدات.
ومع هذه المرونة وتلك السعة، فإن هناك مجموعة من الضوابط يجب أن تكون معلومة، حتى لا يتم استغلال الأمر فيما ليس له. ومن تلك الضوابط، أن مراعاة الحال يهدف إلى إبقاء الأمور تحت حكم الشريعة وإن تغيرت صورتها الظاهرية، ولا يعني بحال خروجًا على الشريعة واستحداثًا لأحكام جديدة، ومنها أن أهل العلم عندما قالوا بمراعاة الأحوال والعوائد ونحوها، إنما ذكروا ذلك لرفع الظلم عن العباد بإلزامهم بما لم يلزمهم به الشرع، ومنها أن الذي يحدد تغير الأحوال والأعراف هم أهل العلم والمعرفة بالشرع، وليس أهل الهوى والجهل.
لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم من خلال هذه الأسس وذلك المنهاج الشريف، بمعالجة الروابط الاجتماعية القائمة، فأبقى على الصالح منها وقاوم الفاسد، حتى أرسى وشيّد روابط اجتماعية أسسها على أرقى نظام وأنفع منهاج يصلح لكل زمان ومكان.